بيت من لحم1
أكان لا بد «يا لي لي» أن تضيئي النور؟1
على ورق سيلوفان1
أكبر الكبائر1
العصفور والسلك1
الرحلة1
حلاوة الروح1
الخدعة1
سنوبزم1
حمال الكراسي1
سورة البقرة
هي1
بيت من لحم1
أكان لا بد «يا لي لي» أن تضيئي النور؟1
على ورق سيلوفان1
أكبر الكبائر1
العصفور والسلك1
الرحلة1
حلاوة الروح1
الخدعة1
سنوبزم1
حمال الكراسي1
سورة البقرة
هي1
بيت من لحم
بيت من لحم
وقصص أخرى
تأليف
يوسف إدريس
بيت من لحم1
الخاتم بجوار المصباح.
الصمت يحل فتعمى الآذان.
في الصمت يتسلل الأصبع.
يضع الخاتم. في صمت أيضا
يطفأ المصباح. والظلام يعم.
في الظلام، أيضا تعمى العيون.
الأرملة وبناتها الثلاث.
والبيت حجرة.
والبداية صمت. •••
الأرملة طويلة، بيضاء.
ممشوقة في الخامسة والثلاثين.
بناتها أيضا طويلات، فائرات، لا يخلعن الثوب الكاسي الأسود بحداد أو بغير حداد، صغراهن في السادسة عشرة، وكبراهن في العشرين، قبيحات، ورثن جسد الأب الأسمر المليء بالكتل غير المتناسقة والفجوات، وبالكاد أخذن من الأم العود.
الحجرة - رغم ضيقها - تسعهن في النهار - رغم فقرها الشديد - مرتبة أنيقة، يشيع فيها جو البيت، وتحفل بلمسات الإناث الأربع، في الليل تتناثر أجسادهن كأكوام كبيرة من لحم دافئ حي، بعضها فوق الفراش، وبعضها حوله، تتصاعد منها الأنفاس حارة، مؤرقة، أحيانا عميقة الشهيق.
الصمت خيم مذ مات الرجل، والرجل مات من عامين بعد مرض طويل، انتهى الحزن وبقيت عادات الحزانى، وأبرزها الصمت ... صمت طويل لا يفرغ، إذ كان، في الحقيقة صمت انتظار، فالبنات كبرن، والترقب طال، والعرسان لا يجيئون؛ ومن المجنون الذي يدق باب الفقيرات القبيحات، وبالذات إذا كن يتامى؟ ولكن الأمل بالطبع موجود؛ فلكل فولة كيال، ولكل بنت عدلها، فإذا كان الفقر هناك، فهناك دائما من هو أفقر، وإذا كان القبح هناك، فهناك دائما الأقبح، والأماني تنال، أحيانا تنال، بطول البال.
صمت لم يكن يقطعه إلا صوت التلاوة، يتصاعد في روتين لا جدة فيه ولا انفعال، والتلاوة لمقرئ، والمقرئ كفيف، والقراءة على روح المرحوم، وميعادها لا يتغير، عصر الجمعة يجيء، بعصاه ينقر الباب، ولليد الممدودة يستسلم، وعلى الحصير يتربع، وحين ينتهي، يتحسس الصندل، ويلقي بتحية لا يحفل أحد بردها، ويمضي. بالتعود يجيء، بالتعود يقرأ، بالعادة يمضي، حتى لم يعد يشعر به أو ينتبه إليه أحد.
دائم هو الصمت، حتى وتلاوة عصر الجمعة تقطعه، أصبحت وكأنها قطع الصمت بصمت، دائم هو كالانتظار، كالأمل، أمل قليل ولكنه دائم، فهو أمل في الأقل، دائما هناك لكل قليل أقل، وهن لا يتطلعن لأي أكثر، أبدا لا يتطلعن.
يدوم الصمت حتى يحدث شيء، يجيء عصر الجمعة، ولا يجيء المقرئ، فلأي اتفاق مهما طال نهاية، وقد انتهى الاتفاق.
وتدرك الأرملة وبناتها الآن فقط كنه ما تقدم، ليس فقط الصوت الوحيد الذي كان يقطع الصمت، ولكن أيضا الرجل الوحيد الذي كان، ولو في الأسبوع مرة، يدق الباب، بل أشياء أخرى يدركن، فقير مثلهن هذا صحيح، ولكن ملابسه أبدا كانت نظيفة، وصندله دائما مطلي، وعمامته ملفوفة بدقة يعجز عنها المبصرون، وصوته قوي عميق رنان.
والاقتراح يبدأ: لماذا لا يجدد الاتفاق، ومنذ الآن، ولماذا لا يرسل في طلبه هذه اللحظة؟ مشغول، فليكن، الانتظار ليس بالجديد، وقرب المغرب يأتي، ويقرأ، وكأنه أول مرة يقرأ، والاقتراح ينشأ، لماذا لا تتزوج إحدانا رجلا يملأ علينا بصوته الدار؟ هو أعزب، لم يدخل دنيا، وله شارب أخضر، ولكنه شاب، وبالكلام يجر الكلام، ها هو الآخر يبحث عن بنت الحلال.
البنات يقترحن، والأم تنظر في وجوههن، لتحدد من تكون صاحبة النصيب والاقتراح، ولكن الوجوه تزور مقترحة، فقط مقترحة، قائلة بغير كلام: أنصوم ونفطر على أعمى؟ هن ما زلن يحلمن بالعرسان، والعرسان عادة مبصرون. مسكينات، لم يعرفن بعد عالم الرجال، ومحال أن يفهمن أن الرجل ليس بعينيه. - تزوجيه أنت يا أماه، تزوجيه. - أنا؟ يا عيب الشوم! والناس؟! - يقولون ما يقولون. قولهم أهون من بيت خال من رنين صوت الرجال. - أتزوج قبلكن؟ مستحيل. - أليس الأفضل أن تتزوجي قبلنا، ليعرف بيتنا قدم الرجال فنتزوج بعدك، تزوجيه، تزوجيه يا أماه.
وتزوجته. زاد عدد الأنفس واحدة، وزاد الرزق قليلا، ونشأت مشكلة أكبر.
الليلة الأولى انقضت وهما في فراشهما، هذا صحيح، ولكنهما حتى لم يجسرا على الاقتراب، ولو صدفة؛ فالبنات الثلاث نائمات، ولكن من كل منهن ينصب زوج من الكشافات المصوبة بدقة إلى المسافة الكائنة بينهما، كشافات عيون، وكشافات آذان، وكشافات إحساس، البنات كبيرات، عارفات، ومدركات، والحجرة كأنما تحولت بوجودهن الصاحي إلى ضوء نهار، ولكن بالنهار لم تعد ثمة حجة، وواحدة وراء الأخرى تسللن، ولم يعدن إلا قرب الغروب، مترددات، خجلات، يقدمن رجلا، ويؤخرن رجلا، حتى يزددن قربا، وحينذاك يدهشهن، يربكهن، يجعلهن يسرعن، ضحكات، قهقهات رجل، تتخللها سخسخات امرأة ... أمهن لا بد تضحك، والرجل الذي ما سمعنه إلا مؤدبا خاشعا ها هو يضحك، بالأحضان قابلتهن ولا تزال تضحك، رأسها عار وشعرها مبلل ممشط ولا تزال تضحك، وجهها، ذلك الذي أدركن للتو أنه كان مجرد فانوس مطفأ عشش فيه العنكبوت والتجعيدات، فجأة، أنار، ها هو أمامهن، كلمبة الكهرباء، مضيء، ها هي عيونها تلمع وقد ظهرت وبانت وتلألأت بالدمع الضاحك. تلك التي كانت مستكنة في قاع المحجر.
الصمت تلاشى واختفى تماما، على العشاء وقبل العشاء وبعد العشاء، نكت تترى وأحاديث، وغناء، صوته حلو وهو يغني ويقلد أم كلثوم وعبد الوهاب، صوته عال، أجش بالسعادة، يلعلع.
خيرا فعلت يا أماه، وغدا تجذب الضحكات الرجال، فالرجال طعم الرجال.
نعم يا بنات، غدا يجيء الرجال ويهل العرسان، ولكن الحق أن ما أصبح يشغلها، ليس الرجال أو العرسان، ولكنه ذلك الشاب، كفيف، فليكن، فما أكثر ما نعمى عن رؤية الناس لمجرد أنهم عميان، هذا الشاب القوي المتدفق قوة وصحة وحياة، ذلك الذي عوضها عن سنين المرض والعجز والكبر بغير أوان.
الصمت تلاشى، وكان إلى غير رجعة. ضجيج الحياة دب، الزوج زوجها وحلالها، وعلى سنة الله ورسوله، فماذا يعيب؟! وكل ما تفعله جائز، حتى وهي لم تعد تحفل بالمواربة أو بكتمان الأسرار، حتى والليل يجيء، وهم جميعا معا، فيطلق العقال للأرواح والأجساد، حتى والبنات مبعثرات، متباعدات، يفهمن ويدركن وتتهدج منهن الأنفاس والأصوات، مسمرات في مراقدهن، يحبسن الحركة والسعال، تظهر الآهات فجأة فتكتمها الآهات.
كان نهارها «غسيل» في بيوت الأغنياء، ونهاره قراءة في بيوت الفقراء، ولم يكن من عادته أول الأمر أن يئوب إلى الحجرة ظهرا، ولكن، لما الليل عليه طال، والسهر أصبح يمتد، بدأ يئوب ساعة الظهر، يريح جسده ساعة من عناء ليل ولى، واستعدادا لليل قادم. وذات مرة، بعدما شبعا من الليل، وشبع الليل منهما، سألها فجأة عما كان بها ساعة الظهر، ولماذا هي منطلقة تتكلم الآن ومعتصمة بالصمت التام ساعتها، ولماذا تضع الخاتم العزيز عليه الآن؛ إذ هو كل ما كلفه الزواج من دبلة ومهر وشبكة وهدايا، ولماذا لم تكن تضعه ساعتها؟
كان ممكنا أن تنتفض هالعة واقفة صارخة، كان ممكنا أن تجن، كان ممكنا أن يقتله أحد، فليس لما يقوله إلا معنى واحد، ما أغربه وأبشعه من معنى.
ولكن غصة خانقة حبست كل هذا، وحبست معه أنفاسها، سكتت، بآذانها التي حولتها إلى أنوف وحواس وعيون، راحت تتسمع، وهمها الأول أن تعرف الفاعلة. إنها متأكدة لأمر ما أنها الوسطى. إن في عينيها جرأة لا يقتلها الرصاص إذا أطلق، ولكنها تتسمع، الأنفاس الثلاثة تتعالى، عميقة، حارة كأنها محمومة، ساخنة، بالصبا تجأر، تتردد، تنقطع، أحلام حرام تقطعها، أنفاس باضطرابها تتحول إلى فحيح، فحيح كالصهد الذي تنفثه أراض عطشى، والغصة تزداد عمقا واحتباسا. إنها أنفاس جائعات ما تسمع، بكل شحذها لحواسها لا تستطيع أن تفرق بين كومة لحم حي ساخنة مكتومة، وكومة أخرى، كلها جائعة، كلها تصرخ وتئن، وأنينها يتنفس، ليس أنفاسا، ربما استغاثات، ربما رجوات، ربما ما هو أكثر.
غرقت في حلالها الثاني، ونسيت حلالها الأول، بناتها، والصبر أصبح علقما، وحتى سراب العرسان لم يعد يظهر، فجأة ملسوعة ها هي كمن استيقظ مرعوبا على نداء خفي: البنات جائعات، الطعام حرام صحيح ولكن الجوع أحرم، أبدا ليس مثل الجوع حرام. إنها تعرفه، عرفها ويبس روحها ومص عظامها، وتعرفه، وشبعت ما شبعت، مستحيل أن تنسى مذاقه.
جائعات، وهي التي كانت تخرج اللقمة من فمها لتطعمهن، هي التي كان همها حتى لو جاعت أن تطعمهن ، هي الأم، أنسيت؟!
وألح مهما ألح، تحولت الغصة إلى صمت. الأم صمتت، ومن لحظتها لم يغادرها الصمت.
وعلى الإفطار كانت، كما قدرت تماما، الوسطى صامتة.
وعلى الدوام ظلت صامتة.
والعشاء يجيء، والشاب سعيدا وكفيفا ومستمتعا ينكت، لا يزال، ويغني ويضحك، ولا يشاركه الضحك إلا الصغرى، والكبرى فقط.
ويطول الصبر، ويتحول علقمه إلى مرض، ولا أحد يطل.
وتتأمل الكبرى ذات يوم خاتم أمها في أصبعها، وتبدي الإعجاب به، ويدق قلب الأم، وتزداد دقاته وهي تطلب منها أن تضعه ليوم، لمجرد يوم واحد لا غير، وفي صمت تسحبه من أصبعها، وفي صمت تضعه الكبرى في أصبعها المقابل.
وعلى العشاء التالي تصمت الكبرى وتأبى النطق.
والكفيف الشاب يصخب، ويغني، ويضحك، والصغرى فقط تشاركه.
ولكن الصغرى تصبح بالصبر والهم وقلة البخت أكبر، وتبدأ تسأل عن دورها في لعبة الخاتم، وفي صمت تنال الدور.
والخاتم بجوار المصباح، الصمت يحل فتعمى الآذان، وفي الصمت يتسلل الأصبع صاحب الدور، ويضع الخاتم، في صمت أيضا، ويطفئ المصباح، والظلام يعم، وفي الظلام تعمى العيون.
ولا يبقى صاخبا منكتا مغنيا إلا الكفيف الشاب.
فوراء صخبه وضجته تكمن رغبة، تكاد تجعله يثور على الصمت وينهال عليه تكسيرا. إنه هو الآخر يريد أن يعرف، عن يقين يعرف، كان أول الأمر يقول لنفسه إنها طبيعة المرأة التي تأبى البقاء على حال واحد؛ فهي طازجة صابحة كقطر الندى مرة، ومنهكة مستهلكة كماء البرك مرة أخرى، ناعمة كملمس ورق الورد مرة، خشنة كنبات الصبار مرة أخرى، الخاتم دائم وموجود صحيح، ولكن، وكأنما الأصبع الذي يطبق عليه كل مرة أصبع، إنه يكاد يعرف، وهن بالتأكيد كلهن يعرفن، فلماذا لا يتكلم الصمت، لماذا لا ينطق؟
ولكن السؤال يباغته ذات عشاء، ماذا لو نطق الصمت؟ ماذا لو تكلم؟
مجرد التساؤل أوقف اللقمة في حلقه.
ومن لحظتها لاذ بالصمت تماما وأبى أن يغادره.
بل هو الذي أصبح خائفا أن يحدث المكروه مرة، ويخدش الصمت، ربما كلمة واحدة تفلت فينهار لها بناء الصمت كله، والويل له لو انهار بناء الصمت .
الصمت المختلف الغريب الذي أصبح يلوذ به الكل.
الصمت الإرادي هذه المرة، لا الفقر، لا القبح، لا الصبر، ولا اليأس سببه .
إنما هو أعمق أنواع الصمت، فهو الصمت المتفق عليه، أقوى أنواع الاتفاق، ذلك الذي يتم بلا أي اتفاق. •••
الأرملة وبناتها الثلاث.
والبيت حجرة.
والصمت الجديد.
والمقرئ الكفيف الذي جاء معه بذلك الصمت، وبالصمت راح يؤكد لنفسه أن شريكته في الفراش على الدوام هي زوجه وحلاله وزلاله وحاملة خاتمه، تتصابى مرة أو تشيخ، تنعم أو تخشن، ترفع أو تسمن، هذا شأنها وحدها، بل هذا شأن المبصرين ومسئوليتهم وحدهم، هم الذين يملكون نعمة اليقين؛ إذ هم القادرون على التمييز، وأقصى ما يستطيعه هو أن يشك؛ شك لا يمكن أن يصبح يقينا إلا بنعمة البصر، وما دام محروما منه فسيظل محروما من اليقين؛ إذ هو الأعمى، وليس على الأعمى حرج.
أم على الأعمى حرج؟
أكان لا بد «يا لي لي» أن تضيئي النور؟1
في البدء كانت النكتة.
وفي النهاية ربما أيضا تكون!
والنكتة في النكتة أنها ليست نكتة، ولكنها واقعة حدثت لأهل النكتة، صناعها المهرة، ورواتها العتاة.
النكتة لم تكن أن يستيقظ هذا العدد الكبير من الناس، لأول مرة في تاريخ حي الباطنية، وكر الحشيش والأفيون والسيكونال، ليؤدوا صلاة الفجر، هم الذين يبدأ نومهم بأذان الفجر.
وليست النكتة أيضا أنهم أدوا الصلاة أنصاف مساطيل، أنصاف يقظى، ينسى الواحد منهم أنه قرأ الفاتحة، فيقرؤها ثانية ويعود ينساها، أو يعود يتذكر فيعود ينوي للصلاة في منتصف الصلاة.
النكتة في الحقيقة حدثت قرب نهاية الصلاة، نكتة لا تزال تنفجر بها صدور «الحشاشين» في الحي، أولئك الذين تعايشوا مع النكت المروية حتى ألفوها، فما كادوا يعثرون على نكتة حقيقية صارخة دارت وقائعها أمام أعينهم حتى تلقفوها كما يتلقفون «الشيشات» الجديدة، وعربات الكارو، والموتوسيكلات والأطفال الجدد، فيظلون يدندشونها، وبمزاج يزخرفونها ويتقنون روايتها ويتفننون في اختراع التفاصيل التي لم تحدث حتى أصبحت أهم وأعز جزء من فولكلور الحي وتاريخه وقصصه، توارت بجانبها في الحقيقة ملاحم بطولة ليس أقلها ملحمة «حنتيتة» ونسائه الأربع أمام الضابط والمخبرين في واقعة زقاق التعبان.
النكتة أنهم صلوا الركعة الأولى في أمان الله، وكذلك الثانية ، ولم يعد باقيا على انتهاء ركعتي الفجر إلا السجدة الأخيرة، ثم قراءة التحيات والتشهد والتسليم، أما السجود فقد سجدوا، قال الإمام الشيخ: الله أكبر، ثم سجد، وسجدوا جميعا وراءه. عشرة صفوف طويلة ملأت الجامع الصغير، أناس ساجدون في خشوع وإن كان سجودا غير مريح، فمعظمهم كان لم يقرب الصلاة من مدة، ومفاصلهم وعضلاتهم تصلبت حتى لم تعد تقوى على أوضاع الصلاة، ورددوا «سبحان الله» ثلاثا، ولكنهم حين لم يسمعوا «الله أكبر» من الإمام إيذانا بنهاية السجدة بدأ الوسواس يوسوس للكثيرين أنهم أخطئوا العدد، ومن جديد، وعلى مهل، قالوها، وأيضا لم تأت التكبيرة المنتظرة، وأقلية هذه المرة هي التي عاودها الوسواس! وأقلية أيضا هي التي بدأت تستنيم للوضع وتريح رءوسها المتعبة الدائرة، لا تزال، بما فيها من إرهاق وكيوف، أما الأغلبية فقد بدأ شيء من الاستغراب القليل يخالجها، استغراب كان ينهيه إحساسهم أن حالا سينطق الإمام التكبيرة ويعتدل وينتهي الوضع، وكلما أمعنت اللحظة في مضيها دون أن تأتي التكبيرة، كلما بدأت نقطة الاستغراب تتسع وبالتدريج تتحول إلى دهيشة ثم دهشة حقيقية، ثم ذهول، حين تأكد للجميع حتى للأقلية الموسوسة والمستنيمة أن السجدة طالت حقيقة، وأنها ليست بطئا من الإمام أو دعاء خاصا اختار لقوله وضع السجود، كما تأكد للجميع أنهم ليسوا أمام شيء عابر إنما هم بالتأكيد يواجهون حدثا، لا بد أن شيئا قد حدث ومنع الشيخ من إتمام السجدة، هنا تحركت الدهشة الحقيقية وتوزعت ألف احتمال واحتمال راحت تجوب الأدمغة المنحنية، لا تجرؤ على الاعتدال. رائحة غادية. متماثلة متناقضة. أمرض؟ أمات؟ أأغمى عليه؟ أتكون حشيشة أغراه بها شيطان منهم وبدأت «تكبس» على يافوخه؟
وأيضا، ورغم هذا كانوا متوقعين في كل لحظة تالية أن يرتفع صوته بالتكبيرة، طاردا الهواجس، معيدا الثقة بأن كل شيء طبيعي ولا غبار عليه - إلى عقولهم التي بدأت تسرح وتمرح وتنطلق إلى ما شاءت من خيال .
ولكن وقتا مضى، بالضبط لم يستطع أحد تحديده، وإنما حسب رواياتهم يتراوح بين الدقيقتين ونصف الساعة، إذا تجاوزنا عن مغالاة البعض وقولهم إنه استمر حتى سمعوا أذان الظهر من الجامع الأزهر، ناهيك عن المهولاتية الذين يصرون على أنهم، للآن، لا يزالون ساجدين.
ولكن المؤكد أن وقتا مضى بحيث أصبح مؤكدا حتى لأكثرهم غيابا عن الوعي أن الشيخ ليس أبدا على ما يرام، وأن التكبيرة بالتأكيد لم تصدر عنه وتنهي سجودهم الذي جعل الشخير يتصاعد من حلقين على الأقل من الحلوق التي تراخت، وبدأ لعابها يسيل.
وهنا فقط بدأ يتجسد أمامهم إشكال حقيقي يواجهه كل منهم منفردا ولأول مرة في حياته، ماذا بالضبط عليه أن يفعل؟ وما هو حكم الدين في موقف كهذا؟ وهل إذا رفع أحدهم رأسه تفسد صلاته وربما صلاة الجماعة بأسرها ويحمل هو وحده ذلك الوزر كله؟ وهل يحتمل أحدهم أن يكون هو دونا عن الساجدين جميعا المتسبب في إفساد الصلاة؟ العودة الحديثة لله وبيته وحظيرة الدين جعلتهم مرة أخرى يرون الله ماثلا بجناته وجحيمه ووعده ووعيده أمام عيونهم. هم كالتلاميذ يعودون ومن تلقاء أنفسهم إلى المدرسة بعد طول «بلطجة» و«تزويغ». الرهبة من الخطأ أو من الإقدام عليه مسألة لا يمكن أن يحتملها تائب حديث التوبة مثلهم، أو يفكر فيها.
ولكن الوقت يمتد. الوقت الحقيقي يمتد، ووقت كل منهم الخاص الممدود بطبيعته يمتد ويتضاعف، وتصبح الدقيقة فيه بعام، يمتد الوقت حتى لتبدأ أفكار شيطانية خبيثة تخطر لبعضهم أكثرها شرا بالتأكيد فكرة أن يضحك، ليس فقط على الوضع الذي هم فيه وإنما على ما يمكن أن يحدث لو كان الشيخ الإمام قد وافته سنة من النوم مثلا، أو الأدهى لو كان مات! وأنهم سيبقون هكذا ساجدين، ربما إلى اليوم التالي، وربما إلى يوم الدين، دون أن يكتشف أحد من أهل الحي ما حدث؛ فالجامع عندهم مكان غير مطروق، مجرد المرور عليه يوقظ الضمير.
ولكن كل الأفكار الشيطانية هزمت، فلم يضحك أحد، وحتى لم يطل تفكيره في الوضع كوضع مضحك كي لا يخونه صدره العائم بطبعه ويفلت منه الضحك.
ولم يعد هناك شك لدى آخر المتفائلين فيهم أنهم أصبحوا في مأزق حقيقي، حين بدأ ضوء الشروق يتسلل وينافس ضوء الكهرباء القليل، وهم قد بدءوا الصلاة والظلام كامل، الآن بالاستطاعة القسم أن السجدة طالت طولا غير طبيعي، وأن السعلات التي بدأت تتكاثر وتتحشرج بها الصدور المحنية لم تكن كلها سعالا، أكثرها كان علامة تململ، وتململ لا حل له؛ فمعرفة ما حدث تستلزم رفع الرأس والاستطلاع، ورفعها نقض للصلاة، فلينتظر إلى أن يفعلها غيره ليكون البادي، ويكون ذنبه هو ذنب التابع، وفرق كبير بين ذنب الفاعل الأول، وذنب التابع.
استمر السجود إذن حتى انتصر كحقيقة على كل ما اجتاح الرءوس من احتمالات أو مخاوف أو ضحكات.
ولأن لا نكتة هنا، والضحك الحقيقي لم يبدأ بعد، فلنتركهم هكذا، ساجدين، كل منهم لا يريد أن يكون البادي بالمعصية، لنتركهم ساجدين!
إذ هكذا بالضبط تركتهم أنا.
أنا الشيخ عبد العال إمام مسجد الشبكشي في الباطنية.
أكان لا بد يا «لي لي» أن تضيئي النور؟! •••
أنا قطعا سبحان فالق الإصباح، النوم في صوتي، فعيوني لا تتفتح إلا حين الوصول إلى «استغاثات» الفجر، أنا، أنا صاعد سلم المئذنة الأفعواني المظلم، أنا، مشفقا على صدري وصوتي من الندى، أنا عيناي تقتحمهما البرودة وتغلقهما العادة والإحساس بأداء الواجب وإني إنما أؤذن في مالطة، وإن الأتقياء في الحي قليلون، والأتقياء تماما يفضلون جامع الأزهر القريب، وإجهاد الصوت لا فائدة منه؛ فماذا يفعل صوتي وسط غابة المآذن المحيطة المزودة بحناجر ميكروفونية يغرق بينها صوتي مهما ارتفع، أنا ... أنا ... أؤذن لنفسي، ويكفيني أن الله يسمعني ويعرف أني أؤذن الفرض كما أمر ويغفر لسكان الحي النائم منهم واليقظان؛ فنائمهم بمعصية، ويقظانهم لمعصية، والحظ وحده أو لعلها الحكمة هي التي دبرت تعييني في جامع أقامه صاحبه وقفا من قديم الأزل، تركي كان هو، بالسياط سلب وضرب، واعتقد أنه بالجامع وبضريحه المقام بجوار القبلة يجني ثمار الدعوات، ستحمله صلوات الناس جيلا بعد جيل لتقربه من الجنة. حتى رحلة الجنة تقطعها على أكتاف الآخرين يا ... تركي؟!
أنا الخريج الحديث من الأزهر، من صغري أحببت الله، وبإرادتي ربطت وجودي بدينه، أكاد أبسم إشفاقا ممن يتصورون أني دخلته لأصبح فقيها ومقرئا ما دام قد وهبني الله هذا الصوت، أعرف أنه جميل وأني كي أداريه لا أكشف للناس عن جماله، ولكن ما لهذا اخترت الأزهر، وما لهذا حفظت القرآن صغيرا، ومن ابتدائي مدارس حولت إلى ابتدائي أزهر، السبب أعمق، السبب إلهي، السبب موقفي من كون ليس فيه ما يستحق الحياة سواه.
أكان لا بد يا «لي لي» أن تضيئي النور؟!
أكان لا بد.
كم بدا النور باهرا، وسط تمام الظلام، مصباح واحد في حجرة السطوح الواحدة، هذا صحيح، ولكنه يكاد يضيء الباطنية كلها، قابعة كمعسكر مزدحم نفق قاطنوه أو رحلوا، البيوت مريضة تتساند، أحشاؤها صغيرة بارزة محشوة كرحم القطط بآدميين، رعيتي ومسئوليتي، بالأدق فشلي، بالرغبة المستعرة في إيقاظ الله في نفوس تريد أن تنسى فكرة وجوده.
قاتلت، بعد أسبوع ظفرت بأول بارقة، انتعش الأمل، استمت، تخلوا عن الوعود الكاذبة والصهينة وبدأ الضيق، إلحاح آخر، حمر العيون وبالوعيد جاءوا، اسمع، خميرة عكننة مش عايزين، وحسابنا في الآخرة نحن عارفين، والحساب يجمع، بأدبك أهلا وسهلا، تدوشنا تاني أنت واللي يصح لك، وبالسليقة عرفت أنهم صادقون، في أعماقهم أيضا صادقون، يرغبون الله حقا وفي أعماقهم مؤمنون، ولكن الحياة، حياتهم، لا تحتمل الله الكامل، إما أن يقبلهم هكذا، وهكذا يعبدونه وإما فلا، لهم دينهم حقا، الصلاة فيه ركعتا جمعة كل أسبوع، والنهار صيام في رمضان، هذا صحيح، ولكن المهم أن من الفطار إلى السحور حشيش، وأيمان بالله ما هو حرام، اديني آية نزلت تحرمه، الزكاة معظم أغنيائهم يخرجونها فعلا، بل إن أحدهم كان عينيا كما أمر الدين، ومن «بضاعته» كان يزكي، والحج تاج على رءوس كبار المعلمين وعلى الأقل يتيح القسم ساعة الصفقات بشباك الرسول. كسبت منهم بالكاد خمسة وخسرت الثقة بأني خير مبشر ومبين، ثم أدركت أن الخطأ خطئي، وأني قبل أن أهديهم لا بد أعرفهم، أحياهم لأغيرهم، أصبح منهم ليصبحوا منى. إن لهم لغة أخرى وقيما أخرى ومفاتيح خاصة بغيرها تبقي دائما خارج السور والصدور، ومن العزلة هبطت، إلى القهاوي أجلس، إلى الداعين أزور، لا أدير الوجه لما يحملون أو يدخنون أو يفعلون، بقلبي معهم أرى وأسمع وأقترب.
أكان لا بد يا «لي لي»، أكان لا بد؟!
أم أنه لا بد هي أو غيرها لا بد، لم أكن قد عرفت أن العفة مغرية إلى هذا الحد، ولا طرأ بعقلي أني رغم حب الله شاب في الخامسة والعشرين، أنا متبتل، سعيد حتى بالحي الذي كان قاطنوه القدامى من طوائف «الباطنية» قد اعتزلوا بالحي دنياهم، ربما نفس عزلة سكانه الحاليين، في «قعداتهم» نفس التأمل، الفرق أنهم يتأملون ما يضحك، بينما الباطنيون الأول كانوا يتأملون ما يحب، وما يقود إلى ينبوع الحب، الله.
لم أفطن إلا بعد أن تعددت الظواهر، وإلا بعد أن لاحت علامات رغم كل حسن النية، لا تقبل الشك، قرأت لهم مرة فأعجبهم صوتي واستعادوني، وأحسست فجأة أني دخلت قلوبهم، وأن المغلوقين يفتحون الأبواب، ولم يعودوا يريدون مني إلا الصوت والتلاوة، رفضوا الواعظ والمبشر والإمام، ولم يعد أمامي إلا صوتي يجذبهم لما أريد. الله المجرد صعب، ولتكن البداية على هدى آية من آياته.
السميعة بقربي دائما رجال، ولم أكن أعرف أن أعداد النساء خلفهم أكبر! وأني ما أن أبدأ أقرأ حتى يشيع الخبر في الحي كالومضة، وكالومضة يتزاحمن، ومن صدورهن تتصاعد مع وقفاتي الآهات. متاعب بدأت، في كل أوبة للمسجد لا بد من حرمة منتظرة، ولا بد من سؤال، أو حجة سؤال، عيني أبدا ما ارتفعت، أسعد باقتناعهن، وأستبشر، الصلاة بين النساء بدأت، وهن اللاتي بدأن يحببن للرجال الصلاة، سؤال زلزل كياني مرة، من شابة كان. الأقدام التي تسمرت عيني عليها كانت بالقطع شابة، المشكلة تبوح بها في تردد، ثم بلا خجل تنطق. الزوج كف من شهور عن معاشرتها! ولا فائدة؛ فإدمانه السبب، وإدمانه ميئوس، ومحاولاتها فشلت، وتخاف الفتنة، ماذا تفعل؟
بل الأكثر، لم تعد هناك أسئلة، كلها أصبحت اعترافات، ماذا أفعل وقد راودني الصبي عن نفسي حين أرسله المعلم بالخضار وغلبني الشيطان؟ ماذا أفعل وقد حلمت بك يا مولانا؟
ماذا أفعل وأخي يأتي عميان من سهراته، ومهما فعلت لا يسكت حتى أذعن، وكل ليلة أذعن، وأريد أن أتوب؟ أتقبل من مثلي التوبة؟ على يديك أتوب، وتمسك بيدي إمساكة لا توبة فيها ولا رادع.
الشيطان.
هؤلاء أناس انفرد بهم الشيطان طويلا وكثيرا.
ولم يعودوا يعرفون طريقا آخر إلا طريق الضلال.
الشيطان.
حولي وفي كل مكان، في همسة الحرمة، في النظرة تصوب إلي من خلفي لاسعة كسيخ الحديد قادمة لتوها من جهنم، فلأر الشيطان وجها لوجه، ولا أعود أغض البصر، أصبحت بعينين واسعتين أحدق، وبما أصبه من خلالهما أنفي من نفسي الخجل والعفة وبهما قد أصبحت مركز إغراء، بعيني أنهر ومن خلالهما أصعق السائلة، بنظرة تتفجر بإيمان كثيف يضيق به القلب.
أكان لا بد يا «لي لي» أن تضيئي النور؟! - أنا اسمي «لي لي» ما سمعتش عني؟
صوبت عيني، ارتدت نظرتي بصدام مع نظرة أقوى.
بالطبع سمعت عنها. إنها نصف إشاعات وأحاديث واستنكارات واستحسانات واتهامات وبراءات أهل الحي. «لي لي» أعجوبتهم بنصفها الإنجليزي ونصفها المصري، بشعرها الأحمر الطويل الكثيف وعيونها العسلية المصرية، «لي لي» ثمرة الزواج الذي دام أسبوعا بين أمها وبين عسكري إنجليزي اسمه «جوني» قضى مع «بديعة» الأم ليلة، ولم يفعل كشبابنا «الحدقين» ويكتفي بما أصاب من متعة ويفر، العبيط طلب منها في الصباح الزواج، وتم، وبعد أسبوع سافر، وبعدها لم يعد! مات في الحرب، وتكفل هذا الأسبوع الواحد بضمان معاش شهري لم تكن تحلم به «بديعة» ظلت تصرفه من السفارة البريطانية بشيك يأتي من لندن رأسا لمدى خمسة وعشرين عاما، معاش هو الذي أجرى في يدها النقود وأغراها أن تكون «بنكا» يمول صغار تجار المخدرات في حيها، وفي الحي نشأت ليلى كما سمتها أمها، و«لي لي» كما نادتها جدتها لأبيها وجدها حين حضرا من إنجلترا بعد الحرب خصيصا ليريا حفيدتهما، وكم من مبالغ عرضوها لتتنازل أم «لي لي» عن «لي لي»، وكم استعبطوها وشتموها، وكم رفضت، وبابنتها كروحها تمسكت، وعلمتها، ورغم الرجال الطالعين النازلين من عند أمها الجالسة معظم الوقت على عتبة الشقة وأحيانا على عتبة باب الشارع، كاشفة كل ما خفي من جسدها، لا يهمها من حي هي فيه صاحبة مال، وصبيانها رجال، وعلاقاتها علنا وعلى رءوس المارة والجيران، و«لي لي» ستعلمها، ولآخر المدى، وستجعل منها ست الستات.
والخواجاية مغرية، فإذا كانت الخواجاية مصرية كان الإغراء أكبر، تعلمت «لي لي» أو لم تتعلم. وتعلمت ولم تتعلم، طموحة كانت، من صغرها وهي تحس أنها أرقى ولا بد أن تكون الأرقى، وحتى وهي تعب المشروبات الرخيصة في الكباريهات منضمة إلى الفرق الأجنبية، وتقضي الوقت تتردد على مكاتب ريجسيري الدرجة الثانية كانت تؤمن تماما أنها يوما ما ستصبح ست الستات، وسيسجد لها العالم، وتكون أشهر وأمتع امرأة فيه. - ربنا يفتح عليك، وينور لك طريقك. - طب ما تنورهولي أنت، ينوبك ثواب! - النور لا بد من الداخل، من القلب، نورك في إيدك.
أكان لا بد يا «لي لي» أن تضيئي النور؟!
أكان لا بد؟! - عايزاك تعلمني الصلاة. - عندي كتاب خذيه. - أنا عايزة درس خصوصي! - أستغفر الله العظيم، روحي الله يغفر لك ويسهل لك.
انقطع المعاش، وجفت النقود، وكبرت المعلمة، ومرضت، ولم يعد هناك إلا ما تكسبه «لي لي» من قروش.
أكثر من مرة حاولت تفاديها فكانت تقتحمني. عيونها شرارة كهرباء تخترق الهواء، قافزة من قطبها المصري إلى قطبها السكسوني. جمالها طاغ على الحي محرم. بالقوة حاولوا، بالنقود، بالزحف على البطون، «لي لي» لا تقرب إلا الأجانب، لم تكن تقول، ولكنه السر، سرها الدفين. في النهاية كعهدهم أمام كل مستعص قبلوها كما هي، احترموا أنها ليست لأحد، وما دامت كذلك فهي للكل، يحمونها، ويوصلونها، أخت الجميع المحرمة المرغوبة. •••
النور.
نافذة من نور ساطع.
عيني لا تحتمل.
النور قريب.
بيني وبينه فقط الشارع.
مجرد عرض الشارع غير العريض.
دائرة المئذنة في مستوى النافذة، فركت عيني أتطلع.
نظرة واحدة جذبتني كالعاصفة العاتية من قاع الغفوة إلى قمة اليقظة، لا شيء كان ينبهني إلا استغاثتي الأولى، انتباهي هذه المرة انتباه آخر، انتباه مرعوب، أنا أمام شيء مروع.
الغرفة بها سرير خشبي مرتفع، ماذا غيره هناك، لا أعرف. على السرير ترقد امرأة بيضاء، شاهقة البياض، ممدودة بطولها، وقد أحنت ساقا، ولا شيء عليها سوى قميص نوم لا يكاد يكفي لإخفاء نصفها الأعلى.
أول مرة في حياتي أرى، فجأة، هذا الكم الهائل من جسد امرأة، أفقت لأجد نفسي في منتصف السلم هاربا، هابطا، ألهث، ومن أقصى الرعب اندفعت إلى أقصى الغضب.
أنا في شرك.
أنا الذي جاء يطرد من هنا الشيطان وتضاءلت طموحاته حتى أصبحت مجرد أن يبعد فقط عن نفسه الشيطان، وعن أوكاره وتنكراته، أجد نفسي هذا الفجر في الشرك، تماما في الشرك؟! أنا الذي أردت هزيمته في الناس أجري خوفا من أن يهزمني في نفسي.
ولكن عذري يا شيطان أنك كنت تعرف أين كنت أنا، ولم أكن أعلم أنا من أنت، ولا أين، وكم نقشوا على قلوبنا الأخطاء عنك حتى ارتسمت في أذهاننا دائما رجلا بشعا، ولم يفكروا أن يقرنوك بالجمال مرة، مع أنك لا يحلو لك التربص إلا محاطا بالجمال، وإلا على هيئة ست، وإلا في أكثر الأماكن نعومة وإمتاعا وفي أحلى البسمات، بل أحيانا في النكتة، في أروعها تنصب الشباك.
عدت.
ما رأيته محوته من ذاكرتي كأن لم يكن؛ في عقلي أطفأت نور النافذة، وألغيت الحجرة والشارع والبيت، بل الحي كله ألغيته، فلتكن حربا إذن ولتندحر.
يا رب.
استنكرت أن أكون قائلها، ما هكذا تعودتها وتعودتني. بعد التسابيح الخاشعة فجأة أطلقها، حادة، مدببة، لا نهاية لطولها، تقطع في ومضة كل ما بين الأرض والسماء، لتصل إليه في الملأ الأعلى ... من أعماقي تخرج وإلى السماء تصعد، مستحيلة من شيء أرضي إلى كائن سماوي، أطلقها قوية لتحمل كل ضعف البشر، كل عجزهم ومحدوديتهم تستغيث بالقادر اللامحدود.
هذه المرة خرجت همسا، لهاثا، مكبلة بالعجز، لا لتصل إلى السماء وإنما لتتهاوى من فوق المئذنة وعلى الأرض تموت.
خائف أنا، أنا خائف، لا من الشيطان خائف، من نفسي أخاف؟ من نفسي، أجل؛ كم مرة ضبطتها من شكوى المحرومات أو الفاسقات تصغي بانتباه واندماج أكثر مما يجب! كم مرة ضبطت داخل نظرتي شعاعا من حب استطلاع مرة ومن تلمظ الجائع الصائم الراغب في الطعام مرة!
يا رب.
أعني، نعم أنا أعرف، أحببتك نقيا كالماء الصافي، وحيدا، كأنك خلقتني وحدي، أعرف أني كان لا بد أن أمتحن، أعرف أني لو نجحت فسأعرف أني أخيرا بالقبول جدير، وسأجعله يا ربي امتحانا صعبا.
لن أهرب.
سأضاعف الإغراء.
سأنظر.
وسأعاود النظر.
سأرتكب الذنب الأصغر، ليتعاظم انتصاري على الذنب الأكبر.
نظرت.
هي «لي لي» بالتمام، هي الشيطان كاملا غير منقوص؛ فالإغراء فيها كامل غير منقوص، نائمة هي، تتقلب، جسدها فائر، يغلي، وعلى الفراش وفي دفعات يتدفق! هذا صدرها، هذا شعرها يسيح وعلى موجات يغطي الصدر، والبطن، وينحسر، وتتقلب!
يا رب.
مستغيثا صرخت، ليست استغاثة أرض لملأ أعلى، ولا ناطقة بلسان ضعف البشر، هي استغاثتي أنا، كنت قد بدأت أغرق، أواصل النظر لا عن رغبة في المجابهة وتصعيب الامتحان، وإنما عن عجز أن أكف عن النظر، قتل الإنسان، ما أكفره!
ما أكفرني حين تصورت أني وحدي أقهر الشيطان، وحدك أنت لا شيء، وحدك أنت أضعف من دابة، وبالناس وبالله وبما فيك منه أنت الأقوى.
يا رب.
راجية ملتمسة دامعة أطلقتها.
الشيطان استولى على بصري، وعلى جسد «لي لي» سمره، وبكل قواه يجذب، ومن بصري يريد أن يخلع روحي من جذورها، أحس حقيقة بالجذور تتخلخل.
لم أكن أعرف أني بهذا الضعف.
يا رب.
يا سميعي ولا مجيب سواك، يا مدرك عجزي وأنت القوة، يا مانح العبد الإرادة، يا أنت الذي تعلم ما بي، رحماك، يا رب!
يا رب!
إن كان بصري قد ضاع فلا زلت أمتلك الصوت والحنجرة، بغير أن أسمع نفسي أستغيث وأترجى، أنا انتهيت، فقط ألهج، بكل قواي أعتصر العمر كله وأطلقه مخلصا صادقا، أرعبتني المفاجأة، وأذهلني ما اكتشفته في اللحظة الحاسمة من تفاهة ما كنت أسميه قوتي، بإيمان أصبح وجها لوجه في قبضة الشيطان، بإدراك أن هذه معركة العمر بها أوجد أو بها أمحى، انطلقت بصوتي أقاتل، الصوت سلاحي والصوت أنا والصوت كل ما تبقى في من ذاتي والصوت أملي الذي لا أمل سواه، أن أعود أنا.
ولم يعد أذانا ما أقوله، لم يعد الكلام المنغم المحفوظ، كنت أستغيث حقيقة وأعرف أن لا مغيث لي سواه، ومنه وحده ولما أعانيه أطلب الغوث.
يا رب.
هل يرضيك أن نسقط؟ هل يرضيك أن نأثم؟ هل يرضيك أن يلبسنا الشيطان ويسود؟ أغثني يا إلهي، أدركني، ساعدني، أنا في الهاوية، من ينتشلني سواك؟!
أكان لا بد يا «لي لي» أن تظلي تتقلبين حتى ينحسر القميص إلى أعلى ويتبدى جسدك تحت وهج الضوء الساطع أبيض يكاد من بياضه يضيء، عاريا تماما، ملتويا في الفراش، ناشرا أطرافه، قابضها، أي جحيم كان في داخلك، لا يطفئه عري ولا فجر ولا برودة الدنيا كلها؟!
وكل هذا في النور الساطع.
أكان لا بد يا «لي لي» أن تضيئي النور؟! •••
لم يبدأ الناس يستيقظون لأن صوته العالي أقلق منامهم، فلا أحد يذكر أنه تنبه من نومه المخدر ضجرا من الأذان المرتفع الذي أيقظه من أحلى منامة، الحقيقة كان الواحد منهم يستيقظ على شعور أن ثمة شيئا جميلا رائعا يحدث حوله ولا بد من اليقظة للتمتع به، كان الصوت قد استحال إلى عطر نفاذ أليف امتلأ به جو الحجرة وراح يتسرب إلى أنفه النائم، وبرقة زائدة يتسلل إلى خياشيمه، تسللا ممتعا يستيقظ من شدة متعته، دافئا ملتاعا عميقا، حنونا، يسري كالموسيقى الهفهافة المعطرة، يبدأ النائم يعتقد أنه حلم ولكنه بعد حين يدرك أنه لا يحلم وأنه استيقظ، ومع ذلك لا يزال ينتشي بالصوت الذي يأتيه حقيقة، لا شك فيها.
يا رب.
كم مرة قيلت، كم مرة تلونت وتنوعت وطالت، ورقت، كم من المعاني قيلت فيها وبها، كم استعطفت، كم استجدت، كم غضبت، كم امتعضت، كم تدللت، كم دمعت وابتسمت، كم جاءت وكأنها آخر الأنفاس، وكم جاءت وكأنها أول علامة حياة، كم صدرت عن طفل وعن رجل، وعن خاطئ وعن مستغفر، وعن تائب وعن مؤمل، وعن يائس وعن معلق بين اليأس والأمل.
كلمة، ولكنها أيقظت الحي كله، حتى من لم تفلح في إيقاظه أيقظه من استيقظ، في أسرتهم وفي أماكن نومهم راحوا يستمعون، ثم وكأنما أصبح للكلمة قوة جذب، استخرجتهم من رقدتهم وغادروا بيوتهم بشعور غريب، يشيع في صدورهم لأول مرة، شعور طازج محير لم يألفوه أبدا، شعور وكأنهم أصبحوا قرباء جدا من الله وأن الله غير غاضب وأنه رحيم أليف، شعور يملؤهم على الفور بالسعادة؛ إذ في أعقابه يحسون أنهم، وكأنما اكتشفوها للتو، يحبون الله وأن الله يحبهم وأنه جد قريب، لم يبق بينهم وبينه سوى خطوة.
وفي الجامع تلاقت الوجوه، غارقة لا تزال بماء الإفاقة والوضوء، ولأنهم لم يعتادوا التلاقي في زمن كهذا ومكان كهذا فقد أحسوا أنهم وكأنما يتعارفون حالا، واليوم فقط يبدءون، صامتين مذهولين بالنشوة جلسوا يمتصون بآذانهم رحيق الأذان، يستعذبونه، يختزنونه في أنفسهم كما يختزن غذاء الروح ليوم تجوع فيه الروح.
وتحول الجامع إلى مظاهرة، وغادروا المبنى إلى الخارج ليصيروا إلى المئذنة والشيخ عبد العال أقرب، الكلمة تنطلق منه فتكاد بما تحتويه تنير حجب الظلام، يتطلعون، يتأكدون أن من يؤذن حقيقة من البشر وأنه بالتأكيد نفس الشيخ عبد العال، فالحق أن ما يسمعونه كان صوتا لا يمت إلى البشر ولا إلى الأرض وإنما هو قادم مباشرة من السماء.
بل ومن فرط ما سكروا نشوة لم يفطنوا أن الشيخ عبد العال هبط من المئذنة دون أن يؤدي الأذان الشرعي، شاحبا ممصوصا كمن نزف الحياة صوتا ومقاومة هبط، اندفعوا يحيطونه، بإشارة أوقف الاندفاع، من فوره اتجه إلى القبلة، ونوى الصلاة.
أجل، نويت للصلاة.
أنا الآن أهل لها. •••
أهل لها؛ فقد انتصرت، بشائر النصر بدأت حين عدت أمتلك بصري، حين استيقظت «لي لي» من نومها على صوتي المدوي المجلجل، وفي الفراش جلست ، مبعثرة جلست، نفس جلسة أمها على العتبة، نحوي سددت البصر، مدهوشة، مذهولة، ثم مستمتعة بدأت ترنو، أعتصر نفسي أنا، أهرب منها وأتلوى، وهي أيضا تتلوى، أتلوى أنا احتراقا وتمزقا وألما، وتتلوى هي جذلا، حتى قامت تنظر من النافذة، وحينذاك تحولت ببصري وأصبح ملكي وعاد لي الوعي، وجدت نفسي حطام بشر، بقايا حياة.
رفعت عيني إلى السماء، ولم أنطق، فقط ملأت بصري بنظرة شكر، أحسست أن شيئا لي قد حدث، لم أعد أنا، كان في خزين إيمان قوي ذهب، قذفت به كله في أتون المعركة.
منتصرا هبطت، مجرحا، قلت الصلاة بلسم الجراح، استقبلت القبلة ونويت. •••
ظل السجود قائما ومستمرا حتى ملأت الشمس الحديثة صحن الجامع، نام البعض، وشخر آخرون وسرح كل منهم في ملكوته وعالمه، والحجة قائمة وموجودة، هم في انتظار تكبير الشيخ، فوجئوا مرة بضحك هائل غريب، خشن، عرفوه للتو، هو معزة الأفيونجي، الذي كثيرا ما تطرده امرأته ويتخذ المسجد منزلا ومقاما، ضحك استمر حتى نفد كل ما لدى صاحبه من مخزونه لسنوات طوال مقبلة، وجاء بعده كلام، كلام فارغ صحيح، ولكنه جاء، شوفوا الناس المساطيل اللي ساجدة وبتصلي من غير إمام. •••
منتصرا هبطت، مجرحا قلت الصلاة بلسم الجراح، استقبلت القبلة ونويت، فتحت عيني، كانت «لي لي» في منتصف القبلة نائمة، عارية، مبعثرة، مفتحة، يتموج شعرها على جسدها وينحسر، عفوك يا إلهي، فلقد أخفيت عنك الحقيقة، الشيطان انتصر؟!
وبينما الجميع ساجدون كالقطيع بعد طول ضلاله، كنت قد تسللت عبر النافذة الملاصقة للقبلة، وفي لمح البصر كنت أدق غرفة الدور الثاني السطوح في البيت المقابل. «لي لي» وقد لفت نفسها بملاءة السرير تفتح، بابتسامة مرعوبة قلت لها وأنا أفك زرار الكاكولة الأعلى: «جئت أعلمك الصلاة.»
انزلقت الملاءة عنها فضمتها بقوة وهي تستدير توليني الظهر وتقول: أنا اشتريت الأسطوانة الإنجليزي اللي بتعلم الصلاة، لقيتني أفهمها أكتر، متأسفة.
وأطفأت النور. •••
أكان لا بد يا «لي لي» أن تضيئي النور؟!
على ورق سيلوفان1
من العربة هبطت، فاتنة هبطت، نعنش روحها الغزل الصادر من عابر سبيل مسرع، دخلت الحديقة، بتؤدة عبرتها، السلالم راحت تصعدها، سلمة، وسكتة، وسلمة، في آخر سلمة، اضطربت، خائفة، اضطربت.
ماذا لو عرف؟ ماذا لو كان طول الوقت يعرف؟
ولكن كيف يعرف، مستحيل أن يعرف، الهرم بعيد، و«الركن» الذي كانا فيه لا يقصده أحد في الصباح، سائحتان فقط كانتا هناك، كيف يعرف؟
أمام كشك الاستعلامات الزجاجي وقفت، الموظف العجوز مشغول بمحادثة تليفونية، حدق ناحيتها مرة ولم يرفع عينه، كانت تزيح عدسة النظارة السميكة وتتحسسها مربعا مربعا، كل مساهمته في الحديث أصبحت: أيوه. آه. أيوه. آه. فرغ صبرها وسألت. وضع السماعة في الحال وانتبه، موجود؟ أيوه موجود. دقيقة واحدة نسأل، دقيقة، سرحت.
الأبيض مستشر كأنه وباء يبيض له كل شيء، الوجوه معظمها أيضا شاحب أبيض، المرة الأولى التي جاءته هنا لا تكاد تذكرها، من سنين طويلة، عشر سنوات ربما.
هذه ثاني مرة، ولولا ميعاد اليوم ما جاءت، المضحك أن الاقتراح كان اقتراحه، سهل لها المهمة تماما، مساكين هؤلاء الرجال ونواياهم الحسنة، أيستحق؟ بالطبع يستحق، ليس هناك رجل لا يستحق، حتى المحبون منهم زائغو العيون كذابون حتى وهم يحبون.
ابتلعت ريقها، لماذا يجف حلقها باستمرار هذا الصباح، لماذا جف حتى سعلت وهو يمسك بيدها ويضغط عليها بين يديه؟
انفعالها لحظتها لم يكن أنثويا خالصا، لا، كان هناك شيء آخر لا تعرف كنهه، واتتها فكرة أن تجري، تسحب يدها وتظل تجري حتى تجد عربتها وتنطلق عائدة إلى البيت، البيت؟ يا لها من كلمة مضحكة!
الدكتور موجود في حجرة العمليات يا افندم، مشغول. ولكنه ينتظرني، بلغوه إني جيت. مش ممكن. قولوا له المدام. المدام؟! سعادتك المدام؟! لماذا سعادتك؟ وماذا يدهش في كونها المدام؟ لماذا الضجة والوقوف والترحيب المبالغ فيه وبصوت عال؟ لماذا تريد الانفراد بنفسها الآن، حلمها مكان قصي ليس فيه أحد، تنكفئ على نفسها فيه وتلقي على داخلها كله نظرة، لتدرك، فقط تدرك، كنه ما حدث، وما يحدث، ما هذا الذي يحدث؟
يا افندم، هو يقوم بإجراء عملية الآن فعلا، وبلغناه الخبر، وطلب أن تتفضلي وتنتظريه في استراحة العمليات. يووه! تنتظر، تنتظر، لقد عاشت طول عمرها تنتظر، ولا ثانية ستنتظر بعد الآن، ولكن كيف تتصرف واستصحابه والعودة به إلى البيت هو سبب خروجها الوحيد اليوم؟ كيف إذن تعود بمفردها؟ فلتكن آخر مرة تنتظر فيها، آخر مرة، هو أو غيره، آخر مرة.
تفضلي، تفضلي من هنا. هذا الأراجوز، لماذا لا يكف عن الانحناء واختلاس النظر من تحت النظارة؟! إذن هي من جديد ستنتظره، بحق بحق، هل تكرهينه؟ هل تحبين هذا الآخر؟ حين كنت تحبينه ماذا كنت تفعلين؟ هل تحسين بنفس المشاعر الآن تجاه الآخر؟ لطيف شكله، رياضي، طويل، شعر صدره كثيف كالفروة. عن عمد، وله حق، يفتح قميصه، أكبر منك بعام فقط بينما هو أكبر بسبعة أعوام، لماذا يطرأ هذا الخاطر السخيف؟ إذا فعلا خيرت أن يموت أحدهما، فمن تختارين؟ هو؟ الآخر؟ يموت! هكذا بسهولة! ابتسامته العذبة تموت، ذقنه الغزيرة؟ غمازتاه؟ يداه الضخمتان الحمراوان من باطنهما، الغامقتان من الظهر بالشعر، يداه الضخمتان جدا - إذا قورنتا بيديه هو - القويتان، أصابعهما غليظة سميكة، من الصعب ثنيها، أين هذا من يديه هو، يديه الصغيرتين إذا انطبقتا حتى لتبدوان كزوج من الفيران الصغيرة، وأصابعه النحيفة التي توشك أن تنكسر، من اليدين تتبدى شخصية الرجل، شبه كبير بين شخصية الرجل وشخصية سبابته، سبابته هو في طول أصبعه الأوسط، طويلة رقيقة كأنها من عظم كسي بالجلد، سبابة الآخر كماسورة المسدس، قوية دائما تريد الشيء وتحدده ولا تعود إلا به، لماذا إذن تختاره ليموت، ألأن الزوج هو الذي ينفق ويتيح الفساتين والمتعة والماس، أم لأن العشرة لا تهون؟ أم لأنك لا زلت تحبينه؟ هل لا زلت تحبينه؟ لا تخجلي، اعترفي إن كنت لا زلت، لو لم يكن هناك فمه الواسع المتثائب في الصباح، الجريدة التي يغرز بصره فيها، منظره ببنطلون البيجامة والبيجامة مفتوحة والسروال ظاهر، هذا التجشؤ منه بصوت عال بعد الماء الكثير الذي يشربه، عشر سنوات ومنظره وهو داخل الحمام وهو خارج منه نفس المنظر، نفس الطريقة، نفس الغياب الطويل، عشر سنوات تسمع منه نفس التعليقات عن نفس الأشياء وبنفس النبرات، عشر سنوات تعرف عنه كل شيء، كيف كان يعامله أبوه، كيف دللته أمه، كيف أحب أول مرة، تعرف حتى ماذا يقوله في الساعة الخامسة غدا وبعد غد، لو دق الجرس من طريقته في الدق تعرف ما يريد، وتطلب من السفرجي أن يحضره. البيت، لكم تكره كل ركن فيه! فهي قد رأته آلاف المرات، موبيليته لم تعد تراها من كثرة ما تعودت رؤيتها، مطبخه يخنقها، صوت أزيز الثلاجة من طول ما سمعته يلسعها، ويؤرقها ويملأ جسدها بالشياطين. في التاسعة عشرة حين تزوجت كان الجنة، كان هو أعظم وأجمل وأكرم وأرق رجل في العالم، الخمس سنوات الأولى قضتها لا ترى رجلا غيره، الرجال بالنسبة لها لم يكونوا أفرادا، لم تلحظ أيهم ذات مرة كواحد وحده، كانوا كتلة، أهم شيء فيها أنه، هو، منها. •••
اتفضلي حضرتك، دقائق، حاجة ساقعة؟ قهوة؟ أنا ماشي، حاضر، متشكر. استراحة هذه أم قبر؟ حاولت فتح زجاج النافذة الوحيدة، لا يفتح، جلست، تطلعت، ملابس، بدل رجال، أين بدلته هو؟
هي المطلة من الدولاب، معلقة بعناية شديدة كالعادة، الأحذية الطويلة الرقبة هذه، هذه الآثار، دماء؟ دم! بشع، جزارين! قامت، دارت، أمسكت بقميص عمليات أبيض دمور رخيص، البنطلون دمور أيضا، أقذر دمور، الأبيض، لماذا كل شيء أبيض؟ حتى الأحذية الطويلة كاوتش أبيض، ألا يملون! هؤلاء الأطباء! هي ملت. الملل. أبشع أنواع الملل. الملل من شيء لا تستطيع الاستغناء عنه كأنما تمل من نفسك، عشر سنوات ملل، لن تبالغ، ساعات وأيام صحيح كانت خالية من الملل، ولكن يوم ملل واحد يجعلك تمل من العام كله. إنه كالسم، أقل القليل منه يقتل، أيكون هو الذي جعلها بدلا من التجاهل تبتسم للآخر، كان قد سبقها إلى العربة بعد جلسة استمرت ثلاث ساعات في النادي لم ينطق خلالها إلا بثلاث كلمات، أين ذهب الكلام من فمه. ثاني أو ثالث مرة ترى هذا الشاب يتابعها، هذه المرة تجرأ، حياها، كان ممكنا أن تزجره ولو بالإهمال، لماذا ابتسمت؟ لماذا أحس أنها ابتسمت؟ حتى قبل أن ينطق في التليفون عرفت أنه هو الآخر، وأنه اختار الصباح ليحدثها حيث البيت خال ، مغامرة؟ ولم لا؟ كل صديقاتها يغامرن، لماذا لا تجرب هي؟ المهم ألا يعرف أحد، تصنع الدهشة لم يعد يجدي، ولا كذلك تصنع الغضب، انتهت المكالمة مفتوحة.
ثاني يوم، ثالث يوم، ورابع يوم، كان صوته هناك، كان الخوف أقل. التطلع لشيء مثير جديد أكثر، بماذا تجيبه لو طلب للمرة المائة أن يقابلها؟
وجدت جرسا، دقت عليه، لم يحدث شيء، دقت أكثر، سمعت أقداما، ظهرت على الباب ممرضة سمينة جدا وصغيرة في السن ربما لا تتجاوز السابعة عشرة، لا تعرف ما قالته، فقط قالته بصوت عال جدا شحب له وجه الممرضة الملظلظ وانسحبت بسرعة. هدأت. صفر خاطر مروع كالصرخة الأولى التي تنطلق في سكون الليل ونعرف بها أن ساكنا في الشارع مات لتوه، كيف فعلت ما فعلت؟ كيف انساقت؟ كيف سقطت الملكة أيضا، ولم يعد أحد أحسن من أحد؟ خيانة؟ لا، لم يحدث، كلام مجرد كلام، لقاء، كأنه كلام، والموعد القادم؟ لن أذهب، لا، ليست خيانة، كل الخائنات لا يعترفن، يفعلن أي شيء ويسمونه أي اسم، إلا الاسم الحقيقي، كرهته، اتركيه، أليس هذا ما كانت تردده؟ الاشمئزاز الذي كان يعتري جسدها حين تتأكد أن صديقتها أو فلانة هي الأخرى قد سقطت. إن اشمئزازها الآن من نفسها؟ لماذا هي باردة هكذا؟ أين تأنيب الضمير؟ لكأن شيئا قط لم يحدث، فقدت حتى الإحساس بالذنب، أنا لم أجرم، أنا مضطرة لإخفاء كل شيء لأن ضميري يأبى علي تركه، يموت لو تركته، ولم أعد أحبه، النتيجة أني فقدت العقل، جنون ما فعلته، اعترفي أنه ادعاء للجنون فأنت أستاذة في تعليق كل شيء تفعلينه على شماعة من خطأ الآخرين، أو خطئك. الجنون، الكره، الضيق، حتى حب الاستطلاع، شماعة، مجرد شماعة.
عادت الممرضة السمينة، هبت واقفة، ماذا يقول؟ مرة ثانية يرجوني، أمامه نصف ساعة؟ وماذا أيضا؟ مسكين والله، في قمة مشغوليته يفكر في، يقترح أن أذهب لحجرة العمليات لأتفرج على العملية وأتسلى، يريد تسليتي ولو بحجرة العمليات، هل ممكن أن أذهب هناك؟ أرتدي هذه المريلة وهذا الحذاء، وقناع ؟ فقط. لا، أشكرك وأشكره، أنا لا أضمن نفسي، الجراحة تثيرني، صحيح هو جراح أطفال مشهور، ولكني أنا أخاف من نقطة الدم، أحسن أنتظر، طبعا تنتظرين، وحبذا لو تألمت وأنت تنتظرين، فأنت في الواقع تريدين أن تتألمي، ويكون هو بالذات مبعث ألمك حتى تشعري ببعض من راحة الضمير، هذا الذي طول الوقت رابض داخلك يراقب ولا يتكلم تريدين رأيه وتخافينه، ولهذا تريدين أن تتحركي وتشغلي نفسك عن السؤال باستمرار، السكون مؤلم، الضمير يتكلم حين نسكت، الممرضة لم تبتعد كثيرا، ربما قريبا من باب الحجرة تجلس، لا بد أنه هو الذي طلب منها أن تسهر على رعايتي، يدللني كثيرا، لو يكف عن تدليلي، لو يفعل شيئا يجرحني ويغضبني ويجنني حتى لا أحبه لأنه لا يفعل شيئا أبدا، يا لهذا الاحتكاك الأليف الدائم، الرجل حين شيئا فشيئا تتساقط عنه مظاهر الرجولة واحدة بعد الأخرى الهيبة التي تمضي وتذهب، الأسد وهو يتحول إلى جرو يؤثر السلامة ويقنع بوضع ذيله بين رجليه، بشع هذا الاحتكاك الدائم الأليف، المرأة المطلوبة المشتهاة التي لا يلقاها أحد إلا بميعاد واستعداد حين تصبح بضاعة حاضرة، في متناول كل ليلة وكل لحظة، بطاقة تموين عائلية تصرف في كل أسبوع مرة. الحب، من رغبة متأججة إلى واجب كزيارات رد الزيارة، كالتعازي في المآتم والتهاني في الأفراح، لا بد أن طول الاحتكاك هذا يجعل الرجل أقل رجولة، تعديه أنوثة المرأة وتظل تؤنثه أكثر وأكثر، ولا بد أنه هو الآخر يعديها برجولته فتسترجل أكثر وأكثر، ويكادان في النهاية أن يتقاربا ويصبحا بطول الزمن وكأنهما من نفس جنس آخر ثالث.
هل تترك نفسها تموت؟ هي تموت، هو يموت، كل شيء يبهت، يموت ويبهت، حتى الألوان نفسها تتلاشى وتموت وتبهت ولا يبقى سوى ذلك اللون المستشري الواحد، الأبيض، الأبيض، الأسود، هناك شيء أسود، حذاء أسود، حقيقة حذاء أسود، بين الدولاب والحائط محشور، طويل الرقبة ومحشور، قامت، بيد ممتعضة أخرجته، لا دماء عليه، صغير هذا «البوت»، فلتجربه، خلعت حذاءها، أدخلت قدميها، ارتدته، أما من مرآة ترى نفسها فيها؟ فتحة الضلفة المواربة، وهنا مرآة أيضا، لم يبد الحذاء بشعا، طويلا يصل إلى ما دون الركبة بقليل ولكنه جميل، وغريب، تمشت، استدارت، أدارت عنقها بقوة لترى كيف يبدو من الخلف، انتقل بصرها فجأة إلى المريلة البيضاء المعلقة ومنها إلى الحذاء، إلى المريلة، ومدت يدها، ارتدتها وفتحتها إلى الأمام كالبالطو، فطنت للخطأ، قلبتها، أمسكت بالفتحة من الخلف وضمتها بيدها بشدة، ظهر وسطها، نفر صدرها رغم صدر المريلة الواسع، إلى اليمين واليسار خطت، أصبح منظرها في المريلة والبوت أهم ما يشغلها، حزام، تريد حزاما، اسمعي يا، جاءت اليا، الحزام رباط شاش، عقدت لها الحزام، الرباط عريض، منظره كحزام رائع، ثبتت المريلة بزرار من أسفل الرقبة، برز صدرها أكثر، أجيب «الماسك»؟ نعم، هاتي القناع، والله فكرة، غابت ثانية، عادت، حاولت ارتداءه بمفردها، لم تعرف، تركت البنت تفعل، نظرت في المرآة فجأة، يا للروعة، عيناها مدهشتان من خلال فتحة القناع كأنها لأول مرة تراهما، شكلها طبيبة، طبيبة رائعة الجمال، لا فرق، حلمت يوما أن تكون طبيبة، فشل الحلم، ربما لهذا السبب فضلته، يجنن هذا الزي، يجنن، حضرتك ح تروحي أوضة العمليات؟ أنا؟ توقفت، تذهب؟ أنا بخاف م الدم، مفيش دم أبدا دي حاجة نضيفه خالص، تذهب؟ ترى ماذا يقول وهو يراها هكذا، لن يتمالك نفسه، سيجن، كلما ارتدت شيئا جديدا رغم ثقتها من امتعاضه الباطن، ففي الظاهر يجن ويطري ذوقها، وأحيانا لا يتمالك نفسه نفاقا ويقبلها، حتى النفاق أنا في حاجة إليه، أذهب، بجوارها تمضي السمينة، يدها اليمنى مدلاة، فيها دبلة، حتى هذه هي الأخرى مخطوبة، الزواج لا يصلح إلا للحمقى والمفلسين فهو قلة حيلة، لمثل هذه البنت نعمة فهي بغيره حتما الخاسرة، لمثلي أنا جنون، الرجال تحت أقدامي، في متناول أصبعي وحسبما أريد، هو أيضا جراح مشهور، ورغم جسده القصير النحيل وسيم، ألف مريضة وألف حكيمة وقريبة وزائرة وبنت عائلة يتمنينه، ليته في موقفي، على الأقل أستمتع بكوني المظلومة، أجد مبررا كي أبكي وأشكو وأخون أنا الأخرى، ولكنه دائما يفعل الصواب ، حتى إطراء النساء له يعيده أمامي، لا ليغيظني أو يبتعث غيرتي، ليته، إنما بدافع من إرضاء ضميره، ربما لو كان صوته مختلفا، لو كان أكثر خشونة، لو كان أطول أو أضخم، أخبث حتى، لو يضحك علي مرة، لو يشككني فيه لحظة، لو كان «مدردحا» مثل أيام زمان، الأيام التي ذهبت ولم يعد لي من عمل إلا التحسر عليها، بينما الحاضر ينزلق، بسرعة مخيفة ينزلق، في العام القادم ستكون أكبر بعام جديد، ستنقص أنوثتي بمقدار عام كامل، الزمن يتسرب ويحول الحاضر إلى ماض، ويلتهم المستقبل، وأنا لم أعش، ما كدت أبدا أرى وأتلفت حولي وأعي أني فتاة حتى قابلته، بهرني، خلب لبي، الأحلام ازدحمت في عقلي، على الفور استجبت، المقاومة كانت عبثا.
كانت الاستجابة حلمي، الآن أحلم بأشياء أخرى، أحلم أن أقابل الآخر، أحبه، وليكن الخطأ خطئي أو خطأه أو خطأ الاحتكاك الممل المستمر أو العمر الذي يجري، غير مهم، المهم أن أعيش أولا، أولا أعيش، يعود قلبي يدق، أعود أهيم وأسرح، أحس أن لي شيئا خاصا، سرا حبيبا، أكتمه، أخاف أن يعرفه أحد، أعود أكذب، أختلق الحجج والمناسبات، أنتظر، أستمتع أني على الجمر أنتظر، لأعش أولا، وليحرقوني بعد هذا ساعة الحساب، فأنا لا أعيش، لا أعيش. •••
تفضلي، مؤدبون جدا هؤلاء الناس، أدب القرود لا بد، ستنتظرني هنا، فالدخول بالنسبة إليها محرم، أأدخل وحدي؟ وماذا فيها، الدكتور هو اللي أمر، وما دام أمر مين يقول لأ، أتنافقها بالتضخيم في منزلته، دخلت.
للحظة ضاعت، أين تنظر، كان مفروضا أن يكون على الباب ينتظرها، فتشت، الغرفة واسعة جدا، تصلح صالونا لسراي، أو صالة معيشة كبيرة مدهشة، في الركن الأقصى هناك كمية أبيض كثير لا تخطئه العين، متجسدة على هيئة أشباح بيضاء كثيرة، داخل الأشباح منضدة، ملحق بها أجهزة كثيرة خضراء وبنية، ومن طرفها يطل رأس أسود صغير مغطى بالشعر، رأس طفل لا بد، يا للبشاعة، أكل هذا التجمع ينهش في لحم ذلك الطفل، الجو قابض قاتل، الرائحة خانقة لا تحتمل، رائحة ماذا؟ فينيك ؟ يوسول؟ أحماض لا تعرف لها أسماء؟ أم صبغة يود؟ أم هذا كله معا؟ أم هي بالذات رائحة اللون الأبيض، يا لبشاعته حين يتحول إلى رائحة، لماذا لم ينتبه أحد لدخولها؟ لماذا هم متزاحمون حول الصبي المسكين، صامتون ذلك الصمت المستمر المريب، وكأن مؤامرة تدور؟
بدوار قليل بدأت تحس، أتخرج؟ أتصرف النظر عن المفاجأة، مفاجأته؟ ولكن مفاجأته مهمة، ستستغرقه تماما وتستغرق أسئلته، ولن يلتفت أبدا إلى مغادرتها البيت من ساعتين مضتا، فلو حتى عن طريق الخطأ سألها لانهارت وقالت كل شيء. إنها لم تتعود أن تكذب، وبالذات عليه، وهو أيضا يعرفها وسيدرك حتما أنها تكذب، لا عودة إذن، فلتستمر.
انتظرت، نط عقرب الدقائق في الساعة المثبتة في الحائط عدة مرات، كل مرة بدقة لها دوي وسط بحر السكون الشامل، لا بد هناك خطأ ما، المجموعة واقفة كما كانت، وكأنهم صورة فوتوغرافية لم يتغير فيها وضع ولا يتحرك داخلها أحد، لم يلتفت واحد إلى الباب وهو يفتح، ولا ناحيتها، ولها زمن تنتظر وما ألقى أحدهم بنظرة، ماذا تفعل الآن؟ إنها تريده أن يراها عن بعد فمنظرها بالمريلة و«البوت» عن بعد أفضل، وشيء فيها صغير لا يزال يحاول أن يأسره، رغم كل شيء لا يزال فيها شيء يحاول أن يأسره، كيف تلفت بصره والصمت لا يجرؤ شيء ولا مخلوق على خدشه، صمت يبدو كصمت الصلاة، خدشه حرام، تسير، خطواتها حتما ستجذب الانتباه، سارت بلا صوت سارت رغم محاولاتها أن تحدث بسيرها صوتا، قطعت أكثر من نصف المسافة، لا صوت، البوت اللعين من المطاط والأرض مطاطية لعينة هي الأخرى، مهما دقت وخبطت فلا صوت.
قطعا حين تصل سيفسحون لها مكانا، لتختر حينذاك المكان المواجه له مباشرة، وصلت، حتى التومرجي الذي يروح ويحمل أشياء وينقلها ويعود بأخرى، لم يلق ناحيتها نظرة، لا بد حسبوها طبيبة لا تستدعي التحقق أو تلفت الانتباه، قريبا من طرف المنضدة وقفت، عيونها تتفحص الواقفين من خلال فتحات أقنعتهم، لا عين من عيونهم أخطأت ورنت بنظرة، تنحنحت أيضا، كأن شيئا لم يحدث، أين هو فيهم؟ لا أحد من الموجودين جميعا يشبهه، فأين هو؟ أيكون هذا الواقف في الوسط منهمكا في شيء أمامه، بالضبط هو، رغم الطاقية ذات الحافة والقناع، فقد عرفته من أذنيه، هو ذا إذن، والباقون حوله بلا حراك، مدت يدها تعدل المريلة، وتضبط فتحة القناع، استعدادا للحظة التي يرفع رأسه المنحني فيها ويقع عليها بصره، قطعا سيهلل للمفاجأة، حتى لو كان هنا، فهو يلقاها دائما بترحاب من لم يرها من عام، حتى لو كان غادرها من ساعة، الدقائق تمضي ولا ينظر، لا يحرك عينا عن البقعة المثبتة عليها عيناه، تنحنحت مرة أخرى، غمغمة، سمعت غمغمة لا مجاملة فيها: اللي عايز يكح يمشي يطلع بره يكح، صوت من هذا؟ أيكون صوته؟ ألم تعرفه لأنه منحن ويتحدث من خلف قناع؟ أم لأن هناك شيئا آخر، بالتأكيد ثمة شيء آخر، يا ... وجدت نفسها تهتف، كانت تظن أنه ما أن تفتح فمها حتى تستدير الأعين كلها لتراها، حين لم يتحرك أحد، حين ظل الصمت ثقيلا رابضا لزجا حتى لتكاد إذا مددت يدك تلمسه، خانتها شجاعتها، لم تكمل النداء، سكتت، تبلدت ملامحها وسكتت، أتراه عرف؟ أيكون التجاهل عن عمد؟ لو فقط، يكف هذا الصوت المنتظم، لو تكف الحشرجة، حشرجة لها وقع، كأنها حنجرة ذات جسد يزحف على أربع، وبين كل نقلة لساق من سيقانها ونقلة وقفة، وتعود تزحف، الرائحة القابضة تجثم على الصدر توقف حركته، تمسك الهواء أن يدخله، وتمنعه أن يخرج، ماذا أتى بها؟ ما لي ولحجرة العمليات التي يدوشوننا بها في سهراتهم، هؤلاء الأطباء والجراحون، هذا هو العالم الذي يقضون فيه ساعة إذن ويجعجعون بما يحدث فيه ألف ساعة، لها حق إذا كانت تكره العمل وحديث العمل، هي وكل صديقاتها. ما يكاد الرجال يبدءون فيه حتى تكون البداية إشارة البدء لهن، الحلقة تتكون وبسرعة مذهلة تتفاهم، من يراهن لأول مرة يحسبهن شقيقات معا نشأن، وبعضهن لم يعرف الآخر إلا من لحظة، قبيلة الإناث تتجمع، شفرة النوع الواحد بينهن كالسحر تسري، متراثيات متحاسدات متذاكيات متغابيات، أبدا لا يختلفن، ولا صوت لهن يرتفع، بالعكس، كل دقيقة أخرى ينخفض الصوت ويصبح التفاهم أشمل، وبالأزياء كموضوع لجس النبض يبدأ الحديث، وينخفض وهو ينتقل إلى فلانة وكيف تلبس، وفلان وكيف يلبس فلانة، وينخفض الحديث أكثر؛ إذ لا بد قد وصل الاتفاق حد النميمة وتبادل آخر أخبار الفضائح وينتهين بحديث لا بد يخدش الحياء، ولهذا يقلنه همسا، ويظل الهمس المتوافق المنسجم يخفت ويخفت حتى يستحيل الحديث إلى إشارات وغمزات، وقد أصبح التفاهم تاما وكاملا، بينما الرجال العبط قد أخذتهم الحماسة، ودب بينهم في الحال، مهما كانوا أصدقاء أو أقارب، الخلاف، وبالاختلاف والزعيق ينتقلون من العمل إلى مشاكل العمل، إلى السياسة بالطبع، إلى الخناق، فلا بد أن لأحدهم رأيا يخالفه فيه الآخر بشدة، ويأبى تماما الانتقال إلى موضوع آخر، ولا بد أن تضيع الليلة وكل منهم يحاول إفهام الثاني أنه الأذكى والأصح. العمل. زمان كانت تغار منه، تعتبره كالزوجة الأولى صاحبة النصيب الأكبر، تحول مجرى الحديث إذا حاول هو جرها إليه، وكيف لا تحوله، ومعنى اشتراكها فيه اعتراف بشرعية «الضرة» وحقها في ساعاتها هي، الساعات التي يقضيها معها في البيت، والمفروض أن تكون خالصة لها، كثيرا ما سمعت الثناء عليه حتى من حساده، عن شطارته، عن نبوغه، تبتسم مجاملة وقد تعلق بكلمة. إنها في أعماقها كانت تتمنى لو لم يكن له بالمرة عمل، لتصبح هي عمله الوحيد الأوحد. ولكن هذا كان أيام الحب زمان، في السنين الأخيرة لم تعد تغار، بل أصبحت تشجعه على العمل أكثر، العمل أكثر يعني دخلا أكثر، النقود أهم وليس مهما أبدا كيف يأتي بها.
فجأة شعرت بغربة، هنا، لا مكان لها، شيء في صدرها كالروح المختنقة يرفرف، شتان بينها الآن وبينها من ساعة مضت، حين كانت حواسها تتدغدغ تحت وقع حديث الآخر الرخيم المتعمد البطء، عما فعلت به، عن عيونها حدثها ، عن جلدها ونعومته طال حديثه، عن رقبتها، عن ... عن شفتيها، عن شعرها المنساب انسابت كلماته، عن قوامها وجسدها وعذوبة روحها والرجل السعيد الحظ الذي يملك هذا كله، مضى يتكلم، وهي تقشعر لوقع كلماته، وربما لهذا بدأ يتصاعد بحديثه خطوات أخرى، ألفاظه بدأت تتعرى، لمساته طالت، الجرأة في عينيه بدأت ... بدأت تشع وقاحة، خدودها هي أيضا بدأت تلتهب ونبضها يسرع. الخوف، الخوف بلا سبب، راح كالشهب، يتساقط ويغور في صدرها ويصنع حفرة بالغة العمق، لا قاع لها، مرعوبة صارت ولم تعد تحتمل، الآن تذهب، في الحقيقة تهرب.
جسدها يسخن لمجرد أنها تتذكر، هو لا يزال لم يلتفت، يتركها هكذا صامتة ساكتة، الشيطان يتحرك حين نسكت، لو ظلت هكذا ساكنة ساكتة فلن يكون لتفكيرها حد، ستسبح كما يهوى الشيطان، ويريد، ستندم على المقاومة التي ظل جسدها يبديها لكلمات الآخر ولمساته، ستضيق بهذا الصوت الذي يهتف لها، لا، لا، لا يمكن مستحيل، الموت أهون، لماذا لم تستسلم، كاملة، للحظة المتعة؟ لماذا حتى بكلماته بدأت تضيق، للمساته تقشعر انكماشا ورفضا، بالموضوع كله تستخفه وتنفر منه.
تحركت، اقتربت من الرأس الأسود المسجى وعلى فمه وأنفه قناع التخدير المتصل بالجهاز، رئة الجهاز صغيرة كرئة الصبي، الولد القمحي، شعره غامق السواد لامعه، ملامحه نائمة، صعب عليها، هو ذا الصبي إذن، الذي استمر حديثه عنه وعن رئته ساعة وهي تتثاءب ولا تفقه من حديثه حرفا، غير مهتمة أبدا أن تعرف، كلمات تطن في أذنها عائدة، أخطر عملية، الأولى في الشرق، لا مناص، لو لم أقم بها مات، هو الآن يفعلها، ماذا بالضبط يفعل لا تجرؤ على النظر. إلى مستوى عينيها فقط، نظرت، سيدة هي لا شك، الواقفة بجواره تناوله الآلات قبل أن يطلبها، سيدة، صغيرة في السن ولكن يا لذكائها، تتابع ما يفعله وقبل أن ينطق تكون قد استعدت بالآلة التالية، غريبة هذه الآلات، معقدة، يبدو أن الجراحة ليست مجرد مشرط وملقط، شيئا فشيئا تخفض رأسها إلى أسفل، لا دم، إلى أسفل أكثر، لا دم، مرة أخرى، لا شيء. قطعة قماش مبللة، بسائل باهت كماء البطيخ. ولا شيء، لا، إنهما قطعتان، بينها فاصل كالخندق المحمر، أيكون هو الجرح؟ أجرح بلا دم؟ نظيف كأنه مبطن بجلد داخلي؟ كم تخدعنا الكلمات! على أية حال لم يخرج عن حدود الأدب، احترمني وقدر شعوري وربما إذا لم أره طعنني في ظهري، كسبه أحسن، أروضه حتى يذهب بريق الرغبة في عينيه، ويحل بريق الهيام، قادرة أنا وليكن اختبارا لمقدرتي، وعلى أسوأ فرض لو حدث شيء رغما عنا، أو رغما عني! فسيكون درسا أول وأخيرا، لا أطمئن بعده لأحد. حتما سأعرف، وجهه صريح يظهر رغباته، وبمجرد أن يفكر سأعرف، وفي الوقت المناسب، أهرب، وإلى أن يحدث أنا أتسلى، أقطع الوقت، أحيي قلبا لم يعد ينبض، فلأتسلى، لماذا ببطء ببطء يعمل، له ساعة وهو يدخل أصبعين في الخندق ويرفع الرأس إلى أعلى ويتحسس شيئا في الداخل، يا لطول باله، يمرضني طول باله، وهو يخلع ملابسه، قطعة قطعة يساويها ويعلقها ويظل دهرا يجيء ويروح، ويروح ويجيء، حتى من الغيظ أنام، وما أكاد أفعل حتى أشعر به يسحب الغطاء ويمد يدا ناحيتي أبادر بدفعها، من لحظات وبلكاعته ذهبت رغبتي، أنا الآن جثة، أصرخ، جثة، يرضى بالجثة، ما أن أصير أحيا، وينتفض في دم طال عليه الركود، حتى يكون هو قد أفلس، لم يكن أبدا كذلك، معا كنا دائما، الآن افترقنا، أنا افترقت، هو باق، لا شك. - عرق.
دوي الصوت، انتفضت، لم تفهم، في آخر لمحة أدركت أنه صوته، لا بد صوته، ما هذا العرق، آلة جديدة؟ تعبير طبي؟ بدأت تفهم، [السستر] بجواره تختار شاشا مطبقا بعناية من مجموعات الشاش بجوارها، دون أن يحرك وجهه أو يستدير، تتخلع هي، وبكل دقة وحرص حتى لا تلمس بأصابعها جبهته تجفف عرقه، عيناه لا تريان أو تشعران بما تفعله، كأنه لأول مرة يغرق، في البيت لم تره أبدا يعرق، دائما هو مستريح جدا، مثقل الجفون تماما، لا يتحرك من مكان لآخر إلا بدافع حياة أو موت، كيف تطيع هذه المرأة بجواره أمرا يصدر بهذه الطريقة الحادة الباترة، كالسبة، وحتى من غير «من فضلك»؟ لو كانت هي أصدر لها أمرا بهذه اللهجة لصفعته، إنه إهانة وليس أمرا، الغريب هو صوته، رفيع كما تعرفه، لا يرن كصوت الرجال، ولكن فيه أشياء أبدا لم تكن فيه. - امسك كويس، إذا فلتت ح أحط المشرط في عينك.
قال هذا وصوب عينيه أمامه مباشرة إلى حيث المساعد، عينان رأتهما بزاوية ولكن حتى نظرته من الجانب تبدو مختلفة، مائة في المائة ليست نظرته، هذه تملكها شخصية طاغية آسرة، لا تملك إلا طاعتها، نظرة كأنها لرسول مؤمن برسالته إلى حد الجنون والبطش مليئة بالثقة وكأنها تصدر عن فيض من امتلاء النفس بالثقة. إن لها شهرا وأكثر لم تر عينيه، ولم تحس أن له نظرة، نظراته دائما كقطة أليفة تتبعها، توجهها حيث تشاء، من خلال عينيها يرى، عيناه حين تواجهها دائما ما تكون البادئة بالانسحاب وقصر الشر، نظرة تشفق على ما تحفل به من مسكنة دائمة، وكأنه الطفل يذنب باستمرار، وباستمرار يطلب الغفران.
لا بد أنه يمثل أمامها، يريد إغاظتها، هنا مملكته وعبيده، وهنا لا بأس من مزاولة سلطان مؤقت أمامها، ولكن كيف عرف أنها أصبحت بالحجرة ومذ دخلت لم يرفع عينه عن مكان العملية ولا همس في أذنه أحد أو أخبره.
لا هو، ولا الموجودون جميعا، لا أحد شعر أو يشعر بها، هم في ملكوت آخر، هم قد امتصهم شيء مذهل محير ألهاهم حتى عن أنفسهم وعن الزمان والمكان، وأيضا عن الآخرين، ما هذا الذي يدور؟ هي لا ترى شيئا، لا ترى إلا أصابعه وهي غادية رائحة من الجرح إلى الآلات إلى الجرح، لا شيء هناك سوى أصابع تتحرك في قفازها المطاطي، أصابع طويلة نحيفة مركبة في يد ملساء صغيرة تعرفها أيضا، ما هذا المعجز فيها الذي يمتص وعي هؤلاء الناس وانتباههم، كما لو كان أعظم عازف كمان في العالم يعزف والأنفاس معلقة بأنامله. - لا، قلنا إبرة أرفع.
وطار ملقط مركبة فيه إبرة فوق الرءوس، وسقط على الأرض غير بعيد عنها، دق قلبها في عنف، من الشخطة قبل أن يدق من السقطة.
ماذا حدث له؟ لم تره هكذا أبدا، إن شخطه مرعب، على الأقل يرعبها أنها لا تخاف من الرجال إلا شخطاتهم فقد عاشت طول عمرها مدللة ملفوفة بورق سيلوفان، يتناولونها بحرص، وبحرص بالغ يربونها ويعلمونها، ويعاملونها، وما عليها إلا أن ترغب وليس أمامهم سوى إجابة الرغبة. لم يقل لها أحد في حياتها لا، لم يشخط فيها أحد، حتى هو، كانت الرقة تذوب من صوته إذا تحدث إليها، لماذا يشخط الآن هذا الشخط المرعب، الشخط الذي يجعلها تحس بالذعر، وبأنه رجل آخر، غريب، تهابه، تحس أمامه أنها فعلا امرأة، ضعيفة، خائفة، ما هذا الاهتمام الصارم المركز على وجهه لم تشهده حتى وهي تناقش معه أخطر ما دار في حياتهما أو يدور؟ وما هذا الاهتمام العظيم الذي يبديه الآخرون بأصابعه، أصابعه الدقيقة ويده الصغيرة التي تشبه الفأر، لا يمكن أبدا أن تكون هذه أصابعه، إنها يد وأصابع مختلفة تماما، هذه كائنات رفيعة طويلة أخرى بالغة الحذق والنشاط تلتف على بعضها البعض، تستدير، تنحني، تلتقط، تلضم، تخيط، تمسك، تجفف، تتفرق، تتجمع، تتحسس، تتداخل، تندس، الآلات في قبضتها تتحول كائنات حية، وكأن أصابعه تتشكل على هيئة آلات، لا يمكن أن تكون هي نفس الأصابع التي ما رأتها إلا مرتخية، أو مغطية فمه المتثائب، أو حتى إذا نشطت فإنما تنشط لتعبث، في أحيان نادرة، بشعرها هي، وكأنما تؤدي واجبا مدرسيا، أو لتضغط على أذنها وكأنما لتقرصها حيث لا تدري ماذا غير هذا بوسعها أن تعمل، بالتأكيد ليست هي أبدا الأصابع التي تعرفها ويثير مرآها بعض اشمئزازها، هذه أصابع تتعلق بها الأنفاس ولا بد أنها تقوم بأخطر عمل، فالصمت المخيم ليس صمت مؤامرة أو ضجر، إنه صمت الترقب الأعظم وكأن في الحجرة تدور مغامرة كبرى، الخطأ الصغير فيها قد يكلف حياة، من المحتم أن الصمت المقدس هذا يخيم على معجزة تحدث، وهو الذي يقوم أمامهم وأمامها بالمعجزة، هو «بتاعها»، أهو «بتاعها» لا يزال؟ هذه النظرة المحددة الثاقبة التي تنفذ في أعماق مساعديه ومن حوله من الرجال، فتهز أعماقهم، هذا العرق الغريب الذي يبدو لفرط نظافته معقما طاهرا، هذا الوجه الذي لم يستطع حتى القناع الشامل أن يخفي الشخصية الطاغية التي تملكه، هذه الملامح التي يسيطر عليها تماما، المحددة متى وكيف تتحرك، هذا «هو» لم تره أبدا، «هو» آخر لا يمت إليها، هو مخيف، مرعب، ذكر، رجل يمثل ما لم تحس به كرجل وهو في قمة مزاولته للرجولة معها، أمامه وعن عمد تضع الآخر في مواجهته، بشعر صدره، بيديه الكبيرتين بذقنه الغزيرة بقامته، غير معقول هذا أبدا غير معقول، إنه يتضاءل، إنه يصبح أقل شبابا وأهمية، كل ما فيه من مزايا وخصال تذوب وتتلاشى كفقاعات من صابون أمام هذه الإرادة الحديدية التي لا تقهر والتي تنبعث منه هو وتأمر الحياة في أعماق الطفل المريض أن تستيقظ، أن تنشط، أن تبدأ وتستمر وتظل حية مستمرة. كادت تبكي، لم يتضاءل الآخر وحده، هي نفسها بدأت بكل رغباتها وغيظها، بكل أحلامها وضيقها، بكل دلالها وأنوثتها، تتضاءل، تتضاءل، وهو يكبر ويكبر وتحيطه هالة مقدسة لا تجرؤ على خدشها حتى بالنظر، هالة الرجل وهو يعمل، هالة لم ترها أبدا، وما كان مقدرا أن تراها، لولا الحجة، والمضحك أنها حجة لخداعه، الدموع تجمعت فعلا في عينيها، إن كل ما تتمناه الآن أن يحادثها هذا الرجل المقدس وأن يعترف أمام الناس أنها له زوجته، وأنه لمروع أن يعترف بها فعلا كحبيبته، غفرانك وعفوك، لو تسمح لي بتقبيل يديك الصغيرتين وكل أصبع من أصابعك، لو تسمح لي بتقبيل أقدامك، يا إلهي وأنت الإله الآن، انحنت فعلا ونظرت أسفل المنضدة، تريد أن ترى قدميه، تريد أن ترى كل شيء فيه من جديد، عرفتهما، رغم «البوت» والرقبة الطويلة فهذه العزيزة أقدامه، اعتدلت، أحست بالقناع مبتلا حول أنفها وفمها، كانت الدموع تتكون بسرعة وتنهمر، وكان بصرها مضببا، ولم تعد ترى، وكأنها في حلم من ضباب، رأت الباب وأسرعت كأنما تنقذ نفسها، وعند الباب وقفت، ومن خلال فتحته الزجاجية راحت تجفف دموعها وتكمل النظر، يا لصوته وهو حتى يأتيها غير آمر، وهو يشرح لزملائه ما يفعله، كل كلمة منه تستثيرها وكأنها لمسة حبيب راغب، حتى سكوته مثير وهائل، في حنجرته زئير رجال، في حنجرته أسد هي أمامه غزالة لا حول لها، والحجرة غابة، ولو بحاجبه، بمجرد حاجبه، أشار، لطاوعته في الحال، هنا وأمام الملأ. •••
انتهت العملية، وبدأت إجراءات حمل الطفل، أزاح قناعه إلى أسفل وخلع قفازيه، كذلك فعل مساعدوه وزملاؤه وهم يحضرون إليه يصافحونه ويهنئونه، وجهه حافل بالابتسامة لا حدود لسحرها، ثم من أين جاء هذا الاكتفاء، هذه السعادة كلها؟ كيف طفرت من ملامحه؟ سعادة أكثر بكثير من أية ليلة حب قضياها معا، حتى وهما في شعر العسل!
وأحسست، فجأة، أن قلبها بدأ يغوص.
أكبر الكبائر1
لا يخيفنكم الاسم، فالقصة نفسها تميت من الضحك، ولو أن محمد حسين حين يرويها لا يضحك أبدا، ولا يرى فيها ما يبعث حتى على الابتسام، بالعكس يتهدج صوته كثيرا حتى يكاد يبكي وفي أحيان يسأل السامع، إن كان السامع من العارفين أو المتنورين، سؤال المستغيث، إن كان ما فعله وما يزال يفعله حراما، وهل ممكن أن يدخل النار بسببه؟! وحقيقة كان محمد يفاجأ حين يجد السامعين يضحكون، ويغرقون في الضحك، ولا يكفون إلى الآن عنه. محمد من هؤلاء الفلاحين الذين يطلق عليهم نساء القرية «الجدعان»، لا من الجدعنة ولكن من حداثة السن، والعزوبية، وخلو البال.
ولكنه جدع لا يلبس جلبابا من السكروتة، وعمره ما جلس على قهوة، ولا ذهب أبدا إلى البندر. فلاح من هؤلاء الفلاحين الذين حملوا عبء اخضرار بلادنا لسبعة آلاف عام أو تزيد، فهو مهما اشتغل في الغيط لا يتعب، ومهما نام لا يستريح، ومهما أكل لا يشبع، وأبدا لم يرتد في حياته جلبابا، فهو دائما بلباسه وفانلته وفوق الفانلة صديري لم يحل لونه فقط، ولكن انمحى «وجهه» اللامع تماما وبقي على البطانة الدمور، والفانلة متآكلة مثقوبة في أكثر من موضع، واللباس به رقعة غير جيدة الصنع، فقد صنعتها له أمه، وأمه نظرها ضعيف، وتزهق من لضم الإبرة.
ولكن محمد على أية حال شاب، في الثامنة عشرة وإن كان يبدو في الثامنة والثلاثين، وله أيضا كل نزوات الشباب، بل ويعرف البصبصة، ويغني أحيانا، ويلقح بالكلام على البنات إذا عملن معه في الحقل أو ضمته وإياهن ماكينة الطحين، ولكن تجاربه في الحقيقة بدأت مع الحيوانات، كل الحيوانات من الماعز إلى الأبقار والجواميس، وانتهت إلى المشهورات جدا من النساء، أولئك اللائي يقعن بمجرد وقوع النظر، بل أحيانا بالسمع، ولم يكن أبدا في حياته يحلم بما حدث، بله أن يحدث في يوم صيف حار كافر كهذا اليوم، قضى كل صبحه يجري خلف حمار «القنادلة» الذين يعمل عندهم حاملا نقلات السباخ إلى الغيط البعيد، وقد أتم الثلاثين نقلة أي ما يوازي بلغتنا نحن الستين كيلومترا قطع نصفها جريا وراء الحمار، ونصفها الآخر راكبا إياه تكاد سلسلته الظهرية العجفاء البارزة تقسمه إلى نصفين، ركوبة أسهل منها بكثير الجري أو السحل. في ذلك اليوم عطش، واستبد به العطش إلى درجة أصبح يحلم فيها بالماء، ومن شدة ظمئه نفى من خاطره أن يشرب من بيت القنادلة، فالماء لديهم يحتفظون به في البلاليص، وهو دائما ساخن، ودائما فيه عكار، الشربة الحقيقية لا تكون إلا من بيت الشيخ صديق ومن زير أم جاد المولى النظيف، ومائها البارد المقطر الذي تضع فوق فتحة زلعته شاشة بيضاء تمنع الواغش والغبار، ويرد منظرها الروح، هكذا صمم محمد وهو يلكز الحمار الكسول وينخزه ليسرع به إلى أول البيوت حيث بيت أم جاد المولى.
وما يكاد يطل من الباب وتتعود عيناه رؤية ما يغلفه شبه الظلام في الداخل حتى تسمر محمد في وقفته خجلا واحتراما وأدبا، فقد وجد أم جاد المولى تصلي وبالذات تركع، وقد أعرض جسدها بطريقة لم يملك معها محمد إلا أن يقف خجلا واحتراما وأدبا، ولم تطل الصلاة، فسرعان ما جاءت التحيات، وحين التفتت بوجهها لتسلم ذات اليسار أزادت من التفاتتها لترى من الواقف، وعافى عليها محمد وسألها إن كانت تسمح له بشربة ماء، وهزت أم جاد المولى رأسها موافقة دون أن تنطق بحرف فقد كانت تتمتم بختام الصلاة، وأشارت إلى الزير ، الذي كان محمد من فوره قد توجه إليه وأمال الزلعة وملأ الكوز وشرب. شرب كوزين، وارتوى. أحس بجسده يلهث من فرط الري والاكتفاء وأحس أنه مدين لأم جاد المولى أو كما تعودوا تسميتها الشيخة «صابحة»، لا لأنها زوجة الشيخ صديق، ولا لأنها تصلي وتداوم على الصلاة، ولا تسلم عليك مرة إلا وقد أحاطت يدها بثوبها حتى لا تنقض الوضوء، ولكن لأنها دونا عن النساء جميعا كانت تفضل أن تلف رأسها بطرحة بيضاء، أحس أنه مدين للشيخة صابحة بدين كبير، حاول أن يرد بعضه، فسألها وهو في طريقه إلى الباب إن كان باستطاعته أن يؤدي لها خدمة، وقالت الشيخة أم جاد: كتر خيرك يا خويا، كتر ألف خيرك.
وكاد يدلف مسرعا إلى الخارج ليلحق بالحمار الذي تركه ومضى، حين سمع كلمة: بس، والتفت خلفه ليلمح ابتسامة أم جاد المولى المعوجة قليلا، والتي لا تظهر من خلالها سوى أسنان قصيرة، ويجدها تطلب منه في تردد إن كان باستطاعته أن يصنع لها معروفا ويرفع بلاص الماء الاحتياطي ويدلقه في الزير الذي انخفض ماؤه. بس كده. وبجذبة واحدة رفع البلاص ودون حتى أن يسنده على حافة الزير أماله ومضى الماء يخرج من فتحته على دفعات ضخمة هادرة.
في ذلك الوقت لم يلحظ محمد أن الشيخة صابحة ترمقه للمرة الأولى منذ أن دخل البيت، وفي الحقيقة لم تكن ترمقه كله، كان بصرها مستقرا على ساقيه السوداوين المجرحتين بالشقاء والملبدتين بالشعر، وليس على ساقيه بالذات، بالدقة على ذلك الشيء الذي انتفخ فجأة في سمانة كل من ساقيه وهو يشب ليسيطر على البلاص ويصبه، شيء بدا صلبا وكأنه كتلة حديد قد تكونت من تلقاء نفسها تحت الجلد، شيء لا يمكن أن يحدث أبدا إلا من جسد رجل، وهو شيء ليس غريبا على أم جاد المولى، فلزوجها الشيخ صديق شيء مثله، ولكن سيقان زوجها هزيلة رفيعة كالبوصة، إذا شب أو سار تصلبت سمانتاه أيضا ولكنه تصلب لا ينتج إلا كتلة صغيرة مفرطحة لا تكاد تظهر من الجلد، ولم تكن تلك المرة الأولى التي تعقد فيها أم جاد المولى مقارنة بين زوجها وبين أي رجل تراه أو تلقاه، فلها سنين وهي تعقد تلك المقارنات، بالضبط أربع سنوات، منذ هذه الطوفة التي جاءته وجعلته يبدأ يغالي في التدين وصلاة الضحى والتراويح ويسهر الليالي في الموالد يذكر ويجعل من نفسه إماما للذاكرين ويؤمن بتلك الطريقة الدمرداشية، ويتروحن ويحدثها عن الوصول، والسادة والأولياء والإمام الغزالي وكبار الواصلين ويفرض عليها الطرحة البيضاء والسبحة.
في الحقيقة لم تدهش أم جاد المولى لهذا التحول، فالشيخ صديق طول عمره نحيف ضعيف خفيض الصوت شاحب اللون قليل الطعام كثير نوبات حرقان القلب والمغص، لا يقطع فرضا، ولا يؤذي نملة، حتى في صباه، كان الشبان جميعا يكتفون بارتداء طواقيهم وهو وحده الذي ينفرد بالتعمم عليها، ولكنه كان فلاحا خبيرا بالفلاحة يحب الأرض والزرع ويجن شغفا بالمواشي ويفرح بولادتها ربما أكثر من فرحه بولادة الابن، والقراريط التي يزرعها دائما فيها خضرة أو شيء لا يزرعه الناس، ولكن تلك الروحنة لم تأته إلا من أربع سنين، لكأنما كانت و«بلوغ» ابنهم إسماعيل على ميعاد، وكأنما جاءت ليصب هو نقمته عليها لأنها لا تصلي، فإذا صلت ظل يواصل نقاره حتى تصوم «الستة» ولم يتركها إلا وقد ألبسها الطرحة البيضاء، وهي قابلة على مضض الضيق أول الأمر بكل الهلوسة التي اجتاحته وعلى تركه للأرض مهملة لا تجد من يعتني بها ويسقيها، وعلى إهماله لها وللدار ولكل شيء وتفرغه تماما لنوبات العبادة التي تبدأ مع العشاء ولا تنتهي إلا بعد الفجر حيث يصلي وينام للضحى، ويروح منهم «دور» الماء في الساقية، ويعطش القمح وتفضى سنابله، ولا يصح لهم من الفدان إلا إردبان.
قابلة على مضض الضيق أول الأمر، ثم على مضض الصابر، ثم على يأس المستسلم، ثم على محاولة للتروض وللوصول إلى عزاء لا أكثر وطلبا للسلوى، ولكن نوبات النقاش والمناكفة ومحاولة تذكيره بترك المسبحة جانبا وإمساك الفأس كثيرا ما كانت تراودها وتجعلها تعقد بينه وبين غيره من الرجال المقارنات أمامه وخلفه، ولكنها المرة الأولى التي تعقد مقارنة بين سمانة رجله وسمانة أي رجل آخر.
كل هذا لم يلاحظه محمد، وحتى لو كان قد لاحظه لما فهمه، كل الذي لاحظه حقيقة أنه وجد أم جاد تقوم فجأة وتأتي لتقف بجواره أمام الزير وتمد يدها تريد انتزاع البلاص منه وهي تقول: عنك أنت يا خويا بقي، كفاية عليك، زمانك تعبت.
وهو يجذب البلاص ناحيته ويتشبث به: والله أكبر كلمة لا يمكن، تعبت إيه هو ده اسمه كلام. - والنبي يا محمد إلهي يخليك لشبابك، هاود بس. - واللي نبى النبي لا يمكن.
وجذبة إلى هنا وجذبة إلى هناك احتك كوعه بطرحتها البيضاء فأزاحها قليلا، واحتك ذراعه بذراعها وفانلته بثوبها، وبالذات سمانة ساقه بجانب ساقها.
وفجأة دق قلب محمد وكأن أحدهم ساهاه وقذفه فجأة في الترعة فقد أحس هكذا أن الشيخة أم جاد المولى امرأة، لم تكن جميلة ولا صغيرة ولا تعوج القمطة، بل لونها كزوجها، يميل إلى الصفرة، وعيناها صغيرتان، وصوتها ناعم مسلوخ وكأنما يخرج من فتحة في ظهرها، ورائحتها كلون طرحتها، بيضاء ذلك الأبيض الشاحب الرمادي، ولكنه أحس بها كامرأة.
كيف أحس بهذا رغم طرحتها، والفرض الذي كانت من هنيهة تؤديه، رغم ابنها الأفطس الأنف الذي يحوم حوله ذباب خاص دائم والذي لا يمكن أن تصدق أن أمه امرأة.
كيف أحس بأم جاد كامرأة، ومن المسئول عنه، لا يعرف، وحين وجد شاش الطرحة من الشد والجذب ينزلق من فوق رأسها ثم يراها ويرى رأسها ووجهها بشعر وبلا طرحة، حين رأى هذا أحس أن كل شيء قد انتهى، وبدلا من أن يمسك بأذن البلاص مباشرة لف ذراعه، بلا خبث أو تدبر، بالغريزة، وراء رقبتها، وقبض على البلاص بقوة، فأصبحت هي، بقوة أيضا، في حضنه.
وحاولت أن تتملص قائلة: أوعى بقي نقضت وضوي يا شيخ.
ولكنه لم يفعل إلا أن شدد من التفاف ذراعه ليجبرها على السكوت التام، ولحظتها لم يكن يريد لها أو لنفسه أكثر من مجرد السكوت التام، والثبات، مجرد الثبات على هذا الموقف.
وكانت كلمتها التالية: لا لا، أنا في عرضك، الشيخ صديق زمانه جاي.
وقال لها بصوت مبحوح محشرج وكأنما مصدره صراخ داخلي ينبح منذ الأزل: هو فين؟
فقالت: زمانه بيصلي الضهر وجاي.
فقال: أمال وقتيه؟
فقالت: بعد العشاء.
وارتجفت ركب محمد وكأنما غشاها زلزال لم يلبث أن اجتاح صوته، فقال بشفة عليا ترتعش: هو مش ح يكون هنا.
فقالت: لا، حداه الليلادي مولد.
وفي نوبة جنون حاد ضمها محمد حتى كاد يحطم ضلوعها، ورفعها ودار بها هي والبلاص فرحا، أكبر وأعظم وأروع فرحة مرت بحياته. •••
وعلى السطح، سطح كبيت الشيخ صديق نفسه، كمعظم البيوت، كله فتحات ومساقط وصوامع وقش أرز وحطب وغرابيل قديمة وأسلحة محاريث صدئة وسحالي. على هذا السطح، كان الميعاد، وبرغم خوفها الشديد ورعبها، ورغم سبها لنفسها وتفكيرها ألف مرة في الإحجام، إلا أن أم جاد وضعت لمحمد سلمها الناقص بضع سلالم المصلوب بحبل، وجلست تنتظر، وألف هاتف يطالبونها بالقيام وسلاسل من حديد تربطها إلى المكان، قوة قاهرة كالزمن والأقدار تجعلها تصم آذانها وعيونها عن كل شيء وهاتف، وتمضي تضع السلم أو تحبك الطرحة البيضاء وتدلك وجهها بقطرات اقترضتها من ماء الورد وتفعل هذا كالمنومة، كالمسوقة إلى قدر محتوم.
والغريب أن محمد لم يستعمل السلم أبدا في صعوده إلى السطح، فالسطح لم يكن عاليا، وبقفزة واحدة كقفزة جن كان قد صعد الحائط الواطي، ولم ير جيدا، فهو لا يجيد الرؤية بالليل، ولا حتى بالنهار، وعيونه لا ترى إلا إذا دعكها، وإذا دعكها احمرت، وإذا احمرت رأى الصومعة صومعتين، وفي الحقيقة لم تكونا صومعتين، إحداهما فقط كانت كذلك، والأخرى كانت أم جاد، وقد رأته ورأت حيرته، ولكنها قبعت في مكانها ساكنة لا تتحرك ولا تفتح فما، وبدلا من أن يبدأ محمد بحثه عنها قبع هو الآخر بجوار الصومعة من ناحيتها الثانية ولو ترك العنان لنفسه لدخلها واختبأ فيها ، فقد كان خائفا جدا، خائفا من الشيخ صديق أن يعود فجأة، ومن الله أن يغضب، ومن الجيران أن تحس أو تعرف، ولكنه رغم ذلك الخوف كان الدق الذي في قلبه دق فرح، فرح غامر دافق، حينما زهق من معرفة سببه قال لنفسه لا بد أنه الحب الذي يتكلمون عنه، فهو لأول مرة في حياته يواعد امرأة في بيتها وتواعده لا عن طمع أو من أجل بضعة كيزان أذرة تشويها، ولكن من أجله هو فقط ومن أجل سواد عيونه، رغم أن سوادها أبيض بما فوقهما من سحابات تمنع الرؤية، وحتى لو كان أعمى كلية وكانت أم جاد مشلولة تماما لالتقيا في تلك الليلة، فكل ما فيه كان مرهفا إلى كل ما فيها مشدودا إليه بقوة لا يمكن أن يوقفها ظلام أو تحول بينه وبينها صوامع أو حطب.
وكان لقاء، هو بنفس الفانلة واللباس وبوجه خشن حافل بالبقع والثقوب، وهي بجسدها القصير الأصفر صفرة لا سبب لها ولا تفسير وبابتسامتها المتدلية إلى ناحية، تدليا لم يلحظه محمد ولم يره فقد كان مشغولا عنه تماما، عقله مع الخوف من عودة الشيخ صديق والله والجيران وجسده مشغول تماما بجسدها، وكلاهما واقف، وكلاهما يرتعش، والدنيا مظلمة ظلاما ليس فيه بارقة أمل.
ومن بعيد جدا، وكأنما من بين النجوم جاءهما صوت الشيخ صديق، وقد بدأ يمسك بحلقة الذكر ويلعلع، وعلى وقع لعلعته المتقطعة التي لا يمكن التمييز بين كلماتها كانت أجساد الذاكرين تتمايل، وتتهدج الأصوات الخارجة من صدور تخفق بالخوف والأمل، بالمعصية والحاجة، بالإرادة والاستحالة، بالصبر الشديد وطول ضيق البال.
وتقريبا، وعلى نفس الوقع بدأ سقف البيت المعرش بأشجار وسدد، يهتز، ويخفق، خفقات، كنبض القلب، كلهث المحموم، بلا معنى وبلا هدف إلا أن تظل تخفق، وتظل الأفرع تزيق وعيدان الحطب وقش الأرز توشوش وتتغامز وتسري بينها الإشاعات الصوتية والهمسات الآثمة، صوت الشيخ صديق المنغم نفس نغمة صوت محمد وتمايل الأجساد وتمايل الأعواد، تهدج أصوات الذاكرين وتهدج أصوات الملتقين، نغمة واحدة، تكاد تشمل الكون كله وعلى وقعها خفق وعلى وقعها مستمر يخفق، أما السحالي فقد توقفت ذلك التوقف الغريب الذي يحدث لها أحيانا، توقف تام وكأنما ترد به على الحركة الكونية الهائلة من حولها وتشاهده وتشهد، إذا لزم الأمر، عليه، لم تتحرك إلا هناك، حين بدأت أصوات الذاكرين تضطرب وبدأ بعضها يرطن بالسريانية، ويصل، ويغيب عن الوجود، والحركة أيضا تغيب عن السقف، وتموت الهمسات والإشاعات في مهدها على أطراف عيدان الحطب. •••
وفقط كانت تلك هي المرة الأولى، ولم تكن أبدا الأخيرة، فقد عرف محمد الطريق إلى بيت الشيخ صديق، وبالذات إلى سطح البيت وكان مستحيلا أن يكف عن التردد عليه، كان كلما سمع الشيخ صديق يؤذن أو يحيي مولدا أو ليلة يترك ما في يده ويتجه إلى البيت وبقفزة واحدة كان يصبح على سطحه، ودائما وهذا هو الأغرب كان يجد الشيخة صابحة هناك بنفس طرحتها البيضاء وكأنها وصوت زوجها على ميعاد.
وفي تلك الأيام بالذات كان الشيخ صديق في أسعد حالاته، فقد كفت زوجته تماما عن مناقشته الحساب وتذكيره بالفأس والأرض، واكتفت بإلقاء نصائحها لابنها جاد الذي بدأ هو يخرج الفأس من مكمنها ويسرح بها للغيط، بل الأكثر من هذا أنه بدأ يلاحظ أن زوجته قد أصبحت شيخة بحق وحقيق كما يناديها الناس، ففي صلاتها إخلاص حقيقي، وفي دعواتها إلى الله أن يغفر لها ما تقدم من ذنوبها وما تأخر تبتهل بصوت خارج من أعماق نفسها، ولم تعد أبدا في حاجة إلى أن يذكرها بالنوافل أو توزيع الحسنات.
وهكذا ترك لنفسه العنان وارتفع آخر حاجز كان يحول بينه وبين التفرغ كلية للتبتل والوصول، واستبدل السبحة المائة التي كان يسبح بها بسبحة ذات ألف حبة، وعدية يس كان يقرؤها كل ليلة، وفي كل مساء أيضا لا بد من ذكر، وكلما تطور الشيخ صديق في وصوله وانغماسه واندماجه وتفرغه كان محمد هو الآخر يتطور ويتهور، حتى أنه كان يذهب إلى سطح البيت مرتين في الليلة أحيانا أو حتى في النهار، بل تطور الأمر بمحمد إلى الحد الذي جاء عليه وقت أصبح مجرد سماعه لصوت الشيخ صديق وهو يؤذن أو وهو يضرع مستغيثا في مولد يجعله يحس بذلك الشيء في جسده يدق وينتشر الدم الفائر يعمي عينيه.
ولكن التعود، كالزمن، يقتل الأشياء، وبالتعود لم يعد محمد شديد الحماس لترك ما في يده كلما سمع صوت الشيخ مناجيا أو مستغيثا بعيدا عن الدار ويقفز إلى سطح أم جاد، بل ربما نوبات قلة الحماس تلك التي أصبحت كثيرا ما تنتابه، هي التي بدأت تحل عقدة لسانه وجعلته مستعدا لفتح قلبه ومكنون سره، ربما سره الأوحد، لأصدقائه، ثم لمعارفه، ثم بناء على طلب السامعين حين أصبحت القصة كلها، كمصير أي سر، معروفة مشهورة، لا تضر أحدا أو تجرح أحدا، مثلها مثل أي كلام، كل الفرق أن محمد في نهاية حكايته كان صوته يتهدج ويمتلئ بالتأثر إلى حد يوشك أن يستحيل معه إلى بكاء وهو يتساءل: ترى هل حقيقة سيدخل النار جزاء ما فعل؟ •••
ومن ناحيتنا كثيرا ما تداولنا نحن الصغار القصة، وكنا حين نأتي إلى النقطة التي تهم الصغار كثيرا، نقطة الجنة والنار ومن سيدخل ماذا، كنا نؤكد لبعضنا البعض ونجمع بكلمات عالية باترة أن اللذين سيدخلان النار حتما هما محمد وأم جاد، ولكن ربما هذا الإجماع الغريب هو الذي كان يجعلني أفكر في الأمر بيني وبين نفسي أكثر، وأكاد أضحك على هاتف ساخر عربيد كالبلياتشو ينتصب أمامي فجأة ويؤكد لي ويقسم أن الشيخ صديق هو داخل النار حتما، ومن أوسع الأبواب.
العصفور والسلك1
اختار أعلى بقعة وحط، كانت سلكا، مكانا بين عمودين من سلك تليفون، مخالبه تشبثت برفق، هبت الريح وصفر السلك، تمايل، تشبث أكثر، هو لا يكف عن الحركة، والحركة عنده مفاجئة، فجأة تأتي، فجأة تحدث، فجأة تبلغ أقصى المدى، فجأة شقشق، فجأة تلفت، فجأة رفرف، فجأة صوصو، انتشى فجأة، طار، حام، حوم، حط، تشبث، تلفت، على مقربة لمح الأليفة، رفرف، رفرفت، اقترب، اقتربت، صوصو، شقشقت، حك المنقار بالمنقار، حكت، أمال رأسه، أرقدت رأسها فوق رأسه، انتشى، نط، بالقفزة أحب بالقفزة هبط، بالنشوة تبرز، بصقة براز أبيض لونت السلك.
السلك صدئ، قديم، غير سميك، يحمل في هذه اللحظة بالذات، وفي نفس الوقت، سبع مكالمات معا ، لا شيء في الظاهر يحدث، في الداخل تدور عوالم وأكوان، سلامات، احتجاجات، تحيات، صفقات، وداعات، استغاثات، أرض تباع، بلاد تباع، أصوات غلاظ، صوصوات رقيقات، تختلط الكلمات، تتمازج، تتوحد، كلها في النهاية تصير، ماديا، إلكترونات، شحنات متجانسات، متشابهات، كلمة الحب لها نفس شحنة البغض، كهارب الصدق هي كهارب الكذب، الصراحة كالنفاق، اللوعة كاللعنة، الليل كالصبح كالنهار، الحرام كالحلال، النضال كالخيانة كالكفاح، البطولات كالنذالات، كلمات، شحنات، إلكترونات متحفزات متحركات، في ومضة بحركتها تتغير مصائر، تجهز مشاريع، تنتهي ونبدأ حيوات واتجاهات، ومضات وتتم موافقات، وتبرم صفقات، وتدبر مؤامرات، بالكلمات، بنفس الكلمات الطيبات.
والسلك قديم، صدئ، صامت، داكن، لا ينم مظهره عن شيء مما في داخله يعتمل ويدور، ولا يبدو منه أو عليه أقل تغيير، مستمر في وجوده الظاهر الطويل الممتد.
والعصفور متشبث بالسلك، بمخالبه البريئة يمسك بهذا كله ويحتويه، في ملكوته الخاص يحيا، لا يدري حتى بأن السلك سلك، بله بأن ما يسري فيه يسري فيه، إن هو إلا مكان عال للوقوف، وقوف كلما فرغ صبره منه، فجأة يتقافز، يرفرف، يشقشق، يطير، يحوم، بالقفزة يزاول مع وليفته الحب، وبنفس القفزة يهبط، وبالنشوة يصوصو، وبالنشوة خالي البال، يتبرز، بصقة براز صغيرة بيضاء، على السلك، نفس السلك، كالزمن، كالصدأ تتراكم.
الرحلة1
أنت وأنا ومن بعدنا الطوفان، لا تخف، سنرحل حالا، سنرحل إلى بعيد بعيد، إلى حيث لا ينالك أو ينالني أحد، إلى حيث نكون أحرارا تماما، نحيا بمطلق قوتنا وإرادتنا وبلا خوف، لا تخف، لقد اتخذت الاحتياطات كلها، لا تخف، كل شيء سيتم على ما يرام، أعرف أنك تفضل اللون الكحلي، ها هو البنطلون إذن، ها هي السترة، بالتأكيد ربطة العنق المحمرة، فأنا أعرف طبعك، لست بالغ الأناقة نعم ولكنك ترتدي دائما ما يجب، ما يليق، سأساعدك في تصفيف شعرك، أنت لا تعرف أني أحب شعرك، خفيف هو متناثر وكأنما صنع خصيصا ليخفي صلعتك، ولكنه أبيض كله سهل التمشيط، بيدي سأمشطه، بعدها وبالفرشاة نفسها أسوي شاربك، حتى هذا النوع من الشواب أحبه، هكذا رأيتك مئات المرات تفعل، وهكذا أحببت كل ما تفعل، كل ما أصبح لك عادة، حتى كل ما يصدر كنزوة، أتعرف أني فرحان فرحة لا حد لها، فرحة الإقدام على أمر لن يعرفه سوانا، لست مريضا هذه المرة وأستصحبك كالعادة إلى طبيب، ولسنا في طريقنا لزيارة أقارب مملين، فليظل الأمر إذن سرا بيني وبينك.
باب المصعد يغلق، من أسفل يسحب، لا بد أن أحدا في القاع ينتظر، لا يهمك أرح جسدك، اتكئ علي ولا يهمك، ما أكثر ما اتكأت أنا عليك، ما أكثر ما حملتني وأنا صاح ومدعي النوم فقط كي تحملني، كي أحس أني على كتفك أنت أستقر وأن ذراعك هي التي تحوطني وأني أشعر بالأمان، أحلى وأعذب وأمتع أمان، اتكئ ولا تخف، ولينظر لنا الداخلون إلى المصعد بريبة، وليظنوا بك أو بي الظنون، إنها أول مرة نراهم فيها وآخر مرة، البواب سهل أمره، بيدي وبالنصف ريال يا عم عبد الله افتح العربة، ها هو يجري ويسبقنا، ها هو يساعدني في إراحتك على المقعد، الآن استرح واجلس، ضع ساقا فوق ساق كما يريحك دائما أن تفعل، اشك من ضيق عربتي الصغيرة ومن طول ساقيك، فلكم أحب دائما أن أبتسم لك وأسمع، المارش والفتيس والأول، العربة تنطلق، الثاني، غادرنا الشارع، الثالث نلف حول الميدان، وحدنا أنت وأنا والعربة تستقيم وتنطلق، لقد نجحنا، بضربة حظ جبارة نجحنا، والعربة ها هي بنا أخيرا، ووحدنا، تنطلق.
تعرف أنها ليست المرة الأولى التي أجلسك في عربتي وأسوق أنا، ليست الأولى التي ننفرد فيها معا، ولكنك لا تعرف أني هذه المرة أحس بحق أني لأول مرة ربما أكون معك، بكل كياني معك، ولك، بكل كيانك لي ومعي، الآن لا شريك لك في ولا شريك لي فيك، أنت لي تماما كما أنا لك، والأجمل أننا، تصور، سنظل هكذا إلى الأبد.
الشوارع مزدحمة، الناس محيط، العربة جزيرتنا، العيون تنصب، كزواحف ديناصورية رهيبة تقتحم الجزيرة، تملؤها، تغرقنا، تلتهمنا، يا سيدة، يا عانس، انظري أمامك، ألم تري أبدا شابا يسوق وبجواره رجل يرتدي بدلة كحلية ورباط عنق محمرا، أأعجوبة هي؟! أظاهرة؟!
يا خسارة، الإشارة أغلقت، النور احمر، الحمرة طالت، امتدت، أصبحت زمنا، الزمن يحمر ويتوهج، الزمن يحترق، أشم رائحته، رائحة جلد آدمي يحترق، جلدي أنا، الأصفر يومض، الحريق يلتئم، الأخضر، السهم المنطلق الأخضر، النور المخضر يمتد، يصبح مساحات، زرعا ونباتا وأشجارا، النور يحيا، يتجسد، يزهر، الأصفر، اللاأحمر، الأصفر قمح، القمح يتماوج، الموج يعلو، قمم الأشجار تتمايل، رأسك أيضا يتمايل، أنت موافق إذن، أنا سعيد، أحسب أنك تهورت الآن مثلي أو أنا تعقلت مثلك، صغرت أنت أم كبرت أنا لا أعرف، ما أعرفه أن كل ما أردته فيك وأردت أن أكونه، ها أنا ذا الآن فيه، كل ما كرهته لم أعد أكرهه، كل ما كان لا يعجبك في قد أصبح، بمعجزة، يعجبك، تريد أن أكون أنت، وأريد أن تكون أنا، تطابقنا، وها نحن نطير، وبالعربة وبك أطير، ألامس الأرض وأطير، أتلوى جذلا وأسوق، أنت لا تعرف كيف تسوق، أنت من جيل القطار، القطار الذي لا خيار فيه، لا تختار إلا عبوديتك، أنا من جيل العربة، الحرية عربة، الرأي عربة، وحدك تحدد متى وأين، وحدك تعدل، تمضي، تلف، تدور، النهاية في يدك لحظة تريد. - قف.
لا بد أن نقف، نحن في طريقنا إلى خارج المدينة، وهنا تفتيش، نعم يا سيدي، البطاقات، هذه بطاقتي، وهذه رخصة قيادتي، من هذا؟ أين بطاقته؟ أنا بطاقته، ألا ترى أنفي من أنفه، حواجبي لها استدارة حواجبه، عرقي حتى له طعم عرقه، شكرا يا سيدي العسكري، شكرا، جميل شاربك والله العظيم جميل.
لننطلق، وقد أصبحت بطاقتك، أحبك وأنا مسئول عنك، نفس حبي لك وأنت في طريقك إلى النوم، وأنت في طريقك إلى اليقظة، وأنت تجاهد لترفع صوتك المغلوش بآثار النوم وتطلب الشاي، أحبك عائدا من العمل، متعبا، نخلع عنك الحذاء والجورب، ونضمخ أنوفنا الصغيرة برائحة أقدامك ، ونفصل أصابعك الملتصقة تعبا ووقوفا عن بعضها البعض، وأتولى أنا توزيعها على إخوتي وأختص نفسي بالأصبع الأكبر.
ولكن ألذ من الذكرى الحاضر، وألذ من الحاضر أننا كالسهم ننطلق، طبعا أنت لا تريد أن تعرف إلى أين، متعتك الكبرى مثل متعتي أن تفاجأ، أنك لا تعرف، المعرفة قيد، طبعا في رأيك المعرفة قيد، المعرفة وصول، وأنت وأنا لا نريد أن نصل، أنا شخصيا باستمرار أريد أن أبدأ، حتى نهايتي، أريدها بداية، فأنا لا أحب النهاية، النهاية سخف وضيق أفق، ما أروع أن نبدأ دائما، وأن نبدأ بأن نبدأ، وأن تكون البداية بداية لبداية أجد وأمتع.
رجل بوليس آخر يقترب، كشك، أنا لا أخاف شيئا ما دمت معي، أنت الوحيد في الدنيا الذي كنت أخافه، كنت دائما هناك في بيتنا، تربطني، تشدني، أنى أذهب، ألف وأعود وكان لي في بيتنا جذر، الآن جذري معي. أنا النبات الذي تحرر وانطلق، رجل البوليس يشير، بيده كالسيمافور الأبيض والأسود تشير، لم أضق قبلا برجال البوليس مثل ما أضيق بهم الآن، لماذا هم كثيرون؟ لماذا دائما يقطعون الطريق، أفندم، الرقم والرخصة والبطاقة، أفندم؟! لماذا تمد أنفك في العربة وتتشمم؟ وتبلغ بك الجرأة أن تسأل؟ لا يا سيدي، لا أشم رائحة، لا رائحة هناك، أين هي الرائحة؟
وداعا يا سيدي يا ذا الأنف الطويل وداعا.
بالطبع هو لا يفهم، كيف يسمي رائحتك رائحة؟ هو لا يعرفها، لا يدرك انتماءها إليه مثلما أدرك وأحس أنا، تطابقنا تماما أيها العزيز حتى أصبحت رائحتك نفسها هي رائحتي.
الآن أنا في حاجة إلى سيجارة، ألا تلاحظ أننا لا نختلف وأنك لأول مرة توافق أن أدخن أمامك، لماذا كنا نختلف؟ لماذا كنت تصر وتلح أن أتنازل عن رأيي وأقبل رأيك، لماذا كنت دائما أتمرد؟ لماذا كرهتك في أحيان؟ لماذا تمنيت في لحظات أن تموت لأتحرر؟ مستحيل أن أكون نفس شخصي الآن الذي يدرك أنه حر الحرية الكاملة بوجودك معه، إلى جواره، موافقا على كل ما يفعل. •••
املأ يا فتى خزان البنزين إلى آخره، وضع زيتا أيضا، وافحص الإطارات، أجل، نحن على سفر، سفر طويل لو علمت كم يطول، هذه هي النقود، خذ، رائحة؟! رائحة البنزين على ما أعتقد؟ ماذا تقول؟ ميت؟! فلتمت أنت، أخل الطريق يا وغد، ولا أراني الله وجهك.
تصور السافل يظن أن معنا ميتا في حين ليس معي سواك، أمؤامرة هي بين رجل البوليس وعامل البنزين، مؤامرة طولها مائة كيلومتر؟ •••
لقد خدعناكم جميعا، أليس كذلك؟! ما أجمل أحيانا أن ينخدع بكلامنا الآخرون؟!
هذه المدينة فقدت العقل، أنى نذهب يفتح الناس أفواههم خلفنا دهشة، ويمدون عيونهم إلى آخر المدى يبصرون، قبل أن نصلهم أنوفهم تستنشق الهواء البعيد وتتشمم، بعد أن نغادرهم يسرعون خلفنا يصرخون: الجثة، تصور؟! يريدونك أنت الحي جثة يدفنونها، مستحيل، يقتلونني قبل أن يأخذوك، ففي أخذك موتي، في اختفائك نهايتي، وأنا أكره النهاية كما تعلم، أكرهها، أكرهها. •••
المدينة التالية هجرها سكانها قبل أن نصل، لا بد أن الرائحة كما يزعمون وصلتهم قبل أن نصل، جميل هذا جميل، يكفي أن تكون معي ليكون العالم كله معي، يكفي هذا وليهجر المدن سكانها، ولتحترق القرى والنجوع، يكفي أنك معي، أنت أنا، أنت تاريخي وأنا مجرد حاضرك، والمستقبل كله لنا، مستحيل أن أدعهم يأخذونك، يميتونك، يقتلونك. •••
يبدو أن هناك خطأ ما، فأنا في الحقيقة بدأت أشم الرائحة، لا، ليست رائحة حذائك وجوربك فلقد خلعتهما وألقيت بهما من النافذة، أنها أقوى من رائحة الربيع والزهر ومساء الصيف، أقوى منك، ومني، ربما أقوى من أي كائن حي.
عفوك، ولكني لم أعد أستطيع، الرائحة تخترق خياشيمي، وتتلوى مع تلافيف أنفي وعقلي وتكتم أنفاسي، والمرعب أنك أيها العزيز الغالي مصدرها، الناس من حولنا يهربون، كل الكائنات الحية، حتى الذباب، تهرب، من حولنا تهرب، أنا نفسي لم أعد أستطيع. •••
لا بد - حتى لو كنت أكرهها، وتكرهها أنت - من النهاية، ولا بد من أن أختارها أنا، صحيح لا قلب لي، لا عقل، لا إرادة، ولكن الرائحة أبشع من الموت، أموت ولا أشمها، وإذا شممتها أموت، أنفاسي تختنق، الروح بلغت الحلقوم، لم يعد هناك مناص، إما حياتي أو موتك، لم يعد هناك مناص، لا بد أن تنتهي أنت لأبدأ أنا. •••
ولقد تركتك، عامدا في الطريق تركتك، في العربة نفسها تركتك وتركتها لك قبرا ولحدا، وها أنا ذا أكملها وحدي، وعلى قدمي أسير، حزين للفراق تماما، ولكن، وهذا هو المؤلم، سعيد بالخلاص منك، سعيد أني تركتك وتركت العربة لك، سعيد أني حتى على أقدامي أسير، وأستنشق الهواء، الهواء النقي الذي ليس فيه أبدا تلك الرائحة الملعونة الغالية، رائحتك.
حلاوة الروح1
في لحظة واحدة كثر الماء، أصبح أكثر وأكثر، الشاطئ قريب، أمتار، الشماسي ملونة مبعثرة، منارات مبعثرة تحتها الأجساد مرصوصة بلا نظام، أنا في طريقي إلى الشاطئ بعد حمام منعش، الشاطئ والاسترخاء والأمان، السيجارة بعد الحمام، الأحلام، الماء يكثر أكثر، فلآخذ إلى الشاطئ الطريق الأقصر، ولكن الماء يظل يكثر، صدري يختفي رويدا رويدا ورئتاي بدأتا تحسان بضغط الماء، التيار السفلي أشعر به الآن أوضح، الماء الجاري بخبث تحت الماء، الماء بريء الهدوء من فوق والتيار يجذب من أسفل، اللعبة مسلية أنا أجذب والتيار يجذب، وأنا مطمئن فأنا قاب قوسين من الشاطئ والمنطقة بالتأكيد ضحلة، يجذب، وأجذب، يسحب، فأشد، يشد، فأسحب، أقدامي تتعثر، التيار يقاوم وإلى الخلف يجذب، أقاوم، وأتقدم، كل شيء هادئ على سطح الماء، والجذب لا يرى فالمعركة اللعبة تدور من أسفل، قبلت اللعبة يا بحر، اجذب من أسفل وسأبقي صامدا من أعلى، «شنكل» فأنت تعبث وسوف أرد عبثك بعبث، عبثا بعبث يا بحر أعبث، العب، الدنيا أمان والشاطئ قريب، العب، أنت تغالي في اللعبة يا بحر فماؤك يكثر ويضغط وصدري رغم استماتتي يغوص أكثر وأكثر والماء يقوى على الدوام أكثر، حذار أن تقلبها جدا فأنا أعبث، أو أقلبها إن كنت قادرا فأنا أقدر، وحتما سأقدر، لا تغرقني يا بحر أرجوك فأنا الغريق وما عاد يخيفني بللك، الدنيا غريقة يا بحر فهل أنت أغرق، أنا الأعرف، أنا الإنسان يا بحر، أنا البحر الأكبر، أنا بحرك.
التيار يجذب، الماء يكثر، اللعبة تسخن، الموج يقبل، يهدر، يعلو، يكتسح، ثم يرق ويتبدد، أنا أتأرجح، هات أمواجك نفسها يا بحر واجذب، وادفع، هاتها وادفع، فشاطئي ها هنا قريب وأنا أشطر ، ادو يا بحر وغن، أرغ وأزبد، العب لعبتك العجوز اليتيمة وقلص مياهك وتمدد، انتشر وتجمع، ارض واغصب تقدم حتى تتقهقر، والآن، كفى، اتركني، فأنا أريد الشاطئ، أريد أن أرجع.
ولكن الماء لا يريد، ضغطه يتزايد ويشتد، السحب من أسفل يتعاظم حتى يشل خطوي، الماء الشفاف الواهن المتناهي الضعف، الماء الذي استأنسناه طويلا وغليناه وشربناه وبصقناه ومن فرط ألفتنا له نسيناه، الآن وهو ملايين ملايين من البصقات والقصبات والأكواب ها هو يحاول أن يرينا عينه الحمراء، على الصدر يضغط، بقوة يسحب، الماء وصل رقبتي، لم أعد أتقدم تجاه الشاطئ خطوة، بل هو التراجع بدأ والجذب السفلي يشتد ويقوى، اللعبة سخفت قليلا، العبث طال عليه صبري.
فلتتوقف اللعبة.
واستدعيت إلى الوجود قوتي الأقوى.
بدأت تغوص رقبتي.
واستدعيت القوة الأكبر.
الشماسي صغرت.
فلأستدع القوة الأعظم.
الشاطئ أصبح مجرد خط.
إني أشم رائحة الغدر.
أفينا الخيانة يا بحر؟ أتغدر؟
أرجوك، ليس منك، أنت بطلي العنيف العربيد الرقيق الشاعر الصاخب الأحمق الأهوج المغتر المقطر عذوبة الجالس على عرش الجلال، وليس لي، فليس في نفسي موضع لغدر جديد، أنا معك ها هنا وحدي، نحن وحيدان معا، أنت بلا نهائيتك وأنا بمحدوديتي، لا تخن لا تغدر. •••
رفعت ذراعي.
الرابعة تماما.
تشاءمت.
من النادر أن ترى ساعتك فجأة، فتجد أنها تماما حتى لو كانت الرابعة.
وصل الماء ذقني.
أنا في بئر مائي لا شك.
الشاطئ يبتعد أفقيا ورأسيا، إلى أعلى وإلى أبعد، لم يعد ثمة بحر.
ماء، فقط ماء، كم هائل الحجم والضخامة من الماء الذي لا شاطئ له ولا حافة ولا حد، النمل حين يصنع بمجموعه جبالا هائلات من النمل، الصرخة الواحدة حين ترددها مئات آلاف الملايين من الحناجر فيهتز الكون.
التيار السفلي نما حتى وصل السطح ولم يعد للماء من فوق براءة.
كشر عن أنيابه تماما.
الجذب، تاما وكاملا.
إذا قاومته غصت أكثر.
إذا سكت ابتلعني أسرع.
الشاطئ أصبح أبعد من السماء، مجرد سراب سماوي غير كائن، وبكف في حجم الصخرة لطمت رأسي موجة، رأسي البارز في حجم عقلة أصبع، وعلى أثرها لطمة.
ثم دفعة.
ثم جذب لا يقاوم.
وانسحقت.
الماء طغى وتجبر، الماء أصبح له صوت، الماء رعد، الرعد أصم، الرعد أخرس، أعمى.
هذا ماء غريب من كون آخر، بحر لا أعرفه أبدا.
هذا عدو.
دوامة العدو تبدأ.
الدوامة كفم حوت فاغر الفم، أنا في قلبها حشرة.
الدوامة تدور.
كل الدوائر إلى أعلى، دائرتها إلى أسفل، أعلاك يا بحر أسفل، قمتك قاعك، أنا في الطريق إذن لقاعك القمة.
يا لئيم.
لقد غدرت وانتهى الأمر. •••
البرق يخيفنا وهو في سماه بعيد، وبيننا وبينه ما بين الأرض والسماء، القيامة تروعنا حتى في الأساطير.
أنا في قلب الظاهرة الكونية نفسها، البحر استحال إلى تمرد كوني، تمرد موجه لي وحدي، أنا وحدي أواجه يوم القيامة. •••
ولكني لم أفقد الأمل، بعد.
أنا وحيد، ولكني أقوى، أعتى، أستطيع أنا الآخر أن أتجبر، جسدي هذا فيه ماردي أنا، فيه القوة الأقوى، فيه مدخر الحياة كلها من الطاقة.
والحياة أقوى.
إن الحياة لأقوى. •••
المستحمون حولي كثيرون، حتى وأنا مخضوض ألمحهم، أقربهم إلي سيدة، ترمق بإعجاب ما تخيلته من جرأتي على خوض المياه الأعمق. •••
صخرة مائية أخرى تنهار فوق رأسي، أغوص أكثر، الماء فوق أنفي، صخرة أخرى تنهار، الجبل كله بدا ينهار، العالم المائي حولي كله ينهار ويتفجر، والمرعب في براكينه وانفجاراته وجباله أنها مائية، مائية لكنها أعتى من الصخر، الصخر أرحم.
إني أغطس.
أغوص وأغطس.
رأسي أصبح تحت الماء.
بجنوني كله أقاوم لأعلو كي أتنفس.
يصعد رأسي ليواجه بجبل موجي قادم.
أريد أن أتنفس.
أتنفس.
ماء، ماء أتنفس، أحس بطعمه القابض يملأ جوفي وينفخ بطني، الجذب يشتد إلى أعمق وأعمق، إلى أعمق وأعمق وأعمق.
أنا حقيقة أغرق.
ضربت الماء بأقوى ذراعين كانتا لي، بأقوى ساقين وفخذين حشدت القوة كلها.
طفوت.
السيدة القريبة ترمقني بإعجاب، ابتسامتها بلهاء، يا سيدتي إني أغرق، إني أموت وأغرق، إن كل ما في يستنجد بأي شيء فيك، امددي يدك وسأمدد يدي وفي لقاء اليدين نجاتي، إني أغرق، إني فقط خجل أن أصرخ، سأموت شهيد خجلي يا سيدتي فامددي يدك لأنجو.
مستحيل، بإرادتي أنا لا بد أن أنجو.
غصت.
حين حاولت أن أطفو وجدت الغابة، غابة امتلأت بوحوش مائية مصنوعة من ماء، الرعب منها يجمد القلب، وحوش تزأر، وحوش تنهش، وحوش خرافية هائلة الضخامة بأقدامها الأسطورية تطأ وتضغط، ضاق الخناق، جذبت نفسا عميقا لأتنفس، حتى وأنا أعلم أنه ماء جذبت نفسا لأتنفس، امتلأ رأسي بالهدير، اختفت الألوان والكتل والأحجام، صار كل شيء هلاما ضبابيا رماديا متغامقا مؤدي حتما إلى السواد الكامل، أنا مرعوب رعبا يحدث لي لأول مرة. رعب من نوع آخر، رعب لا يحدث في العمر إلا مرة، ولا يحدث إلا وفي أعقابه موت، عزرائيل هو ذلك الرعب.
طفوت.
من فرحتي لم أتنفس.
غصت.
من رعبي تنفست ماء، ماء أكثر، الوحش البحري يريد أن يحولني ماء، يهضمني، يتمثلني، يقتلني حيا، ويحييني ماء، بلورة ذاتي المركزة تتخفف، أنا أذوب في الماء، والماء يخترق مسامي ويذوب جسدي، بإجرام وإصرار سادر في تذويبي، إرادتي تتميع، تتراخى، طعم الحياة يتغير، يمسخ، حماسي لها يفتر ويصبح ما له طعم ماء البحر المالح. •••
تخدر الزمن وتوقف، سألت نفسي: لماذا التحدي؟ لماذا لا أستسلم وأموت؟
أليس الموت هو التجربة التي ندخرها لتكون آخر تجاربنا؟ لماذا لا تكون الآن؟
لقد عشت كثيرا ودهشت كثيرا، وأحببت كثيرا وضحكت قليلا وبكيت كثيرا وكثيرا، وما تبقى من حياتي لن يكون سوى تكرار ممل، وما لم أفعله قط أني لم أمت، فلماذا لا أموت؟
انطلق من جوفي الرعب الأعظم.
العقل توقف، طار شعاعا.
الإرادة غير الواعية قفزت، تفجرت، تعاظمت، أصبحت وحشا من داخلي غابة بدائية انطلقت، مليئة بوحوش، شديدة الفتك.
العناد البدائي ألغاني تماما.
وحدي أنتصر، بقوتي أعيش، سأعيش.
غصت.
معركة الوحوش مع الوحوش، الغابات مع الغابات، يوم قيامة البحر مع يوم قيامتي أنا، الإنسان مع القوة الغاشمة.
رغم إرادتي طفوت لثاني مرة.
السيدة قريبة لا تزال ولكني لن أستنجد، أبدا لن أصرخ، حتى ولو لم يبق على الموت إلا طفوة أخيرة واحدة.
غصت. •••
الماء الماء، الماء يمور ويدور وأدور به وفيه، لا شيء ثابت، القبضة تستميت على اللاشيء، الرمادي يزرق، والزرقة تغمق، ومن الأفق يطل الرهيب الأسود.
الفقاقيع حولي تتكاثر، غربان المأساة، ضباع الجثث الغرقى، جسدي تفتحت بواباته، الماء يدخل، الحياة تخرج، الطعم يتقارب، اللون يتماثل، المعالم أفقدها، أتكور، قطرة ماء كبيرة أصبح، ماء ملون بالحياة، معلق في كون مائي، أرضي ماء، سمائي ماء، هوائي ماء، ماء ألمس، ماء أرى، ماء أسمع، حواسي كلها ماء، عيوني بالذات ماء، أستنجد بالإرادة، إرادتي ماء، أستغيث بالوعي، الوعي ماء، لا مستيقظ أنا ولا أنا نائم وأحلم، الزمن ماء كله أصبح.
ذبالة وعي أخير قبل الظلام التام، هذه آخر مرة إذن أعي فيها بالموت القادم. •••
حين كنت أغادر المياه بأسرع ما أستطيع والبحر ينحسر تماما حتى يسلمني إلى الرمال، لم أنتبه إلا وقدماي بعد أول خطوة تتوقفان أمام الإحساس المروع الجديد، إنهما ثابتتان فوق أرض ثابتة، الإحساس الحبيب بالثبات، إنها الأرض من جديد، إنها الثبات الأم.
لا أذكر شيئا.
وكأن أول ما فعله العقل حين عاد أن محا الحادث تماما من الذاكرة.
ولكن رغم الضباب فهناك ثبات آخر أكاد أذكره.
إنه يبرق في الذاكرة الواهنة الملغاة. •••
ثبات بالقطع أحسته الأصابع، أصابعي، وهي تنقبض في تشنج قاتل أخير حول أصبعين طويلين نحيلين مترددين، أصبعي سيدة.
ثبات من نوع آخر، قبله أو بعده أو على أثره أو لم تحدث إطلاقا أصداء صرخة، صرخة أعرفها تماما، صرختي أنا وإن لم تصدر عني أبدا، بالتأكيد لم أصرخ، أم أكون رغم أعتى الإرادات صرخت؟ •••
وقفت إلى أبعد بعيد داخل الرمل لا أجسر أن أرمق البحر.
أوليه ظهري.
أبقايا رعب؟
أم هو الخجل؟
أني هزمت وحدي.
وأن نصري جاء باستماتة الأصابع على الأصابع. •••
نظرت في الساعة.
كانت الرابعة ودقيقة.
الخدعة1
لا بد لكل مرة من أول مرة، وأول مرة كانت ليلا، وهناك قمر ينشر سلاما فضيا، والنبع صاف يتدفق ماؤه على مهل، وبخرير حنون، ولا تملك حين ترى الماء وقد ذاب فيه القمر، ذوبانا طازجا يحدث أمامك، وفي الحال، إلا أن تظمأ، وتحاول أن تشرب، أو على الأكل تتذوق، وملت بجسدي كله، ومددت يدي وما كادت القطرات المتلألئة الباردة تصل إلى فمي، ما كدت أستمتع بلذة التذوق الأول، حتى رأيت، بجوار صورتي المهتزة اهتزاز درجات الأبيض والأسود فيها، واهتزاز القمر، صورة رأس آخر، رأس طويل ممتد إلى الأمام وكأنما امتدت يد جذبت ملامحه كلها بعنف إلى خارج وجهه، رأس طويل ينتهي بشق عرضي واسع سعة لا حد لها، وكأنما لا يكفي هذا فأيضا شق بالطول، رأس جمل لا بد، بلا صوت، بلا ضجة، بلا حركة، فجأة كان الرأس، لم أذعر ولا صرخت، فقط التفت، لا لشيء إلا لأتأكد، كان قد ذهب القمر واختفى النبع والخرير ولا فضة، كنت وحدي وأمامي غير بعيد عني ذلك الرأس يطل علي من فوق، لا أرى له جسدا وإنما فقط رقبة، غليظة، طويلة، مقوسة، حادة من أسفل كأنها مخرطة، رقبة تنتهي من أمام برأس، ذلك الرأس، ولا جسد، والأغرب أني لا أعجب، ولا أتساءل كيف يمكن لرقبة أن تنبع من لا جسد، فهمي كله كان ذلك الرأس المطل علي من أعلى، فهو حتى لم يكن يطل علي، وكأنه لا يراني أو لست هناك بالمرة، وخوفي كان أن يراني فجأة، فينقض، ويعض، ولكن، أبدا، لا غضب في عينيه، لا انفعال، لا شيء، إنما عينان كبيرتان مستقرتان على الأمام، ولا شيء أمام.
وكأنما ردا على تساؤلاتي وظنوني التي تنشأ وتدور بلا حماس، في ركن المنظر الأيمن، وفي برواز صغير مربع وكما يحدث في برامج التليفزيون وعلى شاشته، حدث بدأ يدور، غامضا كتمثيليات الكهنة في حجرات المعابد الخلفية كالتشخيص الصامت الذي يعيد به القسس العشاء الأخير وصلب المسيح رأيت ذلك الجمل مسحوبا، وساحبه صاحبه وعلى وقع متئد وكأنما كل خطوة حدث وتاريخ يمضيان، تم بلا مقدمات، بلا معركة، بلا فاعل أو طلقة أو سلاح، بلا شيء على الإطلاق يسقط الرجل ذو الجلباب الأبيض والعمامة، سقط الصاحب، سقط قتيلا فحول رأسه المطروح فوق الأرض ورغم ظلام المشهد كانت بركة دم، وأيضا لا انطلق الجمل هاربا، ولا جعجع، ولا ثار أو «ضرب بالقلة»، ظل واقفا وقد تدلى مقوده في الهواء ينظر، من عل، أيضا إلى أمام، نظرة مليئة بكل شيء إلى درجة اللاشيء، ثابتة مستمرة وكأنما كانت أبدا وستظل تكون.
ورغم تأكدي أني لا أحلم، وأن ما حدث رأيته، قلت: حلم يقظة، رؤيا، تخريف، أبدا لن تعود.
وفي الصباح، أي صباح، فلا زمن، كنت أستحم تحت الدش حولي ستارة تمنع تسرب الرذاذ، مستمتعا إلى أقصى حد بأني داخل الحمام الخالي، وداخل الستارة النيلونية المزركشة، مع نفسي تماما، وإذا بشيء يداعب الستارة النيلونية المزركشة، ثم يزيحها وتظهر الشفتان الضخمتان أو بالأحرى الثلاث شفاه، منفرجة ومفتوحة وكأنما تنوي ابتلاع كل شيء بينها تبدو الأسنان، كبيرة، مطبقة، محكمة وكأنما تخاف إذا فتحت أن تفلت شيئا، أي شيء.
ثم أصبح الرأس كله معي، داخل الستارة، تحت الدش، دهشت قليلا ولكني واصلت الاستحمام ورحت من خلال أسلاك الماء الرفيعة أتطلع مليا إلى العينين لعلي ألمح شيئا، لعلي أعرف لماذا أطل وماذا يريد، لعلي أدرك للحظة أنه يراني حتى، ولكن، أبدا، كان يطل، من عل وأيضا إلى أمام.
فتحت الجريدة أقرأها، ولم أدهش حين شعرت بحركة، ولا حين اهتزت السطور، ثم تباعدت، وبلا صوت تمزيق اخترق الرأس الجريدة وأصبحت لا أرى سوى شفاهه الثلاث، يشع منظرها، قريبة جدا من وجهي، فتحات أنفه الواسعة أراها، بكل شعرة داخلها والأسنان كبيرة منظمة منطبقة ليس بينها فرجة.
ركبت الأتوبيس، والازدحام واصل حد الاختناق ولا هم لكل منا إلا المحافظة على كيانه، وفجأة وجدت الرأس الصامت الصائم عن الحركة يطل، كان مشهده كفيلا بإثارة الذعر أو على الأقل التطلع، ولكن الغريب أن النادر من الركاب هو الذي انتبه، وحتى لم يطل انتباهه، إنما هي نظرة ألقاها كأنما تعود أن يلقيها ثم عاد إلى معركة المحافظة على ذاته، الأغلب الأعم لم يحفل حتى بمجرد الانتباه.
وفي المساء، داخل غرفة النوم المغلقة، ولا شيء هناك سوى الحب والرغبة، إذا بي أكتشف أن شيئا يتسلل بغلظة بيننا، بلا عنف، وبلا حياء وربما بلا وعي بما يدور، ولكنه أصبح في النهاية بيننا، ولم تحتمل هي، بكل عنف وغضب واستنكار أزاحته جانبا فانزاح، ولكنه، بتؤدة وبصبر وبإصرار عاد يتسلل بين صدرينا وبطريقة بدا معها أن لا فائدة من إزاحته.
ورغم أني لم أكن مندهشا، أو غاضبا بشدة، أو مستنكرا، إلا أن شعورا ما بدأت أحسه، شعورا لا أجد له وصفا فالقدماء ربما لم يعرفوه ولم يكتشفوا له اسما، لكنه أصبح موجودا وملحا، وهكذا أخبرت زملائي في المكتب وأصدقائي وواحد منهم فقط هو الذي أبى أن يصدق أما الباقون جميعا فقد ضحكوا وظلوا يشيرون حيالي ويضحكون وكأني، أخيرا، رويت نكتة قديمة، كان واضحا أنهم من زمن يعانون نفس الشعور، وأن رأس الجمل يظهر لهم في كل مكان وفي أي ساعة، ولكن السؤال، أهو نفس الرأس يظهر للجميع أم أن لكل منا رأس جمله الخاص؟ كما يقولون في الأساطير إن لكل منا أخته تحت الأرض أو فوقها أو ككتابه يوم القيامة الذي يعلق في عنقه؟
تشعبت المناقشات وامتدت، والغريب أن الجزء الأكبر منها كان في حضوره، وقد أطل علينا من الباب المؤدي لمكتب المدير، أطل بنفس طريقته، من فوق، أمامنا يحدق، صامت لا يتحرك، عيناه حافلتان بكل شيء إلى درجة اللاشيء، والمناقشات حامية صارخة أحيانا قد تئوب إلى هدوء، حين يتخذ أحدهم وضع العالم العارف، وبصوت خافت يتكلم ويحلل، بينما رأس الجمل يطل عليه من فوق، مناقشات كالزوابع الصغيرة أو الكبيرة لا تلبث أن تذوب في بحر ساكن تماما كأن سطحه من زجاج، بحر واسع لا حد له ولا شاطئ.
أنا شخصيا، رغم أنه يظهر لي في اليوم أكثر من مرة وفي آخر الأماكن توقعا أن أراه، أحيانا أكاد أشك في عقلي وفي حواسي وأرفض أن أصدق ما أرى، بل حتى ما يراه الآخرون معي، هناك خطأ ما لا بد، أثور وأرفض ما تشاء لي الثورة والرفض ولكنها نوبات، ليست سوى نوبات لا تلبث، بهدوء، أن تذوب، بنفس التؤدة التي يظهر بها رأس الجمل، كل ما يحدث أنه لدى كل نوبة، خاصة إذا أدت بي إلى غيظ أو انفعال تزداد بشدة مرات ظهوره، بحيث أراه كلما تلفت، أينما سرت، أينما ذهبت، من أمامي وورائي ويميني ويساري وأمامي، بل، وهذا هو المرعب أحيانا أراه داخلي أنا، موجودا بتحديقته الأمامية التي لا تطرف داخل ذاتي الخاصة تماما، وأسراري، بل أحيانا أراه في طفولتي يطل على أمي وهي تضعني أو ربما على أبي وهو يخلفني، أحيانا وأنا أرنو إلى المستقبل ومن خلال أكوام المشاريع والخطط، بأذنيه الصغيرتين الغريبتين تزيحان الأكوام جانبا ليظهر الرأس ويعلو ويبدأ يأخذ وضعه التقليدي.
ماذا أفعل؟
كلما سألت الناس قالوا افعل مثلما يفعل الناس، وأسأل ماذا يفعلون؟ فأجدهم لا يفعلون شيئا بالمرة، أحيانا يحاول البعض لمسها والتمليس عليها وهدهدتها، أحيانا يثور البعض ويغضب ويسبها، بعض آخر يركلها وينطحها ولكن رأس الجمل تبقى دائما كما هي، ويبقى الناس كما هم، تبدو لهم بطريقة يعجبون لها أول الأمر، ثم يتحدثون فيها، ثم يملون الحديث، ولا يعود ذلك الوجود الغريب لرأس الجمل ظاهرة قابلة للتوقف أو حتى النظر، بل تتحول على يد الناس، وهم في هذا عباقرة، إلى ظاهرة مفيدة، مرة في الاعتذار عن تأخير، في تبرير اشتداد الحرارة في الصيف، في التبشير بحلول النعمة إذا حلت أو العثور على علامة للنقمة.
ويتم هذا كله دون أن يثير دهشة أحد، أو استغرابه أو حتى يفكر لحظة ويتأمل، وربما لهذا فرأس الجمل لا يكف عن الظهور، ربما لو اندهشنا، فقط اندهشنا، كلنا اندهشنا كلما ظهر لما ظهر، ربما نحن مرضى، كلنا مرضى قد أصبنا يوما بمس في خيالنا ترك آثاره، على هيئة رأس جمل، أو ربما الإصابة قضت فينا على مراكز الدهشة والعجب أو ربما شيء آخر، ربما التطور، أجل التطور قد وصل بنا إلى مرحلة الإنسان الذي لا بد أن يظهر له رأس الجمل، بحيث تكون الكارثة لا أن يظهر ، وإنما أن نستيقظ ذات صباح فنجده لا يظهر، أي مصيبة ساعتئذ وأي ضياع، وماذا نفعل ونحن قد أصبحنا لا نحيا الحياة أو نزاولها لأننا نريدها وإنما لأنه يطل علينا كلما شرعنا في عمل الشيء أو مزاولة الانفعال، لولا إدراكنا أنه سيطل لما أقدمنا أبدا على شيء، ولولا إدراكي لوجوده ما كنت أبدا قد أقدمت على ما أقدم عليه الآن، فالآن، وبلا ذرة دهشة أو غرابة ودون أن أرفع رأسي متأكد أن رأس الجمل يطل علي، ذلك الرأس العالي الطويل وكأنما مطت ملامحه كثيرا إلى أمام والشفاه الثلاث الكبيرة إلى حد الورم، والأسنان المتراصة، سنة كبيرة بجوار سنة كبيرة، منطبقة تماما ولا فرجة بينها، إلى أمامه يتطلع ولا يتحرك، لا يغضب ولا يرضى، لا يحفز ولا يثبط، لا يفعل شيئا أبدا إلا أن يطل، مجرد يطل.
سنوبزم1
حكاية الدكتور عويس حكاية، الأغرب أنه لم يحكها ولا يحكيها، ولا تزال لا تحتل من اهتمامه أي مكان بالمرة، حكاية هايفة في رأيه، فالموضوع المهم هو اللائحة، واللائحة هي «جنونة» الدكتور عويس هذا الموسم، فهو له في كل موسم أو كل شهر أحيانا «جنونة».
صدفة رأيته يعبر ميدان التحرير بأقصى سرعة، كدت أضحك لمجرد أنه يجري، فهو ليس وقورا فقط ولكنه من النوع الذي يراعي الوقار حتى في غير حضرة الناس، وقار زائد مبالغ فيه، وجدية خطيرة تكسو ملامحه، حتى أني كلما رأيته تساءلت كيف يستطيع التخلص من هذا كله وهو مع زوجته في الفراش، أو الأدهى، كيف يتصرف معها بكل هذا الوقار.
لم يرني، أنا رأيته وصحت به، توقف، تلفت، تحرج، مسح العرق، أنا ذهلت، كان لأول مرة بلا نظارة، نظارته التاريخية التي لا يغيرها، بدا وجهه كالعورة حين يخلع عنها السروال، سلامات، وأنت فين؟ وكيف حالك ولا مؤاخذة؟ وعامل إيه؟ وأنا أتطلع وأكتم شيئا كبركان الضحك يدمدم في صدري، لا لملامحه بغير نظارة فقط وإنما لعينه اليسرى وقد أزيلت تماما ومعها جزء من الوجنة والحاجب، لم تزل وإنما ارتطمت بها كرة من «البلا » الأزرق سدت عينه ومحجرها واستقرت بارزة زرقاء ناتئة كفانوس عربة نقل مطلي باللون الأزرق، كدمة، كدمة لا بد سببتها «بونية» صوبت بمهارة ومن بطل ملاكمة محترف من الوزن الثقيل على الأقل، المسألة فيها علقة إذن، انفجر البركان وضحكت بأعلى وأبشع ما ضحكت في حياتي، كان لا يزال يتحدث ولا أسمع، سادر في الضحك أكاد أسقط فوق الرصيف، أخيرا لمحت فمه يغلق، ويتلفت ثم يواجهني بعينه السليمة مليئة بحيرة طفولية حقيقية ربما يتساءل بها عما يضحكني، أو ربما يحاول تشخيص حالة عقلية حادة أصابتني وجعلتني أضحك بلا سبب معقول، وفقدت السيطرة على نفسي وانثنيت واعتدلت أضحك وأضحك وأضحك، وربما تخلصا من حيرته لما اعتراني بدأ يشاركني في الضحك بطريقة واضحة الافتعال، ثم لما لاحظ أني كلما نظرت إلى وجهه الأيسر ضحكت فطن أخيرا فابتسم لشدة بلاهتي ربما وقال: آه، عشان دي يعني.
وأشاح بيده كمن يطرد ذبابة غير مهمة، وقال: يا أخي خلينا في المهم، عارف حصل إيه الأسبوع اللي فات، اكتشفت أن تلاتة على الأقل من أعضاء هيئة التدريس يدبرون مؤامرة صغيرة ضد مشروع اللائحة.
وبالقوة كتمت الضحك بيد، وأشرت متسائلا عن سبب تورم عينه وفقده نظارته بهذه الصورة، أشاح أيضا بلا اهتمام قائلا: أبدا، حادثة بسيطة من الأسبوع اللي فات. المهم أن المؤامرة ضد اللائحة هذه بدأت من عشرة أشهر، تصور، عشرة أشهر.
أخيرا نطقت أنا: الأسبوع اللي فات امتى وازاي؟ - بقول لك من عشرة أشهر، اللائحة. - أنا أقصد عينك. - لا دي حكاية بسيطة لا تذكر، حادثة كده، ناس أوباش، سنوبز.
المسألة إذن فيها علقة أخذها الدكتور عويس، وفكرة ضربه علقة ليست غريبة، كثيرا ما خطرت لزملائه في الجامعة أو لبعض تلاميذه أو لي حتى شخصيا، ترى من سبقنا جميعا ونفذها.
أستاذ، أي نعم أستاذ، رئيس قسم «الأنثروبولوجي»، على عيننا ورأسنا ، التفكير في الضرب سببه الإحساس المبالغ فيه بهذا كله، والمبالغ فيه كلمة متواضعة لا مبالغة فيها، البارانويا أو جنون العظمة ربما أصلح، الإحساس بأنه مبعوث العناية الإلهية ليس لإصلاح الكون الفاسد وإنما ليعين وبواسطة حق سماوي مطلق ومن جهة كونية عليا مصلحا للكون الفاسد، الحرية تؤمن بها صحيح ولكن ويلك إن استعملتها في مناقشة رأي له، الحرية هي حريته أن يقول الرأي وحريتك أن تقتنع به فإذا لم تفعل، إذا كان لك رأي آخر فأنت من الأوباش الذين يسميهم ال «سنوبز». - تصور عشرة أشهر وأنا أكافح من أجل اللائحة. - إذن هي السبب في الخناقة؟
ببراءة سألت وأنا أشير لعينه اليسرى البارزة كعين ضفدعة وحيدة العين.
أحسن لتساؤلي بنوع من التقزز، وفي عز الحر، وعلى رصيف مزدحم بالمارة يتخبطون بنا مضى يحكي لي في تدفق قصة كفاحه من أجل وضع لائحة تنظم سلوك الطلبة وهيئة التدريس في كليته، ربما تمهيدا لتطبيقها في الجامعة كلها، ثم بواسطة هيئة الأمم في العالم أجمع، ولساعة ونصف ظللت أستمع، لكي أنتهز فرصة يلتقط فيها نفسه، أو يحاول تذكر اسم، وأسرع بتوجيه سؤال صغير أستفهم به عن كنه «العلقة» التي نالها الدكتور عويس، وعن هذا المجهول الذي استطاع أن يقتحم الهالة العلمية التي يحيط بها نفسه، وحصانة الأنبياء التي يبدو بها وسط الناس، ويصل إلى عين ذاته المصونة تلك، ويبهدلها على هذا النحو.
وقصة اللائحة مسلية تماما، أنبتت في ذهني أكثر من فكرة مسرحية، فقد جسدها لي بنفس الأهمية والدقة التي جسد بها شكسبير مسرحيته المشهورة يوليوس قيصر، والمؤامرة التي حيكت ضده، وكل التيارات الخفية والظاهرة، وحتى بروتس كان هناك ولا تنس خطبة مارك أنطوني، وسذاجة الجماهير، والخنجر، والخنجر هنا كان آدميا، بل شخص العميد بذاته.
ولكن العلقة ظلت (ربما على رأيه لتفاهتي) هي محور اهتمامي، ومن الأسئلة المختلسة، والإجابات السريعة المشمئزة التي يلقيها لي كالفتات حتى أستطيع أن أواصل الاستماع لقصة اللائحة، من هذا كله أدركت ما حدث، ويا له من حدث.
الدكتور عويس لا يملك عربة، ومع أنه مساعد أستاذ ورئيس قسم إلا أن ماهيته لا تكفي كي يستعمل التاكسي في مشواره الطويل بين بيته وبين الجامعة، وفي أتوبيس 999 وقعت الواقعة.
من أسبوع مضى، كانت الكتلة البشرية المعتادة يمتلئ بها الأوتوبيس، وكان الدكتور عويس، ومحفظة أوراقه الرهيبة رافعا بها يده كالراية السوداء فقد كانت تحوي أهم الأشياء في حياته، محاضر وتقارير ومذكرات ومسودات موضوع اللائحة، كان بلا هيلمان، بلا قدسية، بلا نفخة صدر، قد تضاءل حتى احتل مكانا لا يكفي «للبشة» قصب تحوي عشرة عيدان وسط هذا الحشد من أجساد فقد كل منهما كيانه الخاص، وتداخلت انبعاجات أحدها في التواءات الآخر لتصنع خليطا من الأجساد البشرية المدكوكة بإحكام، كما يدك الشاري الطماع «الكيلة» بالقمح ليجعلها تحوي، جورا، وحراما، فوق طاقتها بكثير.
يبدو أن السؤال التالي السريع استفزه، فعقد ملامحه، لأول مرة، ونسي اللائحة لبرهة وانفجر مجيبا: اسمع، على لساني قل، ولك حق أن تقول، وانشرها في الصحف التي لك بها صلة، قل لركاب أوتوبيس 999 الذي غادر ميدان التحرير الساعة التاسعة يوم تسعة في الشهر الحالي إنهم أبدا لن يفلتوا من العقاب، عقاب التاريخ أقصد وضمير البشرية العام، فالفرد حين يرتكب جريمة مسألة تدخل في نطاق العقل، أما الجماعة، حين تجرم، هكذا، وبالتلقائية وبدون اتفاق سابق، وبالإجماع الذي لا يشذ عنه أحد عن عمد وبلا تردد وفي وضح النهار تجرم، حين تفعل هذا فنحن أمام أنثروبولوجية لم تعرفها البشرية من قبل، ظاهرة قد أعهد ببحثها إلى أحد تلاميذ الدكتوراه عندي، ولكن قل لهم (وهنا، ولصوته المرتفع كان قد تجمع حولنا بعض المارة فبدا كما لو كان يخاطبهم، ومبهورين مشدوهين غير فاهمين وقفوا يستمعون) قل لهم أيضا، وعلى لساني إنهم لن يفلتوا من العقاب، ليس عقاب القانون ولا الدولة، ولكن عقاب الأنا الكبرى.
واستجابة للكزاتي، وغمزاتي، فطن إلى المجتمعين، فالتفت إلى الناحية الأخرى، ونطق كلمة واحدة «سنوبز»، والتفاتته جعلت كرة «البلا» الأزرق تواجهني، وجعلته يبدو كما لو كان يحدق في بها، وشعرت، وكأنما بإلهام، أن هذه ليست ربما المرة الأولى التي أشعر أنه ينظر إلى أو إلى الآخرين، أو أحيانا لبعض الحوادث، من خلال هذه العين الوارمة الزرقاء البارزة إلى أمام، أدركت وكأنه كثيرا ما كان يستعملها ليعطي أو ليستقبل وجهة نظر، كل ما في الأمر أنها كانت وارمة إلى الداخل، ولم تفعل «البونية» التي تلقاها أكثر من أنها «نطرتها» وجعلتها بادية للعيان. - «سنوبز»، ولكن هذا كله ليس مهما، هذه حكاية هايفة جدا، المشكلة أن المشروع الأول للائحة كنت قد قدمته بديمقراطية شديدة.
ولكن فلنعد نحن إلى موقف الدكتور عويس في 999 وقفته بالضبط جاءت بجوار العمود الفاصل بين الدرجة الأولى والثانية، وكان كعادته قد قرر أن يهرب بأفكاره من مضايقات البيئة الموقوتة إلى خططه ومشاريعه لتفويت اللائحة، إلى أن حدث وأجبرته هزة قيام الأوتوبيس أو وقوفه لإدراك أن من يقف أمامه سيدة، و«يقف» أيضا ليست الكلمة الدقيقة لوصف ما اكتشفه، فقد اكتشف أن جسديهما في حالة تقارب لا تسمح به الحرمة البشرية، فلكل جسد بشري في رأيه حرمة، وحد أدنى من المسافة الواجب توافرها لكي تحفظ له كيانه كوحدة إنسانية مستقلة، ولم تكن هذه أول مرة في ركوبه للأوتوبيس يحدث شيء من هذا وكانت طريقته لحل هذا الاعتداء على حرمة جسده واعتداء جسده على حرمة غيره أن يتحرك حتى يولي السيدة ظهره.
ولقد حاول هذه المرة فوجد أن تحريك رقبته نفسها أو إدارة وجهه فقط عملية تبدو مستحيلة، ولم يكن ثمة بد مما ليس منه بد، وأستطيع أن أتصور الكفاح الرهيب النفسي والعصبي والجسماني الذي بذله الدكتور عويس ليستعمل حقيبته التي تعادل قدس الأقداس في نظره، وليهبط بها من مكان الراية السوداء التي يرفعها كالفريق، ليفرضها بالقوة القاهرة حائلا بين جسده وجسد السيدة، التي لا بد وأنها شكت في نواياه وتحركاته أول الأمر ولكنها حين أدركت في النهاية هدفه بدأت تبذل المستحيل لمساعدته، مشكورة لا شك، فجسدها كان سمينا كثير الانبعاجات صعب الحركة وحين - بعد جهد جهيد - تمت العملية بنجاح، وأصبحت كل وثائق اللائحة وأسرارها مضغوطة بشدة وقائمة ليس بمعناها كلائحة لتنظيم السلوك، وإنما بمادتها كورق ودوسيهات، قائمة لتصنع سورا يحافظ أولا على الحد الأدنى لحرمة جسده، بصعوبة لفت السيدة رقبتها الممتلئة، وبالكاد لف هو إحدى عينيه، ومن خلال التقاء البصرين قالت له كلمة امتنان صامت أرضت كبرياءه التي نادرا ما ترضى. ومن خلالها أيضا أدرك أنه كان على صواب، فالسيدة بدت وقورة من النوع الذي لا يعجبه سواه، وجهها أبدا لم يتعود الابتسام وإنما يطفح بشيء آخر كالإيمان، حدث نفسه بأنها ربما متدينة، ربما زوجة محترمة لرجل دين، ربما هي من عائلة أجادت تربيتها حتى أشرفت على الثلاثين، كما بدت له سنها.
حاولت سبق الأحداث وأنا أستمع طوال ربع الساعة المستمر التالي لأعرف كيف نشأت المشكلة، فواضح الآن أن كل شيء على ما يرام، وبلهفة متزايدة كنت أسأل، وأنتظر، وقصة اللائحة دائرة بأقصى سرعتها، وأعود أسأل، لأعرف في النهاية أنه الكمساري. المشكلة بدأت بمجيء الكمساري، كيف جاء؟ كيف تسرب؟ كيف أمكن ويمكنه أن يتحول إلى كائن أثيري يخترق الأجساد؟ لا أحد يعرف، المشكلة أنه مر ولكي يمر أحدث في الأجساد المدكوكة في فراغ العربة بقوى قاهرة ثابتة، أحدث خللا كالخلل الذي يحدث لأوضاع النجوم والكواكب إذا مرق بينها نجم هوى وتغيرت به قوانين الجاذبية؛ إذ في لحظة اكتشف الدكتور عويس أن من أمامه أصبح رجلا، وأصبح بقامته الأقصر، الحائل بين الدكتور وبين السيدة، ولا بد أن ارتياحا عظيما انتاب الدكتور عويس، وأعفاه من كل الضغوط، وجعله مرة أخرى يرفع المحفظة إلى أعلى، رايته السوداء، الخفاقة، المحتويات اللائحية في أمان الآن. - أوباش مدعون، أوغاد منافقون. - لم أفهم. - أوباش. - ماذا حدث. - أعفني أرجوك من هذه التفاهات، دعنا في المهم.
والتفاهات بدأت بتحركات لهذا الراكب القصير، غير مفهومة للدكتور عويس، ثم حين تكررت أوحت إليه بفكرة النشل، استبعدها، نقوده في جيب السترة وموضع الجيب فوق كتف الرجل تماما، ومن المحال أن يستطيع لوي أي من أذرعته ليصل إلى الجيب. آه، كده، إنه يعرف أن أشياء كهذه يقال إنها تحدث، لها عنده تفسيرات سيكولوجية وحضارية وأخلاقية وبالطبع على رأس القائمة أنثروبولوجية، هوبكنز تحدث عنها، إدوارد، ج. إدوارد له فيها بحث طويل، الألماني ريخته أضافها إلى الطبعة الجديدة من كتابه.
ولكن هذا الرجل المتحرك القصير الواقف أمامه الآن لا شك خبيث، ولا شك لم يحط بهذا المكان صدفة، انتهز فرصة التخلخل الحادث لمرور جسد الكمساري واحتل هذا الموقع الاستراتيجي خلف السيدة، وحتى هذا كله ليس مهما، كل هذه السفاسف سيجرفها التحضر يوما، حتى لو كان الدم قد غلا لوقت عابر في عروقه البحراوية، فما يجب أن يشغل به نفسه أهم.
ولكن الدكتور عويس اضطر لأن يؤجل انشغال نفسه بما هو أهم.
فالسيدة قد بدأت تتململ، وبقوة خارقة تتحرك، محاولة أن تستدير بجسدها وتأخذ وضعا أفضل، وأخيرا، حين بدا أنها مجبرة على الثبات في مكانها لا تتحرك شعرة، لوت، بكل ما تملك من قوة عنقها وقالت: بلاش مضايقة بقى، اتأخر، اتأخر شوية، الله!
ولأن وجهها بدا كما لو كان يوجه الكلام للدكتور عويس الأطول ففجأة وجد عويس نفسه محط أنظار العيون كلها وكل تساؤلها، طارت المشاغل وحتى اللائحة من رأسه فورا وسألها بحماس وسرعة: حضرتك بتوجهيلي أنا الخطاب؟
بصوت أعلى قالت: لا أنا بكلم الجدع اللي ورايا ده.
وتنفس الدكتور عويس في ارتياح بعد أن كان قد فقد النفس، أما الرجل القابع خلفها فقد بدأ يتكلم، كلماته صف طويل من صفائح «الجاز» الفارغة التي تهاوت تقرقع وتتخبط وتصنع زعيقا صفيحيا أجوف أكثر منها كلمات مفهومة. - ولزومه إيه الكلام الفارغ ده، مانا غصب عني، أنا قادر أتحرك، ما هو لازم نستحمل بعضينا، وكلها محطة وكل واحد يروح لحاله، ما الناس كلها مستحملة بعض أنت يعني اللي على راسك ريشة.
أو هكذا قال.
السيدة المؤدبة المتربية سكتت، العيون انصرفت، الدكتور عويس قرر أن يقاطع ما يحدث أمامه فكريا تماما، وأن ينصرف إلى ما سوف يقوله في الاجتماع الخطير الذي سينعقد بعد ساعة واحدة.
كل ما في الأمر أن الرجل الدمنهوري فيه كان بين الحين والحين يطل برأسه ويدفعه إلى العودة لمتابعة المشهد ليطمئن إلى أن الرجل قد كف تماما عن مضايقة السيدة، ولكن إطلالات الرجل الدمنهوري كثرت حتى طردت تماما اهتمامات أستاذ الأنثروبولوجيا، وصاحب مشروع اللائحة، الرجل، رغم كل ما حدث، استأنف المحاولات وبجرأة أكثر، حتى والسيدة بين الحين والحين تجبر عنقها المكتنز على الالتواء، وتصويب نظرات صاعقة، هلعة، مستبشعة، راجية، أخيرا بدأ يظفر منها دمع متحجر صامت، نظرات كان واضحا منها أنها تتعذب عذابا لم تذقه في عمرها؛ إذ كانت تتألم ذلك الألم القاتل الذي لا يستطيع فيه المرء أن يصرخ أو ينطق أو يقول لا، والرجل، وكأنه فقد الإنسانية والحيوانية معا، لا يولي شيئا من هذا كله أي اعتبار، مندمج بكليته في متعته الدنيئة الغارق فيها لا يرى سواها ولا يهمه أي ألم هائل تعانيه السيدة لقاء لحظة المتعة تلك، كان على الدكتور عويس أن يستحضر ذاته العلمية بكل قواه وقواها حتى لا يندمج ويقوم من فوره بمهمة المصلح الاجتماعي الأخلاقي المباشر، هذه الأعمال والتدخلات المباشرة اليومية ليست مهمة رجل علم مثله، رجل العلم مهمته أشمل بكثير، أن يغير البشرية كلها، فإذا تناولها فردا فردا وحالة حالة غرق فيما يغرق فيه إنسان الحياة اليومية وضاعت رسالته إلى الأبد، عالم هو، وكعالم فليراقب بلا أي انفعال، وكأنه يراقب فئران تجارب، وهمه كله أن يستخلص من التجربة مغزاها ليكتشف للظاهرة حلها العلمي الصحيح، لا أن يتدخل لرفع ظلم مؤقت تعانيه فأرة من فأر، هذه مهمات الفتوة والقانون ورجل البوليس، والجدع الشهم، وكلهم أيضا، في التجربة العلمية فئران.
وهكذا لم يبد غريبا للدكتور عويس - وإن كان قد اعتبره اكتشافا جديدا حقا - أن يلحظ أنه لم يعد وحده الذي يتابع ما يجري، وأن أكثر من عين تختلس النظر، بل، وهذا مدهش حقا. في بعض النظرات متعة وترقب وحماس من حماس المتفرج أو المتابع، يكاد يقترب الأمر من المتعة.
نظرات كثرت، والرجل قد بدأ يمد يديه، وبأصابع ترتجف، انفعالا، لا خوفا، يرفع ثوب السيدة شيئا فشيئا، مجمعا قماش الثوب في قبضتيه اللتين يستعملهما في نفس الوقت لزيادة احتضانه لها.
الأتوبيس مشحون صامت، يخترق شوارع ضيقة، تنفذ ضجتها إليه وتغرق كموجات البحر صمته، الركاب كل في ملكوته، حتى القليلين الذين يتتبعون الجاري بما فيهم عويس قد احتواهم هذا الملكوت الخاص، المفاجئ حقا، هو هذه الكلمة التي خرجت مجرحة بالغيظ مخنوقة بالدموع مكتومة وكأنها تتصاعد من أظافر القدم. - الحقوني يا ناس، دا بيقلعني هدومي.
صرخة، شبه صرخة، ذهول مؤقت، صفارة طويلة من الكمساري، فرامل سريعة من السائق، تحرك اللحم في العربة مندفعا بتأثير الوقفة المفاجئة اندفاعة شديدة كادت تدلقه إلى أمام، ثم دلقة أشد حين تم الوقوف، إلى الخلف، وهكذا تغير الحال تماما، ولم يعد أحد في مستقره، حتى الدكتور عويس وجد نفسه في قلب الدرجة الثانية وفوق رأسه تماما سبت يتساقط من شقوقه ماء سمك طازج. - مالك يا ستي، حصل إيه؟!
في انفجار باكية مغيظة، أشارت السيدة إلى الرجل الذي كان واقفا خلفها والذي كان قد أصبح في الدرجة الأولى بينه وبينها ركاب. - دهه، ابن ال... دهه، كان ... - أنا؟!
لا قرقعة صفائح هذه المرة، وإنما عواء ذئب صارخ، أو ربما زئير ضبع أو أسد. أنا؟! واندفع ناحيتها، أنا يا قليلة الأدب، وبكف صغيرة جافة هوى قلم، وقلم.
وسأل السائل الأول: حرام تظلمي الناس، أنتي متأكدة.
وفتحت فمها لترد.
وطويل، هائل الطول هذه المرة، واحد من ذوي الأعين التي رآها الدكتور عويس ومتأكد أنها كانت ترى كل شيء وتعرف، جعجع: ده كان بينه وبينك سبع ركاب، وأنا كنت واقف وراكي وانت اللي عمالة تتحككي، بقي.
وصفعة أخرى، ودفعة، وكوع لكز، وركبة بغل، ضربت، أصوات تداخلت: تستاهل، يعملوا العملة وبعدين يعملوا شرفا. سيدة تعلق: ويعني الشرف حبك قوي، كانت استحملت وبلاش الفضايح، زغدة، كتف، دفعة أشد، أكثر من ذراع، السلم، دفعة ظهر إلى الأرض لا حراك بها فوق الرصيف، حزام الفستان مفكوك، أزراره تفتحت، شرابها تهدل، شعرها انفكت الشريطة التي تضمه، تبعثر كهشيم شعر في كل اتجاه، وما أن استقرت في الخارج حتى هدأت الأصوات الزاعقة، وبدأ كل منهم يتنفس في ارتياح، الحمد لله.
احتاج الأمر إرادة من حديد كي يحول الدكتور عويس بين نفسه وبين أية انفعالات ذاتية، فليرتفع ضغط دمه، فلينفجر غيظا، فليتقطع قلبه إشفاقا، ولكن فليبق هو المراقب، في حدود دوره كعالم، يرى ويلحظ ويسجل، لتبق له مساحة عقلية تكفي ليعرف أيضا ويتساءل، والتساؤل الذي يلح عليه قاس لا يرحم، حادثة السلوك الشاذ من الراكب تفسيرها واضح، مريض، الرجل لا بد في حاجة لعيادة وطبيب، حادثة العيون التي ضبطها تختلس المتعة تفسيرها أبسط، المذهل المحير ليس أن تستغيث فلا تجد المغيث، السؤال الملح هو هذه الرغبة التي لا بد أنها نبتت بتلقائية، وفي كل نفس على حدة، لإثبات كذب المرأة، ونفي الموضوع وكأنه لم يكن، بل والأكثر عقابها الجماعي على تلك الصورة لأنها فتحت الفم ونطقت وبلغت بها الجرأة أن استغاثت وحددت الفاعل.
في ثوان طاف عقل الدكتور عويس بحصيلة ثلاثين عاما من المعرفة والقراءة وحتى التخصص، في ثوان وبكل قوة توهجت كل قدراته على الاستنتاج والجشتالت، وفي ثوان أيضا أدرك أن لا جواب لديه ولن يقدر بذكائه وحده أن يصل إلى جواب.
ولأول مرة مذ وقعت الواقعة، وركب الأوتوبيس يبدأ الموضوع يتخذ في عقله خطورة ما، فقد أدرك أنه فجأة أمام ظاهرة تحدث أمامه، بل وربما في صميم اختصاصه، ولا يملك لها أي تفسير.
وإذا كانت الرغبات هي محركاتنا الأساسية للفعل، فرغبة الدكتور عويس للمعرفة كانت هي قوته الدافعة الأولى، أقوى رغباته جميعا، يكفي أن يحس بها حتى ينسى أي شيء وكل شيء وينتصب أمامه ذلك الهدف الساحر الذي لا يقاوم: أن يعرف. بعد ثوان ستكون الفئران قد اختفت، والإجابة ضاعت وهي لحظة واحدة، وعليه أن يختار.
وفجأة، وسط جو لا يزال مشحونا ملبدا، تنحنح صوت لا علاقة بين نبرته ومقامه وبين كل ما سمع من أصوات وضجيج، بنفس طريقته وهو يرفع الكلفة مع تلاميذه ليأخذهم تحت إبطه ويحظى منهم بالاعتراف، قال: اسمحوا لي بكلمة، أقدم لكم نفسي أولا، أنا الدكتور فلان الفلاني الأستاذ بكلية كذا بجامعة كذا، وعديد آخر من الأوصاف، وأرجوكم لا تعتقدوا أني أقصد التدخل في شئونكم الخاصة، «حب الاستطلاع وصل في جو العربة هنا إلى حد مخيف» وإنما أنا أستاذ مادة الأنثروبولوجيا ولا يهمني ما حدث أبدا من الناحية الأخلاقية أو القانونية، أنا يهمني الناحية العلمية، «تحول حب الاستطلاع إلى شك»، لقد أتاحت لي وقفتي قريبا من هذه المرأة التعسة «كاد سائق الأوتوبيس يضغط على البنزين ويمضي ولكنه عدل، الكمساري كف عن عملية الاطمئنان على نقوده» أن أرى كل شيء وأن أرى أن آخرين غيري يرون نفس الشيء، وليس هذا مهما أبدا عندي.
رمقه رجل مفلفل الشعر بالمشيب مرتكزا إلى عمود الوسط وبنوع من الاستغراب المشبع بالإنذار سأله: أنت عايز إيه يا أستاذ بالضبط، عايز تقول إيه إحنا مش فاضيين؟
بصوت عال واضح قال: عايز أعرف إيه اللي ضايقكم أنتم في تصرف السيدة وفي اتهامها للأفندي؟ زعلتوا ليه؟ حتى الستات، اضايقت ليه؟ لأسباب علمية محضة أرجوكم أن تجيبوني لأن هذا مهم لي في مادتي جدا.
سكت الجميع ينظرون في استغراب ويقررون إن كان مهفوفا أولا أو عليهم أن يعاملوه كالعاقلين، وإن كان يسأل حقيقة أو أنه ينصب بسؤاله مصايد وفخوخا، وفجأة قال مفلفل الشعر: أنت بتقول إنك شفت وإننا شفنا، هو إيه اللي شفته وشفناه.
ببلادة قال: شفت اللي حصل. - وهو حصل إيه؟ أنت شفت حاجة حصلت؟ احنا ما شفناش أنت شفت. - الله، كل ده وما حصلش حاجة، أمال الست. - كدابة. - والأفندي. - ما عملش حاجة. - وأنا. - وأنت نصاب باين عليك.
قالها شاب كان ضمن الكتلة الملتصقة التي تسد الباب الخلفي وما لبث أن انخلع منها وتقدم في اتجاه الدكتور عويس مستمرا بصوت يتزايد علوا: على فكرة أنا طالب في كلية كذا جامعة كذا اللي بيقول عليها دي، وأعرف كل الأساتذة والمعيدين ويمين بالله ما في كليتنا أستاذ بالاسم ده ولا شفت الخلقة دي قبل كده من أصله، ده شكل أستاذ جامعة ده؟!
وفعلا، كان المتحقق في ملابس الدكتور عويس وهيئته التي لا تترك له اهتماماته الأستاذية الأنثروبولوجية وجنوناته وقتا للعناية بها يستطيع ببساطة أن يجزم أنها قد تكون لأي إنسان إلا لأستاذ أو مدرس أو أي شيء له صلة بالجامعة.
صرخة أخرى! - وعلى فكرة، دا هو اللي كان واقف وراها. - تمام تمام دا باين عليه ديوس قارح.
الله الله، المسألة تتطور بسرعة مخيفة. - يا حضرات أنا مابالومشي أنا بسأل سؤال علمي. - علمي يا ابن ال...
وبألفاظ الدكتور عويس نفسه: أحسست بمساحة لها كثافة الكاوتشوك وصلابته تهوي وكأنما من ارتفاع برج الساعة وترتطم برقبتي من الخلف، كان أول «قلم» أتلقاه على قفاي في حياتي والألم الجسدي لم أشعر به؛ إذ فجأة شعرت أن آدميتي كلها تبعثرت، كل شيء يكون ذاتي تشتت وسال تحت الأقدام، كرامتي، تاريخي، كل ما هو أنا انهار ومضت الأحذية تطؤه، القفا أعقبه ثان وثالث، وعلى الوجه والرأس وبالشلاليط وآخر ما شعرت به نظارتي وهي تتدشدش وينغرز بعض زجاجها في جلدي ثم عيني اليسرى وقد أخذت تنتفخ بسرعة خارقة وتوشك، كالبالونة، على الانفجار. يا أخي هذا موضوع هايف كنت نسيته وخلاص، لماذا تلح في تذكيري به؟!
لم أعد أستطيع، بحسم أوقفته، مستعملا لهجة الأمر الذي لا يقبل النقاش لأول مرة: أريد أن أعرف بقية ما حدث. - لا بقية ولا شيء، لقيت نفسي متمدد جنب الست على الرصيف والأوتوبيس مشي من زمان وجه غيره، وانتهى الموضوع. - انتهى ازاي. - أخيرا قررنا نعمل اجتماع عشان اللائحة عند العميد.
عميد إيه؟ ولائحة إيه؟ ماذا بعد الضرب؟ ماذا فعلت؟ هل أبلغت البوليس؟ هل شكوت؟ هل كتبت للجهات؟ هل ...؟ - ولا هل ولا شيء، أشكي مين؟ أوتوبيس؟ وأشكي ليه؟ المسألة سوء تفاهم لا غير، أنا كان قصدي سؤال علمي هم افتكروا حاجة تانية، مجرد سوء تفاهم، شوية «سنوبز»، إنما المجرمين الحقيقيين المتآمرين هم الناس اللي وقفوا ضدي في الاجتماع، دول عارفهم كويس وعارف وقفوا ليه ووراهم مين والهدف من المؤامرة إيه.
لم أستطع إلا أن أفقد السيطرة وأنفجر وقد فاض بي الكيل. واستمع إلى كلمات اللوم والغضب وهي تتدفق بحرارة من فمي، استمع بلا أي لوم أو غضب، فقط ظل ينظر لي مشفقا وكأنه أرسطو يتأمل قرويا يونانيا ينقده بشدة ويشتمه على «مربعه» الفلسفي المشهور الذي ابتلى به البشرية.
ظل يستمع حتى، من نفسي، سكت، وطبطب على كتفي وكأنه يرضي طفلا أضاع معه وقته وقال: أنا متأسف لأني مضطر أسيبك عشان ألحق الاجتماع، أنا دلوقتي بس أدركت أني ضيعت وقتي معاك أنا بقالي ساعة أحاول أقنعك إنك - بصفتك راجل مهتم بالمشاكل العامة - تقف مع قضية عادلة زي قضية لائحة السلوك العام، إنما الظاهر إني ضيعت وقتنا إحنا الاتنين، عن إذنك ألحق الأوتوبيس. - الله، أنت لسه بتركبه. - طبعا. - و999 برضه. - هو وغيره، ليه لا؟ - وبتشوف برضه تجارب علمية وتسأل و... - ما باشوفش حاجة أبدا، أنا صحيح جبت واحدة جديدة صحيح، إنما عشان أستعملها بس في الحرم الجامعي، إنما خارج كده أنا لا أرى زي ما أنت شايف. - ولا بتسمع استغاثات. - أبدا، أبدا، الظاهر أن الست دي كانت آخر واحدة تشذ وتستغيث، وأنا كنت آخر أحمق يقول أنا شفت، يعني كانت آخر علقة، دلوقتي تركب 999 أو غيره تلاقي كله تمام، اللعبة بتتم في صمت، ولا أحد يخرج على قواعدها، والقاعدة إنك ماتشوفش وإذا شفت كأنك ما شفتش، وإذا حصل لغيرك مالكش دعوة، وحتى إذا حصل لك أنت ولا كأنه حصل لك، حل عبقري مش كده؟
نظرت إليه مذهولا، ليس إلى عويس «الجنونة» أو رسول العناية للإصلاح أو بطل الكفاح من أجل اللائحة، كان ذهولي ربما أكثر بكثير من ذهوله حين وقعت له منذ أسبوع الواقعة. - عن أذنك، 999 بتاعي جه، ولا يهمك بكره لما اللائحة تقر حتشوف.
وعلى طريقته، تخلى عن وقاره العظيم للحظة، وانطلق يجري ولسانه رغما عنه يفلت كلمة «سنوبز» وبقفزة هائلة وضع قدمه فوق السلم، وما كاد يستقر، ويمسك العمود بيد، وقد اندس بين المتشعبطين، حتى استدار ناحيتي وأشار إلي بمحفظة أوراقه السوداء مودعا، وعلى فمه نفس ابتسامة أرسطو المشفقة وهو يرمق بها ثورة القروي الجبلي على «مربعه» المشهور.
حمال الكراسي1
صدقوا أو لا تصدقوا، فمعذرة لا يهمني أبدا رأيكم، يكفي أني رأيته وحادثته وقابلته وشاهدت الكرسي، فاعتبرت أني رأيت معجزة، ولكن المعجزة الأكبر، الكارثة، أن لا الرجل ولا الكرسي ولا القصة كانت تستوقف أحدا لا من المارة في ميدان الأوبرا لحظتها ولا في شارع الجمهورية ولا في القاهرة أو ربما الدنيا كلها، كرسي هائل تراه فتظن أنه قادم من عالم آخر أو أقيم من أجل مهرجان، ضخم كأنه مؤسسة، واسع القاعدة، ناعم، فرشه من جلد النمر، ومسانده من الحرير، وحلمك كله إذا رأيته أن تجلس عليه مرة أو لحظة، كرسي متحرك، يتقدم بتؤدة كأنه موكب المحمل حتى لتظن أنه يتحرك من تلقاء نفسه وتكاد من الرعب أو الذهول تخر أمامه وتعبده وتقدم له القرابين، ولكن في آخر وقت ألمح بين الأرجل الأربع الغليظة المنتهية بحوافر مذهبة تلمع، ساقا خامسة، ضامرة، غريبة على الفخامة والضخامة، ولكن لا، لم تكن ساقا كانت إنسانا نحيفا معروقا قد صنع العرق على جسده ترعا ومصارف وأنبت شعرا وغابات وأحراشا، صدقني فأنا، بالأمانة المقدسة، لا أكذب، ولا أبالغ، بل أنقل في عجز ما رأيت، كيف استطاع نحيف هش كهذا الرجل أن يحمل كرسيا كهذا لا يقل وزنه عن الطن أو ربما أطنان؟ ذلك هو المذهب للعقل وكأنه شغل حواة، ولكنك تتمعن وتعود تتفحص فتجد أن ليس في الأمر خديعة، وأن الرجل حقيقة يحمل الكرسي وحده ويتحرك به.
والأعجب والأغرب والمثير للذعر أن لا أحد من المارة في الأوبرا أو في شارع الجمهورية أو ربما القاهرة كلها يندهش أو يستعجب أو يعامل الأمر إلا وكأنه مسألة عادية مفروغ منها وكأنه كرسي فراشة، يحمله صبي، ويمضي به، أنظر إلى الناس وإلى الكرسي والرجل علي ألمح ارتفاعة حاجب، مصمصة شفاه أو صيحة عجب. لا شيء مطلقا.
وبدأت أحس أن الموقف كله شيء من المرعب استمرار التفكير فيه، وفي تلك اللحظة كان الرجل بحمله قد أصبح على قيد خطوة مني، وأصبحت أرى وجهه الطيب رغم كثرة ما فيه من تجاعيد، ومع هذا لا تستطيع أن تحدد له عمرا، ورأيت ما هو أكثر، فقد كان عاري الجسد لا يغطيه إلا حزام وسط متين يتدلى منه ساتر أمامي وخلفي من قماش قلوع المراكب ولكنك لا بد تتوقف، وتحس بعقلك قد بدأ، كالغرفة الخالية يصنع صدى، إنه يبدو في لباسه غريبا ليس على القاهرة وإنما على العصر كله، تحس أنك رأيت له شبها في كتب التاريخ أو الحفريات، وفوجئت، هكذا، بابتسامة فيها ذلة السؤال، وبصوت، وبكلام. - الله يرحم والديك يا بني، شفتش عمك بتاح رع؟
أهو هيروغليفي منطوق بالعربية أم عربية منطوقة بالهيروغليفية؟ أيكون الرجل من المصريين القدماء؟
وهجمت عليه: اسمع، أوع تقول إنك من المصريين القدماء. - لهو فيه قدماء وجداد؟ أنا من المصريين وبس. - وإيه الكرسي ده؟ - شيلتي، أمال أنا بادور على عمك بتاح رع ليه؟
عشان زي ما أمرني أشيله يؤمرني إني أنزله، أنا اتهد حيلي. - أنت بقالك كتير شايله؟ - كتير أوي ما تعدش. - من سنة؟ - سنة إيه يا بني، قول من ييجي سنة وشوية آلافات. - آلافات إيه؟ - سنين. - من أيام الهرم يعني؟ - من قبل، من أيام النيل. - نيل إيه؟ - من أيام ما سمو النيل نيل، ونقلوا العاصمة من الجبل للضفة، جابني عمك بتاح وقال لي يا شيال: شيل، شلت، وأدور عليه في سلقط في ملقط بعد كده عشان يقول لي: حط، من يوميها للنهارده مش لاقيه.
وتماما توقفت كل قدرة أو رغبة في الدهشة عندي، أن من يحمل كرسيا بهذه الضخامة والثقل للحظة ممكن أن يحمله لآلاف السنين، لا دهشة ولا اعتراض، كل ما في الأمر سؤال: وافرض ما لقيتشي عمنا بتاح رع تفضل شايله؟ - أعمل إيه، أنا شيال، ودي أمانة، خدت الأمر إني أشيلها أحطها ازاي من غير أمر؟
ربما الغضب. - تحطها زهق يا أخي، تعب، ترميها، تكسرها، تحرقها، دا الكراسي اتعملت عشان تشيل الناس مش عشان الناس تشيلها. - ما أقدرش، هو أنا شايله غية، أنا شايله أكل عيش. - ولو، ما دام هادد حيلك وقاطم وسطك يبقى ترميه، ومن زمان ترميه. - دا عندك أنت لأنك ع البر مش شايل ما يهمكش، أنا شايل ودي أمانة وشايل الأمانة مسئول عنها. - لغاية امتى إن شاء الله. - لما يجيني الأمر من بتاح رع. - دا مات وشبع موت. - من خليفته، من وكيله، من ولد من ولاد ولاده، من حد معاه أمارة منه. - طيب أنا بأمرك أهه إنك تنزله. - أمرك مطاع وكتر خيرك، بس أنت تقرب له؟ - للأسف لا. - معاك أمارة منه؟ - ما معاييش. - يبقى عن إذنك.
ولكني صرخت، وقد بدأ يتحرك، أوقفه، فقد لاحظت شيئا كالإعلان أو اللافتة مثبتة في مقدمة الكرسي، بالضبط كانت قطعة من جلد غزال وكان عليها كتابة قديمة وكأنها النسخ الأولى للكتب المنزلة، وبصعوبة طالعت:
يا حمال الكراسي.
لقد حملت ما فيه الكفاية.
وآن لك أن يحملك كرسي.
هذا الكرسي العظيم.
الذي لم يصنع مثله.
لك أنت وحدك.
احمله.
وخذه إلى بيتك.
وضعه في الصدر.
وتربع فوقه طول عمرك.
وحين تموت.
يكون لأبنائك.
وهذا هو أمر بتاح رع يا سيادة شيال الكراسي، أمر صريح صادر في نفس اللحظة التي أمرك أن تحمل فيها الكرسي، وممهور بإمضائه وخطوشه.
بفرح عظيم قلت له كل هذا، فرح متفجر كمن كاد يختنق، فمنذ رأيت الكرسي وعرفت القصة وأنا أحس وكأني أنا الذي أحمله وحملته عبر آلاف السنين وكأن الذي انقطم ظهري أنا، وكأن الفرحة التي انتابتني هي فرحتي للخلاص يأتي أخيرا.
برأس منكس استمع الرجل ولا اختلاجة، إنما انتظار منكس أيضا، أن انتهى وما كدت أفعل، حتى رفع رأسه، كنت أتوقع فرحة مماثلة، انفراجة حتى، ولكني وجدت لا شيء. - الأمر مكتوب فوق راسك أهه ومن زمان مكتوب. - بس أنا ما باعرفش أقرا. - مانا قريته لك. - أنا ما باصدقش إلا بأمارة، معاك أمارة؟
ولما لم أجب، غمغم غاصبا وهو يستدير: أهو ما بينوبنيش منكو غير العطلة، يا ناس، والشيلة تقيلة، والنهار الواحد يدوبك لفة.
ووقفت أرقبه، وقد بدأ الكرسي يتحرك، حركته المتئدة الوقورة التي تظن أنها من تلقاء نفسه، والرجل قد أصبح مرة أخرى ساقه النحيلة الخامسة، القادرة وحدها على تحريكه.
وقفت أرقبه، وهو يبتعد، لاهثا، يئن وعرقه يسيل.
وقفت حائرا أتساءل أألحقه وأقتله لأنفس عن غيظي؟
أأندفع أسقط الكرسي عن كتفه بالقوة وأريحه رغما عنه، أم أكتفي بالسخط المغيظ منه؟
أم أهدأ وأرثي لحاله؟
أم أصب اللوم على نفسي أنا لأني لا أعرف الأمارة؟
سورة البقرة
ما كادت الفاتحة تقرأ، ويسترد يده من يد الرجل، ومبروك، ويتأمل مليا البقرة التي حصل عليها، ثم يتوكل ويسحبها خارجا حتى بعد خطوات قليلة، وضع فلاح شاب طويل مهول، يده فوق اليد الممسكة بالحبل، وبقوة الضغط والعضلات أوقفه قائلا: إلا قول لي يا شيخ، بالذمة والأمانة والديانة، وقعت بكام؟
وحتى لو لم يذممه، فقد كان يريد قول الحقيقة لكي يعرف، من وقع الرقم، إن كان هو الخاسر أم الكاسب في الصفقة، أجاب: بالذمة والأمانة والديانة بسبعة وتمانين جنيه وربع وبريزة للسمسار.
ولم يتح له أن يقرأ شيئا في وجه الشاب الضخم، فما كاد يقول الرقم حتى كان الشاب وكأنما انتهى غرضه منه تماما، فسحب يده ومضى إلى حاله مغمغما بكلام مضغوم، لا يلوي على شيء.
وبعد باب السوق بخطوة، اندفع ناحيته رجل بشارب هائش وصوت مزعج عال وكرش، قائلا: سلام عليكم. سلام ورحمة الله. بالذمة والأمانة يا شيخ بكام؟
وبصوت واضح وحرص شديد هذه المرة على ألا تفوته بادرة، فالبقرة أيام جده كانت بثلاثة جنيهات وكان أبوه - رحمة الله عليه - يقول له: إن أول بقرة اشتراها في حياته كانت بخمسة، قال: بالذمة والأمانة بسبعة وتمانين وربع وبريزة للسمسار.
قال الرجل من تحت شاربه المهوش: هم، هيه، فيها لبن؟
أجاب وأمره إلى الله: ما فيهاش. - وراها عجل؟ - ما وراهاش. - معشرة. - طالبة عشر.
ومرة أخرى قال الرجل، بغيظ مكتوم لا يعرف سببه، وبحزن، لا يعرف سببه أيضا: هم، هيه، مبروكة عليك.
ومشى.
وعند أول منعطف للطريق الجانبي الماضي إلى الطريق الزراعي العام رفع فلاح كان يعزق الأرض المجاورة صوته سائلا: بتقول بالذمة والأمانة بكام؟
فقال: بسبعة وتمانين جنيه وربع وبريزة للسمسار.
فعاد الفلاح يصيح مرة أخرى: بتقول بكام؟
ورفع صوته عاليا جدا، أعلى بكثير مما يجب، لا ليسمعه الفلاح فقط وإنما ليصل إلى كل الرجال القريبين والبعيدين حتى يكفوه مئونة رد آخر: بسبعة، وتمانين، جنيه، وربع، وبريزة، للسمسار.
وقبل أن يسمح لنفسه أن يسمع الرد أو التعليق كان قد أغلق أذنيه ومشى.
وحين وصل الطريق الزراعي الموصل إلى بلده كان قد سئل ثلاث مرات، وأجاب ثلاث إجابات، نقض الذمة والأمانة في ثالثتها حين كسل أن ينص على بريزة السمسار.
كانت الدنيا لا تزال ضحى، والسوق منتصبة منذ الشروق، هذا صحيح، ولكن كان هناك على الطريق قادمون كثيرون، أولئك الذين لا يريدون ضياع اليوم، فأنهوا بسرعة أعمالهم، ثم أقبلوا مهرولين يلحقون السوق.
وعلى أول الطريق الزراعي سأله شيخ معمم، بجبة كالحة وقفطان: دفعت فيها كام بالذمة والأمانة والديانة إن شاء الله.
فقط لو أنهم لا يذممونه ويستحلفونه بالأمانة والدين، سبعة وتمانين جنيه وربع وبريزة للسمسار.
وبعد خطوة واحدة، إذا برجل وكأنه عمدة، يمتطي ركوبة، ويستظل بشمسية يزعق بصوت مسلوخ: بتقول بكام. - سبعة وتمانين وربع وبريزة للسمسار. - غالية شوية إنما تتعوض.
وما كاد يخرج علبة الدخان ويبدأ في لف السيجارة حتى حود عليه رجل مسن له لحية اختلط فيها السواد بالبياض: سلام عليكم. سلام ورحمة الله. دستورك منين؟ من هرية. شاري والا بايع؟ ما نتاش شايفني راجع، شاري. واصل ع الشيخ منصور؟ واصل إن شاء الله. طب بذمتك وحياة الشيخ منصور على قلبك بكام؟ بسبعة وتمانين جنيه وربع وبريزة للسمسار. يا راجل أنا ذممتك وحلفتك بالشيخ منصور. وحياة الشيخ منصور والذمة والأمانة والديانة وحياة شيخ العرب السيد بسبعة وتمانين جنيه وربع وبريزة للسمسار، يا راجل أنت اشتريت وخلاص، بري ذمتك وقول الحق. وأنا يعني ح أكذب عليك ليه، ما قلت لك الحق. بقى بذمتك وديانتك والأمانة عليك وبركة الشيخ منصور وديتها رقبتك بسبعة وتمانين جنيه وربع؟ وديني وما أعبد وحياة ربنا اللي أكبر من الشيخ منصور ومني ومنك ومن الدنيا كلها بسبعة وتمانين جنيه وربع وبريزة للسمسار. طب روح يا شيخ إلهي إن كنت كدبت ما توعى تعلقها في المحرات.
وتركه ومضى، ولو كان قد بقي أمامه لحظة أخرى لما كان قد استطاع كبح جماح الخاطر الذي كان يلح عليه باستمرار، أن ينتف ذقنه شعرة شعرة.
وما كاد يمشي أربع أو خمس قصبات حتى، برجاء حار، استوقفه شخص كان متنحيا جانبا، يعمل مثل الناس، على حافة الخليج الموازي للطريق، وحتى قبل أن ينتهي، وهو لا يزال القرفصاء، لوى رقبته وسأله: بالذمة والأمانة بقد إيه؟ - بسبعة وتمانين وربع وبريزة. - إيه اللي سبعة وتمانين وربع وبريزة، هم مش يبقوا سبعة وتمانين وخمسة وتلاتين صاغ. - طب يا سيدي ما تزعلش سبعة وتمانين وخمسة وتلاتين صاغ. - أمال الأول قلت وبريزة ليه؟ - عشان هي بسبعة وتمانين وربع وبريزة للسمسار. - بقى أبقى محلفك بالذمة والأمانة وتكذب. - أنا كدبت؟ - مش قلت بريزة للسمسار، هي البريزة تخش في التمن؟ - ما دام دفعتها تخش.
لا ما تخشش. تخش. لا ما تخشش. تخش. أنت كداب. أنت بارد. تفوه عليك نفر. تفوه عليك وعلى اللي خلفوك. وهو لا يزال متشبثا باستماتة في حبل البقرة اندفع ناحية الرجل يريد أن يطبق عليه وينتهي منه، وكان الرجل هو الآخر قد أوقف ما كان يقوم به واندفع ناحيته ويده مستميتة هي الأخرى على «دكة» السروال المفكوك، وبيد متشبثة والأخرى طليقة تريد أن تغور في زمارة رقبة الآخر، كادا أن يتماسكا، لولا أن أولاد الحلال وما أكثرهم على الطريق حالوا بينهما في آخر لحظة، وبعد محاولات لصلح فاشل، اندفع كل منهما، الرجل إلى حافة الخليج، وهو ناحية بلده وبينهما حبل طويل غليظ من الشتائم ظل يمتد ويرق كلما ابتعدا حتى انقطع، وسكت مخنوقا، ومد يده يبحث عن العلبة ليلف السيجارة غير أنه اكتشف أنه فقدها في الخناقة، وبلغ به الغيظ حد أنه لم يحتمل مجرد فكرة العودة للبحث عنها في مكان الخناقة.
وهو في قمة غيظه إذا برجل، يرتدي في عز الحر عباءة، مؤدب وقصير، ما كاد يفتح فمه ويقول: بالذمة والأمانة عليك، حتى كان قد رفع يده إلى آخرها دون أن يدري ثم هوى بها على صدغ صاحب العباءة الممدودة في أدب ووقار.
وارتاع الرجل حتى سقطت العباءة من فوق كتفيه، وفكر أن يمسك بخناقه، ولكنه في اللحظة التالية كان قد راجع نفسه، وحين تلفت حوله فلم يجد أحدا من المحتمل أن يكون قد رآه وهو يصفعه عاد للسير وكأن شيئا لم يحدث وهو يقنع نفسه أن الرجل لا بد مجنون هارب من مستشفى المجاذيب.
وما كاد هذا يحدث حتى وجد صاحب البقرة نفسه يضحك ضحكا عاليا متواصلا وكأنه قد جن فعلا، وبلغ به الاستهتار حد أنه حين سمع السؤال يلقى عليه من جانب الطريق، اندفع ناحية السائل ورفع يده يحاول أن يهوي بها على صدغه، ولكنه فوجئ بيد حديدية تقيد يده في مكانها، وبكف كأنها من بلوط تهوي على صدغه هو بأربعة أقلام سخية نظيفة جعلت عينيه تقدحان شررا، بل أعمته إلى درجة لم ير معها ضاربه، ولا فطن إلى أنه ضرب إلا بعد أن أصبح بينه وبين المعتدي مشوار ومشوار.
وعند كشك المرور تماما، سأله تاجر قمح تخين كان يفرش على جانب الطريق يشتري بالأقداح والشروات من الذاهبات إلى السوق: إلا قولي يا شيخ العرب، بالذمة والأمانة بكام؟
ولم يكن عربيا أو شيخ عرب، ولكنه بمنتهى التأدب أو بهدوء غريب، لا أثر مطلقا لأية ثورة فيه أجاب: بسبعة وتمانين وربع وبريزة للسمسار.
وكأنه لأول مرة يدرك، وبصفاء أيضا، أنه باع كل شيء ليشتري هذه البقرة بعدما ماتت جاموسته في أول شعبان، بل فطست ولم يلحقها الجزار بالسكين حتى، ولثلاثة أشهر وهو يدبر، وعلى المحصول الذي لا تزال أمامه أربعة أشهر طويلة، ومحفظته إن كانت لم تسرق في الخناقة فليس بها غير جنيه وربع هي آخر ما تبقى معه من نقود في الحياة، بسبعة وتمانين جنيه وربع وبريزة للسمسار، قالها مرة أخرى، وبصوت مخنوق أعلى حتى حدق فيه التاجر مذهولا لا يستطيع النطق.
وما كاد يلتفت حتى هبط من فوق جسر السكة الحديد رجل كان يحمل عنزة على كتفه، وما إن فتح فمه لينطق، حتى قال: بسبعة وتمانين وربع وبريزة للسمسار، وبعد برهة قابلته امرأة تحمل مقطفا ثقيلا وتنوء بحمله، وقبل أن يصلها أو تدرك وجوده رفع صوته وقال: بسبعة وتمانين وربع وبريزة للسمسار.
وقالت المرأة «يه»، ثم حثت الخطو وكأنها تهرب من شبح.
وعند التابوت كانت جماعة قادمة من طريق التوت بعضها راكب وبعضها ماش، ورفع صوته إلى أقصى ما يستطيع وقال: بالذمة والأمانة بسبعة وتمانين وربع وبريزة للسمسار.
وضحكوا، وقال واحد: الناس انهبلت، بينما تخلف ولدان راحا يشبعانه تريقة وسخرية.
وعلى مدخل البلدة رأى جاموسة ترعى على حافة «القيدة» فصرخ فيها: بسبعة وتمانين وربع وبريزة للسمسار.
واستدارت الجاموسة ناحيته، ورمقته في بلادة وكسل ثم عادت تعسعس بشفتيها وأسنانها على الحشيش.
وحين دخل بلده، كان يصيح، سواء سأله أحد أم لم يسأله، قابل شخصا أم لم يقابل، يقولها هكذا للزرع وللحيطان، وللحر أو للسما وللأوز وللجنيه وربع، وللأربعة أشهر والأربعة أولاد والولية، وللبهيمة التي ماتت، وللبقرة التي يسحبها، وللشيخ منصور، ولنفسه، وللدنيا كلها: بالذمة والأمانة والديانة وبكل كتاب أنزل، بسبعة وتمانين جنيه وربع وبريزة للسمسار.
هي1
- هووه.
مبكرا وقبل يقظتي التامة جاءني الصوت منخفضا قويا فيه همس (الفانفار) اقشعر جسدي، قلت: هوووه.
عاد يقول: قوم، عندك ميعاد في العتبة.
استيقظت تماما، نسيت الشاي، غادرت البيت، أصبحت في العتبة، عندك ميعاد في العتبة، أين؟ لا جواب، متى؟ لا جواب، مع من؟ لا أعرف، انتصف النهار، بدأ القيظ، ضوء الشمس اشتد وكأنما شحنت بطارياتها إلى آخرها، كثر الذباب، تزاحم الناس أكثر وعزلتهم وضحت، عندك ميعاد في العتبة، أنا في العتبة، القلب القديم لقاهرة قديمة، قاهرة واحدة كان لها قلب واحد، اليوم بمائة قلب، بلا قلب، الميعاد في العتبة، كيف أطيع الصوت وأنا العلمي الذي لا يؤمن بالدجل، حاولت العودة ، فشلت، أصبحت، لا أعرف كيف، مقيدا حبيس الميدان وحولي سور خفي مكهرب لا أستطيع اجتيازه، الميعاد متى ومع من ولماذا؟ لا أعرف، الميعاد في العتبة.
مر أسبوع وأنا سجين القهوة واللوكاندة والميدان، حدودي فتحات شوارع محمد علي والعباسية ومسرح الأوزبكية والمطافي، البنايات القديمة حراسي، الناس، النظرات أجنحة الذباب، مقيدة مثلي بقوة قاهرة، كل شيء قديم تهب منه رائحة الزمن كجو مقبرة تفتح بعد مائة عام، الميدان يضيق، خطواتي فيه تتحدد أكثر، لم يعد باستطاعتي إلا أن ألف حول عربة الترام الثابتة في الميدان، في نهاية اليوم العاشر لم أعد أستطيع التحرك، شدت قدماي بطريقة حاسمة ومجهولة إلى جوار العربة، ظللت في مكاني يومين بلا نوم أو طعام، في الضحى، وفي موكب، أقبلت عربة «بويك» زرقاء من آخر موديل حلياتها النيكل مصنوعة من ذهب، العيون والأفواه المفتوحة حولها وتتبعها، قائدها كالسائقين لدى العائلات الكبيرة يرتدي معطفا أبيض وقفازا أبيض وقبعة ذات حافة، توقف أمامي وقال: اركب.
لمحت خيبة الأمل في كل العيون المعششة حولنا وكأن كلا منهم كان يتوقع نفس الدعوة. - أنا؟ - أيوه أنت. - متأكد؟! - أنت مش عند ميعاد في العتبة، اركب.
أأركب؟
سألت: على فين؟
قال: هي عايزاك. - هي مين؟ - اركب.
أأركب؟
خفت.
التقت عينانا.
لم أجسر على المعارضة.
ركبت.
انطلقت العربة.
غادرنا العباسية في اتجاه ترب الخفير، بدأ طريق يصعد بنا كان واضحا أنهم انتهوا من رصفه من لحظات وأنه يطوى طيا بعد أن تمر به العربة. - إحنا في المقطم؟
سألت وقد بلغنا أعلى نقطة، لم تستدر الرقبة الغليظة، لم أظفر بجواب، أعدت السؤال مجددا وبصوت أعلى، لم يأتني إلا الصمت، سكت، أتكون هي، هي هي؟ أتكون هي؟ أم تراها أسطورية كعائشة التي قرأت عنها صغيرا، ولكنا لسنا في رواية، أعرف الفرق تماما بين الأحلام والواقع، وبين الأساطير والحقيقة، العربة حقيقية والسائق حقيقي وهضبة المقطم حقيقية، حتى «فانفار» هوووه لا يزال يرن في أذني رنينا حقيقيا له وجود كوجود حركة عقرب الثواني في ساعة معصمي، معصمي حقيقي ومستيقظ ويؤلمني حين أعضه. - انزل.
كانت العربة دون أن أشعر قد وقفت، وكان عقرب الثواني لا يزال يتحرك ولكن الزمن توقف، مع العربة توقف، لم أنزل. - انزل.
الأمر صريح، نزلت، انطلقت العربة بسرعة خاطفة، اختفى هيكلها قبل أن يختفي صوتها، عدت إلى ما حولي، صحراء واسعة ممتدة، صحراء غير مستوية، لا شيء هناك ولا في أي اتجاه، لا أحلم، قطعا لا أحلم، خلعت الساعة، قربتها من أذني، التكتكة مسموعة، أنا لا أحلم، أنا موجود والقاهرة مختفية في مكان ما، ولكنها قريبة وموجودة.
سرت خطوات، عشر خطوات كيفما اتفق، فجأة وجدت أمامي بوابة، بوابة بالتأكيد موجودة من زمن، فعمرها لا يقل عن نصف قرن، بابها من حديد هائل الضخامة قد تراكمت فوقه طبقات الصدأ، عليه زرع أخضر له سيقان غليظة عمرها أكثر بكثير من عمر الرجل، وزهورها حمراء طازجة نبتت من ساعات، البوابة مغلقة، لم تفتح من أحقاب، الظل جميل بعد لفح الشمس، الخضرة تجعل من الظل جنة، البوابة من جماد، ولكنها أشعرتني بالونس، افتح يا سمسم، لم تفتح البوابة، واضح أنها مستحيل أن تفتح.
جلست أنتظر، لم يكن أمامي إلا أن أنتظر، غابت الشمس، نمت، صحوت، أشرقت الشمس، مالت، غابت، نمت، حلمت أني أمثل دورا في السينما وأني أحتضن البطلة أمام مخرج عجوز، عيون الكاميرا كانت تضايقني، صحوت، أنا جوعان، بدأت أمضغ الأغصان الجافة، أحسست لها بلذعة، كففت، خفت أن تكون نباتات سامة أو مخدرة، أخطأت وألقيت ناحية الشمس نظرة، لم أستطع سحب نظرتي، جذبتها الشمس تماما وابتلعت وعيي، عميت، عمى أبيض مليء بحمرة كالدم، حين غربت الشمس عدت للوعي والرؤيا ووجدت البوابة مفتوحة، دخلت، انطلقت بكل قواي أجري، الحديقة واسعة، مزدوجة بالأشجار، الظلام يتكاثف، أنا جوعان والأشجار أشجار جوافة، أكلت، عاودت الجري في خط مستقيم ربما أصل إلى هدف، شعشع الفجر، أحسست بطريقة ما أني محاصر، توقفت، من خلف كل شجرة برز مارد أطول مني بكثير، ربما مائة أو أكثر، أحاطوني، اكتشفت حين اقتربوا أنهم عرائس خشبية ضخمة وأن مفاصلها من خيوط وأسلاك، تحركنا، أنا في الوسط وهم حولي، طال المشوار، غابت الشمس.
لم أنم، ظل حراسي مستيقظين، في منتصف الليل سمعتهم يتحدثون وقد انقلبوا من عرائس رجال إلى عرائس نساء.
سألت أقرب جاراتي الحارسات: من تكون هي؟ أتكون هي هي؟
لم تجبني، غمغمت لجارتها: هذا الجلف. إنها أجمل من كليوباترا. - أكثر أنوثة من أفر وديت. - ساقاها أمتع من وليمة جنسية. - فخذاها امرأتان فاجرتان. - أعماقها غيبوبة أروع من الوعي. - هذا الجلف.
أشرقت الشمس.
كنت وحدي بلا حراس ولا عرائس.
في مواجهتي تماما باب أنيق لقصر. القصر مبني بطريقة حديثة كأنه ديكور لفيلم من أفلام المستقبل.
كان الباب مفتوحا.
دخلت.
الصالة مساحتها عشرة فدادين، السجادة كيلومتر مربع في الصالة ثلاثة كراسي في ثلاثة أركان.
كنت متعبا، جلست على أقرب كرسي، نمت، استيقظت لأجد الجدران قد حفلت بألف باب.
عرفت أن علي أن أخمن وأختار.
اخترت أبعد الأبواب.
دخلت.
مشيت عاما.
أين تراها.
تعبت.
حاولت العودة.
وجدت نفسي في منتزه واسع مفتوح، والدنيا ربيع وفي الوسط «بيسين» يتسع لمدينة تستحم، وكانت فيه امرأة واحدة عارية تماما وبعيدة جدا.
كانت هي.
وكان علي أن أنتظر.
وانتظرت أنا والشمس، هي تشرق وتغيب وأنا لا أتحرك، وبعد أيام عرفت أنها غادرت الحمام وأنها في طريقها إلى التعطر والمنام.
وانتظرت. - هوووه. - هوووه. - ادخل.
بعد أحقاب.
دخلت المخدع.
السرير كرسي عرش ممدود والجدران لوحات بانورامية حية والنور المصنوع مختلط بنور القمر بلا تفرقة، وبأصبعها أشارت، وسرت وبأصبعها أشارت وتوقفت عند قدمي السرير وخلعت ملابسي، وأشارت وأقبلت جواري حملتني إلى الحمام، وأشارت وجيء بي وقد أعددت تماما وأشارت وأصبحت بجوارها تماما في الفراش وجيء بالطعام، وأكلت، لي أعوام وأنا جوعان، وبالشراب، شربت لي أعوام لم أغب عن الوعي، وفعلت كل هذا وأنا ذاهل فقد كانت هي أجمل وأروع من كل ما حلمت وتصورت، لكأنما كل نساء العالم قشور وهي قلبهن جميعا، أعماقهن، كل ما فيهن من رقة وحنان وأنوثة.
وجاءت اللحظة واسترخت فوق الفراش تناديني، ولبيت النداء، وأشارت وأطفئت الأنوار وأشارت وانطفأ القمر، وتحسست جسدها وأنا ذائب معها في قبلة واقشعرت يدي وهي تلامس فخذها، كان خشنا مليئا بالشعر رفيعا طويلا كساق المعزة ينتهي بحافر كحافر الحمار، اكتشفت أن الأنثى التي أنا غائص فيها كانت مؤخرة رجل فاجر الشذوذ، غاص قلبي وانطلقت أجري أبحث عن باب المخدع، أتعثر في غثياني وأبحث عن باب المخدع ولا باب، أجري ولا باب وأتعثر في غثياني ولا باب.
صفحة غير معروفة