فجاءته الإجابة كطوبة: أنا لا أعرفك. - ولكنك ستقتلني. - هذا شأني، ولا علاقة له بك. - أنا لم أسئ إليك، لا أنا ولا الآخرون. - لكنكم ركبتم قطاري. - قل قولا معقولا. - أنتم المجانين. - أليس لك أبناء؟ - كلا. - ألا تحب الحياة؟ - كلا. - أليس في قلبك رحمة؟ - كلا. - خبرني ما ذنبنا؟ - أنتم تحبون الديزل؟ - اطلب ما تشاء. - ها أنا آخذ ما أريد بغير طلب.
وبصق المفتش على الباب صارخا: يا عبد الغفار، يا مجرم، يا وضيع، يا غادر، يا وحش.
وقرر الرجل أن يمضي إلى نافذة؛ ليرمي بنفسه منها وليكن ما يكون. وهو يتحول عن موقفه وقعت عيناه على المرأة المستلقية في غيبوبة، فقال ما أسعدها في غيبوبتها. ووجد الركاب متكتلين يسدون المنافذ. توحدوا في ذهول ورعب وارتجاف. عبثا حاول أن ينفذ من بينهم. ولما يئس رمى بنفسه عليهم، وسرعان ما تلقته الأيدي بالضرب، فانهال عليهم بدوره ضربا حتى لفهم الجنون جميعا. وإذا بالواقعة تقع، وقعت الصدمة المتوقعة كأنها ارتطام كوني. اندفع الناس بقوة جهنمية فحطمت الرءوس، وطحنت الجدران الأجساد. صرخ الرجل بأعلى حنجرته، ورأى النجوم تتهاوى من حوله وصرخته تدور في فراغ أحمر.
فتح عينيه ودوي صرخته يجعجع في أذنه.
آه .. إنه لا يصدق. اعتدل في جلسته وهو يظن صرخته قد مزقت الآذان. ولبث هنيهة لا يجرؤ على النظر إلى أحد. ثم أخذ يسترق النظر في حذر شديد، فلم ير أحدا شاعرا له بوجود. تنهد من الأعماق. وما لبث أن تنبه إلى استمرار النقاش الحاد بين الصقر والدب.
ورأى المرأة نصف مغمضة العينين غارقة في الضجر. اللعنة .. اللعنة. وكان الصقر يتحدى صاحبه قائلا: دعك من ضرب الأمثال العقيمة، لا تضيع وقتي سدى، أنت تعلم أن أنا هو أنا.
لونا بارك
تحرك ببطء في طابور طويل طاويا تذكرة الدخول في يده. تذكرة أهداها إليه أبوه، وكانت في الأصل ضمن الهدايا التي توزع باسم مدير لونا بارك. تحرك في عالم غريب مكتظ بالبشر، فتلقت حواسه في وقت واحد فيضا لا نهاية له من الأصوات والأضواء والروائح العطرية والعرق وضغط الأجساد. ومضى يتزحزح خطوة فخطوة في المدخل الممتد على هيئة بوق؛ حتى خرج من فوهته وقد زهقت منه الأنفاس. وجد نفسه في ساحة يطوف بها نسيم رقيق وتطوق بجناحيها أشجار متوسطة مغروسة في أصص كبيرة، فاتجه نحو طريق ضيقة تقوم على جانبيها دكاكين الأطعمة، فأفضت به إلى الملعب الكبير. في الفرج الذي جاء بعد الضيق شعر بأنه ولد من جديد، وهكذا بدأ رحلته. وصمم على تجربة كل لعبة؛ فإنه لم يتكبد مشقة المجيء ليبقى متفرجا. وصادفه مربع الأراجيح، وكان أكثر رواده من الأطفال، ولكنه لم يخل من مغامر شاب، وإذا به يتخذ موقفه في القارب الحديدي قابضا بيديه على العمودين، ويدفعه بحركة ذاتية فيصعد به، ويهبط محييا ذكريات جميلة. وغادرها وهو راض عن نفسه تماما، فابتاع بسكويتة دندرمة ومضى في رحلته.
وللحال جذب انتباهه فرقعة وهتاف، وصوت الداعي «جرب قوة عضلاتك»، ورأى مدفع القوة يندفع فوق القضيبين الصاعدين نحو الهدف، وقد ازدحم وراء الحاجز المتفرجون والمنتظرون لدورهم.
توثبت عضلاته للنضال. وسرعان ما اتخذ مكانه بين المنتظرين، وهو يبتسم في ثقة. ولما جاء دوره تقدم من قاعدة المدفع وتناول مقبضه الصلب، وراح يدفعه دفعات قصيرة ليختبر ثقله وسرعته، فينطلق إلى مدى قريب صاعدا ثم يتقهقر هابطا، فيتلقاه من مقبضه مرة أخرى، ثم شد على عضلاته ودفعه بأقصى قوته فاندفع طاويا القضيبين بسرعة، حتى ارتطم بالهدف الفولاذي، وفرقعت الكبسولة في مقدمته. تحول عن موقفه والهتاف يدوي، ولكنه ذاب في زحمة أكبر كما ذاب الهتاف في ضوضاء حلقت فوق المكان كله. وشق سبيلا مبهور العينين بأضواء المصابيح الملونة المتدلية من غصون الشجر، حتى استقر أمام كشك لبيع البيرة المثلجة. ومال برأسه إلى الوراء وهو يرفع القدح، فرأى القمر في الأفق منخفضا عن البالونات المنطلقة من صاري الملعب، ولا تميز لنوره في وهج الأضواء الساطعة، ولا عبرة لجلاله في الضوضاء المكتسحة الصاخبة. شرب حتى ارتوى. واستمع قليلا إلى أغنية تنهال من مكبر صوت، وهو ينظر من بعيد إلى مضمار السيارات المكهربة.
صفحة غير معروفة