عدت إلى مواصلة السفر وفي قلبي انقباض بغيض وتأملات. بالآلة والبنزين والكهرباء والسكك العريضة والذرة دخلنا في عصر السرعة، والفارق بين عصرنا هذا وعصر الدواب أن مسئولية الناس في ذلك العصر كانت مسئولية جزئية، فهم لم يكونوا يستطيعون التحكم تحكما كاملا في دوابهم أو حظهم وظروفهم، إلى درجة أنهم كانوا يريحون أنفسهم ويقولون: خليها على الله. أما في عصرنا هذا فنحن نتحكم تحكما كاملا في كل شيء، ولهذا فمسئوليتنا كاملة عن كل شيء، ولهذا فهي مسئولية كبيرة، وكلما كبرت المسئولية عظم أتفه خطأ ينشأ عنها وأصبح جريمة، جريمة قد تودي بحياة بضعة أشخاص في عربة، وقد تودي بحياة بضعة ملايين في دولة.
وطوال الطريق لم أستطع أبدا أن أنسى أن الفاجعة التي رأيتها كان سببها هفوة ارتكبها إنسان.
وطول الطريق وأنا لا أستطيع أبدا أن أزيح من خاطري الدم الغامق المتجمد، والزجاج المبدور، والجثث المغطاة بقش الأرز.
أمس ...
وفي الساعة الثالثة صباحا كنت في مطار القاهرة، والليل قد رطبت الثالثة حدته وخففت ظلامه، والمطار راقد في قلب الصحراء كالنجفة الكبيرة الموقدة ذات المصابيح المتعددة الألوان، والطائرات جاثمة على أرضه والركاب يصعدون ويهبطون، وبين كل حين وحين يرتفع صوت الميكروفون، يقول: يسر شركة كذا أن تعلن عن رحيل طائرتها إلى بومباي وإلى فيينا وإلى براغ ونيويورك، وأنا أودع صديقا.
وفجأة أحسست برجفة صغيرة تهزني، وبكلمة تحتل ذاكرتي كلها وتبهرها: السفر.
كم من مرة تمنيت فيها أن أمضي عمري مسافرا متنقلا من بلد إلى بلد. ونحن أطفال صغار، أتذكرون؟ حين كنا نفرح بالسفر ونظل طول الليل لا ننام مخافة أن يساهينا الآباء ويسافرون، أتذكرون اليقظة المبكرة والفرحة، والمحطة، والذهول الغريب المستولي على الناس: ذهول السفر؟ وانتظار القطار القادم من مكان بعيد مجهول، ورائحة خشبه وعرباته وهي تختلط برائحة دخانه ورائحة الصباح المبكر مكونة رائحة السفر، نستنشقها بشغف ونهم والقطار يمضي بنا سريعا ينقب الزمن والأفق، ويذهب بنا بعيدا في أغوار العالم الفسيح المجهول.
وآلاف الأشياء تغير طعمها في أفواهنا لما كبرنا، والسفر وحده لم يتغير طعمه ، ولا تغيرت أبدا تلك الرغبة الملحة في التنقل، الرغبة التي تمنيت معها وأنا واقف يحجزني حديد السور لو يصبح في استطاعة الإنسان أن يسافر متى أراد وكلما أراد، لو اختفت فجأة تلك الحواجز السخيفة بين الدول، اختفت الجوازات والتأشيرات والجمارك والحدود، حدود الدول وحدود الشعوب والأفراد والطبقات، وأصبح العالم كله وطن أي إنسان لمجرد كونه إنسانا، وأصبح الناس في كل مكان أناسه، وأي بلد يحل فيها بلده، وأي لغة لغته، وأي عملة عملته، وأي جار أخاه.
الطائرات كثيرة ومحومة، وقادمة من بلاد بعيدة وذاهبة إلى بلاد بعيدة، والذهول الحبيب يسيطر على القادمين والذاهبين، ونفسي أحس بها تتفتح، وأحاول أن أعثر فيها على أثر لحادثة الطريق الزراعي والخوف من عصر الطائرات والعربات فلا أجد. أجدها قد أصبحت نقطة، قطرة مريرة ذابت تماما في حلاوة تلك الكلمة ذات الرنين الحلو: السفر. (7) العودة ومشاكل العودة
كل عودة إلى مصر لها دائما سحرها الخاص! ما من مرة كانت العودة مماثلة. الطائرة النفاثة تحلق، والمضيفة في الميكروفون الأخنف تقول: بعد دقائق تصل إلى القاهرة، وتنظر من النافذة أسفلك فتجد أنوارا، وتحاول التخمين، هذه طنطا، هذه بنها، القادمة هي القاهرة لا بد، ولكن القادمة لا تكون القاهرة، إن استعجالك للحظة الوصول يكاد يسقطك في طوخ أو في قليوب، ولكنها القاهرة هذه المرة، هذه الساحة الواسعة المضاءة لا تكون - في مصر كلها - إلا القاهرة، ما أحلاك يا قاهرة! ما أجملك من الجو فقط! إنا عائدون مرة أخرى لك، للحمى الغريبة المزمنة، للمعارك المعهودة، للوجوه العجوزة التي كادت لطول بقائها تكتم الأنفاس. إننا عائدون يا قاهرة، فيك كل ما يغري بالبعاد، ولكن فيك ما هو أروع من القرب والبعد والمتعة والسعادة، فيك الحياة.
صفحة غير معروفة