وأنصت حسنين صامتا، جافلا من ملاقاة هذا الهذيان بغير الصمت، واختلس من أمه وشقيقته نظرة فوجدهما تتبادلان نظرة حائرة، ثم عاد حسن يقول في نبراته المضطربة: يجب أن أختفي، إن الصديق الذي حملني إلى هنا رجل مخلص، ولكنه أجهل من أن يحفظ سرا، وليس أحب إليه من أن يروي قصة مروءته لرفيقته، فتنقلها هذه لجارتها، حتى تبلغ أحدا ممن يتربصون بي، فلا ندري إلا والبوليس يقتحم علينا البيت.
وتنهد حسنين في يأس، وحانت منه التفاتة صوب أمه فالتقت عيناهما لحظة قصيرة قبل أن تغض بصرها، وامتلأ حنقا فخاطبها في سره؛ لماذا أتيت بنا إلى الدنيا؟ .. لماذا اقترفت هذا الجرم الشنيع؟ .. ثم سمع أخاه يهتف بعنف: يجب أن أختفي، سأغادر المنزل حالما أقدر على المشي، وربما غادرت القطر كله.
واستروح حسنين بسمة باردة كالأمل لأول مرة منذ جاء الرجل محمولا كالقضاء والقدر؛ «هل يمكن أن يحدث هذا قبل أن تقع الواقعة؟! .. هل يختفي حقا فلا تقع عليه عين ولا يعرف له أثر؟! فليتقدم حيث هو، يجب أن أحيا حياة مطمئنة!»
ثم مر يوم ويوم ويوم حتى غدا جو البيت على كآبته معهودا مألوفا، فلامس حسن الشفاء أو كاد، وأخذ يفكر جديا في مغادرة البيت، ثم في الهرب من الوطن كله، ويرسم لذلك الخطط في صمت وتفكير متواصل، ولم تعد نفيسة تلزم نفسها القبوع في البيت، فعادت إلى زياراتها التي لم تكن تنقطع يوما، وكذلك عاود حسنين حياته العادية ما بين عمله وبيته والنادي، ولكن رأسه لم يتوقف عن التفكير في أخيه، والخطر الذي يتهدد سمعتهم بسبب إقامته بينهم، وقد دار الحديث بينه وبين أمه حول هذه النقطة الحساسة، فقال لها بعد إشفاق وتردد: إذا كان البوليس لم يهتد إلى محل إقامته حتى الآن فبمعجزة من الله، لا يمكن أن تستمر طويلا.
ونظرت إليه المرآة نظرة غريبة احتار في تفسيرها بادئ الأمر؛ أهي عتاب صامت، أم تسليم بالقضاء من العجز عن ملاقاته، أم استنكار يداريه الخوف من الإفصاح، كل أولئك بدا راجحا حينا، لولا أن برح الخفاء فهتكته دمعة ترقرقت في محجريها في بطء كالحياء، وفي تردد هو العذاب، هنالك ملأه الانزعاج؛ لأنه لم يكد يذكر أن رأى أمه باكية على كثرة المحن والملمات، وتراجع فيما يشبه الفرار، وصور من حزمها وعزمها تنثال على مخيلته في دهشة وألم، فكأنه يشهد احتضار أسد هصور. على أنه حين خلا إلى نفسه تناسى آلام الآخرين وانفرد بآلامه هو ومخاوفه ، فاشتد به الاستياء والحنق، ولعن نفسه وأمه معا.
وفي عصر اليوم التالي مباشرة أرادت هذه المخاوف أن تخطو خطوة جديدة؛ كان يجلس وأمه وأخوه على الفراش يتجاذبون الحديث، وكانت نفيسة في الخارج. ورن جرس الباب فجأة فذهبت الخادم لتفتح، ثم عادت في ارتباك ظاهر وقالت للشاب: سيدي، عسكري بوليس يرغب في مقابلتك.
89
تناثرت نفوسهم كالشظايا! فوثب حسنين قائما وهو يحدق في وجه الخادم، ورمى حسن بقدمه من على الفراش إلى أرض الحجرة، وهو ينظر إلى النافذة في عبوس متمتما «الهرب!» على حين رددت الأم عينين زائغتين، وكان حلقها من الجفاف بحيث لم يسمح لكلمة بالخروج. وجمد حسنين في مكانه دقيقة، ثم استسخف جموده فهز منكبيه في يأس وغادر الحجرة إلى الباب الخارجي حيث يوجد الشرطي واقفا، وتبادلا تحية آلية ثم سأله الشاب في استسلام: أفندم؟!
فقال الرجل بصوت أجش: هل حضرتك الضابط حسنين كامل علي؟ - نعم. - حضرة ضابط نقطة السكاكيني يرغب في مقابلتك في الحال.
ونظر حسنين فيما وراء الرجل حتى الطريق، فلم ير غيره ممن كان يتوقع رؤيتهم، وداخله شيء من الطمأنينة، ولكنه تساءل في حيرة: ماذا يريد حضرته؟ - أمرني أن أبلغك رغبته دون أن يزيد.
صفحة غير معروفة