69
فليس عمل الأخلاق - بمعناها الفلسفي - هو أن تحدد للإنسان كيف ينبغي أن يسلك في ظروف معينة؛ لأن مثل هذا الإرشاد العملي هو من واجب الوعظ الديني وما إليه، بل عمل الأخلاق هو تعقب القواعد الخلقية إلى أصولها التي تفرعت عنها.
قواعد الأخلاق تخلف باختلاف الزمان والمكان، وباختلاف الجنس والعقيدة، وهي بصفة عامة تختلف باختلاف الظروف المحيطة بالعمل، فمتى يجوز الكذب مثلا؟ قد يجيب مجيب بغير روية: إنه لا يجوز أبدا، لكنك تكذب إذا قابلت مغتالا يعدو في جنون وراء رجل يريد أن يقتله، ثم سألك: هل رأيت إلى أين مضى فلان؟ ثم أليس الكذب مقبولا في فن الحروب؟ بل ألا يكذب القساوسة حين يكتمون سر من اعترف لهم بسره؟ ألا ينبغي أن يكذب الأطباء ليطمئنوا مرضاهم؟ كل هذه ظروف تقتضي الكذب، لكن الذي يقرر صواب الكذب في ظروف معينة هو الوعظ والإرشاد الاجتماعي، وليس هو من علم الأخلاق.
خذ مثلا آخر لتغير القواعد الخلقية بتغير الظروف ووجهات النظر: هل يجوز أن يقتل الزوج عاشق زوجته؟ تجيب الكنيسة أن لا، ويجيب الإدراك الفطري السليم أن لا، لكن القانون يجيب أن نعم؛ إذ إنه كثيرا ما يبرئ القاتل في مثل هذه الظروف.
تلك أمثلة تبين كيف تتغير قواعد الأخلاق، أما مبادئ الأخلاق التي هي من شأن الفلسفة أن تقررها فثابتة وشاملة، فمهما تغيرت القواعد الخلقية من عصر إلى عصر، ومن مكان إلى مكان، فهي دائما تتخذ صيغة الأمر أو ما يشبهها، فترى القاعدة الخلقية توجب على الناس أن يفعلوا كذا، وألا يفعلوا كيت، فماذا يعني «الوجوب» في مثل هذه الحالة؟ لو استطعنا الجواب عن هذا السؤال على هذه الصورة أو تلك، فجوابنا سيكون مقررا لمبدأ الأخلاق الذي نعنيه حين نقول إن مبادئ الأخلاق بمعناها الفلسفي أثبت من قواعد الأخلاق وأشمل.
كان معنى «الوجوب» الأخلاقي، الذي يجعل من الفعل فضيلة، بادئ ذي بدء طاعة صاحب السلطان، ولا فرق بين أن يكون صاحب السلطان الذي «يوجب» على الناس قواعد سلوكهم إلها أو حاكما أو عادة من العادات التي جرت بها التقاليد، لكن الفلسفة ترفض هذا المعنى للوجوب الخلقي، أعني أنها ترفض أن يكون مبدأ الأخلاق هو طاعة صاحب الأمر كائنا من كان، ورفضها قائم على عدة أسباب؛ منها أن الأوامر الخلقية التي يأمرنا بها صاحب السلطان - مهما يكثر عددها - فهي أقل من أن تشمل ظروف الحياة كلها، خذ لذلك مثلا الوصايا العشر، فلو أخذت بهذه الأوامر العشرة على أنها أساس السلوك الخلقي، فهل تعلم إن كان جائزا للناس أو غير جائز أن يتبعوا قاعدة الذهب في معاملاتهم الاقتصادية؟ وإذا أردنا أن نجعل الوصايا العشر أساسا لسلوكنا إلى الحد الذي تمتد إليه تلك الوصايا، ثم لنا بعد ذلك أن نتبع قاعدة المنفعة الاجتماعية في الحكم على أنواع السلوك التي لا تدخل في نطاق تلك الوصايا كان ذلك مما لا يرضى عنه الفيلسوف؛ لأنه يحاول أن يجد للسلوك الصواب كله مبدأ واحدا، ومن الأسباب التي تجعلنا نرفض أن يكون الوجوب نتيجة أمر من صاحب الأمر، أننا إذا ما سألنا: كيف عرفنا أن هذه هي الأوامر التي أمر بها صاحب الأمر؟ كان الجواب أنها تعرف بالوحي إن كان مصدرها الله، وتعرف بالعرف إن كان مصدرها التقاليد، وتلك من مصادر المعرفة التي لا يقرها فيلسوف.
إذا كنا نرفض أن تكون طاعة صاحب الأمر هي مصدر «الوجوب» الخلقي، فما مصدره؟ هنالك جواب ثان هو في رأي «رسل» أدنى إلى الصواب من الجواب الأول، وهو أن مصدر الوجوب نابع من الداخل - داخل الإنسان - لا آت إليه من خارج؛ فالأعمال تكون خيرا لو صدرت عن كذا وكذا من العواطف الإنسانية، وتكون شرا لو صدرت عن طائفة أخرى من تلك العواطف، ويمكن القول بصفة عامة إن كل عمل يصدر عن «الحب» فهو خير، وأما ما يصدر عن «الكراهية» فهو شر. ويعلق «رسل» على هذا الرأي بقوله إنه وإن يكن رأيا صحيحا من الوجهة العملية، إلا أنه ناقص من الوجهة الفلسفية؛ إذ يراه بدوره نتيجة لمبدأ أعم وأشمل، فما الذي يجعل حافز الحب خيرا، وحافز الكراهية شرا؟
70
وهنالك جواب ثالث عن سؤالنا: ما مصدر الوجوب الخلقي؟ ما الذي يجعل الفعل خيرا أو شرا؟ إذ هنالك فريق يجعل مبدأ الحكم على الفعل بخير أو بشر ليس هو ما سبق الفعل من أمر صدر من آمر، أو من عاطفة انبثق منها الفعل، بل أساس الحكم هو ما يلحق الفعل من نتائج، فهكذا يقول المذهب المنفعي في الأخلاق الذي يرى أن السعادة هي الخير، وأن أساس السلوك إذن ينبغي أن يكون ما ترجح به كفة السعادة في هذه الدنيا، فإن أردت الحكم على فعل ما بالخير أو بالشر ، فاسأل أولا، ما نتائجه من حيث تحقيق السعادة لبني الإنسان في هذه الحياة الدنيا؟
وهنالك جواب رابع عرف به «ج. إ. مور» وهو أن الخير صفة في الفعل تدرك إدراكا مباشرا، وليست هي بالنتيجة التي نستدل عليها من مقدمات أو مؤخرات، فكما تنظر إلى هذه البقعة اللونية، فتقول إنها صفراء لإدراكك المباشر للونها الأصفر، فكذلك تنظر إلى الفعل الصواب، فتقول إنه خير لإدراكك عنصر الخير فيه إدراكا مباشرا، وهنا يقول رسل: «قد كنت فيما سبق معتنقا لهذا الراي، ثم أقلعت عنه لأسباب منها ما قرأته لسانتيانا في كتابه «رياح المذاهب»، وقد أصبح رأيي الآن هو أن الخير والشر متفرعان عن الرغبات الفطرية، ولست أعني بذلك أن الخير هو ما نرغب فيه؛ لأني أعلم أن رغبات الناس متضاربة، على حين أن الخير - في رأيي - هو في أساسه فكرة اجتماعية غايتها أن تقضي على ما بين الناس من تضارب، وهذا التضارب لا يكون بين مختلف الأفراد فحسب، بل يكون كذلك بين رغبات الشخص الواحد في أوقات مختلفة، بل وفي الوقت الواحد، حتى وإن يكن في حياته وحيدا مثل روبنسن كروسو»،
صفحة غير معروفة