اندفع توتو غاضبا، ثم دفع جده في ركبته. ترنح الشيخ، ثم تراجع خطوة مضطربة، ثم تهاوى فكاد يسقط على الأرض لولا أن تلقاه الجدار، والقطة لم تزل فوق ساعده. ولبث في هذا الوضع المائل، لم يستطع أن يقيم نفسه، ودار رأسه قليلا، وضغط على الأرض بقدمه، وعلى الجدار بكتفه لينهض ولكنه عجز، وزحفت القطة فوق ساعده حتى استقرت على كتفه المرتفع، ورغم دوار رأسه الخفيف أدرك مدى الخطر الذي يتهدد عظامه بالكسر. وصاح بما تبقى لديه من قوة «يا مباركة». وكان توتو يصرخ وينذر توثبه بهجمة جديدة. ويئس الشيخ من إنقاذ نفسه. ازداد خورا ولم يستطع تكرير النداء. وتحفز توتو للوثوب إلى ملاذ القطة فاندفع بكل قوته، ولكن يد خادمته أحاطت بوسطه، وقد اندفعت من الحجرة بعينين ذاهلتين من أثر النوم. ثم جاءت مباركة أخيرا بعد أن أيقظها الزياط، فجرت نحو سيدها مستعيذة بالله. واحتضنته من خلف وأقامته برفق وهو يتأوه حتى وقف كالتمثال دون حراك، على حين وثبت نرجس إلى الأرض وفرت إلى حجرته. وبصعوبة شديدة رجع الشيخ إلى مقعده الكبير معتمدا على ذراع مباركة. ومضت فترة وهو صامت والمرأة لا تكف عن السؤال عن صحته. وأشار لها بيده يطمئنها، ثم أسند رأسه إلى ظهر الكرسي ومد ساقيه متنهدا. وأغمض عينيه ليستجم.
وفي الحال تذكر حفلة تأبين راسخة في الروح. رجع من المنصة بعد أن ألقى كلمة طيبة، ثم جلس إلى جانب صديقه، ومال الصديق نحوه وسكب في أذنه ثناء جميلا. لكن من كان ذلك الصديق؟ آه! .. إنه واثق من أنه سيتذكره، وكم أنه مذهل أنه نسيه. قال كلمة لا يمكن أن تنسى كذلك. سوف يتذكرها حتما. ودوى التصفيق والهتاف، وارتفع نواء القطط، وبكت كل عين حتى الأطفال ترامى صراخها. ومال الصديق نحوه مرة أخرى وقال. وتأكد من أنه سيظفر بالذكريات جميعا.
وسرعان ما استغرق في النوم.
كلمة في السر
فؤاد أبو كبير موظف قديم أوشك أن يستوفي مدة خدمته، وهو مثل حسن للموظف، مثال في اتزانه فهو محترم حقا، ودءوب على العمل، فهو حمار شغل، ولم تزايله هذه الصفة يوما منذ التحق بالخدمة بالكفاءة وهو ابن عشرين. وقد انطبع بالروتين حتى تغلغل في روحه وسرى في سلوكه، حتى السلوك غير الرسمي، فهو يرجع إلى بيته كل يوم حوالي الثالثة، يتغدى وينام حتى الخامسة، ثم يمضي إلى القهوة حوالي السادسة فيدخن النارجيلة، ويتكلم في الكادر والسياسة، ثم يلعب النرد، وأخيرا يعود إلى بيته عند الحادية عشرة فيتعشى خفيفا، ويصلي ثم ينام.
وهو زوج منذ أكثر من خمسة وثلاثين عاما، وزوجه التي تزوجها عن قرابة وحب تقاربه في السن، وقد أنجب منها خمس بنات وولدا واحدا تخرج منذ أعوام طبيبا، والجميع متمتعون بنعمة الحياة الزوجية الموفقة.
ولتوفيقه في الوظيفة؛ إذ حاز رضا الرؤساء وبلغ الدرجة الثالثة الإدارية، فضلا عن توفيقه في الذرية، كان يخاف العين، ويتقي شرها بالدعاء والصلاة، ولكنه كان بصفة عامة رجلا سعيدا، وحتى ما أصابه من ضغط لم يستطع أن يفسد عليه حياته، وإن فرض عليه مضايقات في العلاج وحرمانا من بعض الأطعمة الشهية.
وذات يوم شعر بنشاط غريب طارئ. نشاط غريب كأيام زمان. رباه .. نشاط غريب انقطع العهد به من سنين، كأيام زمان تماما، فما الذي حدث؟ وابتسم الرجل وهو يهز رأسه، ابتسم عن طاقم نضيد وهز رأسا أبيض ناصعا، وعابثه النشاط في أويقات متفرقة وبخاصة عند اليقظة الباكرة، وإذن فهي وثبة حقيقية لا وهم، وابتسم الرجل وأوشك أن يضحك عاليا. ولم تستطع خبرته الحكومية أن تمده برأي في المسألة، وقال لنفسه: إن هذا أمر غير معقول، وغير مصدق، ألم ينقض العمر؟
ونتيجة لذلك وجد نفسه تتابع الموظفات باهتمام لم يؤثر عنها من قبل. نظرة جديدة غير نظرة الأبوة السابقة، وكأنه كان يراهن لأول مرة، وخلال أسبوع رأى فيهن ما لم ير طيلة عام أو أعوام، ومجرد مرور إحداهن في مجال بصره أصبح كافيا لقلقلة حواسه وزلزلة قلبه، فراح يقول لنفسه في ذهول: اللهم لطفك ورحمتك، ماذا جرى؟
وخطر له وهو متربع على الكنبة قبل النوم أن يتناول زوجته بنظرة. كانت الولية تستمع إلى الراديو بغير اهتمام، وجسمها مدفون في جلباب بيتي فضفاض، ومنديل رأسها معقود بإهمال سمح لخصلات بيضاء مشعثة أن تبرز فوق الحاجب والأذن بصورة تستحق الرثاء، وفي عينيها استكنت نظرة خاملة لا تنشد إلا السلامة، ووشى شدقاها بالفراغ، إلى أن الآلام الروماتزمية المتقطعة قد طبعت على وجهها علامات ثابتة كالذعر. رمقها بيأس ثم رفع عينيه إلى صورة تذكارية من شهر العسل، صورة نصفية لهما ملونة، تمثلهما جنبا إلى جنب في احتشام محبب لا كعرسان هذه الأيام، آه .. فوزية كانت جميلة حقا، وكم كان هو بدينا فخما! وقال لها دون تمهيد وبلهجة لم تخل من احتجاج: قلت لك مائة مرة: ركبي طاقم أسنان!
صفحة غير معروفة