وأقسم أن أحدا لم يع ما فعله في تلك اللحظة ولا إن كان قد هتف أو صفق أو لوح، فثمة هدير آخر مروع شملنا واجتاحنا ... هدير نابع هذه المرة منا، هدير حطم الإطار وألغى الرسميات وكسر جسر البحر ومزج الماء بالشاطئ والموكب بالجماهير وعجلات الموتوسيكلات بالأقدام وزغاريد السيرينات بزغاريد السيدات بجئير الرجال بدمدمة الموتورات برعدة الحناجر، لحظة ... أقل من لحظة ومع هذا فصورتها الشاملة ضخمة ضخامة لا حد لها، ضخامة زعيم لوى بيديه عنق التاريخ، لحظة مزجت كل شيء بكل شيء، وتحولت فيها الأجساد إلى أصوات، والآلاف إلى واحد، والواحد بمفرده إلى آلاف، بالآلاف وبالآلاف من آلاف الأفواه، آلاف الأذرع تمتد، وآلاف الأيدي تتكلم وتصدر آلاف الأصوات، والجو مشحون يهتز آلاف الاهتزازات، والأرض والشجر والشرفات والبيوت والأسطح والقضبان استحالت كائنات تنبض بنبض الجماهير وتهتز، لحظة تداخلت فيها آلاف اللحظات، وفقد فيها كل شيء - بمفرده - قيمته، وأصبحت قيمتها في كلها ككل، في مجموعها كمجموع، في آلاف الانفعالات تنبعث من آلاف الصدور، وكلها في وقت واحد تخاطب جمال، وكأنما كل منها يتصوره له وحده، هذا البطل المنتصر بطله، هو ملكه، لحظة لقاء الزعيم بالجماهير، لحظة تأميم الزعيم، لحظة فرحة الجماهير بالتأميم وفرحة الزعيم بتأميمه، لحظة روعتها في كليتها، في حاضرها المدوي الخاطف، فيما حدث قبلها وبعدها، في سبيلها وفيما سيترتب عليها، في جذورها السحيقة التي تمتد إلى آلاف السنين، وقممها النامية التي ستخرق آلاف السنين، في الأهوال والانتصارات، في الأرض للناس وبالناس، في الوجه الأسمر من ملايين الوجوه السمر، في المناديل البيضاء في الشرفات، في زغاريد الإناث، في عيد الأطفال في الحدث الذي هز الرجال، في الذي تبعثر تماما وسها حامله عنه، في دقات أقدام الطفل القوية القاسية على صدر أبيه لوصول جمال، في العجوز حين عجزت عن الزغرودة فدعت وخرج دعاؤها حبيبا طيبا، يقول: يخليك يا بني لشبابك، ربنا يخليك. في السماء المدمدمة بهدير الطائرات، في الأرض المدمدمة بهتاف صاعد إلى السماء، في مدينة تزأر، في جمهورية تنتفض، في شعب مارد يجد أخيرا جدا، نفسه، روحه، في زعيم!
لحظة ها أنا ذا عاجز عن وصفها، عشتها ورأيت فيها ملايين الرؤى والانفعالات، ولكن أين هي الآن؟ أين اللفحة المقدسة وسحرها؟ اللفحة التي تحيل الحاكم إلى زعيم، والزعيم إلى إنسان يهب عمره كله وما هو أكثر من عمره وحياته ليفتدي اللحظة، ويفتدي الإحساس، ولكي تظل القلوب تنبض له بمثل ما نبضت، وأحلام شعبه تحيط به مثلما أحاطت ... والصدور، آلاف ملايين الصدور تتفتح وتدعوه وترقق من نفسها لتحنو عليه وترعاه مثلما رأيتها تفعل.
لحظة عشتها وكل ما أملك قوله عنها: إني بها أحسست، ربما لأول مرة في حياتي، بشيء حقيقي باهر في حقيقته إلى درجة لا تقبل ترددا أو شكا، بل شيء أقوى من كل حقيقة أو حقيقة عرفتها أو وعيت بها، أقوى من حقيقة وجودي أو حياتي أو ما أؤمن به، أقوى من المدينة الكاملة التي رحت أسير بلا وعي في طرقاتها، أقوى؛ لأنه أخلد من أي مدينة أو بلدة أو عقيدة ، فهو اللحظة التي تخلق المدن والبلاد والعقائد. (34) تجربة عيد جديد
أردت أن أقضي العيد وأقوم بتجربة فريدة في نوعها.
والعيد كلمة، ومناسبة، وبلسم، كالدواء يعالج الكثير من الجروح والمرارات.
وأنا ممن يؤمنون أن مصر هي القرية، ليست القاهرة ولا الإسكندرية، ولا «البدل» والفساتين والمستحضرات وارد الخارج والداخل، وإنما الشعب، ليس الطيب، فشعبنا ليس طيبا بالمعنى الساذج الدارج السخيف للطيبة، وإنما هي طيبة الذكي أو ذكاء الطيب.
وقريتنا ككل قرية في مصر، ككل إنسان، كانت لها مشكلتها الخاصة.
ومشكلة قريتنا الخاصة أنها مكونة من عائلات، بعضها غني، وبعضها قوي، وبعضها كثير العدد فقير، بعضها صاعد، بعضها بدأ يهبط، الموجات الضخمة التي أحدثتها الثورة في حياتنا بدأت تصل إلى القرية منذ بضع سنين، وتغير كثيرا من الأوضاع، وتجعل من كل قرية صورة مصغرة لبلد بأسره يغلي بالثورة ولا يجد الطريق، فالعائلة التي كانت تحكم قريتنا، وهي ليست عائلة إقطاعية عاتية كما قد يتصور البعض، إلا أنها كان منها العمدة «الملك» وشيخ الخفراء «وزير الداخلية»، وأيضا كان منها معظم المثقفين، وقد جاءت الثورة، ومع مجيئها بدأت طبقات كثيرة ترتفع في السلم الاجتماعي، وبدأ تاجر الأسواق الصغير المتنقل دوما بين الأسواق يصبح له دكان، والفلاح يرسل ابنه إلى المدرسة المجانية، وجيوش من المتعلمين وأنصاف المتعلمين والحرفيين تكون ثقلا جديدا، وتيارا جديدا. وما كادت تحدث أول انتخابات حتى أسقطت العائلة العريقة الحاكمة وبدأ لأول مرة فلاحون وحرفيون وموظفون صغار هم هيئة الاتحاد القومي، ثم الاتحاد الاشتراكي.
ثم تبدأ المشكلة الضخمة حين يحدث الصراع حول من يكون العمدة، وقد أعفي العمدة القديم من منصبه.
باختصار، بدأ صراع رهيب حول من يحكم قريتنا، وإلى من تئول السلطة، هل تئول للطبقات الجديدة التي بدأت توجد على نطاق واسع بتفكير جديد، وبمنطق جديد؟ طبقات معظمها لا ينتمي إلى عائلات، أو تئول للعائلات، وماذا يكون موقف العائلات من الأوضاع الجديدة؟ هل تتحالف مع بعضها ليبقى لها النفوذ ولتقف في وجه التيار الصاعد؟ هل ينسلخ بعضها ويتزعم التيار ضد العائلات المنافسة ؟ وماذا يكون السلاح في هذا الصراع؟ هل يكون القوة الغاشمة؟ هل تكون المسايسة واللين؟ هل يكون المقالب والمآزق والشكاوات والنكايات؟ عشرات وعشرات من الأسئلة والاحتمالات، غليان غريب مفاجئ اجتاح قريتنا حدثت فيه تحزبات لمبادئ أحيانا ولأشخاص، وانقسامات، ومحالفات، ونقض لمحالفات، وأشكال جديدة من أشكال الصراع كان الناس يعجبون لها ويستغربون ويترحمون على الزمن الغابر حين كان هناك السلام والوئام والخضوع والخنوع، واليوم لم يعد أحد «يحترم» أحدا، أو ينزل عن ركوبته إذا قابله، أو ينتفض واقفا إذا مر عليه، اليوم كل إنسان أصبح يقول للآخر: أنا زيي زيك، أنا مثلك، وفي أحيان: أنا أحسن منك!
صفحة غير معروفة