فلسفة مذهب الذرية المنطقية
يصف راسل مذهب الذرية المنطقية في أكثر من مقام، وأهمها هو الفصل الوارد في كتاب «معرفتنا بالعالم الخارجي» بعنوان «المنطق باعتباره روح الفلسفة»، وفي سلسلة من المحاضرات ألقاها في عام 1918 بعنوان «فلسفة مذهب الذرية المنطقية» (أعيد طبعها في كتاب بعنوان «المنطق والمعرفة» من تحرير مارش). وتحتوي مقالة مذهب الذرية المنطقية (1924) على موجز لمناهج وأهداف مذهب الذرية المنطقية، وأعيد طبعها أيضا في الكتاب نفسه من تحرير مارش.
من أهم سبل فهم منهج مذهب الذرية المنطقية ادعاء راسل أن «المنطق هو جوهر الفلسفة»؛ حيث يقصد ب «المنطق» المنطق الرياضي. وتكمن أهميته في أنه يقدم وسيلة لإجراء تحليلات قوية وكاشفة فلسفيا للأبنية؛ وهي بالتحديد أبنية القضايا والوقائع.
تبين بالفعل كيف أن تحليل القضايا يثبت أنه من الخطأ تناولها كلها على أنها تتخذ صورة مؤلفة من الموضوع والمحمول، وأن القواعد النحوية السطحية مضللة، كأن نفهم الأوصاف والأسماء العادية على أنها تعني تعبيرات. ولا بد أيضا من إجراء تحليل كاشف للأبنية للعالم الذي نتحدث عنه حين نؤكد هذه القضايا، وإجراء تحليل للقضايا نفسها.
وفي الفصل المعنون «المنطق باعتباره جوهر الفلسفة» يصف راسل هذين البناءين المتصلين بادئا بالبناء الأول . ويقول راسل إن العالم يتألف من أشياء جمة لها صفات وعلاقات جمة. ولن تضم أي قائمة تشمل الموجودات التي يشملها العالم الأشياء فقط، بل أيضا الأشياء التي تحمل هذه الصفات والعلاقات. بعبارة أخرى، من المفترض أن تكون قائمة من الوقائع؛ فالأشياء والصفات والعلاقات هي مكونات الوقائع، ومن الممكن تحليل الوقائع بدورها لتتحول إليها. ويرمز إلى الوقائع بما يطلق عليه راسل «القضايا»، وتعريفها أنها «أشكال من الكلمات يجزم بأنها صحيحة أو كاذبة.» والقضايا التي ترمز إلى الحقائق الأساسية - بمعنى التي تؤكد أن الشيء يحمل صفة معينة أو يحل محل شيء آخر في علاقة معينة - يطلق عليها راسل «القضايا الذرية». وعند الجمع بين هذه القضايا عن طريق كلمات منطقية مثل «و» و«أو» و«إذا ... إذن»، تأتي النتيجة كقضايا معقدة أو «جزيئية». ومثل هذه القضايا مهمة للغاية لأن كل احتمالات الاستدلال تتوقف عليها.
وأخيرا لدينا «القضايا الكلية» مثل «كل البشر فانون» (والعبارات التي تنفيها، وتتألف باستخدام الكلمة «بعض» كما في عبارة «بعض البشر ليسوا فانين»). تتوقف الحقائق التي ترمز إليها إلى حد ما على معرفة بديهية. وتنشأ هذه النقطة المهمة كنتيجة للتأمل في تحليل القضايا والوقائع. فمن الناحية النظرية، إذا عرفنا كل الوقائع الذرية، وأنها كلها هي الحقائق الذرية، لأمكننا استدلال كل الحقائق الأخرى منها. ولكن لا يمكن معرفة القضايا الكلية بالاستدلال من الحقائق الذرية وحدها. لنتأمل عبارة «كل البشر فانون»؛ إذا عرفنا كل إنسان وعرفنا عن فنائه، فلن يكون بإمكاننا مع ذلك الاستدلال أن كل البشر فانون إلا بعد أن نتحقق من أن هؤلاء هم كل البشر الموجودين؛ وهذه قضية كلية. كان راسل حريصا على أن يشدد على أهمية هذه النقطة. وما دام أنه لا يمكن استنتاج الحقائق الكلية من الحقائق الجزئية وحدها، وما دام أن كل الأدلة التجريبية تتألف من الوقائع الجزئية، يترتب على ذلك أنه لا بد من وجود شيء من المعرفة البديهية إذا أمكن وجود المعرفة أساسا. واعتمد راسل على هذا لدحض حجج أتباع المذهب التجريبي الأقدمين، الذين يرون أن المعرفة كلها تستند فقط إلى الخبرة الحسية.
ويظهر على الفور سؤال يتعلق بالموضع الذي يمكن أن نجد فيه مثل هذه المعرفة الكلية. وتظل إجابة راسل كما كانت في كتاب «مشكلات الفلسفة»؛ وهي أن مثل هذه المعرفة موجودة في المنطق، وتمنحنا قضايا بديهية كلية. لنتأمل القضية التالية: «كل البشر فانون، سقراط بشر، إذن سقراط فان.» تحتوي القضية على حدود تجريبية (سقراط، بشر، فان)؛ ومن ثم فهي ليست قضية قائمة على المنطق البحت. أما القضية القائمة على المنطق البحت فتأتي على الشكل التالي: «إذا كان أي شيء يحمل صفة معينة، وأيا كان ما يحمل هذه الصفة يحمل صفة معينة أخرى؛ إذن فهذا الشيء يحمل هذه الصفة الأخرى.» (والأكثر وضوحا: «كل أفراد
هي أفراد ، و
هو ، إذن
هو »). هي قضية كلية وبديهية تماما. ومثل هذه القضايا هو الذي يجعلنا نخرج من حدود الخصوصية التجريبية.
صفحة غير معروفة