73 •••
إذن فهذه ثنائية واضحة في النظر إلى الحياة الإنسانية؛ فللإنسان مجالان يقضي فيهما حياته، وينشد فيهما مثله العليا، لكنهما مجالان بينهما هوة سحيقة يوشك ألا يكون بينهما صلة تربط بينهما؛ فمن جهة هنالك عالم الطبيعة وما يقابله من علوم تنشد الحقيقة العارية التي لا تعرف القيم من خير أو شر أو جمال أو قبح، ومن جهة أخرى هنالك عالم القيم الأخلاقية والجمالية التي هي صنيعة الإنسان، وميوله الذاتية، ومن ثم كان النتاج الفكري لهذا الفيلسوف منقسما قسمين لا يعتمد الواحد منهما بالضرورة على الآخر، فله منطق تحليلي ومذهب فلسفي في الطبيعة، وتفسيرها من ناحية، وكذلك له من ناحية أخرى مجموعة قيمة من آراء في الأخلاق والتربية والسياسة والاجتماع، دون أن يكون بين الناحيتين رباط يربطهما في نسق واحد، ولا عجب؛ فهو أحد الفلاسفة المعاصرين الذين نبذوا الفكرة التقليدية في الفلسفة، وأعني بها فكرة أن يقيم الفيلسوف من أشتات فكره بناء واحدا متماسك الأطراف؛ إذ الفلسفة في رأي هؤلاء المعاصرين تحليل يواجه كل مشكلة على حدة بما تقتضيه طبيعتها.
على أن هذه الآراء الكثيرة التي أدلى بها «رسل» في كثير من كتبه عن الحياة الإنسانية ليست بغير محور تدور حوله على اختلافها وتعددها، فالمحور الواضح في كل تفكيره الإنساني من أخلاق وتربية وسياسة واجتماع هو الدفاع عن حرية الفرد ما استطاع إلى ذلك من سبيل؛ كانت حرية الفرد هي مدار فكره حين فكر في التربية، وهي مدار فكره حين فكر في الأخلاق، وهي كذلك مدار فكره حين فكر في السياسة والاجتماع.
ولعل أقصر طريق نصل به إلى لباب فكره في السياسة هو أن نسأل السؤال الآتي: ما موقفه إزاء المذهب الماركسي؟ ذلك لأن هذا المذهب هو بغير شك أقوى المذاهب السياسية الاجتماعية التي سادت العالم في القرن الأخير، أعني في الفترة الممتدة من منتصف القرن التاسع عشر إلى منتصف القرن العشرين، ويستحيل على فيلسوف سياسي اجتماعي أن يتجاهله، بل حتم عليه أن يلاقيه مؤيدا أو معارضا أو معدلا.
فإذا أردت عن هذا السؤال جوابا يلخص لك موقف «رسل» من مذهب ماركس - وبالتالي يوضح فلسفته السياسية - فعليك بمبدئه الأساسي الذي ذكرناه لك فيما سلف أكثر من مرة، وهو الدفاع عن حرية الفرد ضد أي عدوان مهما يكن مصدره، ومهما تكن غايته، وإذا كان ذلك كذلك، فهو مناهض للماركسية بكل قوته؛ لأنها تنتهي إلى الاعتداء على حريات الأفراد، وطمسهم في لجة المجموع، وهي كذلك تمجد العامل بيديه على حساب المشتغل بفكره، وفضلا عن ذلك فهي تتخذ من حرب الطبقات ومن الكراهية بين أفراد المجتمع حافزا للتقدم، مع أنه محال على الإنسان أن يتقدم على أساس من الحسد والحقد؛ «فليس هنالك الكيمياء التي يمكن بها أن نستخرج من الكراهية وفاقا بين الناس واتساقا.»
74
وإذا كان قد رفض الشيوعية نظاما سياسيا واجتماعيا، فبديهي أنه كذلك يرفض النظم الفاشية على اختلافها؛ ذلك لأنه في حالة الشيوعية قد يقبل الغاية منها، ولكنه لا يوافق على الوسائل المؤدية إلى تلك الغاية، كما بدت هذه الوسائل في الروسيا مثلا، نعم إنه قد يقبل الغاية من الشيوعية؛ لأنه لا يكتم ثورته على الرأسمالية سواء كانت في صورتها التنافسية التي سادت القرن التاسع عشر، أو في صورتها الاحتكارية التي تسود اليوم، فأما النظم الفاشية فهي مرفوضة غاية ووسيلة ؛ لأنها رأسمالية وهي قائمة على إشعال روح القومية، وهي منافية للديمقراطية، ثم هي فوق ذلك كله تفرق بين الناس أجناسا وطبقات، فالجنس الآري ممتاز عندها بالقياس إلى غير الآري، والصفوة ممتازة بالقياس إلى غمار الناس وسوداهم.
وقد كنا نود من فيلسوف ناقم ناقد للأوضاع الاجتماعية والسياسية القائمة، مثل «رسل» أن يفكر لنا في نظام نقيمه مكان هذه الأنظمة الفاسدة، كما فعل فلاسفة كثيرون من قبله، لكنه اكتفى بالنقد وأسرف فيه، نظر إلى المستقبل، وما يمكن أن يتمخض عنه، فماذا رأى؟ رأى مجتمعا سيسوده العلم وطرائقه، وهو يقصد بهذا الوصف مجتمعا يريد له أولو الأمر فيه شيئا، فيدبرون له الخطط على أساس علمي، بحيث ينتج لهم ما أرادوا، وكما ازداد أولو الأمر قدرة على صياغة مجتمعاتهم في القوالب التي أعدوها لها، ازدادت تلك المجتمعات إمعانا في «العلمية» التي يتوقع لها «رسل» أن تسود في مقبل الأيام، فساسة المستقبل سيقيمون بناء سلطانهم على نتاج العلوم في تشكيل الناس معتمدين في ذلك على الدعاية، وعلى ما يسمونه تربية وعلى وسائل النشر من صحافة وسينما وراديو، كل هذه ستكون في أيديهم وسائل تمكنهم من التحكم في استجابات الناس للمؤثرات المختلفة، وكل ذلك قائم في حقيقة الأمر على مصدرين علميين هما التحليل النفسي ونظرية السلوكيين في الأفعال المنعكسة، أو بعبارة أخرى سيعتمد ساسة المستقبل على فرويد وبافلوف، وسيكون معنى الاستقرار الاجتماعي في نظر هؤلاء الساسة هو أن ينصب الأفراد جميعا في قالب واحد ليخرجوا نمطا واحدا، بحيث يستشعرون في حالتهم تلك كل السعادة والرضا،
75
سيستمد حكام المستقبل طمأنينة نفوسهم من قدرتهم على توجيه شعوبهم توجيها مدبرا محكما، وسيستمد الناس سعادتهم ورضاهم من ضروب اللهو، ومن إباحة الغريزة الجنسية إباحة ستتخلص فيها من مغزاها الاجتماعي؛ ذلك لأنه لا يبعد على حكومات المستقبل أن تحصر عملية النسل في نسبة صغيرة من الناس لا تزيد عن 25٪ من النساء، و5٪ من الرجال ينسلون أطفالا تتولى الدولة تدريبهم وحبهم في قوالبها.
صفحة غير معروفة