بادئ ذي بدء، كانت طفولة راسل طفولة موحشة ولكنها لم تكن تعيسة. كان لديه مربيات ألمانيات وسويسريات، فبدأ يتحدث الألمانية مبكرا بطلاقة تضارع تحدثه بالإنجليزية. وكان يهيم حبا بالمساحات الشاسعة المحيطة بمنزل «بيمبروك لودج»، وهي مساحات تتميز بمناظرها الجميلة المطلة على الأراضي الريفية المحيطة. وجاء فيما كتبه: «كنت أعرف كل ركن من الحديقة، وكنت أبحث كل عام عن زهور الربيع البيضاء في مكان ما، وعن عش طائر الحميراء في مكان آخر، وعن برعم زهرة الأكاسيا وهو يخرج من خميلة من اللبلاب» (السيرة الذاتية لبرتراند راسل، ص26). ولكن مع دخوله مرحلة البلوغ، أخذت عزلته - الفكرية والعاطفية - تزداد ألما. كان وحيدا بين أسرة من كبار السن متباعدين عنه من كل النواحي. وكان الرابط الوحيد الذي يربطه بالعالم الأكبر هو مجموعة متعاقبة من المعلمين الخصوصيين. ومع ذلك أنقذته الطبيعة والكتب - وفيما بعد الرياضيات - من الإحساس بتعاسة جارفة. كان أحد أعمامه يكن اهتماما بالعلوم، وهو ما نقله إلى راسل؛ مما ساعد على تحفيز يقظته الذهنية. ولكن اللحظة الفارقة الحقيقية جاءت حين بلغ 11 عاما وبدأ أخوه يعلمه الهندسة. صرح راسل أن التجربة كانت «مبهرة مثل تجربة الحب الأول» (السيرة الذاتية لبرتراند راسل، ص30). وبعد أن أتقن النظرية الخامسة بسهولة النظريات نفسها التي تسبقها، أخبره فرانك أنها عادة ما يجدها الآخرون صعبة، وهذه النظرية الخامسة هي «جسر إقليدس» الشهير الذي يضع حدا للكثير من الناشئين في دراسة الهندسة. وكتب راسل: «كانت تلك المرة هي أول مرة يتبادر لذهني أنني قد أمتلك شيئا من الذكاء.» ولكن ما أفسد الأمر هو أن إقليدس يبدأ ببدهيات، وحين طلب راسل إثباتها، رد عليه فرانك بأنه لا بد أن يقبلها كما هي، وإلا تعذر استمرار المسألة الهندسية. فقبل راسل ذلك على مضض، ولكن الشك الذي ساوره في تللك اللحظة ظل يلازمه، وهو ما حدد سياق عمله اللاحق الذي قام على أسس الرياضيات.
عام 1888 التحق راسل كتلميذ داخلي بمعهد تابع للجيش مخصص لحشو أدمغة الطلاب بالمعلومات في مدة قصيرة؛ وذلك للاستعداد لاختبارات منحة جامعة كامبريدج. وكانت من المنغصات التي تخللت مدة إقامته هناك ما رآه سلوكا فظا بين بعض من الشباب الآخرين. ومع ذلك نال منحة للالتحاق بكلية ترينيتي ، والتحق بها في أكتوبر 1890 لدراسة الرياضيات.
شعر وكأنه قد دخل الجنة. وكان ألفريد نورث وايتهيد - الذي تعاون معه فيما بعد في كتابة كتاب «مبادئ الرياضيات» - قد نظر في أوراق إجابة راسل في المنحة الدراسية التي حصل عليها، وأوصى به عددا من الطلاب والمحاضرين الموهوبين؛ ومن ثم وجد نفسه بين رفاق يشابهونه إلى حد كبير، فلم يعد منعزلا فكريا، ووجد أخيرا سبيلا إلى الصداقة؛ إذ كون صداقات قوامها الاهتمامات المشتركة والمستوى الذهني المتجانس.
وفي أول ثلاث سنوات أمضاها راسل هناك، درس الرياضيات. وفي السنة الرابعة أصبح منكبا على دراسة الفلسفة، ودرس على يد هنري سيدجويك وجيمس وارد وجي إف ستاوت. وكان الفيلسوف الذي يعتنق المذهب الهيجلي، جيه إم إي ماك تاجارت، في ذلك الحين مؤثرا بين الطلاب والمحاضرين الشباب في كامبريدج. وهو الذي حفز راسل على اعتبار الفلسفة التجريبية البريطانية - ويمثلها لوك وبيركلي وهيوم وجون ستيوارت مل - فلسفة «غير مكتملة»، وشجعه بدلا من ذلك على دراسة فلسفة كانط وخصوصا هيجل. وبدافع تأثير ستاوت، أصبح راسل معجبا بالفيلسوف المعتنق للمذهب الهيجلي القادم من جامعة أكسفورد، إف إتش برادلي، فأخذ يدرس أعماله بعناية، وكانت أعماله تروج لصورة من الرأي الفلسفي المعروف باسم «المثالية».
ولكن أكثر من أثر في راسل أشد التأثير كان أحد معاصريه الشباب، وكان ذلك هو جي إي مور، وقد بدأ كمعتنق للفلسفة الهيجلية شأنه شأن راسل، ولكنه سرعان ما نبذها، وأقنع راسل أن يحذو حذوه. كان برادلي يرى أن كل ما يصدقه المرء بدافع المنطق السليم - مثل التعددية والتغير في عالم الأشياء - ليس إلا مظهرا خارجيا، وأن الواقع ما هو إلا حقيقة ذهنية مطلقة. رفض كل من راسل ومور هذا الرأي من منطلق حس عنيد بالتحرر. ومع أنهما تطورا بعد ذلك بطريقتين مختلفتين، ومع أن راسل بالتحديد حاول بكل جهده البحث عن بدائل مرضية، فإن العمل الفلسفي الذي أنجزه كل منهما كان يسلم بالواقعية والتعددية (انظر الفصل
الثاني
للاطلاع على توضيح لهذين المصطلحين).
ولكن التمرد الذي تزعمه مور جاء لاحقا . نجح راسل وصنف بين المتفوقين في امتحانات درجة الشرف بجامعة كامبريدج «ترايبوز» في الرياضيات لعام 1893، وكان ترتيبه السابع في امتحانات الرياضيات بجامعة كامبريدج، وصنف بين المتفوقين مع مرتبة الشرف في امتحانات العلوم الأخلاقية «ترايبوز» في العام التالي (كانت العلوم الأخلاقية الاسم الذي يطلق على مواد مثل الفلسفة والاقتصاد في جامعة كامبريدج). ثم بدأ يكتب أطروحة الزمالة على أسس الهندسة، وذلك على خطا كانط الذي كان له التأثير الأكبر على آرائه في ذلك الحين. وإبان تلك الأحداث الحافلة، بلغ سن الرشد، وأصبح لذلك حرا ليقدم على فعل كان ينتويه على الرغم من المعارضة الشديدة التي أبدتها عائلته، وكان ذلك هو الزواج من أليس بيرسول سميث، وهي فتاة أمريكية من طائفة الكويكرز تكبره بخمس سنوات، كان قد التقاها وهام بها حبا على الفور في 1889، مع أنها لم تبادله المشاعر إلا بعد ذلك بأربع سنوات. ورأت عائلة راسل أنها غير مناسبة على الإطلاق، وأخبرته أنه يستحسن على أي حال من الأحوال ألا ينجب منها لأن بعض أفراد عائلته كانوا يعانون من الجنون، وبرهنوا على ذلك بالإشارة إلى كل من عمه ويليام، وكان مقيما في مصحة للمرضى العقليين، وعمته أجاثا، وكانت تنتابها تهيؤات وتزداد غرابة أطوارها كلما تقدمت في السن.
شكل 1-3: كانت أليس بيرسول سميث - وهي أمريكية من طائفة الكويكرز - أول حبيبة لراسل، التقى بها حين كان في السابعة عشرة من عمره، وتزوجها بعد ذلك بأربع سنوات في 1894.
1
صفحة غير معروفة