مضينا في عكس الاتجاه الذي جئنا منه بالأمس، ومررنا بمجموعة من المسلحين أسفل شرفة ارتفع فوقها علم «المرابطون»، وجلس بها شاب طويل القامة شرس الملامح في ملابس عسكرية، أسند مدفعا رشاشا على حاجز الشرفة، وانهمك في تنظيف شريط طويل من الطلقات النحاسية اللامعة. وعلى بعد خطوات وقفت مصفحة تحمل لافتة قوات الردع بجوار مكتب لسيارات الأجرة. وفي مواجهتها - على الرصيف الآخر - صف أحد الباعة كميات من السجائر والخمور والشكولاتة وموانع الحمل فوق صناديق من الكرتون أسفل مظلة خشبية.
اخترقنا عدة طرقات هادئة، سدت أجولة الرمال مداخل منازلها، واصطفت السيارات الخالية على جوانبها. وجذبني وديع من ذراعي بعيدا عن حافة الرصيف قائلا: أي واحدة من هذه السيارات يمكن أن تكون ملغومة وتنفجر فجأة.
انتقلنا إلى طريق زحمته مجموعة من المدرعات تحمل شارة قوات الردع، اعتلاها جنود يرتدون الخوذات الحديدية. وكانت تقف أمام مبنى ارتفعت عليه إحدى الرايات، وبدت آثار الدمار على الحوانيت المغلقة أسفله.
خرجنا إلى ساحة وقفت في جانب منها سيارة نقل عسكرية، نصب مدفع رشاش فوق كابينة سائقها، وأقعى خلفه جندي عاري الرأس. وظهر وراءها حانوت مغلق تعلوه لافتة ممزقة بقيت منها كلمة «ملحمة» التي اشتقها أهل الشام من اللحم. وفي امتداد الشارع الذي جئنا منه، تأرجحت في الهواء بقايا لافتة أخرى تحمل حروفا لاتينية ميزت منها كلمة «بار».
مرت بنا عدة سيارات عسكرية تحمل إشارة الكفاح المسلح الفلسطيني. ومضينا من أمام فندق تحطمت واجهته ، وانهمك عدد من الشبان في إزالة الحطام. وجاوره حانوت ذو واجهة عارية من الزجاج، كشفت عن رجل أنيق أحاطت به مصابيح العرض الحديثة التي تتألف من قضبان معدنية قصيرة ولامعة تنتهي بأطراف دائرية سوداء. وكان الرجل يجمع شظايا الزجاج بمكنسة ذهبية الشعر ويكومها في أحد الجوانب.
بلغنا فندقي، فدفعت حساب الليلة وأخذت حقيبتي وجواز سفري، وانطلقنا سيرا على الأقدام في اتجاه الحمرا. طالعتنا صور صدام حسين على مجموعة من البنايات المتجاورة تبينت أنها تحيط ببنك الرافدين العراقي. وبعد خطوات، تغطت الجدران بصور حافظ الأسد والخميني والقذافي. واعترضتنا إشارة المرور أمام بناية غطتها الأعلام الفلسطينية وصور ياسر عرفات والشهداء من ضحايا المعارك والاعتداءات والكمائن.
تذكرت شوارع القاهرة على الفور عندما دلفنا إلى الحمرا؛ فقد كان الشارع الذي يسير فيه المرور في اتجاه واحد قادما من المنطقة الشرقية ومتجها إلى البحر، يضيق بأربعة أنهار من السيارات المتلاصقة التي تتحرك ببطء. وازدحم الرصيف بالباعة والمارة ورواد دور السينما وحوانيت الساندويتش والشاورمة والمرطبات.
لاحظت قلة العنصر النسائي، والتباين الواضح بين مظهر أفراده الآن ومظهرهم في بداية العقد؛ فقد اختفت الأناقة والفخامة المستوردتان، اللتان كانتا من ملامح الستينيات وبداية السبعينيات. لكن المقاهي الأنيقة ما برحت تحتفظ بواجهاتها الزجاجية العريضة. وظل الزحام كما هو في المتاجر الفخمة التي تبيع الساعات والمجوهرات والفضيات والملبوسات.
تمهلنا أمام بائع كتب ومجلات افترش بضاعته على الرصيف، اشتريت نسخة من الترجمة العربية لكتاب مايلز كوبلاند «لعبة الأمم» الذي كشف سر غرفة اللعب الشهيرة في البنتاجون. كما اشتريت بضعة كتب ممنوعة من دخول مصر، منها واحد عن حرب أكتوبر ومعاهدة كامب ديفيد. وكانت هناك عدة مجلات جنسية منها واحدة جادة باللغة العربية قلبت صفحاتها ثم اشتريتها.
أشار وديع إلى كتاب لنجيب محفوظ في حجم غير مألوف، وآخر لجورجي زيدان ذي غلاف رخيص باهت الألوان، وقال: هذان الكتابان مزوران.
صفحة غير معروفة