وعلفا إلى أن ينحسر الثلج، فإذا انحسر الثلج فخلوا سبيلها، واحموها حتى تصل إلى ابعد موضع من العمارة ففعلوا ذلك.
وتلجأ أيضا إلى الأنس والعمارة إذا أجدبت السنة وعدمت الكلأ، وذكر هذا المعنى إبراهيم الموصلي في قوله يرثي أخاه إسماعيل بن جامع المغني فقال:
وإني وإسماعيل يوم فراقه ... لكالغمد يوم الروع فارقه النصل
فإن اغش قوما بعده أو ازرهم ... فكالوحش يدنيها من الأنس المحل
يذكرنيك الخير والشر والتقى ... وقول الخنا والحلم والعلم والجهل
فألقاك عن مذمومها متنزها ... وألقاك في محمودها ولك الفضل
وقد زعم قوم أن هذا الشعر لمسلم بن الوليد الأنصاري. ومثله لآخر:
تخرم الدهر إشكالي فأفردني ... منهم وكنت أراهم خير جلاس
وصرت اصحب قوما لا إشاكلهم ... والوحش تأنس عند المحل بالناس
وأخبرني مخبر عن أبي العباس بن الداية عن المعتصم أنه أوغل يوما في الصيد وحده، فبصر بقانص يصيد ظباء فاستدناه وقال: حدثني اعجب ما رأيت في صيدك فقال: خربقت المشارع التي تردها الظباء، فلما شمت الخربق صدرت عطاشا، ثم عات من غد، فانصرفت أيضا عطاشا، ثم عادت في اليوم الثالث بأجمعها، فلما جهدها العطش رفعت رؤوسها إلى السماء فأتاها الغيث فما انصرفت حتى رويت وخاضت في الماء.
وذكرت العلماء بطبائع الحيوان أن الوحش ربما انحازت إلى العمران عن مواضعها من الجبال والبر في الفصل الذي يتصل بفصل الشتاء فيستدل بذلك أهل البلدان على قوة شتاء تلك السنة وشدة برده وثلجه، لأنها تحس في الجبال بتغير الهواء، وبرد شديد، فتستدل بذلك على ما بعده من قوة البرد، وتخاف الهلاك فتلجأ إلى العمارة.
صفحة ٣٩