بصراحة غير مطلقة

يوسف إدريس ت. 1412 هجري
43

بصراحة غير مطلقة

تصانيف

المشكلة أننا نوجه إلى الكتاب والفنانين الدعوة الخاطئة، فبدلا من أن ندعوهم إلى بناء فنوننا وإنتاجها ونطلق حريتهم في إثراء هذا البناء واعتصار أنفسهم لإقامته، بدلا من هذا ندعوهم إلى التخلي عن ذلك الدور المقدس كي يقوموا بتمجيد المصانع والمباني والمشروعات، نفس الخطأ الذي نرتكبه حين نطلب من مهندسينا مثلا أن يتخلوا عن دورهم في تشييد المصانع وإقامة المشروعات الحيوية لنا كي يقيموا مشروعات ومصانع الهدف منها تخليد نهضتنا المسرحية أو الموسيقية أو الأدبية.

ويبدو أننا لا نريد أن نتعلم من التاريخ أو حتى من التاريخ القريب، والتاريخ يحدثنا عن ثورات قامت في بلاد من أجل التصنيع والكفاية والعدل، وبنت هذه الثورات موقفها من الفن والأدب على المفهوم الساذج السطحي الدعائي التربوي للفن والأدب، فكانت النتيجة أنه بعد نجاح تلك الثورات اكتشفت الشعوب أنها أقامت بناءات ضخمة عالية لكل شيء ولكنها نسيت أو أجبرت على تناسي أهم شيء، بنائها الروحي والفني، وهكذا لم تخسر تلك الثورات تراثا فنيا حقيقيا فقط، ولكنها خسرت - وهذا هو الأهم - التفاعل بين إنسان الثورة وهذا التراث المفقود، بحيث حكم على جيل أو أجيال أن يخرج إلى الوجود كسيح الروح، وهذا ليس خطأ، بل هو في رأي العلم والحياة والثورة جريمة، جريمة تكرر حدوثها للأسف في التاريخ ومنذ أقدم العصور، إن الحضارة التركية استمرت مسيطرة عسكريا وسياسيا على أهم أجزاء العالم ما يقرب من ألف عام، ولكنها كانت حضارة بلا فن، والنتيجة أن التاريخ لا يذكرها حتى كحضارة وإنما يذكرها كفترة سوداء من فترات القهر والطغيان، بل نحن حتى حين نصفي الحضارات لنعرف ماذا يبقى منها للتاريخ نجد أن كل الأشياء تزول وتتلاشى ويلفها العدم إلا ما حققته تلك الحضارات في الفن والأدب والعلم باعتبارها الثمرات الحقيقية التي تستخلصها البشرية من أي تطور أو تمدين أو ازدهار.

هل من المعقول إذن أننا في ثورتنا الحضارية الكبرى هذه نكرر نفس الخطأ الذي حدث، ونستمع إلى فهم بالغ الخطل والشطط لدور الفن والأدب، لنخرج للعالم حضارة كسيحة الروح؟

إن الصناعات والكهرباء والقوة العسكرية ليست أهدافا بالمرة، إنها ليست سوى وسائل لتأمين إنساننا وتعليمه وتطويره كي تتبدى قدرة هذا الإنسان على الخلق والابتكار، كي يزهر إنساننا ويثمر فنا وأدبا وعلما وثقافة، كي تضيء حياتنا لا من الكهرباء أو الذرة وإنما بالنور الصادر عن عقل إنساننا ووجدانه وقد تحرر واطمأن.

الأولوية للأثر المباشر

إن الخطأ يحدث أحيانا بحسن نية، وبحسن نية يعتقد بعض الناس أننا ما دمنا في ثورة بناء فلا بد أن يكون كل ما يبنى واضحا جليا ظاهرا للعيان له أثره المباشر الملموس، فالمصنع ينشأ اليوم ليعمل فيه العمال غدا، وبعد غد نتسلم منتجاته كتلا وطرودا وأحجاما ملموسة ونستخدمها وتصبح جزءا من حياتنا. ولكن المنشآت الفنية والأدبية أشياء قد لا تكون باهرة الحجم والمظهر ولا هي سريعة المفعول، والذي يروج منها ونحتفل به هو النوع الضخم الواضح الأثر والمفعول، أوبرا مثلا يتكلف إخراجها الشيء الفلاني وفيها غناء ورقص وباليه، أو استعراض يضم ألف راقص وراقصة، أو مسلسلة إذاعية تستغرق شهرا أو عاما أو ربما أعواما، أو رواية بالغة الضخامة وليس مهما لو كانت فقيرة في الخلق، إن ما نحتفل به هو الضخامة وسرعة المفعول وكل ما نستطيع أن نطلق عليه «انتصار »، ولهذا نحن على استعداد أن نطلق اسم سباح أو لاعب كرة على شاطئ بأكمله أو شارع بينما لا يمكن أن يحظى بهذا الشرف مفكر أو عالم أو فنان ربما تغير بضع صفحات يكتبها من مجرى حياتنا وحياة أولادنا. ذلك أن البناء الفني أو العلمي أو الأدبي لا تحفه في الغالب أكاليل الانتصار، ولا يقيمه صاحبه ليصبح نجما من النجوم أو بطلا من الأبطال، وإنما يقوم به أناس جعلوا من فنهم أو علمهم رسالة وهبوا أنفسهم لها، قدرهم أحد أم لم يقدرهم، وصفوا بالبطولة أو اتهموا بالخيبة والتقاعس.

المقياس الوحيد!

إن بناء حياة فكرية وثقافية وفنية حقيقية تكون الزهرة والثمرة الأصيلة لحياتنا كلها وحضارتنا مهمة بالغة المشقة في حاجة إلى رهبان وقديسين، وأشق ما فيها أنها تتم بمعارضة شديدة من أصحاب الحلول الجاهزة السهلة وبغير تشجيع من أحد، فالدولة لا تشجع إلا ما يعود على جماهير الشعب بالأثر السريع المنتج. والشعب مشغول بالنجوم والأبطال والانتصارات، فما أكثر ما قضى من وقت وهو لا يذوق سوى الهزائم! وقد آن له أن يحيا الانتصارات ويخلقها حتى إن لم توجد، ولهذا فعلى قدر ما أصبحت الرياضة وأبطالها نجوما خوارق يحظون بالدعاية الشعبية والرسمية، على قدر ما أصبح البناء والبناة لقبا ومفخرة ونياشين وميداليات، على قدر ما احتلت كل فئة من فئات المجتمع التي تكرس نفسها للتصنيع والتشييد والانتصارات مكانها في سماء حياتنا، على قدر هذا كله فإن مكانة هؤلاء الذين يبنون حياتنا الفكرية والفنية تأخذ أقل الأوضاع. صحيح أن عدد الكتب والمسرحيات والمؤلفات والفرق التمثيلية ومنابر النشر قد ارتفعت وربما تضاعفت عشرات المرات، ولكني هنا لا أتحدث عن «النهضة» في التطبيق والتنفيذ، ولكني أتحدث عن النهضة الحقيقية في التأليف والخلق والتفكير، وعن خالقي هذه النهضة. أتحدث عن هذه القلة القليلة التي لا تحظى بتكريم أحد والتي أوشك مجتمعنا أن يهملها إهمالا تاما، هذه القلة التي كانت جديرة بأن تزين بإنتاجها - واحتفالنا بإنتاجها - صدر حياتنا، وتصبح هي النموذج المحتذى. فإن مقياس حضارة أي أمة أو فترة من فترات التاريخ يستدل عليه بمقدار ما كانت تحظى به هذه القلة من رعاية واهتمام، إنه مقياس التحضر الحقيقي والنهضة الحقيقية، وليس هناك أي مقياس آخر. (39) اصرخ وعش ولا تمت

شعور غريب كان يراودني وأنا واقف مثل أبطال الروايات خلف باب مغلق أروح وأجيء، وقلق أجوف رنان لم أحسه من قبل يتزايد ويغمرني. كنت أعرف بالضبط ما يدور في الداخل، منذ لحظات وجيزة وأنا أخوض تجربة الأبوة الأولى لطفل لم أره بعد، وكل معلوماتي عنه كلمتان اثنتان قالتهما ممرضة مسرعة ملهوفة: مبروك ... ولد.

ولكني عرفت في الحال أنه ابن مع إيقاف التنفيذ، فقد انتظرت أن أسمع صراخه، ولكن صرخة واحدة لم تغادر باب الحجرة المغلقة. ورغم كل المطمئنات، وكمادات الابتسامات المرتسمة على وجه الداخل والخارج لتهدئ من روعي وتقنعني أن كل شيء على ما يرام، فقد كنت عالما تماما أن الباب يفصلني عن حدث بالغ الخطورة، أخطر حدث؛ فالجنين بلا شك يعاني من الاختناق، ولا يتنفس، ومصيره دق حتى أصبح معلقا بخيط أوهى من الدقائق الفاصلة بين الرابعة والرابعة وسبع دقائق. إما أن يجتازها إلى حياة عريضة تعد بعشرات السنين، وإما عودة سريعة إلى الظلام الذي خرج منه، الدقائق القليلة التي يتحول فيها الجنين من سمكة تعوم في ماء إلى إنسان يتنفس هواء، التي تفصل بين رحلة طويلة منذ أن كان ذرة رمل حية إلى أن أصبح كاملا له أمعاء ومخ وأعضاء، والرحلة الأطول تنتظره، والتي سيتعلم فيها كيف يتكلم، وسيجرب ويحب وينتصر وينهزم ويشيب شعره ويتزوج ويقف هو الآخر ينتظر مثلي خلف باب مغلق. الدقائق قليلة جدا ومصيره فيها معلق، والإرادة العليا التي سوف تحدده قد تلبست الآن أيدي الطبيب. والطبيب لم أعرفه من قبل وإن كنت قد سمعت عن براعته وحذقه، ولكن الموقف أصعب موقف، والبراعة لها حدود، والمطلوب براعة تفوق الحدود، براعة من براعة الله تخلق وليدا من الجنين الأزرق الذي لا يتنفس، ورغم وقفتي بالخارج فأكاد أشارك الطبيب شعوره؛ شعور الإنسان بكل محدوديته حين تمنحه الظروف قدرة الله ليصبح بإذنه يستطيع أن يحيا ويصبح خوفه الأكبر أن يموت، حين يصبح إنسانا بمسئولية إله وعواطف بشر، ودقيقة مرت ودقيقتان وأعصابي تحمر وتتوهج ثم تصيبها القشعريرة فتتجمد، لتعود فجأة وتتوهج مع كل فتحة باب، وكل نأمة صوت وكل انبعاثة هرج أو مرج. نفسي تحدثني أن أدخل لأرى، لعل الرؤية تذهب القلق، ولكن مانعا أكبر يمنعني. فأنا عالم تماما بنوع العمل الدقيق الحاسم الساحر الذي يقوم به الدكتور علي في الداخل، كيف أقطع عليه خلوته وهو يعيد الأنفاس إلى جسد يتنفس، وهو يعيد لون الحياة إلى أظافر اختنقت واسودت، كيف أقطع خلوته وهو يقوم بدوره الإلهي! إن مجرد تبادل التحية، مجرد شعوره بدخول غريب، مجرد نظرة تصوب أو إصبع ترتجف قد يفلت لها الزمام، عقارب الساعة تدور، عقرب الدقائق كأنه أصبح عقرب ثوان، وعقرب الثواني كأنه انقلب إلى عقرب كل اختلاجة منه تلدغ. وبعدي عن المعركة الدائرة في جسد الابن الذي لم أره يجعل أعصابي تزداد هوسا في تذبذبها بين التجمد والتوهج. لا يزال الصمت هو الأقوى وهو المسيطر، والوقت المولي هو الأسرع، والإسفكسيا الزرقاء لا بد أنها تتحول الآن إلى إسفكسيا بيضاء لا رجوع فيها ولا منها، لو لم تعد الحياة للجنين فمن المحتم أنها ستفارق أمه أيضا. أية أحلام بنتها، وأي فرحة حملتها وضمتها تسعة أشهر، والملابس التي فصلتها، وقمصانه المفتوحة من الخلف ذات الأكمام التي في حجم الإصبع، خمس دقائق كاملة مرت، دار خلالها العقرب خمس دورات كاملة مرت فوق الأمل، فطحنته وساوته باليأس والأرض واللاأمل، رفة حركة مفاجئة حدثت في الداخل أعقبها أمر باتر سريع من الطبيب، أتراها رفة النجاح التي تسبق الهمود الدائم؟ لا بد أن الموقف يتدهور والأزمة تتيبس، فالأقدام كثرت حركتها ومفتاح أسطوانة الأكسجين وقع على البلاط فأرعد بناء المستشفى كله، ثم الصمت الهائل مرة أخرى، الصمت الكامل. لا بد أن الأحياء بالداخل كفوا عن التنفس هم الآخرون، أنا لم أعد أسمع، سبع دقائق مرت، ها هي الثامنة القاضية في الطريق ، لا بد أني عدت أسمع ، لا بد أنها كحة أو صرخة أو حشرجة أنفاس أو ضجة غريبة المصدر، صرخة، لهثة، صوت أول هواء يدخل إلى الصدر الذي لم يذق للهواء طعما. أجل صرخة، إنها صرخة، صرخات متصلة مبللة بلعاب الاختناق الموشك، أتكون قادمة من مكان آخر؟ أيكون طفلا آخر؟ لا ... بل هو ... لا بد أنه هو ... أقسم أنه هو ... لا ... لا ... لا أريدها ضعيفة هكذا ... أقوى ... مرة أخرى أقوى ... بكل قوتك اصرخ ... يا ولد ... اصرخ يا بني ... تنفس يا أحمق ... بعمق ... تنفس ... افتح صدرك كله وافتح صدري معك وتنفس ... إني معك فتنفس ... أنفاسي معلقة بأنفاسك فتنفس ... واصرخ واملأ الدنيا صراخا ... وتنفس ... بربك لا تكفي أيتها الحياة الصغيرة الجديدة عن الحياة ... لا تتحولي أبدا إلى كتلة ... بكل كيانك انبضي ... وبكل نزقك ارفسي ... ضمي قبضتيك بشدة وتأزمي وقوليها عالية، أعلنيها للدنيا، لكل الأحياء: أنا القادم الجديد ... أنا أخوكم الجديد ... قوليها بصرخة ... قوليها بواء ... واء ... واء! •••

صفحة غير معروفة