كانوا يعتبرون القناصل - فيما مضى - رهائن في الأساكل. بيد أنهم رهائن لطيفة يجب أن تعامل بلين؛ فما من عمل أجدى من مطالبة الدولة بحماية التجارة، والمحافظة على أمن صحيح في البلدان الخاضعة لأعمال القناصل، على أن تزورها غالبا سفن جلالة الملك، فيرى الناس بدهشة هيئتها الفخمة.
كنت على ظهر الباخرة «إيفجيني» التي تقل صاحب السمو الأمير ده جوانفيل، فأعلنوا وصول حاكم بيروت، فتقدمت إلى جسر السفينة لأقوم بالترجمة، فرأيت عليه الاستغراب الذي فوجئ به عند وصوله إلى الشاطئ. ومع أنه شاهد منذ أيام قليلة أجمل بارجة أميركية، ومثل هذه البارجة لا تنزل إلى البحار إلا بعد أن تستكمل زينتها الخاصة، قال لي: لا وجه للمقابلة؛ فهنا الروعة والأناقة بأسمى معانيهما.
إن أكبر مرارة يشعر بها القنصل - في أثناء قيامه بمهمته - هي أن يرى نفسه مضطرا إلى الابتعاد عن وطنه، وأن يعيش شبه منسي. ففي فرنسا - سواء أكان ذلك في الجيش أو في البحرية - تقدر أعمال كل امرئ دون أن يكون للوساطة يد في الدلالة على أعماله المشرفة. إن عدل الرؤساء يأبى أن يبقى واحد منهم منسيا؛ فالوزراء هم الذين يقترحون على الملك ترقية الموظفين ومكافأتهم، والحق يقضي أن يكافأ كل من أحسن العمل. إلا أنه في بعض الأمكنة التي تزاول فيها وظيفتنا القنصلية، قد يبدي القنصل المتفرد باستحقاقه دهاء عجيبا فلا يعود عليه ذلك بأقل شهرة. لقد رموه في فم المهالك كخفير مخاطر به، ثم نسوه، فأمسى ولا عزاء له سوى راحة ضميره وتهاني مواطنيه المحيطين به في دار غربته. إن هذا كثير بلا ريب، وهو كاف للإفرنسي الذي خلق أقل حبا للفخفخة. إننا نود أن نحب عندما نخدم، فكيف نثبت أننا نلنا رضى رؤسائنا وحققنا آمالهم إذا لم يبدوا لنا سرورهم على سمع الناس وبصرهم؟
هوامش
الفصل السابع عشر
تفريق بين القناصل ونواب القناصل والوكلاء - المساوئ التي نتجت في سوريا من جراء تعيين - بعض «الرؤساء» في هذه المراكز. ***
اعتاد الناس ألا يميزوا بين الدرجات القنصلية؛ فيطلقون اسم القنصل على نائبه وعلى وكيله. فالملاك القنصلي الفرنسي مؤلف من درجتين؛ أولى وثانية، ومن نواب قناصل ووكلاء. وهؤلاء كلهم يعينون من المواطنين، ولا يكونون من «الرؤساء» الأجانب إلا عند الافتقار إلى فرنسيين، ولدواع هامة. والملك هو الذي ينتقي جميع قناصلنا ويصرف لهم رواتبهم. أما النواب والوكلاء فقد ترك حق اختيارهم للقناصل ليستطيعوا توجيههم في الطريق الأمثل والأجدى نفعا، ويكسبوا احترامهم. ولما كان هؤلاء القناصل يعرفون ما عليهم وما لهم نحو رعايا الدولة التي يخدمونها والبلاد التي يقيمون فيها، فإنه يسهل عليهم أن يسدوا إلى نوابهم ووكلائهم النصائح الملائمة عندما يتجاوزون حدود النظام، أو يخالفون التقاليد المتبعة في البلاد.
ليس بين الدول الأجنبية دولة تعين حكومتها القناصل سوى إنكلترا وسردينيا، أما الدول الأخرى فتكل هذه المهمة إلى السفراء الذين قلما يجدون بين رعاياهم أكفاء لهذه المناصب.
إن أنظمتنا تحظر على الإفرنسيين قبول أية مهمة قنصلية من حاكم أجنبي أو من ممثليه. وهذا المنع هو في منتهى الحكمة، وبه يسود الامتثال التام بين مواطنينا ، ولكن هذا المنع لا يتعارض مع حماية رعايا الدول التي لا قنصل لها عند الضرورة. إن نظامنا يوصي بهذه الحماية التي اشتهرت بها فرنسا، وكان لها دائما فضل حماية الأشخاص الذين التجئوا إلى موظفيها أينما وجدوا. قد تكلف هذه الحماية كثيرا من يقوم بها، وهي دائما بلا عوض بالنظر للمحمي، ولكنها مجد وطني لا يقدر شرفه إلا من يذهب إلى الشرق ويقف بنفسه تجاه الشدائد وجها لوجه. ولو كانت الثقة متبادلة بين الدول لألغت عددا ضخما من المراكز القنصلية التي تحط من كرامة دولة أنشأتها لتعزيز مركزها، وتضر بها أكثر مما تنفعها. إن ذلك يكون متى أيدت جميع الدول طريقتنا الحازمة في تنظيم مهامها القنصلية.
وعندئذ لا نبقي في جميع الأساكل إلا قناصل مواطنين. وحيث لا يمكن إيفاد أحد منهم، فالذين يقيمون هناك يحصلون على مساعدة التجار والربابنة والسائحين الأجانب؛ وهكذا تصبح الخدمات متبادلة. فهنا - مثلا - يوكل أمر الحماية إلى قناصل فرنسا والنمسا، وهناك تتعهده قناصل إنكلترا وروسيا وسردينيا وبروسيا ... إلخ.
صفحة غير معروفة