مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي له في كل لطيف من قدرته معجز يتفكر فيه، وخفي من صنعه يتنبه (له) ويدل عليه، ونعم تقتضي مواصلة حمده، ومنن تحث على متابعة شكره، والذي ميز كل نوع من حيوان خلقه على حدته، وأبانه بشكله وصورته، وجعل له من الآلة ما يلائم طبعه مركبه؛ ويسره للأمر الذي خلق له، ويؤديه إلى مصلحته وقوام جسمه، وجعلنا من أشرف ذلك كله نوعا، وأتمه معرفة، وجمع فينا بالقوة ما فرقه في تلك الأصناف بالآلة، فليس منها شيء مخصوص بحال له فيها مصلحة إلا ونحن قادرون على مثلها، كذوات الأوبار التي جعلت لها وقاء وكسوة، تلزمها ولا تعدمها، فإنا بفضل حيلة العقل نستعمل مثل ذلك إذا احتجنا إليه، ونفارقه إذا استغنينا عنه، وكذوات الحد والشوكة من صدف ومخلب، فأن لنا مكان ذلك ما نستعمله من السيوف والرماح وسائر الأسلحة، وكذوات الحافر والخف والظلف، فأن لنا أمثال ذلك مما ننتعله ونتقي أذى الأرض به، وجعل لنا خدما وأعوانا، وزينة وجمالا، وأكلا وأقواتا، فبعض نمتطيه، وبعض نقتنيه، وبعض نغتذيه، وأحل لنا صيد البر والبحر والهواء، نقتنص الوحش من كناسها، ونحطها من معاقلها، ونستنزل الطير من الهواء، ونستخرج الحوت من الماء. ولم يكلنا في ذلك إلى مبلغ حيلتنا حتى عضدنا عليه، وسهل السبيل إليه، بأن خلق لنا من تلك الأنواع أشخاصا أغراها بغيرها من سائر أجناسها، ووصلها من آلة الخلقة، وسلاح البنية، وقبول التأديب والتضرية، والانطباع على الأكف والاستجابة، فدلنا على موضع الصنع فيها،
صفحة ١٧
وموقع الانتفاع بها، كل الفهد والكلب وسائر الضواري، والبازي والشاهين والصقر وسائر الجوارح كل ما يحويه من ذلك لنا كاسب، وعلينا كادح. وبمصلحتنا عائد، نستوزعه جل جلاله الشكر على ما منحناه من هذه الموهبة، وفضلنا به من هذه التكرمة، إلى ما نقصر عن تعداده، ونعجز عن الإحاطة به، من عوائد كرمه، وفوائد قسمه، ونرغب إليه جل جلال في العون على طاعته ومقابلة إحسانه باستحقاقه. وصلى الله على محمد نبيه الصادق الأمين البشير النذير، وعلى آله الطيبين الأخيار، وسلم تسليما، وعلى الأئمة من ولد الحسين بن علي بن أبي طالب حتى تنتهي إلى العزيز بالله أمير المؤمنين فتشمله ونسله إلى يوم الدين.
إن للصيد فضائل جمة، وملاذ ممتعة، ومحاسن بينة، وخصائص في ظلف النفس ونزاهتها، وجلالة المكاسب وطيبها كثيرة، به يستفاد في النشاط والأريحية، والمنافع الظاهرة والباطنة، والمران والرياضة والخفوف والحركة، وانبعاث الشهوة، واتساع الخطوة، وخفة الركاب، وأمن من الأوصاب مع ما فيه من الآداب البارعة، والأمثال السائرة، ومسائل الفقه الدقيقة، والأخبار المأثورة، ما نحن مجتهدون في شرحه وتلخيصه، وتفصيله وتبويبه، في هذا الكتاب المترجم بكتاب البيزرة، على مبلغ حفظنا، ومنتهى وسعنا، وبحسب ما يحضرنا، وينتظم لنا، اتباعا فيما لا يجوز الابتداع فيه، وابتداعا فيما أغفله من تقدمنا ممن يدعيه، ونحن مقدمون ذكر الأبواب التي تشتمل على ذلك، ليأتي كل باب منها في معناه، وبالله الحول والقوة ومنه عز وجل التوفيق والمعونة.
صفحة ١٨
باب من كانت له رغبة في الصيد وعنده شيء من آلته من الأنبياء صلوات الله عليهم، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه ومن الأشراف.
باب تمرين الخيل بالصيد والضراءة وجرأة الفارس على ركوبها باقتحام العقاب، وتسنم الهضاب، والحدور والانصباب.
باب ما قيل في طرد كل صنف من وحش وطير.
باب فضائل الصيد وأنه لا يكاد يحب الصيد ويؤثره إلا رجلان متباينان في الحال، متقاربان في علو الهمة، إما ملك ذو ثروة، أو زهد ذو قناعة، وكلاهما يرمي إليه من طريق الهمة، إما لما تداوله الملوك من الطلب، وحب الغلبة والظفر، وموقع ذلك من نفوسهم، أو للطرب واللذة والابتهاج بظاهر العتاد والعدة. والفقير الزاهد لظلف نفسه عن دني المكاسب، ورغبتها عن مصرع المطالب وحقنه ماء وجهه عن غضاضة المهن، وتقاضي أجرة العمل، فمن هذه الطبقة من يقتات من صيده ما يكفيه، ويتصدق بما يفضل عنه، توقيا من المعاملة والمبايعة، ومنهم من يبيع ما فضل عن قوته، ويعود بثمنه في سائر مصلحته. وكانت هذه حال الخليل بن أحمد الفرهودي مع فضله وأدبه وكمال علمه وآلاته ، في بازي كان يقتنص به، ويوسد خده لبنة، وكان جلة الناس في عصره يجتذبونه، ويعرضون عليه المشاركة في أحوالهم فلا يثنيه ذلك من مذهبه، فأحد من كاتبه سليمان بن علي الهاشمي فكتب الخليل بن أحمد إليه:
أبلغ سليمان أني عنه في سعة ... وفي غنى غير أني لست ذا مال
شحا بنفسي أني لا أرى أحدا ... يموت هزلا ولا يبقى على حال
صفحة ١٩
وقلما رأيت صائدا إلا تبينت فيه من سيما القناعة، وعلامة الزهد والصيانة، ما لا تتبينه في غيره من سائر المخالطين للناس، ولا تكاد تسمع منه ولا عنه ما تسمعه من سائرهم وعنهم.
وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس في التفسير قال: إنما سمي أصحاب المسيح الحواريين لبياض ثيابهم وكانوا صيادين.
وقال أرسطا طاليس: أول الصناعات الضرورية الصيد ثم البناء ثم الفلاحة، وذلك لو أن رجلا سقط إلى بلدة ليس بها أنيس ولا زرع لم تكن له همة إلا حفظ جسمه ونفسه بالغذاء الذي به قوامه، فليس يفكر إلا فيما يصيده، فإذا صاد واغتذى فليس يفكر بعد ذلك إلا فيما يستظل به ويستكن فيه وهو البناء، فإذا تم له فكر حينئذ فيما يزرعه ويغرسه.
ويغدو للصيد اثنان متفاوتان، صعلوك منسحق الأطمار، وملك جبار، فينكفئ الصعلوك غانما، وينكفئ الملك غارما، وإنما يشتركان في لذة الظفر. ولا مؤونة أغلظ على ذي المروءة من تكلف آلات الصيد لأنها خيل وفهود وكلاب وآلات تحتاج في كل قليل إلى تجديد. ومن ههنا قيل إنه لا يشغف بالصيد إلا سخي.
قال أبو العباس السفاح لأبي دلامة: سل؟ فقال: كلبا، قال: ويلك، وماذا تصنع بالكلب؟ قال: قلت: سل، والكلب حاجتي، قال: هو لك، قال: ودابة تكون للصيد، قال: ودابة، قال: وغلام يركبها ويتصيد عليها، قال: وغلام، قال: وجارية تصلح لنا صيدنا وتعالج طعامنا، قال: وجارية، قال أبو دلامة: كلب ودابة وغلام وجارية هؤلاء عيال لا بد من دار، قال: ودار، قال: ولا بد من غلة وضيعة لهؤلاء، قال: قد أقطعناك مائة جريب عامرة ومائة جريب غامرة ، قال: وما
صفحة ٢٠
الغامرة؟ قال: لا نبات فيها، قال: أنا أقطعك خمس مائة جريب في فيافي بني أسد، قال: فقد جعلنا لك المائتين عامرة، بقي لك شيء؟ قال: أقبل يدك، قال: أما هذه فدعها، قال: ما منعت عيالي شيئا أهون من فقدا من هذا.
وقيل لبعض من كان مدمنا على الصيد من حكماء الملوك، أنك قد أدمنت هذا وهو خير الملاهي وفيه مشغلة عن مهم الأمور ومراعاة الملك. فقال: إن للملك في مداومة الصيد حظوظا كثيرة أقلها تبينه في أصحابه مواقع العمارة من بلاده في النقصان والزيادة فيه، فأن رأى من ذلك ما يسره بعثه الاغتباط على الزيادة فيه وأن رأى ما ينكره جرد عنايته له ووفرها على تلافيه، فلم يستتر منه خلل، ورأس الملك العمارة، ولم يخرج ملك لصيد فرجع بغير فائدة، أما دوابه فيمرنها ويكف من غرب جماحها، وأما شهوته فينسئها، وأما فضول بدنه فيذيبها، وأما مراود مفاصله فيسلسها، وأما أن يكون قد طويت عنه حال مظلوم فيتمكن من لقائه، ويبوح إليه بظلامته، فيسلم من مأثمه. وأما أن ينكفئ بصيد يتفاءل بالظفر به إلى خصال كثيرة لا يخيل ما فيها من الربح.
وقيل للزاهد المشغوف بالصيد: لو التمست معاشا غير هذا، فقال: ادن لا أحد مثله، أن هذا معاش يجدي علي من حيث لا أعامل فيه أحدا وأنفرد به من الجملة وأسلم فيه من الفتنة، وألتمسه في الخلوات والفلوات، وهي مواضع أهل السياحة ومظان أولي العبادة، وقلما خلوت من حيوان عجيب في خلقه، لطيف فيما يلهمه الله من احتيال رزقه، يحدث لي فكره في عظيم قدرة الله جل وعز على تصاريف الصور،
صفحة ٢١
واختلاف التراكيب، تعجبا من مذاهب الوحش والطير، في مساعيها لمعاشها، وتمحلها لأقواتها وما يلحقها حين تقع في الأشراك، وترتبك في الحبائل، من الحتوف التي تنصبها لها الأطماع، ويسوقها إليها الحرص، فأنا من ذلك بين متبلغ للدنيا، ومتأهب للآخرة.
وهذا كتاب كليلة ودمنة المتعارف عليه بين الحكماء فضله، المشتملة على الآداب جمله وفصوله، ذكر واضعه أنه حكمة ألفها ، وجعلها على ألسنة الطير والوحش، للطف مواقعها من النفوس، بمقارنة الشكل الحيواني، وإذا كانت كذلك كانت بالقلوب أمس، من الحفظ أقرب، وإذا كان لذكرها والحكاية عنها هذا الموضع، فما ظنك بمشاهدتها ومطاردتها والظفر بما امتنع على الطالب منها.
وكانت ملوك الأعاجم تجمع أصنافها، (من الحيوان في حظائر) وتدخل أصاغر أولادها عليها وتعرفها صنفا صنفا منها، كي لا (ينسبوا إلى الجهل) إذا كبروا ولم يكونوا رأوها في صغرهم، فرأوا شيئا منها غريبا سألوا عنه.
وأشرف الغذاء الذي تحفظ به الأعضاء وما شاكلها، وليس شيء أشبه بها، وأسرع استحالة إليها من اللحم، وأفضل اللحمان ما استدعته الشهوة، وتقبلته الطبيعة بقوة عليه، ولا لحم أسرع انهضاما، وأخص بالشهوة موقعا، من لحم الصيد المطرود المكدود، لأن ذلك ينضجه ويهريه ويسقط عن الطبيعة بعض المؤونة في طبخه، وقد قام في النفس من العشق له، والتهالك عليه، والتشوف إليه، ما لم يقم فيها لغيره من المطاعم، فإذا وافى الأعضاء وقد تقدمت له هذه المقدمات، أحالته ذ
صفحة ٢٢
بالقبول في أسرع زمان. وإن كان الحيوان غليظا عكست هذه الأسباب طبعه، ونفت ضرره، وقمعت كيموسه، وربما أكل اللطيف الخفيف على تعنف وتكره، فكان إلى أن يأخذ من الأعضاء أقرب من أن تأخذ منه الأعضاء، وتأول الرواة معنى امرئ القيس في قوله:
رب رام من بني ثعل ... مخرج كفيه من ستره
فأتته الوحش واردة ... فتمتى النزع من يسره
فرماها في فرائصها ... من إزاء الحوض أو عقره
مطعم للصيد ليس له ... غيرها كسب على كبره
على المدح بادمان الصيد، ويمن الطائر فيه، واستثناؤه بقوله على كبره زائد عندهم في المدح لوصفه أنه يتكلف من ذلك مع قدح السن وأخذها منه شيئا لا يعجزه مع هذه الحال، ولا يلحقه فيها ما يعرض للمسن من الفتور والكلال، وبنو ثعل بنو عمه لأنهم فخذ من طيء، وكندة فخذ من مرة، ومرة أخو طيء، فلم يرد غير المدح. وهذا الرامي عمرو الثعلي، وكان من أرمى الناس وفيه قيل:
ليت الغراب رمى حمامة قلبه ... عمرو بأسهمه التي لم تلغب
وفي أبيات امرئ القيس هذه أدب من أدب الصيد ولطائف حيله، وهو قوله: فتمتى النزع من يسره، وتمتى وتمطى واحد، أبدلت التاء من الطاء وفي تمتى معنيان: أحدهما الاعتماد والتوسط من قولهم حصلته في متي كمى فتمتاه بمعنى تعمد متاه، والآخر بمعنى إبدال التاء من الطاء يريد التمطي، وهو
صفحة ٢٣
أن مريدي الصيد بالرمي يتمطى بيساره نحو الأرض مرات حتى يؤنس الطريدة، فتألف ذلك منه ولا تذعر له، ثم حينئذ يستغرق نزعه، ويمضي سهمه. ولا يزال امرؤ القيس في كثير من شعره يفخر بالصيد وأكل لحمه، كقوله مع عراقته في الملك:
تظل طهاة اللحم من بين منضج ... صفيف شواء أو قدير معجل
وسماه لذة واكتفى بذلك من أن يذكر الصيد لعلمهم بذلك واشتهاره فيهم وقدره عندهم فقال:
كأني لم أركب جوادا للذة ... ولم أتبطن كاعبا ذات خلخال
ومن فضائله ما فيه من التبرز على ركوب الخيل صعودا وحدورا وكرا وانكفاء وتعطفا وانثناء، وذلك كما قدمنا زائد في الفروسية، ملين من المعاطف، مسلس من المراود، محلل لكوامن الفضول، مثبت للركبة، منسيء للشهوة، مؤمن من العلل المزمنة.
وقال بعض الحكماء: قلما يعمش ناظر زهرة، أو يزمن مريغ طريدة، يعني بذلك من أدمن الحركة في الصيد، ونظر البساتين، فاستمتع طرفه بنضرتها، وأنيق منظرها، وليس يكبر الملك الرئيس العظيم الوقور إذا أثيرت الطريدة أن يستخف نفسه في ارغتها، ويستحضر فرسه في أثرها، ويترجل عنه في المواضع التي لا يقتحم الفرس مثلها.
وحكي عن عظماء الأكاسرة من ذلك ما هو مشهور في سيرهم، وعن الخلفاء الراشدين ما نذكره في باب من أغري به منهم، ومنها ما يسنح فيه من النشاط والأريحية، لا سيما مع الظفر، ودرك البغية، فأن المرء
صفحة ٢٤
يكون في تلك الحال أطرب منه عند سماع شائق الألحان، وتشاجي النغم من ذوي الإحسان، وربما قويت النفس حينئذ، وانبسطت الحرارة الغريزية فعملت في كوامن العلل.
أخبرني غير واحد ممن شاهد مثل ذلك أنه رأى من غدا إلى الصيد، وهو يجد صداعا مزمنا، فطفر فعرض له رعاف حلل ما كان في رأسه، وآخر كانت به سلعة يجبن عن بطها، قويت عليها الطبيعة فانبطت. وآخر كان في بدنه جرح مندمل على نصل سهم، فبدر ذلك النصل، في وقت احداد حركته وتكامل أريحيته، وربما عكس ما يعرض له من ذلك ذميم حالاته، فآلت إلى ضدها من الخيرية، حتى يتشجع، وإن كان جبانا، ويجود وإن كان بخيلا، وينطلق وجهه وإن كان عبوسا.
أخبرني بعض الأدباء عن رجل من الشعراء قصد بعض الكبراء. فتعذر عليه ما أمله عنده، وحال بينه وبينه الحجاب، وكان آلفا للصيد مغرى به، فعمد الشاعر إلى رقاع لطاف، فكتب فيها ما قاله من الشعر في مديحه، وصاد عدة من الظباء والأرانب والثعالب، وشد تلك الرقاع في أذناب بعضها، وآذان بعض، وراعى خروجه إلى الصيد، فلما خرج كمن له في مظانه ثم أطلقها، فلما ظفر بها واستبشر، ورأى تلك الرقاع، ووقف عليها، زاد في طربه، واستطرف الرجل واستلطفه، وتنبه على رعي ذمامه، وأمر بطلبه فأحضر، ونال منه خيرا كثيرا.
صفحة ٢٥
ومن شأن النفس أن تتبع ما عزها، وبعد من إدراكها، فإذا ظفرت بما هذه سبيله بعد إعمالها الحيلة فيه، كان استمتاعها بالظفر به أكثر منه بما وقع عليها فتيسر، وانقياد لها متسمحا.
وهذا شبيه بما تأوله يحيى بن خالد البرمكي في توصيته ولده، بتقديم العدات أمام الهبات، فأنه قال لهم: إن الموعد إذا تخيل فصدق، وانتظر فطرق، وأستنجح فأنجح، أمتع من مفاجأة البر.
ولو أن محاول حرب، أو مقارع جيش، هلك عدوه قبل مكافحته إياه حتف أنفه، أو انفل جيشه من سوء تدبيره فانصرف، أو جاءه ضاعا طالبا لأمانه، لما كان مقدار السرور بذلك كمقداره لو نازله فقهره، أو بارزه فأسره. وهذا بين في الملاعب بالشطرنج فأن أحذق الاثنين بها وأعلمهما بتدبيرها إذا تبين التفاوت بينه وبين الآخر، ورآه متتابع الخطأ، عميا عن الاحتراز، متورطا في الاغترار، مفرقا عدده، مستهينا لفنائه وتناقصه، محتملا للطرح، لم يلتذ بملاعبته، ولم يحل له قمره.
ولو أن ملكا يهدى له في كل يوم عدد كثير من أصناف الوحش والطير، لم يبلغ فرحه بذلك جزءا واحدا من اغتباطه بقنبرة ضئيلة يدأب في صيدها، أو عكرشة هزيلة يظفر بها، وكم من جواد رائع يضن بظهره على أحب أولاده إليه قد قتله بازياره، ولو أن الصيد أمكن مريغه في أول إثارته لنقص ذلك من لذته، وقدح في موقعه.
وقال بعض المحدثين:
لولا طراد الصيد لم يك لذة ... فتطاردي لي بالوصال قليلا
هذا الشراب أخو الحياة وما له ... من لذة حتى يصيب غليلا
وأخذ هذا محمد بن الوزير الحافظ الغساني فكساه لفظا حسنا في كلمة له يعتذر فيها من تأخير هدية:
صفحة ٢٦
يفديك خل إذا هتف به ... جرت مجاري لسانه يده
أخر ما عنده لتطلبه ... ولذة الصيد حين تطرده
وقال بعض الكتاب يستعفي رئيسا من بر بعث إليه:
قد جاءت الورق التي وقرتها ... والريم والسرج المحلى والفرس
والبغلة السفواء والخلع التي ... كانت كعرض2ك ليس فيه من دنس
في ريحها أرج يضوع كأنه ... من عود محتدك الكريم المغترس
والضوء يلمع في الظلام كأنه ... من نور وجهك أو ذكائك يقتبس
لكن أبت لي أن أروح واغتدي ... كلا على الأخوان أخلاقي الشمس
لا أستلذ العيش لم أدأب له ... طلبا وسعيا في الهواجر والغلس
وأرى حراما أن يواتيني الغنى ... حتى يحاول بالعناء ويلتمس
فاحبس نوالك عن أخيك موفرا ... فالليث ليس يسيغ إلا ما افترس
ومن فضل العلم بالصيد والعادة له ما حكاه لي أبي عن اسحق (بن) إبراهيم بن السندي، عن عبد الملك بن صالح الهاشمي، عن خالد بن برمك، أنه كان نظر، وهو مع صالح الهاشمي صاحب المصلى وغيره من رجال الدعوة، وهو على سطح قرية نازل مع قحطبة حين فصلوا من خرسان، وبينهم وبين عدوهم مسيرة أيام إلى أقاطيع ظباء مقبلة من البر، حتى كادت تخالط العسكر، فقال لقحطبة: ناد في
صفحة ٢٧
الناس بالإسراج والإلجام، وأخذ الأهبة، فتشوف قحطبة فلم ير شيئا يروعه. فقال لخالد: ما هذا الرأي؟ فقال: أما ترى الوحش قد أقبلت؟ إن وراءها لجمعا يكشفها فما تمالك الناس أن يتأهبوا حتى رأوا الطليعة، ولولا علم خالد بالصيد لكان ذلك العسكر قد اصطلم.
وعذل بعض أبناء الملوك في الاستهتار بالصيد، والشغف به، وقيل له أنه هزل وكان أديبا فقال:
ربما أغندو إلى الصيد معي ... فتية هزلهم في الصيد جد
ألفوا الحرب فلما ظفروا ... فتحاملوا أن يعاديهم أحد
واستقام الناس طرا لهم ... فغدوا ليس يرى فيهم أود
وتقاضت عادة الحرب وما ... جمعوه من عتاد وعدد
وجدوا في الصيد منها شبها ... فابتغوها في معاناة الطرد
لترى عادتهم جارية ... لهم باقية لا تفتقد
ولما شهد أبو علقمة المري عن د سوار أو غيره من القضاة وقف في قبول شهادته، فقال له أبو علقمة: لم وقفت في إجازة شهادتي؟ قال: بلغني أنك تلعب بالكلاب والصقور، قال: من خبرك أني ألعب بها فقد أبطل، وإن كان بلغك أني أصطاد بها فقد صدق من أبلغك، وأني أخبرك أني جاد في الاصطياد بها، غير هازل ولا لاعب، فهل وقف مبلغك على الفرق بين الجد واللعب؟ قال: ما وقف ولا أوقفته عليه، وأجاز شهادته.
صفحة ٢٨
ومن فضائل الصيد أنه كان الملك من ملوك فارس إذا حمل على ركوب الصيد دفع أصحابه ركابه سوطه إلى بطانته وهم خاصته، ودفعته الخاصة إلى الخدم وأدخله الخدم إلى موضع نسائه، فناولته إياه امرأة ثيب، وخرج من عندها وهو بيده، فأما في أوقات ركوبه إلى سائر المواضع غير الصيد والحرب، فيتناول السوط من حيث يركب منه.
وكانت الجوارح تنتصب على كنادرها من ناحية وساده نحو رأسه، والضواري وهي الكلاب والفهود وبنات عرس من ناحية ممد رجليه، والخيل أمامه أو عن يمينه، وكل من شهد معه الصيد حاش عليه العانة والسرب حتى يكون المكل يتصيدها، ويتصيدوا هم سائر الوحش والسباع، ما لم ينهوا عن ذلك، ولم يكن يرى أن يخلو سمعه من زقاء جارح ونباح صار وصهيل الخيل، والحان القيان، وطنين الأوثار.
وكانت لبهرام شوبين حظية مفتنة في جميع الآداب، فاقترحت عليه حضور الصيد معه، شغفا منها به، ونزاعا إلى مشاهدة الطرد، فأجابها إلى ذلك، فبينا هي معه إذ عن لهما سرب ظباء، وكان بهرام شوبين من جودة الرمي على ما لم يكن عليه سائر الملوك، فقال لها: أراك مشغوفة بالصيد، مرتاحة إليه، فكيف تحبين أن أرمي هذه الظباء، فقالت أريد أن تجعل ذكورها إناثا وإناثها ذكورا، ففهم كلامها، وقدر أنها توهمت عليه العجز عما التمسته منه، وأنها حاولت أن تبين من نقصه
صفحة ٢٩
فتفت في عضده عند من حضره من أهل مملكته، فقال: ما سألت شططا، ثم رمى التيوس من الظباء فألقى قرونها فصارت كالإناث، وجعل يرمي كل واحدة من الإناث بسهمين، فيثبتهما في موضع القرنين، فتعود كأنها تيس، فلما تم له ذلك على ما طلبته منه عطف عليها فقتلها، خوفا من أن تسومه بعد ذلك بفضل همتها وقريحتها، خطة يقصر عنها فتفضحه.
وذكر الأصمعي عن الحرث بن مصرف قال: ساب رجلا بحضرة بعض الملوك، فقال: أيها الملك أنه قتال ظباء، طلاب إماء، مشاء بإقراء، أقعر الآليتين، مقبل النعلين، أفحج الفخذين، مفجح الساقين، فقال له أردت أن تذمه فمدحته.
الإقراء جمع قري وهو مسيل نهر، وأقعر الآليتين ممتلئهما، مفجح الفخذين متباعد هذه من هذه، وهذا المصرف يضرب مثلا في طلاب الأمر عليه، وتقسم رأيه في مناجزتهم، فيجعل نفسه كلب صيد، ويجعلهم ظباء فيقول:
تفرقت الظباء على خراش ... فما يدري خراش ما يصيد
فيقال إنه من شعره ويقال إنه تمثل به.
ووقف بعض الملوك بصومعة حكيم من الرهبان فناداه فاستجاب له فقال له: ما اللذة؟ فقال له: كبائر اللذات أربع، فعن أيها تسأل؟ فقال: صفهن لي، قال: هل تصيدت قط؟ قال: لا، قال فهل لك حظ في السماع والشرب؟ قال: لا، قال: فهل فاخرت ففخرت أو كاثرت فكثرت؟ قال: لا، قال: فما بقي لك من اللذات؟
صفحة ٣٠
وللصيد لذة مشتركة موجودة في طباع الأمم، وكأنها في سكان البدو والأطراف أقوى لمصاقبتهم الوحش ومنازلتهم إياها، فلا تزال تراهم لها ذاكرين، وبها متمثلين، ومنها طاعمين، حتى أن نساءهم ليتصيدن على الخيل، ذكر ذلك بعض الرواة فقال: أتيت مكة فجلست في حلقة فيها عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي، وإذا هم يتذاكرون العذريين وعشقهم وصبابتهم فقال عمر: أحدثكم بعض ذلك، أنه كان لي خليل من بني عذرة وكان مستهترا بحديث النساء والصبوة إليهن وينشد فيهن، على أنه كان لا عاهر الخلوة ولا سريع السلوة، وكان يوافي الموسم في كل سنة فإذا أبطأ ترجمت له الأخبار وتوكفت له السفار حتى يقدم، فذا قدم تحدثنا حديث عاشقين صبين محزونين، وأنه التاث علي ذات سنة خبره، حتى قدم وافد عذرة، فأتيت القوم انشد عن صاحبي، فإذا غلام يتنفس الصعداء ثم قال: اعن أبي المسهر تسأل؟ قلت عنه نشدت، وإياه أردت، قال: هيهات هيهات، أصبح والله أبو المسهر لا مأيوسا منه فيهمل ولا مرجوا فيعلل، أصبح والله كما قال الشاعر:
لعمرك ما حبي لأسماء تاركي ... صحيحا ولا اقضي بها فأموت
قلت: وما الذي به؟ قال: مثل الذي بك من تهالككما في الضلال، وجركما أذيال الخسار كأنكما لم تسمعا بجنة ولا نار، قلت: من أنت يا ابن أخي؟ قال: أنا أخوه، قلت: أما والله ما يمنعك أن تركب
صفحة ٣١
طريق أخيك، وتسلك مسلكه إلا أنك وإياه كالواشي والنجاد لا يرقعك ولا ترقعه ثم انطلقت وأنا أقول:
ارائحة حجاج عذرة غدوة ... ولما يرح في القوم جعد بن مهجع
خليلان نشكو ما نلاقي من الهوى ... متى ما يقل اسمع وأن نقلت يسمع
ألا ليت شعري أي شيء أصابه ... فبي زفرات هجن من بين أضلعي
فلا يبعدنك الله خلا فأنني ... سألقى كما لاقيت في الحب مصرعي
فلما حججت وقفت في الموضع الذي كنت أنا وهو نقف فيه من عرفات، فإذا إنسان قد اقبل، وقد تغير لونه وساءت هيئته، فما عرفته إلا بناقته، فأقبل حتى خلف بين اعناقهما واعتنقني، وجعل يبكي، فقلت ما الذي دهاك؟ فقال: برح العذل، طول المطل، ثم أنشأ يقول:
لئن كانت غدية ذات لب ... لقد علمت بأن الحب داء
ألم تر ويحها تغيير جسمي ... وأني لا يزايلني البكاء
وأني لو تكلفت الذي بي ... لعف الكلم وأنكشف الغطاء
فإن معاشري ورجال قومي ... حتوفهم الصبابة واللقاء
إذا العذري مات بحتف انف ... فذاك العبد يبكيه الرشاء
صفحة ٣٢
فقلت: أبا المهر أنها لساعة عظيمة، وأنك في جميع من أقطار الأرض فلو دعوت كنت قمنا أن تظفر بحاجتك، وأن تنصر على عدوك، فدعا حتى إذا دنت الشمس للغروب وهم الناس بالإفاضة همهم بشيء وأصخت له مستمعا فجعل يقول:
يا رب كل غدوة وروحه ... من محرم يشكو الضحى وللوحه
أنت حسيب الخطب يوم الدوحه
قلت: وما (يوم) الدوحة؟ قال لي أخبرك إن شاء الله. إني برجل ذو مال ونعم وشاء، وأني خشيت على إبلي التلف، فأتيت أخوالي كلبا، فأوسعوا لي عن صدر المجلس، وسقوني جمة الماء، وكنت فيهم خير أخوال حتى هممت بموافقة مالي بماء لهم يقال له الحرارات. فركبت فرسي، وعلقت معي شرابا كان أهداه إلي بعض الكلبيين فانطلقت حتى إذا كنت بين الحي ومرعى النعم، رفعت لي دوحة عظيمة فقلت: لو نزلت فقعت تحت الشجرة، ثم تروحت مبردا فنزلت، وشددت
صفحة ٣٣
فرسي بغصن من أغصانها، ثم جلست تحتها، إذا رجل يطرد مسحلا واتانا، فلما قرب مني إذا عليه درع صفراء، وعمامة خز سوداء، وإذا شعرته تنال فروع كتفيه، فقلت في نفسي غلام حديث عهد بعرس، اعجلته لذة الصيد، فنسي ثوبه وأخذ ثوب امرأته، فما لبث أن لحق المسحل فصرعه ثم ثنى طعنة للأتان، وأقبل وهو يقول:
نطعنهم سلكى ومخلوجة ... كرك لامين على نابل
فقلت له: إنك قد تعبت وأتعبت فلو نزلت، فثنى رجله ونزل، فشد فرسه بغصن من أغصان الشجرة، ثم جلس معي فجعل يحدثني حديثا ذكرت قول الشاعر:
وإن حديثا منك لو تبذلينه ... جنى النحل في إعجاز عوذ مطافل
فبينا هو كذاك إذ نكت بالسوط على ثنيتيه فما ملكت نفسي أن قبضت على السوط وقلت: مه فقال: ولم؟ قلت أخاف أن تكسرهما أنهما رقيقتان قال: وهل عذبتان ثم رفع عقيرته يتغنى:
إذا قبل الإنسان آخر يشتهي ... ثناياه لم يأثم وكان له أجرا
فإن زاد زاد الله في حسناته ... مثاقيل يمحو الله عنه بها الوزرا
صفحة ٣٤
ثم قال ما هذا الذي تعلقته؟ قلت: شراب هل لك فيه؟ قال: ما أكره منه شيئا. ثم نظرت إلى عينيه كأنهما مهاة قد أضلت ولدا، وذعرها قانص، فعلم نظري فرفع عقيرته يتغنى:
إن العيون التي في طرفها مرض ... قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
فقلت: من أين لك هذا الشعر؟ فقال: وقع رجل منا نحو اليمامة فهو الذي أنشدنيه، ثم ملت لأصلح شيئا من أمر فرسي فرجعت وقد حسر العمامة عن رأسه فإذا هو أحسن الناس وجها، فقلت: سبحانك اللهم! ما أعظم قدرتك، وأحسن صنعتك، قال: وكيف قلت ذلك؟ قلت: لما راعني من نور وجهك، وبهرني من جمالك، قال: وما الذي يروعك من زرق الدواب، وحبيس التراب، ثم لا يدري أينعم بعد ذلك أو يبتئس. قلت: بل لا يصنع الله بك إلا خيرا إن شاء الله، ثم قام إلى فرسه، فلما أقبل برقت لي بارقة من الدرع فإذا ثدي كأنه حق فقلت: نشدتك الله أنت رجل أو امرأة؟ فقال أني والله امرأة تكره العهر وتحب العزل، قلت: وأنا والله كذلك، فجلست تحدثني ما أفقد من أنسها شيئا، حتى مالت على الدوحة سكرا، فاستحسنت والله يا ابن أبي ربيعة الغدر، وزين في عيني، ثم أن الله عصمني فجلست منها حجرة فما لبثت أن انتبهت مذعورة، فلاثت عمامتها رأسها وأخذت الرمح، وحالت في متن فرسها، فقلت لها: ولما تزوديني منك زادا، فأعطتني بنانها فشممت منها والله كالسياب الممطور ثم قلت: أين الموعد؟
صفحة ٣٥
قالت إن لي أخوة شرسا، وأبا غيورا، ولأن أسرك أحب إلي من أن أضرك، ثم مضت فكان والله آخر العهد منها إلى يومي هذا. فهي والله التي بلغتني هذا المبلغ. قلت: والله يا أبا مسهر ما استحسن الغدر إلا بك، فاخضلت لحيته بدموعه باكيا، قلت: والله ما قلت لك إلا مازحا، ودخلتني له رقة فما انقضى الموسم، شددت على ناقتي، وحملت غلاما على بعير وجعلت عليه قبة آدم حمراء، كانت لأبي عبد الله، وأخذت معي ألف دينار ومطرف خز ثم خرجنا حتى أتينا كلبا، فإذا الشيخ أبو الجارية في نادي قومه، فأتيته فسلمت عليه، فقال: وعليك السلام من أنت؟ فانتسبت له فقال: المعروف غير المنكر، ما الذي جاء بك! قلت: جئتك خاطبا؟ قال: أنت الكفي لا يرغب عن حسبه، والرجل لا يرد عن حاجته. قلت: إني لم آتك في نفسي، وإن كنت موضع الرغبة ولكن لابن أختكم العذري، فقال: والله أنه لكفي الحسب، كريم المنصب. غير أن بناتي لا يقعن إلا في هذا الحي من قريش، قال: فعرف الجزع في وجهي، فقال: أما أنا فأصنع بك ما لا أصنعه بغيرك، أخيرها فهي وما اختارت، فقلت: والله ما أنصفتني، فقال: وكيف ذلك؟ قلت: تختار لغيري. ووليت الخيار لي غيرك، فأومى إلي صاحبي أن دعه يخيرها، فأرسل إليها بالخيار، وقال: رأيك؟ فقالت ما كنت لأستبد برأي دون رأي القرشي وما أختار، قال: قد صيرت إليك الأمر قال: فحمدت الله جل ذكره، وصليت على محمد صلى الله عليه وقلت: قد زوجتها الجعد بن مهجع، وأصدقتها هذا الألف دينار، وجعلت
صفحة ٣٦