قبل أن تقرأ
بيروت بيروت
خاتمة
قبل أن تقرأ
بيروت بيروت
خاتمة
بيروت بيروت
بيروت بيروت
تأليف
صنع الله إبراهيم
قبل أن تقرأ
واكبت سنوات مراهقتي نهاية العهد الملكي في مصر. كانت البلاد تموج بدعوات التحرر الوطني من الوجود الإنجليزي العسكري، والتحرر الاجتماعي من سيطرة الإقطاع، ومن الأمية والمرض والحفاء! .. وشكلت هذه البيئة وجداني، وخاصة الحديث عن أن المعرفة هي كالماء والهواء يجب أن تكون للجميع وبالمجان.
وفي مغرب يوم من سنة 1951م، كنا أنا وأبي عائدين من زيارة لأحد أقاربنا في شرق القاهرة. توقفنا في ميدان العتبة لنأخذ «الباص» إلى غربها حيث نقطن. اتخذنا أماكننا في مقاعد الدرجة الثانية. نعم! كانت مقاعد «الباص» آنذاك - والترام أيضا - مقسمة إلى درجتين بثمنين متفاوتين للتذاكر التي يوزعها «كمساري» برداء أصفر مميز أثناء مروره على الركاب.
جلسنا أنا وأبي خلف الحاجز الزجاجي الذي يفصل الدرجتين، وتابعت في حسد ركاب الدرجة الأولى، بينما كان أبي غارقا في أفكاره التي تثيرها دائما أمثال هذه الزيارات.
قلت بحماس طفولي: «سيأتي اليوم الذي يزول فيه هذا الحاجز، بل ويصبح الركوب بالمجان.»
تذكرت الروايات التي أعشق قراءتها فأضفت: «والكتب أيضا!»
تطلع إلي باستياء من سذاجتي: نعم! الكتب بالمجان؟ يا لها من سذاجة!
ولم أتصور وقتها أن يأتي اليوم الذي تصبح فيه كتبي أنا متاحة للقراءة بالمجان! وذلك بفضل مبادرة جريئة من مؤسسة مصرية طموحة، فشكرا لها!
صنع الله إبراهيم
بيروت بيروت
1
فتشوني مرتين؛ الأولى عند الحاجز الجمركي، والثانية أمام البوابة المؤدية إلى أرض المطار. وبين الاثنتين مررت أنا وحقيبة يدي الجلدية من دائرة تليفزيونية وبوابة إلكترونية. وكان في انتظاري واحد منهم على باب الطائرة، جاس بيديه أسفل إبطي وبين فخذي وداخل كل من حقيبة يدي وكيس السوق الحرة. وأخيرا سمح لي بولوج الطائرة.
توقفت بجوار أول مقعد فارغ صادفني، فأودعت الكيس بالخزانة المعدنية المثبتة في السقف، وجلست بعد أن وضعت الحقيبة على الأرض، بين قدمي.
فصلني مقعد فارغ عن كرة زجاجية انسابت منها شمس العصاري الواهنة، وبدت من خلالها اللافتة الضخمة التي تعلن عن ميناء القاهرة الجوي. استرخيت في مقعدي ومددت ساقي أسفل المقعد الأمامي. ولم ألبث أن أزحتهما جانبا مفسحا الطريق لراكب في جلباب أبيض سابغ استقر إلى جواري. ولمحت بركن عيني «الغطرة» السعودية تتدلى فوق كتفيه.
سمعته يزفر بشدة موجها الحديث إلي: يعاملون الواحد كأنه إرهابي أو فدائي.
انهمكت في تثبيت حزام المقعد إلى وسطي، ولم أعبأ بالرد عليه.
امتلأت الطائرة بعد لحظات، وانتشرت في أرجائها الجلاليب والملابس الريفية الثقيلة، تعلوها وجوه سمراء ناطقة بالرهبة والقلق، والتقطت عيناي البعض ممن ارتدوا ملابس أوروبية أنيقة، وأخفوا عيونهم خلف نظارات شمسية داكنة، واستقرت فوق ركبهم حقائب السامسونايت المحكمة. وكان ثمة نساء قليلات، كشف بعضهن عن أذرع بضة تحمل حقائب يد أشبه بصناديق الأحذية أو المجوهرات. ولم تكن بينهن فلاحة واحدة.
ارتفعت الطائرة أخيرا، فختم جاري الابتهالات التي كان يغمغم بها في صوت مسموع. وبعد قليل غاب الضوء عن الإشارة التي تطلب الامتناع عن التدخين، وجاءنا صوت قائد الطائرة مقدما نفسه، معينا السرعة والارتفاع، والمسافة الزمنية التي تفصلنا عن بيروت.
فككت حزام المقعد، وأخرجت علبة سجائري المصرية من جيبي، وأشعلت واحدة. اكتشفت من أول نفس أن الدخان يتسرب من ثقوب عديدة بها، فأطفأتها في منفضة المقعد. وقررت أن أؤجل التدخين بعض الوقت، مقللا من احتمالات الإصابة بالسرطان.
خاطبني جاري كأنما يواصل حديثا بيننا: ألم تنته الحرب من سنتين؟ لماذا إذن هذه الإجراءات؟
لم أفهم لأول وهلة أية حرب وأية إجراءات يعني، ثم أدركت أنه يشير إلى الحرب الأهلية اللبنانية، والتفتيش المتكرر الذي تعرضنا له.
أدرت رأسي نحوه وقلت: احتياطات لا ضرر من ورائها.
طالعني وجه أسمر لكهل في الستين، تتوسطه عينان ماكرتان، وتحف به لحية رمادية خفيفة، مدببة الطرف.
طافت عيناه بملابسي وشعري، وتمهلت عند إصبعي الخالي من خاتم الزواج، وبشائر الشعر الأبيض فوق رأسي. وتجلى فيهما تركيز بالغ وهو يتأمل الحقيبة الجلدية الملقاة بين قدمي.
شعرت بحاجة ماسة إلى الشراب، فأدرت رأسي إلى الناحية الأخرى، وملت بها في الممر الفاصل بين المقاعد، ملتمسا إحدى المضيفات. أحصيت في ذهني ما أحمل من دولارات مفردة. وقررت أن أطلب علبة بيرة، ثم تذكرت أن ثمنها يتجاوز نصف الدولار دون أن يبلغه كله. والغالب أن المضيفة لن تعيد إلي باقي الدولار؛ لأن الطائرة عربية، ونحن جميعا عرب. وبهذا الدولار يمكنني أن أحصل على كأس من الويسكي أو الجين، يبعث شيئا من الحيوية في عروقي.
استدار أحد ركاب الصف المقابل ناحيتي، قابضا على مسند مقعده بأصابع يكسوها طلاء أصفر اللون، وخاطب راكبا خلفي بلهجة مصرية، سائلا إياه عما إذا كان قد اشترى المسجلة من السوق الحرة.
أومأ السعودي إليه قائلا: هؤلاء ذاهبون للعمل في العراق. وهم مضطرون للسفر عن طريق بيروت؛ فمطار بغداد مغلق ومطار عمان لم يعد يحتمل المزيد.
اشتدت حاجتي إلى الخمر. ومرت المضيفة فطلبت منها كأسا من الويسكي. ولم أعبأ بنظرة الاستهجان التي رماني بها السعودي.
سألني بعد لحظة: بيروت وجهتك أم ذاهب إلى مكان آخر؟
قلت: لا، بيروت. - الشرقية أم الغربية؟
أوشكت أن أجيب تلقائيا بأنها الشرقية، ثم تذكرت أن بيروت هي المكان الوحيد في عالم اليوم الذي تنقلب فيه المدلولات السياسة للأوضاع الجغرافية.
قلت: الغربية، وأنت؟
قال: عندي أشغال في أماكن كثيرة.
أحضرت لي المضيفة زجاجة صغيرة للغاية تضم كأسا واحدة، وكوبا به قطع من الثلج. فتحت الزجاجة وصببتها في الكوب ثم هززته عدة مرات ورفعته إلى شفتي.
سرت الحرارة في جوفي، فأشعلت سيجارة، وأخذت أنفاسها ببطء.
سألني: سياحة أم عمل؟
أجبت: عمل. - أول مرة؟ - لا.
أفرغت الكأس، وشعرت على الفور بالرغبة في كأس أخرى.
عاد يسألني: معك عقد أم ذاهب للبحث عن واحد؟ - يمكنك أن تقول إني ذاهب للبحث.
سأل في اهتمام: ما هو عملك بالضبط؟ - الكتابة. - صحفي؟ - ليس تماما. - يعني لست ذاهبا للبحث عن عمل في إحدى الصحف؟
هززت رأسي نفيا.
قال: إذن ستبحث عن جهة تكتب لها؟ - أبدا، سأبحث عن ناشر لكتاب ألفته.
استغرق في التفكير، فسألته بدوري: وأنت .. ما عملك؟ - أنا كما تقولون باللهجة المصرية مقاول. - مقاول ماذا؟ - كل شيء.
ولوح بيده مشيرا إلى ركاب الطائرة من المصريين وهو يضيف: عندي مئات من هؤلاء في السعودية.
جعلت أتخيل الكأس الثانية.
سألني: هل تعرف مخرجا سينمائيا يدعى صبحي توفيق؟
فكرت قليلا، ثم أجبت بالنفي.
قال: كان عندي هذا الصباح في الهيلتون.
لم أعلق بشيء. وسكت هو لحظة ثم واصل أسئلته: لماذا لم تنشر كتابك في مصر؟
أجبت: لا أحد يريد نشره. - هل هو أول كتاب لك؟ - لا. - لا بد أنه كتاب سياسي.
قلت: بالعكس، إنه كتاب إباحي.
طرفت عيناه بسرعة ثم ركن إلى الصمت. وبعد قليل سألني في تردد: هل تكسب .. هذه الكتب؟
أجبت: أوهوه .. كثيرا.
أحسست أني أستحق كأسا أخرى، فقررت التضحية بدولار ثان. وأفضيت بمطلبي إلى المضيفة عندما مرت توزع الصحف.
أخذت منها صحيفتين لبنانيتين، ناولت إحداهما لجاري. ولمحت معها عدة صحف أمريكية فأخذت إحداها. ألقيت نظرة على النصف الأسفل للصحيفة اللبنانية، فألفيته موزعا بين ثلاثة موضوعات رئيسية؛ الأول عن المؤتمر الصحفي الذي عقده ريجان بعد انتخابه رئيسا للولايات المتحدة. والثاني عن قصف إسرائيلي جديد للجنوب اللبناني. أما الثالث فكان يتضمن تصريحا لوزير خارجية العراق يدافع فيه عن الحرب التي شنتها بلاده على إيران قائلا إنها ستحرر القوى الاقتصادية والعسكرية العراقية من «الشاغل» الإيراني لتصبح قادرة على التصدي للخطر الإسرائيلي.
بسطت الجريدة فطالعني في صدرها عنوان كبير نصه: «قرارات حاسمة بوقف إطلاق النار في بيروت الغربية». بحثت عن التاريخ فوجدته السابع من نوفمبر، تشرين الثاني 1980، وهو تاريخ اليوم. عدت إلى النبأ فقرأت ما يلي: «تم في الساعات الأخيرة اتخاذ قرارات حاسمة لتطويق الاشتباكات التي جرت في اليومين الأخيرين ببيروت الغربية، وذلك في أعقاب سلسلة من الاتصالات بين قادة الأحزاب والهيئات اللبنانية، والمنظمات الفلسطينية، والسلطات السورية.»
وقرأت أسفل ذلك التفاصيل الكاملة للأحداث المشار إليها. وقد بدأت عندما كانت سيارة رئيس نقابة بائعي الخضر في بيروت الغربية، ويدعى «منير فتحة»، تحاول العبور في أحد التقاطعات قبل سيارة أخرى يقودها أحد أعضاء الحزب القومي الاجتماعي. وتبادل السائقان الشتائم، ثم أشهر كل منهما مسدسه في وجه الآخر. وبادر سائق السيارة الثانية بإطلاق النار فأصاب رئيس النقابة في مقتل، وسارع بالفرار.
وما إن علم بالحادث ابن القتيل، وهو من قادة التنظيم الناصري المعروف باسم «المرابطون» حتى شكل في الحال مجموعة عسكرية من أعضاء التنظيم هاجمت منزل بشير عبيد، أحد زعماء الحزب القومي الذي ينتمي إليه القاتل. ووجد المهاجمون لديه زعيما آخر من زعماء الحزب هو الشاعر كمال خير بك، وابنة أخته الشابة ناهية بجاني، فأعدموا الثلاثة. وتفجرت الاشتباكات بين أعضاء الحزبين على إثر ذلك.
فتشت في أنحاء الصحيفة عن تفصيلات جديدة فلم أجد سوى إشارة إلى افتتاحية لجريدة «السفير» اللبنانية تقول فيها إن الميليشيات المسلحة في الغربية، سواء كانت تابعة أو محسوبة على الحركة الوطنية أو المقاومة الفلسطينية أو الحكومة السورية، أو - بتعبير الصحيفة - «فاتحة على حسابها»، هي المسئولة عن الانفلات الأمني والتسيب، وما يقع في ظلهما من جنايات وجرائم، ابتداء من القتل والسطو المسلح، إلى فرض الإتاوات واغتصاب الشقق والبنايات، إلى تكدس النفايات.
وضعت الجريدة جانبا، وبسطت الجريدة الأمريكية. كانت بتاريخ اليوم السابق. وعثرت في ذيل الصفحة الأول على مربع صغير بعنوان: «الحرب التي لا تريد أن تنتهي». ومرت عيناي بسرعة على السطور التالية: «تعطي الاشتباكات المسلحة التي جرت أمس في بيروت الغربية صورة بالغة الدلالة لما وصلت إليه الأمور في لبنان، منذ اندلاع الحرب الأهلية في سنة 1975، بين أبناء هذا البلد الجميل (3 ملايين نسمة قبل الحرب، انخفضوا إلى مليونين ونصف الآن).»
فمن الناحية الرسمية انتهت هذه الحرب عام 1977، بسيطرة قوات الردع العربية التي تتألف غالبيتها من قوات سورية. لكن الاشتباكات المختلفة لم تتوقف حتى الآن بصورة نهائية بين الجانبين المتصارعين. والأكثر من ذلك أن هذه الاشتباكات تركزت في الآونة الأخيرة بين القوى المختلفة داخل كل منهما، بصورة تعيد إلى الأذهن صراع عصابات شيكاغو في العشرينيات والثلاثينيات، والمعارك الدموية بين عائلات المافيا.
ففي 7 يوليو، تموز الماضي، قاد بشير الجميل (33 سنة)، القائد العسكري الشاب لميليشيا الكتائب المارونية، والحاكم الفعلي لبيروت الشرقية، حملة تصفية على مراكز شريكه في الجبهة المارونية، كميل شمعون، أطلق عليها ساخرا لقب «الحركة التصحيحية»، وقتل في ساعات قليلة أكثر من 500 من رجال ميليشيا «النمور» التابعة للأخير. وبالنتيجة، وافق شمعون صاغرا على الاشتراك في اجتماعات المجلس العسكري ل «القوات اللبنانية» بقيادة بشير الجميل، مقابل استمرار حصوله على نصيبه من أرباح ميناء ضبية، بالإضافة إلى مليون دولار نقدا.
وقبل أربعة شهور من مذبحة النمور، انفجرت شحنة متفجرات، تعمل بالتحكم النائي، في سيارة بشير الجميل، فأودت بحياة ابنته مايا (3 سنوات) التي ولدت عشية هجوم آخر دبره أبوها على القصر الصيفي للرئيس السابق سليمان فرنجية، في بلدة أهدن، راح ضحيته ابنه الأكبر طوني (36 سنة) وزوجته فيرا (32 سنة) وابنتهما جيهان (3 سنوات).
وقد رافقت هذه المذابح صعود بشير الجميل، وسعيه لفرض زعامته على الجبهة المارونية أو «الجبهة اللبنانية» كما تسمي نفسها، والتي تتألف من قوات بيار الجميل (الكتائب) وشمعون (النمور) وفرنجية (المردة)، فضلا عن شربل قسيس (المجلس الدائم للرهبانيات)، وإتيين صقر (حراس الأرز).
وعلى الناحية الأخرى من الخط الأخضر الذي يفصل شطري العاصمة اللبنانية، تدور معارك مماثلة بين القوى العديدة التي تتألف منها الجبهة المضادة التي تسمى أحيانا بالإسلامية، وأحيانا أخرى بالوطنية، وأحيانا ثالثة بالتقدمية، وأحيانا رابعة باليسارية.
وبالإضافة إلى المنظمات الفلسطينية التي يرتبط بعضها ببلاد عربية متناحرة مثل العراق وسوريا أو السعودية وليبيا، فإن هذه الجبهة تتألف من أحزاب ناصرية يتوزع ولاؤها بين العراق وسوريا وليبيا، وتنظيمين بعثيين يتبع أحدهما العراق، ويسير الآخر خلف القيادة السورية، وآخرين شيوعيين يرفعان راية ماركس ولينين، وحزب اشتراكي يعبر عن الأجنحة الليبرالية في طائفة الدروز، وجماعات إسلامية متفرقة، يمثل بعضها الزعامات التقليدية لطائفتي السنة والشيعة، وهي زعامات شبه إقطاعية تربطها خيوط وثيقة بالأنظمة الملكية في العالم العربي، بينما يمثل البعض الآخر زعامات جديدة لهاتين الطائفتين، يحظى بعضها بمساندة الخميني، ويحظى البعض الآخر بدعم القذافي.
ومن السهل أن تنشب المنازعات بين هذه الجماعات المتباينة، كرد فعل للصراعات القائمة بين الأنظمة العربية، أو بسبب التنازع على مناطق النفوذ. كما أن الشجار التافه في الطريق يمكن أن يؤدي إلى اشتباك واسع النطاق؛ فكل شخص يتبع بصورة أو أخرى أحد التنظيمات أو إحدى الجماعات. وبحكم التفكير العشائري القبلي السائد، لا بد أن تهب الجماعات التي يتبعها إلى نصرته، ظالما أو مظلوما، باللغة الوحيدة السائدة، وهي «لغة المسدس».
وختمت الصحيفة تعليقها قائلة: «إن الساعات القليلة القادمة ستبين ما إذا كان يمكن تطويق الاشتباكات وفرض النظام، أو أن البلاد ستواصل الانحدار إلى هاوية لا يعرف أحد لها قرارا.»
كان السعودي يقرأ صحيفته باهتمام وهو يتطلع إلي بين الفينة والأخرى في قلق، محاولا أن يستشف انطباعي، وتركت وجهي جامدا حتى انتهيت من القراءة، فالتفت إليه وقلت: الظاهر أننا جئنا في الوقت المناسب.
2
تناولت جواز سفري من ضابط الجوازات الملول، ودسسته في الحقيبة المدلاة من كتفي، ثم حملت حقيبة السفر في يدي اليمنى، وكيس السوق الحرة في اليسرى، وعبرت حاجز الجوازات إلى صالة المطار الصغيرة، دون أن يحفل أحد بتفتيشي ولو من باب الحماية الجمركية.
مضيت إلى نافذة البنك، فاستبدلت خمسين دولارا بسعر أربع ليرات للدولار الواحد. واتجهت إلى الباب الخارجي للمطار، فبلغته بعد خطوات معدودة. كان ثمة صف من سيارات الأجرة، خارج الباب مباشرة، يشرف عليها شرطي يحمل دفترا. ولمحت السعودي بجوار إحداها، وسمعته يطلب من السائق أن يأخذه إلى المنطقة الشرقية.
تقدمت من السيارة التالية وذكرت وجهتي لسائقها، فغادر مقعده ودار حول السيارة. تبعته وناولته حقيبة السفر ليودعها صندوق السيارة الخلفي، ثم مضيت إلى الشرطي وسألته في صوت خافت عن الأجرة التي يتعين علي دفعها، فقال: ثلاثين ورقة.
صاح السائق من مكانه عند السيارة: ثلاثين ما بتسوى، الكل بيدفع أربعين.
زجره الشرطي برفق وهو يشير إلي أن أركب.
تمسك السائق بموقفه صائحا: ما بدي روح ع الغربية.
عنفه الشرطي: ولاك، ما تصرخ. بتركبه ولا ياخذ السيارة اللي بعدك؟
استسلم السائق وصاح بي: عجل يا زلمة.
ركبت في المقعد الخلفي، وانطلق السائق بالسيارة، وهو يغمغم لنفسه مزمجرا، وقام بدورة سريعة وضعتنا على الطريق الرئيسي.
بدا طريق المطار مهجورا أكثر من المتوقع. وقد انتشرت الحفر وأكوام الأتربة على جانبيه. وأقبلنا على مجموعة من الجنود توارت خلف أحد هذه الأكوام وأحاطت بمصفحة تحمل عبارة «قوات الردع العربية».
غمغم السائق: هلق السوريين بيوقفونا.
توقفت سيارتنا أمام الجنود. وفحص أحدهم أوراق السائق ثم طلب جوازي. وبعد أن ألقى نظرة فاحصة داخل السيارة سمح لنا بمواصلة السير.
أشرفنا على مخيم برج البراجنة بمنازله المتواضعة المتلاصقة التي لا تعلو عن طابقين. ومررنا بمجموعة من المسلحين، يحملون شارات الكفاح المسلح الفلسطيني على أكتافهم، وقفوا خلف حاجز من البراميل. أبطأ السائق؛ استعدادا للوقوف، لكنهم أشاروا لنا بالمرور.
سألني السائق دون أن يرفع عينيه عن الطريق: وين بالغربية؟
قلت: الحمرا. عند سينما بيكاديللي.
بلغنا نهاية المخيم، فعبرنا ميدانا صغيرا، وسرنا في محاذاة مخيم صبرا. اعترضنا ثلاثة رجال في ملابس متواضعة، أحاط أحدهم رأسه بلفاعة من الصوف، وحمل الثاني «صرة» كبيرة من القماش في يده. خاطب أحدهم السائق: المزرعة؟
رفع السائق ذقنه إلى أعلى بالإيماءة اللبنانية الشهيرة التي تعني النفي، وهم بمواصلة السير، فسأله ذو اللفاعة: إيش طريقك؟
أجاب: الحمرا. - وليش ما تفوت م المزرعة؟ - ما بدي.
تدخل عجوز امتلأ وجهه بالغضون: دخيلك يا شوفور. نحنا تأخرنا، واللي بدك إياه خده.
صاح السائق: يا زلمة ما في أفوت من المزرعة، الإخوان هونيك عالقانين.
قال حامل «الصرة»: ولك هادا عند جامع عبد الناصر. ليش ما تفوت من هون دوغري للكولا؟
فكر السائق ثم سأل: تنزلوا ع الكولا؟
وافق الثلاثة، فطلب مني السائق أن أنتقل إلى المقعد الأمامي ليجلس الثلاثة معا في الخلف. جلست إلى جواره واضعا حقيبة يدي وكيس السجاير والخمر بيننا.
قال وهو يستأنف السير: هيك انتو يا فلسطينية، مغلبين العالم.
لم يرد عليه أحد. وران الصمت على السيارة بقية الطريق. وبين لحظة وأخرى كنت ألتقط نظرات العجوز في مرآة السائق وهي تنتقل بيني وبينه في توجس.
أشرفنا على ميدان آخر. وبعد قليل انحرفنا إلى اليسار، ومررنا بمبنى كبير تعرض لدمار بالغ ، فلم تبق من واجهته غير فجوات مظلمة متجاورة.
تتابعت مناظر الدمار بينما كان الظلام ينتشر في سرعة. وكان ثمة حوانيت مغلقة على جانبي الطريق الذي خلا من المارة. وانحنى السائق في شارع جانبي ثم توقف بالقرب من جسر علوي.
غادر الثلاثة السيارة، وجمعوا من أنفسهم عدة أوراق مالية ناولها العجوز للسائق قائلا: الله معك.
تفحص السائق النقود ثم صاح: عشر ورقات؟ ما بتكفي. شو فاكريني؟
تبادل الرجال الثلاثة النظرات وقال أصغرهم سنا: هيك بندفع كل مرة. - استقر علينا فجأة كشاف قوي، واقتربت منا سيارة جيب عسكرية. وعندما حاذتنا تبدت على جانبها شارة الكفاح المسلح الفلسطيني.
سب السائق في صوت خافت، ووضع النقود في جيبه، ثم ضغط على المسرع، وانطلقت بنا السيارة.
بلغنا أول الحمرا فهم بالوقوف قائلا: هون الحمرا.
قلت: بعد. سأنزل عند السينما.
مضى في الشارع الذي أغلقت حوانيته ومقاهيه، وإن ظهر به قليل من المارة، ثم دلف إلى شارع جانبي. وبدت في عينيه نظرة شاردة كأنما يفكر في معضلة.
هتفت: رايح فين؟ السينما في الشارع.
قال: هلق بنشوف.
مال من النافذة وصاح بسائق تاكسي عابر: احجز لي معك يابو حسن.
سألته عما يريد أن يحجزه فقال: دور المطار.
جعل ينتقل بين الشوارع على غير هدى فقلت: لازم نطلع على شارع الحمرا نفسه. السينما هناك.
لم يرد علي، واتجه إلى ناصية تجمع عندها عدد من الشبان المسلحين بالمدافع الرشاشة. أبرز رأسه من النافذة صائحا: مرحبا يا شباب، وين سينما بيكاديللي؟
اقترب أحدهم منا وأراح مدفعه على حافة النافذة، ألفيته صبيا صغير السن، لم يكد شاربه يتجلى. تأملني في إمعان، ثم تحول إلى السائق وشرح له الطريق.
قال ونحن نستأنف السير: هادي الشوارع كلها مثل بعضها.
قلت محاولا تقليد اللهجة اللبنانية: باين عليك ما بتعرف شوارع بيروت منيح. - نحنا جينا من الجنوب في الثمانية وسبعين بعد الغزو الإسرائيلي.
خرجنا إلى شارع الحمرا. وتبينت السينما بعد لحظات، فطلبت منه أن يدخل الشارع المجاور لها. وتعرفت على الفندق الذي أقصده بصعوبة ؛ إذ كان الظلام يلف كل شيء.
استوقفته وغادرت السيارة، ثم استدرت لآخذ حقيبتي وكيسي، فألفيت يده تجوس داخل الكيس، انتزعت الكيس منه في عنف وأنا أقول: يا أخي عيب.
غادر مقعده صامتا ورفع باب الصندوق الخلفي، ثم أخرج حقيبتي ووضعها على الأرض.
أحصيت ثلاثين ليرة ثم أضفت إليها خمس ليرات وأعطيتها له، فوضعها في جيبه صامتا وانطلق بسيارته. حملت أشيائي وعبرت الطريق.
كانت ردهة الفندق تضيئها أنوار خافتة. وتناثر عدد من الشبان على مقاعد جلدية متآكلة. وكان بينهم بعض المسلحين.
عاملني موظف الاستقبال دون حماس. وطلبت أرخص غرفة بحمام، فأعطاني واحدة بأربعين ليرة في الليلة. وحمل شاب صغير السن حقيبتي في تثاقل وصحبني في مصعد إلى الطابق الرابع، ثم تقدمني إلى غرفة ضيقة للغاية، امتد بساط ممزق فوق أرضها.
أعطيته ليرة فأخذها بغير اكتراث. وأغلقت الباب خلفه بالمفتاح، ثم انحنيت على حقيبة الملابس ففتحت قفلها، ورفعت غطاءها وأملته على الأرض. ركعت على ركبتي وتحسست بطانة الغطاء بأصابعي، ثم جذبت إطارا رفيعا من الجلد يدور حول محيط الغطاء. واستسلم الإطار لأصابعي؛ فانفصل عن الغطاء كما يفعل الشريط اللاصق.
ظهر شق رفيع في بطانة الغطاء. مددت أصابعي داخله واستخرجت ثلاثة مظاريف متوسطة الحجم، صفراء اللون. أعدت الغطاء إلى مكانه وأغلقت الحقيبة.
أفرغت محتويات المظاريف الثلاثة من أوراق على الفراش، ورتبتها وفقا لأرقام الصفحات، ثم جمعتها كلها في مظروف واحد أودعته حقيبة يدي.
اغتسلت، وعلقت الحقيبة في كتفي، وغادرت الغرفة إلى أسفل. تركت المفتاح لموظف الاستقبال، واتجهت إلى الخارج. وإذا بأحد الشبان يستوقفني هاتفا: وين رايح يا أستاذ؟
تطلعت إليه متسائلا، فأضاف: شو، جنيت؟ هلق الشوارع خطرة.
ترددت قليلا وتلفت حولي. لمحت جهاز التليفون في أحد الأركان، فاتجهت إليه وأنا أخرج مفكرتي من جيبي.
3
عرفت وديع مسيحة عندما التحقت بالمدرسة الثانوية. كنا ندرس في نفس القاعة، لكنه كان يجلس بعيدا عني. وكنا جميعا نرتدي البنطلونات القصيرة، عدا اثنين أو ثلاثة من الأولاد الكبار، ونستمد لذة غامضة من احتكاك ركبنا العارية. وفي بعض الدروس كنا نتبادل الأماكن لهذا الغرض، فيجلس كل واحد إلى جوار من يميل إليه. وكنت أحرص في هذه المناسبة على مجاورته؛ فقد كانت ساقه طويلة، ذات بطن ممتلئة، وإبط ناعم.
لم نكن نتبادل الزيارات المنزلية كثيرا؛ فلم تكن أمي ترحب بمجيئه، كما أن بيته كان يثير في النفور والرهبة؛ فقد كان مظلما في وضح النهار، مزدحما بقطع الأثاث القديم، لا يتردد به صوت، وتفوح في أرجائه رائحة مميزة هي مزيج من زيت القلي والعفن الناشئ عن رطوبة الجدران.
وذات مرة قلت له إنه «عظمة زرقاء» دون أن أفهم معنى العبارة. وإذا بوجهه يشحب ويغضب مني، ثم يقاطعني. وبعدها بأسبوعين أقبلت عليه صدفة بعد انصرافنا من المدرسة، وقد أحاط به عدد من الصبية الكبار في صفنا وجعلوا يرددون: «عظمة زرقاء»، وروعتني النظرة التي ارتسمت في عينيه. كانت ناطقة بذعر لم يسبق لي أن رأيته في عيني إنسان.
تجددت علاقتنا في الجامعة التي دخلناها معا بعد قيام الثورة بشهور؛ فقد ألفينا أنفسنا في مجموعة واحدة من شباب متحمس، نقرأ سارتر وجوركي ولوفافر، ونهاجم طه حسين دفاعا عن الواقعية الاشتراكية، وحكومة «العسكر» دفاعا عن الديمقراطية. ونذرع شوارع القاهرة على أقدامنا، بأحذية مثقوبة. ثم نعتقل جميعا عندما أحكم جمال عبد الناصر قبضته الحديدية في مارس (آذار) 1954م. ودخلنا السجن معا بعد ذلك، في أوج معركة عبد الناصر مع اليسار.
لكنه غادر السجن بعد أسبوع واحد فقط، بينما بقيت أنا به حتى صدور العفو العام سنة 1964. ووجدت عملا بعد فترة في إحدى الصحف، فألفيته يعمل بها. كان قد صار عضوا بارزا في التنظيم السياسي الحكومي، الاتحاد الاشتراكي العربي، لكن الكل كانوا يسعون إلى عضويته؛ ولهذا لم يكن من الصعب أن تتفق أفكارنا وآراؤنا. وكانت صدمتنا واحدة عندما أسفر العدوان الإسرائيلي عام 1967 عن هزيمتنا.
وفي العام التالي عين في مكتب الجريدة ببيروت. وكان السفر وقتها حلمنا جميعا، والأسهل منه الخروج من ثقب الإبرة. ولم أتمكن منه إلا بعد أن استقلت من الجريدة، واستعنت بوساطات عدة. وذهبت إلى بيروت فاستضافني بضعة أسابيع. ثم غادرت لبنان ولم أره لسنوات طويلة. لكني عرفت أنه تزوج من قريبة له، وأصبح مديرا لمكتب الجريدة في العاصمة اللبنانية، ولم يدهشني ذلك؛ لأنه كان قديرا في عمله، يقيم أوثق العلاقات بالشخصيات الهامة من مختلف الأحزاب والاتجاهات، ويحتفظ بأرشيف دقيق لكافة المعلومات.
ونقلته الجريدة إلى مقرها الرئيسي في القاهرة بعد حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973. لكنه ظل يسعى حتى استعاد منصبه ببيروت في منتصف 1976. وعندما استدعي إلى القاهرة بعد سنة رفض العودة، واستقال من الجريدة، ثم التحق بصحيفة يمولها العراقيون، وانتقل منها أخيرا إلى وكالة خاصة للخدمات الصحفية، يديرها صحفي لبناني نشط يدعى نزار بعلبكي.
لم أجد صعوبة في الحصول على رقم تليفون مسكنه من مقر الوكالة. وانتظرته في بهو الفندق حتى جاءني بعد ربع ساعة. تعانقنا بحرارة وكل منا يدرس التغيرات التي طرأت على الآخر. وعلق على لون شعري، بينما نددت بامتلاء جسده والنظارة الطبية التي غطت نصف وجهه، ثم قادني إلى الخارج متجاهلا إشارتي إلى التحذيرات التي وجهت إلي عن أخطار الطريق، قائلا: معي عدة هويات للمواقف المختلفة، ثم إننا لن نذهب بعيدا.
ولجنا بارا في شارع قريب، خلا تماما من الزبائن. وسألني ونحن نجلس: هل ستبقى طويلا؟
قلت: بضعة أيام. على قد فلوسي. - ستنشر شيئا؟ - أجل، كتاب عند عدنان الصباغ. - لكنه ليس الآن في بيروت على ما أظن.
تطلعت إليه في قلق وقلت: لقد تواعدنا على اللقاء هنا يوم الإثنين. هل تظن أن الأحداث الأخيرة يمكن أن تفسد هذا اللقاء؟ - ما حدث شيء عادي يتكرر كل يومين. وقد تعود اللبنانيون على ذلك، وأصبحت الحياة تسير بصورة طبيعية مهما حدث، بل هناك شركة لطائرات الهليكوبتر تنقل الناس عبر المناطق المتحاربة حتى لا تتعطل أعمالهم.
أحضر لنا النادل كأسين من الويسكي. وتطلعت حولي فوجدت أننا ما زلنا الزبائن الوحيدين أسفل الأضواء الخافتة. وكان عامل البار يتبادل حديثا هامسا مع اثنين من زملائه وهم يلتفتون إلى الباب بين الفينة والأخرى.
جاءنا فجأة صوت رصاص متقطع في الخارج. وتوقف الحديث الهامس عند البار. أنصتنا جميعا في رهبة. ومضت بضع دقائق دون أن يتكرر الصوت، فعاد الهمس من جديد في تردد.
سألني وديع: أين تعمل الآن؟
قلت: ولا في أي مكان. - كيف تعيش إذن؟ - من الكتابة. - هل هذا ممكن؟ - ممكن إذا حصرت احتياجاتك في أضيق الحدود، ثم إن زوجتي كانت تعمل. - سمعت أنكما انفصلتما. - أجل، تباعدت الطرق بالرغم منا. - كان يجب أن تفعل مثلي؛ فأنا وزوجتي لا نجتمع معا إلا في الصيف. وهي تقضي بقية السنة مع الأولاد في القاهرة. - لا أفهم سر إصرارك على عدم العودة إلى مصر.
نفض سيجارته في المنفضة وجعل يرسم بطرفها دوائر وهمية في الهواء، ثم قال: كلما تخيلت نفسي هناك شعرت بالاختناق.
شرد كلانا بعض الوقت ثم سألني: ومن تقابل؟
أجبت: القليلين. لم أعد شغوفا بالحركة كثيرا.
علت شفتيه ابتسامة ملتوية وقال: ابتعدت إذن عن أصدقائك القدامى؟
قلت: أنت تعرف المواصلات الآن وكيف أصبحت. السفر إلى بيروت أسهل من الانتقال بين أحياء القاهرة. - وكيف الأحوال بصورة عامة، الوضع كله؟ - التطبيع مع إسرائيل يسير إلى الأمام. وبالمثل ارتفاع الأسعار وانهيار الخدمات. النهب في اتساع. وعدد المليونيرات ازداد عدة مئات.
تفرس في بإمعان ثم سأل: هل تنوي أن تقابل أحدا بالذات؟ يوجد هنا كثير من الهاربين من مصر. - لقد جئت لغرض واحد فقط، وبمجرد الانتهاء منه سأعود. - حدثني عن كتابك.
أشرت بيدي إشارة مبهمة في الهواء وقلت: إنه عبارة عن رحلة حول العالم العربي تشبه المقامات القديمة؛ فالبطل يظهر في كل بلد ثم يطرد منه ليظهر في بلد غيره، وهكذا دواليك.
ابتسم في شيء من التهكم وقال: الثوري أم الفلسطيني؟
أجبت: ليس بالضرورة.
ألقى نظرة على ساعة معصمه وقال: يحسن بنا أن ننصرف الآن قبل أن تصبح الشوارع غير آمنة بالمرة.
دفع الحساب وغادرنا البار بعد أن علقت حقيبتي في كتفي.
قلت ونحن نخطو: سأتوه إن لم توصلني إلى الفندق.
قال: سنذهب الآن إلى منزلي، وفي الصباح نأخذ أغراضك من الفندق.
قلت: ليست هناك ضرورة. لقد أحضرت معي حاجتي من النقود، ثم إني سآخذ عربونا من عدنان خلال أيام؛ فهو موافق على نشر الكتاب.
قال بحسم: ستأتي عندي. - لا أريد أن أسبب لك إزعاجا. - أنا أقيم وحدي؛ فزوجتي والأولاد في القاهرة. وهناك غرفة خالية يمكن أن تستقل بها.
اخترقنا عدة شوارع مظلمة دون أن نلتقي بأحد. وعند أحد التقاطعات برز إلينا مسلحان، ووجها إلينا فوهتي رشاشيهما. لكنهما لم يعترضانا عندما واصلنا السير بثبات.
تنفس وديع بعمق عندما ابتعدنا، وقال في صوت خافت: إنهما يتبعان منظمة جديدة استولت على هذا الشارع من أسبوعين. ولا أعرف أحدا من أفرادها.
عبرنا ساحة أطلت عليها مبان محطمة، فأردف في صوته الطبيعي: الآن صرنا في المنطقة التابعة للمرابطين، ومعي ما يفيد أني عضو عندهم.
سألته: لماذا لا تشتري سيارة؟
أجاب: عندي واحدة لكني أخاف ركوبها.
انطلقنا في شارع قامت على جانبيه عمائر حديثة البناء. وتوقف وديع أمام واحدة تغطى مدخلها بشبكة معدنية متينة، فدق عليها بقوة وهو يصيح مناديا: أبو شاكر.
كان ثمة باب في أقصى المدخل، انفرج عن عجوز ملتح، رث الثياب، حمل في يده سلسلة من المفاتيح. وتبينت عندما اقترب أنه يتمنطق بحزام عسكري يتدلى منه مسدس.
فتح لنا أبو شاكر في صمت. وأخذنا المصعد إلى الطابق الثالث، ثم تبعت وديع إلى مسكن أنيق من غرفتين وصالة ممتدة، انتشرت حشيات خان الخليلي في أرجائها، واستقر مكتب خشبي في ركن منها.
قلت: شقة ظريفة. كم تدفع فيها؟
قال: أربعة آلاف دولار في السنة. وهو ثمن رخيص؛ لأني أخذتها من مدة.
جلست فوق أريكة مريحة في مدخل الصالة. وقرب وديع مائدة صغيرة مني، ووضع فوقها زجاجة ويسكي وإناء من قطع الثلج وكوبين.
قلت: أحضرت لك زجاجة ويسكي معي.
قال: الخمور هنا رخيصة؛ فهي تباع بأسعار السوق الحرة تقريبا.
صب لي كأسا، وأضاف: المنظمات هي التي تجبي الرسوم الجمركية من الموانئ الواقعة في مناطقها. ويلجأ الموارنة إلى تخفيض الرسوم على السجائر والخمور وأجهزة التليفزيون؛ لإغراء التجار بالتعامل مع موانيهم. ويضطر الآخرون إلى مجاراتهم.
نقلت البصر بين الأنتيكات الفرعونية والإسلامية التي انتشرت فوق رفوف تغطي أحد الجدران، ولمحت بينها صليبا تدلت صورة البابا شنودة من أحد أطرافه.
تطلعت إليه، فاحمر وجهه بشدة، وقال: زوجتي هي التي علقتها.
صببت لنفسي كأسا واضطجعت إلى الخلف.
قلت: هل تذكر المرأة التي كانت تتردد عليك في 68؟
قال: من تقصد؟
قلت: تلك التي قالت إنها تتقاضى عادة خمسين ليرة في المرة، ولأنها تحبك ستجعلها أربعين.
بدا أنه قد نسي الأمر تماما، أو تظاهر بذلك. وكان قد طلب مني مرة أن أتغيب عن البيت أياما معينة في الأسبوع قائلا إنه يستقبل سيدة لبنانية متزوجة. ولمحتها ذات مرة عند خروجي، فأثار مظهرها شكوكي. وعندما ضيقت عليه الخناق قال إنها تحتاج إلى نقود كي تستبدل الثلاجة، وأنها ذكرت له أنها تتقاضى عادة خمسين ليرة، لكنها تحبه ولهذا ستخفضها إلى أربعين. وأبديت استعدادي لدفع الليرات الخمسين، فعرض عليها الأمر، لكنها رفضت بإباء وغضبت منه؛ فكيف يتصرف هكذا وهما يتبادلان الحب؟
سألته: هل توجد مصريات هنا؟
قال: طبعا، مغامرات وراقصات وباحثات عن أنفسهن. أعرف واحدة من الطالبات اللاتي اشتركن في مظاهرات 73. حلت ببيروت أثناء الحرب. وجاءتني في أحد الأيام بحثا عن مكان للمبيت. ولم تكن زوجتي هنا.
سكت فسألته: وبعدين؟
قال: حذرتني من أن أستغل الموقف، وقالت باعتداد إنها ستدعوني من تلقاء نفسها إذا شاءت. - ودعتك؟ - مرة. لكني هربت منها. - لماذا؟ - خفت.
نهض واقفا وهو يقول: الآن موعد المياه النقية؛ فهي تأتي في الصباح الباكر لمدة ساعتين، وتنقطع بقية اليوم عدا ساعتين قبل منتصف الليل. سأملأ عدة زجاجات.
قلت وأنا أتبعه إلى المطبخ: أنت أسعد حظا منا في القاهرة؛ فنحن لا نحصل على دقيقة واحدة من المياه النقية، فضلا عن انقطاع المياه الملوثة نفسها معظم النهار.
4
أعطاني وديع غرفة ولديه، وبيجامة فضفاضة لم أستعملها. ورغم ما كنت أشعر به من إرهاق، تقلبت في الفراش طويلا دون أن يغمض لي جفن. وأخيرا غفوت بعد أن تناهى إلى سمعي ما خلته صوت انفجار بعيد. لكني لم أنم غير ساعات قليلة، واستيقظت بمجرد أن انتشر ضوء الشمس في الغرفة.
حاولت العودة إلى النوم دون جدوى فغادرت الفراش. ارتديت القميص والبنطلون، وخرجت إلى الصالة. ألفيت وديع يقرأ صحيفة، وقد قربها من عينيه المجردتين من النظارة. وجهت إليه تحية الصباح، واتجهت إلى الحمام. كانت المياه باردة، وليس ثمة أثر لجهاز تسخين رغم وجود صنبورين للحوض.
فتحت باب الحمام وهتفت: كيف تعيش في باريس الشرق دون مياه ساخنة؟
رد علي قائلا: التسخين مركزي يا أستاذ. افتح الصنبور الأيسر.
أخذت حماما سريعا، ثم ارتديت ملابسي، ومشطت شعري، ومضيت إلى الصالة. ناولني وديع الصحيفة قائلا: أنباء سيئة.
طالعني عنوان رئيسي عن اعتداءات إسرائيلية جديدة بطائرات الفانتوم وسكاي هوك على مدينتي صور والنبطية في الجنوب، راح ضحيتها 33 قتيلا وجريحا، وتهدم من جرائها 16 منزلا. وأسفل ذلك عنوان رئيسي آخر عن عودة الحياة الطبيعية إلى بيروت الغربية.
رمقته متسائلا؛ فأشار إلى الجزء الأسفل من الصفحة، ومضى إلى المطبخ.
كان ثمة نبأ عن وصول وفد عسكري مصري إلى السعودية في زيارة سرية للتنسيق المشترك مع الولايات المتحدة. ونبأ آخر عن حفل تأبين يقام ظهر اليوم في إحدى كنائس الحمرا بعد الانتهاء من تشييع جنازة بشير عبيد وكمال خير بك. وفي زاوية بنهاية الصفحة، وجدت ما عناه وديع تحت عنوان: «انفجار مدو في الفجر».
كان النبأ موجزا للغاية؛ مفاده أن شحنة ناسفة انفجرت في الفجر بدار النشر التي يملكها عدنان الصباغ، فأصابتها بأضرار جسيمة، ولم يصب أحد.
جلست على أقرب مقعد، وأعدت قراءة الخبر ثم رفعت عيني إلى وديع الذي كان يضع صينية الإفطار على الطاولة.
سألته: من تظنه فعلها؟
هز كتفيه وأجاب: أي واحد، خذ عندك من العراقيين والسوريين والأردنيين إلى الشيعة والإسرائيليين والليبيين ... إلخ، إلخ. - هل عدنان مرتبط بجهة معينة؟ - الإجابة صعبة؛ فقد مضى العهد الذي كان الواحد يرتبط فيه بجهة محددة. الكل الآن ينوعون ارتباطاتهم تحسبا للمفاجآت. - لكن لماذا ينسفون الدار وهم يعرفون بالتأكيد أنه ليس بها؟
قال وهو يصب الشاي من إناء خزفي ملون: ربما القصد هو التأديب أو الإنذار.
تأملت الصينية التي حفلت، على الطريقة اللبنانية، بألوان عديدة من المأكولات، من البيض المسلوق إلى الزيتون الأخضر والأسود واللبنة والمربى والزعتر المخلوط بزيت الزيتون.
استطرد: على أي حال هو أحسن حظا من سليم اللوزي الذي اختطفه السوريون وحرقوا يديه قبل أن يقتلوه.
تساءلت: ترى كيف يكون وقع الأمر عليه عندما يرى ما حدث للدار؟
أجاب: لا أظن أنه يغامر بالظهور في بيروت الآن.
أقبل على الأكل في حماس، وعندما رآني عازفا عنه قال: لا تبتئس، يمكنك أن تتصل به في أوروبا عن طريق زوجته؛ فهي التي تشرف على الدار في غيبته. وتأكد أن ما حدث لن يؤثر على استمراره في العمل، بل ربما ساعده ذلك في الحصول على معونات جديدة، ثم هناك عشرات من الناشرين غيره، هل أحضرت معك نسخة من المخطوطة؟ - أجل، لحسن الحظ. - إذن نصورها ونعرضها على عدد من الناشرين. - لكن هذا سيستغرق وقتا طويلا. - أسبوع على الأكثر.
قلت مستسلما: كنت أفضل التعامل مع عدنان فسمعته طيبة.
قال: لا تكن ساذجا. كلهم مثل بعض.
أكلت قليلا، وتصفحت بقية الجريدة، ثم تطوعت لإعداد القهوة، وأردت أن أنظف مخلفات الإفطار، فأصر أن أترك كل شيء كما هو قائلا: هناك واحدة تأتي مرتين في الأسبوع للتنظيف. واليوم موعدها.
مضيت إلى الغرفة، واستخرجت المظروف الأصفر السميك من حقيبة يدي وحملته إلى الصالة. كان وديع قد انتقل إلى غرفته فلحقت به. وجدته يرتدي ملابسه. ولاحظت أن الدهن غطى أماكن كثيرة من جسده الذي كان ممشوقا في الصغر.
قلت وأنا ألوح بالمظروف: هل يمكن أن نصنع شيئا اليوم؟ - أهذه هي المخطوطة؟ اليوم السبت. والجميع الآن في طريقهم لقضاء الويد إند، لن نتمكن من شيء قبل يوم الإثنين، كل ما نستطيعه هو أن نصورها.
حانت مني نظرة إلى الكومودينو المجاور لفراشه، فلمحت مسدسا فوقه. ورأى اتجاه نظرتي فضحك قائلا: إنه للمنظر فقط؛ فأنا لا أعرف كيف أستخدمه.
أشار إلى النافذة التي استبدل زجاج مصراعها بلوح من الكرتون وقال: هل تتصور أن ثانيتين اثنتين فصلتا بيني وبين الموت؟ كنت أقف هنا مثلما أنا الآن. وخطر لي أن أتكلم في التليفون، فغادرت الغرفة. وعندئذ سمعت صوت الزجاج يتحطم، وشيء يتحرك في الغرفة بعنف ويصطدم بالجدار. وبعد ذلك عثرت على بقايا قذيفة صاروخية.
شاركنا المصعد الذي أقلنا إلى أسفل لبناني أنيق في بزة حريرية بيضاء بلون شعر رأسه الذي صفف بعناية بالغة. وكان برفقة شقراء خمسينية ترتدي بنطلونا أسود ضيقا ينتهي عند ركبتيها، وتشده إلى أعلى حمالات رفيعة كشفت عن كتفيها وصدرها.
مضينا في عكس الاتجاه الذي جئنا منه بالأمس، ومررنا بمجموعة من المسلحين أسفل شرفة ارتفع فوقها علم «المرابطون»، وجلس بها شاب طويل القامة شرس الملامح في ملابس عسكرية، أسند مدفعا رشاشا على حاجز الشرفة، وانهمك في تنظيف شريط طويل من الطلقات النحاسية اللامعة. وعلى بعد خطوات وقفت مصفحة تحمل لافتة قوات الردع بجوار مكتب لسيارات الأجرة. وفي مواجهتها - على الرصيف الآخر - صف أحد الباعة كميات من السجائر والخمور والشكولاتة وموانع الحمل فوق صناديق من الكرتون أسفل مظلة خشبية.
اخترقنا عدة طرقات هادئة، سدت أجولة الرمال مداخل منازلها، واصطفت السيارات الخالية على جوانبها. وجذبني وديع من ذراعي بعيدا عن حافة الرصيف قائلا: أي واحدة من هذه السيارات يمكن أن تكون ملغومة وتنفجر فجأة.
انتقلنا إلى طريق زحمته مجموعة من المدرعات تحمل شارة قوات الردع، اعتلاها جنود يرتدون الخوذات الحديدية. وكانت تقف أمام مبنى ارتفعت عليه إحدى الرايات، وبدت آثار الدمار على الحوانيت المغلقة أسفله.
خرجنا إلى ساحة وقفت في جانب منها سيارة نقل عسكرية، نصب مدفع رشاش فوق كابينة سائقها، وأقعى خلفه جندي عاري الرأس. وظهر وراءها حانوت مغلق تعلوه لافتة ممزقة بقيت منها كلمة «ملحمة» التي اشتقها أهل الشام من اللحم. وفي امتداد الشارع الذي جئنا منه، تأرجحت في الهواء بقايا لافتة أخرى تحمل حروفا لاتينية ميزت منها كلمة «بار».
مرت بنا عدة سيارات عسكرية تحمل إشارة الكفاح المسلح الفلسطيني. ومضينا من أمام فندق تحطمت واجهته ، وانهمك عدد من الشبان في إزالة الحطام. وجاوره حانوت ذو واجهة عارية من الزجاج، كشفت عن رجل أنيق أحاطت به مصابيح العرض الحديثة التي تتألف من قضبان معدنية قصيرة ولامعة تنتهي بأطراف دائرية سوداء. وكان الرجل يجمع شظايا الزجاج بمكنسة ذهبية الشعر ويكومها في أحد الجوانب.
بلغنا فندقي، فدفعت حساب الليلة وأخذت حقيبتي وجواز سفري، وانطلقنا سيرا على الأقدام في اتجاه الحمرا. طالعتنا صور صدام حسين على مجموعة من البنايات المتجاورة تبينت أنها تحيط ببنك الرافدين العراقي. وبعد خطوات، تغطت الجدران بصور حافظ الأسد والخميني والقذافي. واعترضتنا إشارة المرور أمام بناية غطتها الأعلام الفلسطينية وصور ياسر عرفات والشهداء من ضحايا المعارك والاعتداءات والكمائن.
تذكرت شوارع القاهرة على الفور عندما دلفنا إلى الحمرا؛ فقد كان الشارع الذي يسير فيه المرور في اتجاه واحد قادما من المنطقة الشرقية ومتجها إلى البحر، يضيق بأربعة أنهار من السيارات المتلاصقة التي تتحرك ببطء. وازدحم الرصيف بالباعة والمارة ورواد دور السينما وحوانيت الساندويتش والشاورمة والمرطبات.
لاحظت قلة العنصر النسائي، والتباين الواضح بين مظهر أفراده الآن ومظهرهم في بداية العقد؛ فقد اختفت الأناقة والفخامة المستوردتان، اللتان كانتا من ملامح الستينيات وبداية السبعينيات. لكن المقاهي الأنيقة ما برحت تحتفظ بواجهاتها الزجاجية العريضة. وظل الزحام كما هو في المتاجر الفخمة التي تبيع الساعات والمجوهرات والفضيات والملبوسات.
تمهلنا أمام بائع كتب ومجلات افترش بضاعته على الرصيف، اشتريت نسخة من الترجمة العربية لكتاب مايلز كوبلاند «لعبة الأمم» الذي كشف سر غرفة اللعب الشهيرة في البنتاجون. كما اشتريت بضعة كتب ممنوعة من دخول مصر، منها واحد عن حرب أكتوبر ومعاهدة كامب ديفيد. وكانت هناك عدة مجلات جنسية منها واحدة جادة باللغة العربية قلبت صفحاتها ثم اشتريتها.
أشار وديع إلى كتاب لنجيب محفوظ في حجم غير مألوف، وآخر لجورجي زيدان ذي غلاف رخيص باهت الألوان، وقال: هذان الكتابان مزوران.
أبديت دهشتي فقال: إنهما مصوران عن الطبعة الأصلية. النشر هنا لا يخضع لقواعد وليست له تقاليد، وأغلب الناشرين لصوص. إنهم يتفقون معك على أن يطبعوا من الكتاب ثلاثة آلاف نسخة مثلا، ويطبعون في السر خمسة، ثم يتملصون من دفع حقوقك معتذرين بأن كتابك لم توزع منه غير نسخ محدودة.
واصلنا السير ثم انتقلنا إلى الشوارع الجانبية، ولجنا بناية حديثة، وأخذنا مصعدها إلى الطابق الثاني، وتبعت وديع داخل مسكن مفتوح، علقت فوق بابه لافتة باسم وكالة نزار بعلبكي.
ضمت غرفة وديع مكتبين متقابلين، وخزانة معدنية للكتب والملفات، وجهازا للتلفزيون، وكان الأثاث بادي الجدة والأناقة.
سألت وأنا أضع حقيبتي بجوار الجدار: هل هي أموال نزار أم هناك من يقف وراءه؟
جلس إلى أحد المكتبين، وجذب كوما من الصحف والمجلات وجعل يقلب فيه، ثم قال: مجموعة من أثرياء الخليج، حسب ما يقول. - والحقيقة؟ - ليبيا في الغالب.
ألقيت بحقيبة يدي فوق المكتب الآخر، وجلست إليه، وأخرجت المظروف الذي يحتوي على مخطوطتي، فوضعته جانبا، والتقطت إحدى المجلات.
أحضر لنا شاب فنجانين من القهوة، فأعطاه وديع المخطوطة وطلب منه أن يأخذها إلى الأرشيف ليصوروا منها ثلاث نسخ، ثم قام بعدة اتصالات تليفونية حصل منها في النهاية على رقم تليفون عدنان الصباغ. وأدار الرقم عدة مرات دون أن يتلقى ردا.
انهمك وديع في الكتابة، بينما استعنت بالكتب الموجودة في الخزانة على استخراج عناوين عدد من دور النشر وأرقام تليفوناتها. وجاءتنا النسخ المصورة بعد ساعة، فعكفت على مراجعتها وبعد ساعة أخرى انتهى وديع من الكتاب، فغادر الغرفة. وعاد بعد لحظات فجرب الاتصال مرة أخرى بمنزل عدنان دون جدوى.
حمل عني حقيبة السفر، وغادرنا المكتب. أخذنا سيارة أجرة إلى المنزل. وسبقته إلى أعلى بينما عرج على محل شواء قريب.
كانت الثلاجة مليئة بعلب البيرة فأخرجت اثنتين منها، وحملتهما إلى الصالة. ووصل وديع بعد لحظات، فجلسنا نحتسي البيرة بينما كان يدير مؤشر الراديو بحثا عن الأخبار.
قال: هناك على الأقل سبع إذاعات لبنانية تبث الآن وحتى العاشرة مساء، واحدة للكتائب وأخرى لسليمان فرنجية وثالثة تشرف عليها الكنائس الأمريكية، وتنطق باسم دويلة سعد حداد في الجنوب، ثم رابعة ناصرية تذيع أغاني أم كلثوم وعبد الحليم حافظ والشيخ إمام ويديرها المرابطون. هذا فضلا عن الإذاعة الرسمية.
جاءنا صوت فيروز فسألته عن هوية الإذاعة. قال: كل الإذاعات تذيع أغاني فيروز. رغم أنها مارونية.
كانت الأخبار مطمئنة؛ فقد مرت جنازة الصباح في هدوء. وتبادلت الأحزاب والتنظيمات التعازي وإعلان الرغبة في استتباب الأمن. وقالت إذاعة المرابطون إن بشير الجميل، القائد العسكري للكتائب، يستعد لإعلان دولة مارونية بالمنطقة الشرقية في عيد الاستقلال الذي يحل بعد أسبوعين. أما الإذاعة الرسمية فقد اهتمت بأنباء الحوادث والجرائم المتفرقة، وأهمها جريمة وقعت في قضاء جبيل، وهو منطقة مسيحية فيما يبدو؛ فقد اعتدى إلياس الشامي على مريم في بلدة عين القويني، وعندما حملت منه تخلى عنها، فقامت ضجة في البلدة، ووافق أحد الأطباء على إجهاض الفتاة، ثم جرى الضغط على إلياس حتى وافق على الزواج منها برغمه، ولم يلبث أن قتلها بسم المبيدات الزراعية، وأسلم نفسه للكتائب.
شربت علبتي بيرة قبل أن يأتينا الطعام في صينية كبيرة مغطاة بقماش نظيف. وكشف الغطاء عن أوان ورقية امتلأت بقطع الشواء الصغيرة، وأطباق عديدة للسلاطة الخضراء والمزات منها واحد للحمص بالطحينة، وآخر للنعناع الأخضر، وثالث للثوم المعجون بالبطاطس، ورابع للخيار المخلل، وخامس للباذنجان المخلل المحشو بالثوم والكزبرة الخضراء. وكانت هناك شوك وملاعق مغلفة بأوراق شفافة، كان كل شيء نظيفا أنيقا يثير الشهية.
أكلنا ونحن نوزع انتباهنا بين الراديو والتليفزيون الذي اختتم فترة الظهيرة بحلقة من مسلسل أمريكي. والتجأ كل منا إلى فراشه لفترة القيلولة. لكني لم أتمكن من الإغفاء، فقمت إلى المطبخ وأعددت كوبا من الشاي، ثم صنعت قهوة لي ولوديع عندما استيقظ. ووضعت زجاجة الويسكي وإناء الثلج فوق المائدة. وجعلنا نقلب بين قنوات التليفزيون، متنقلين بين حلقة بوليسية أمريكية وأخرى مصرية بعنوان «وفاء بلا نهاية» ثم أخبار باللغة الفرنسية. وانتقينا من برامج السهرة فيلما أمريكيا عن البيتلز، فأدرنا الجهاز على القناة الخامسة، وصبرنا على فقرة طويلة من الإعلانات تخللتها القائمة المعهودة من العطور والسجائر والمعاجين الأجنبية، فضلا عن مزايا مروحة توشيبا ذات الريشات الأربع والمصباح الليلي، والتغيرات الجذرية القادمة في المنطقة العربية كما تنبأ بها العاهل الأردني في حديث شامل لإحدى المجلات.
بدأ الفيلم أخيرا فملأت كأسي، وقبل وديع أن يشرب على مضض. وعندما بلغنا منتصف الفيلم كنا قد جرعنا عدة كئوس، وعدنا بالتدريج إلى الستينيات؛ السجن وفيتنام وجمال عبد الناصر و67 وثورة الطلاب، وشي جيفارا، وبريجيت باردو. وما لبث أن استولى علينا شعور جارف بالاكتئاب.
5
حفلت صحف الأحد بأنباء الانفراج الأمني. وبشرت «السفير» بأن الساعات الأربع والعشرين القادمة ستكون حاسمة بالنسبة للوضع الأمني في المنطقة الغربية، وللمعالجة الجذرية والنهائية لما أسمته «التجاوزات على الأمن الشخصي والكرامة والملكية، وعمليات الابتزاز والتهديد، والخوة والنهب، فضلا عن الاشتباكات بين الأفراد والمنظمات، والعناصر غير المنضبطة التي تروع السكان الآمنين وتخطف منهم البقية الباقية من إصرارهم على التمسك بالأرض أو الوطن أو القضية.»
ونشرت الصحيفة صور اللقاءات المتبادلة بين زعماء المنظمات والأحزاب المختلفة في المنطقة الغربية مع زعماء كل من التنظيمين المتقاتلين. وجمعت إحدى الصور بين الجميع وقد توسطهم ياسر عرفات. كما كانت هناك صور لتأبين عبيد وخير بك في إحدى الكنائس، وللجنازة التي تقدمتها صورة فتاة جميلة في العشرينات هي ناهية بجاني.
شجعنا جو الصحف على الخروج بعد الظهر، فذهبنا إلى معرض للصور الشخصية الفوتوغرافية في قاعة أمام الجامعة الأمريكية. كانت الصور جميعا قديمة، من ذلك النوع الذي يعلق على جدران غرف الاستقبال، أو يحفظ في ألبومات سميكة مغلفة بالجلد. واحتفظت صور النوع الأول بإطاراتها العتيقة، الموشاة بالزخارف وماء الذهب، أما الثانية فقد وضعت في إطارات حديثة بسيطة. وجمع بين الاثنين عنوان واحد هو «لبنان أيام زمان».
تصدرت المجموعة الصورة التقليدية للعائلة الكبيرة؛ الجد في الوسط بملابس عثمانية، وشاربين كثين تدليا مع لحيته الطويلة فوق صدره. وإلى جواره الابن الأكبر الذي ألقى برأسه إلى الوراء في كبرياء يليق بدرجته العائلية، مزيحا طربوشه إلى الخلف، وقد انغرزت في ذقنه الحافة الصلبة لياقة غير مطوية دار بها شريط رفيع ثبتت به ربطة عنق عريضة. وكان يرتدي سترة وصديريا من قماش مربعات ملون ، وبنطلونا مخططا يختفي عند الركبة داخل الرقبة العالية للحذاء.
وإلى يسار الجد جلست زوجته أو ابنته الكبرى ثم الابن الثاني الذي ميز نفسه بكتاب مغلف حمله في يده اليسرى، وبنطلون وحذاء عاديين. وخلف الجالسين الأربعة اصطف ثلاثة شبان وثلاث فتيات متشابهو الملامح، وألقت آخر فتاة في الصف يدها على كتف حامل الكتاب في ألفة خاصة. وبين أقدام الجد اقتعد الأرض ولدان صغيران، واستقرت بجوار أحدهما قبعة من القش. وبدا أن الصورة التقطت في الهواء الطلق إذ كانت خلفيتها تتألف من ستارة أو ملاءة فشلت في إخفاء جدار حجري.
لم تكن هناك أية بيانات بجوار الصورة أو في الكتالوج الذي أخذناه من فتاة عند المدخل ترتدي جينز ضيقا للغاية، وتبرع وديع ببعض الإيضاحات؛ فهذه ملابس الدروز، وهؤلاء من الشيعة أو سكان الجبل، وهذه زوجة ثالثة أو رابعة للعجوز.
كان يشير إلى عجوز في جلباب بنصف ياقة، وطربوش قصير للغاية، يكشف عن فودين أبيضين، وبجواره امرأة في عمر ابنته أو حفيدته في ملابس قاتمة، تتألف من رداء سابغ وصديرية وطرحة. وبينهما وقف طفل في السادسة من عمره يرتدي بزة كاملة وحذاء برقبة قصيرة. وحمل العجوز على ساقيه طفلا آخر متطلعا إلى الكاميرا في وقار أبله. أما المرأة فكانت موشكة على الابتسام، في أسى؟ أم زهو؟ أم تلبية لرغبة المصور؟
تبعت وديع إلى صورة لعدد من الشبان بشوارب رفيعة محفوفة لا تكاد تبلغ جوانب الفم، وطرابيش طويلة مائلة إلى اليسار أو الخلف، وسراويل داكنة وسترات تكشف عن قمصان بيضاء بلا ربطات للعنق، تعلو جلابيب أو سراويل منتفخة. وكانوا يحيطون واقفين بشاب جلس علي مقعد خشبي ذي قاعدة من القش مثل مقاعد المقاهي الشعبية، وقد استقرت يدا اثنين منهم على كتفيه. كان يرتدي الملابس الأوروبية الكاملة مع طربوش أقل طولا وأكثر ميلا إلى الأمام على الناحية اليمنى، وربطة عنق ذات عقدة صغيرة تكاد تختفي أسفل ياقة القميص، وشارب صغير أقرب إلى الشارب الهتلري. وكان يتطلع إلى المصور في اعتداد، عاقدا ساقه اليسرى فوق اليمنى ، وقد استقرت يده الممسكة بعصا رفيعة فوق رقبة حذائه.
قال وديع: عنترة في زيارة سريعة لقريته.
بدا أن الركن الذي نقف فيه قد خصص لصور الريف والجبل؛ شاب وسيم أوشك طرفا شاربه أن يبلغا أذنيه، وبرز خنجر من فتحة صديريته المزركشة، أم متشحة بالسواد من قمة رأسها إلى قبل قدميها بسنتيمترات، لا يظهر منها غير حاجبيها وعينيها وبداية أنفها، وإلى جوارها طفل حافي القدمين. عشرة رجال يرتدي أغلبهم الطرابيش المائلة والقمصان والبنطلونات، تحلقوا حول مائدتين خشبيتين نصبتا في الهواء الطلق، وامتلأ سطحاها بأطباق المزات وأقداح العرق الصغيرة، وأحدهم يصب الشراب من «بطحة» في حجم الكف، بينما يشد آخر أنفاس «الأرجيلة». واضطجع ثالث إلى الوراء متطلعا إلى المصور في نظرة عنترية، وقد ظهرت سيجارة فوق أذنه اليسرى. ووقف خلفهم رجل في ملامح أوروبية لعله الأرمني صاحب المكان.
انتقلنا إلى قاعة أخرى فكأنما عبرنا حدا فاصلا بين عالمين. وقفت طويلا أمام صورة لمدخل مسكن برجوازي في المدينة؛ الباب الخشبي العتيد المؤلف من مصراعين غطت الزخارف المحفورة نصفيهما السفليين بينما تألف النصفان العلويان من نافذتين زجاجيتين تكسوهما شبكات حديدية من زخارف متماثلة. أصص النباتات المنزلية. الحصان الخشبي الملون المعهود المثبت إلى أرجوحة خشبية، يركبه طفل في ملابس البحارة، وقد وقف إلى جواره في سمت نابليوني، طفل آخر في نفس الملابس.
اقتصرت الصورة المجاورة على فتاة رقيقة الملامح في فستان حريري ينساب حتى قدميها، وتصل أكمامه الضيقة إلى أطراف أصابعها، التي استندت بها إلى الحافة النحاسية المزخرفة لأريكة. كان شعرها مصففا على شكل «شينيون» بفضل القضيب المطاطي، الذي خصص لذلك في الماضي. وتبينت في ركن الصورة توقيعا بالحروف اللاتينية ميزت منه اسم «ماري».
عثرت في إحدى الصور على تاريخ 1918. أيام الثورة العربية على الحكم التركي، وقبل عامين من هزيمة الجيش العربي أمام الفرنسيين في ميسلون، والتي أعقبها فرض الانتداب الفرنسي على سوريا ولبنان. وقبل عام واحد من الثورة المصرية الكبرى ضد الاحتلال الإنجليزي. وكانت الصورة لأم صارمة الوجه ذات عينين ملونتين، جلست بجوار ابنتها الكبرى بينما وقفت الابنة الصغرى خلف مقعديهما. وعرى الثلاثة رءوسهن، وارتدين ملابس طويلة تميزت بكثرة الطيات والزخارف. لكن الفتاتين انفردتا بألوان فاتحة وأكمام من الدانتيل تنتهي أسفل المرفق مباشرة.
وفي صورة أخرى بيضاوية الشكل، تقارب رأسا فتاتين حتى التصقت وجنتاهما. كانت إحداهما تتطلع إلى المصور في ثبات يعكس قوة واضحة في الشخصية، أما الثانية التي اعتمدت بخدها على الأولى، فقد رمت بنظراتها إلى المجهول في ابتسامة بلهاء.
وبدلا من تجمعات العرق والمقهى والعائلة الكبيرة، طالعتني الصور الانفرادية لشبان متأنقين، شق أحدهم شعر رأسه ناحية اليسار، مدليا خصلة خفيفة منه فوق جبينه، وطوى ياقة قميصه الصلبة عند طرفيها، بحيث استقرت حافتاهما فوق ربطة عنق عريضة، وثنى ساعده الأيسر ليمسك بسلسلة تدلت من جيب صداره.
وصفف آخر شعره إلى الوراء، وارتدى قميصا بياقة مزدوجة وربطة عنق على شكل الفراشة، أسفل بزة ضيقة بصفين من الزراير، وحمل في يده اليسرى قفازا، بينما اعتمد بمرفقه الأيمن على سياج خشبي وتطلع إلى المصور في تأمل. وارتدى ثالث طربوشا متوسط الطول، مائلا إلى اليسار، وياقة عالية صلبة، وسترة بصف واحد من الزراير، وتدلت من يده مسبحة، بينما ارتفع طرفا شاربه المدببان حتى وجنتيه.
ولم أملك نفسي من الابتسام وأنا أتأمل صورة لشاب عاري الرأس، في ملابس السهرة ذات الياقة الصلبة العالية والفراشة، جلس إلى مائدة تناثرت فوقها أوراق اللعب، منحنيا برأسه فوق اليد اليسرى لفتاة أنيقة، التي رفعها إلى شفتيه بطرف إصبعه السبابة؛ ليطبع فوقها قبلة والهة، وقد أسبل عينيه، بينما كانت الفتاة تتأمله باسمة.
وكان ثمة وقار مشوب بالوجوم في صور الزفاف. أو على الأقل في الصورتين اللتين أتيح لي تأملهما قبل أن يحل موعد الإغلاق. في الأولى وقف شاب عاري الرأس، خفيف الشارب، يرتدي ياقة مطوية ذات طرفين طويلين متقاربين بينهما عقدة صغيرة لربطة عنق مخططة، ويحمل قفازا أبيض في يده اليمنى، خلف العروس الجالسة، التي تزينت بثوب من الدانتيل عرى ساعديها من الكتف، وأوشك أن يكشف ركبتيها، وتزينت بكميات من الحلي؛ صفان من اللآلئ فوق جبينها ، وقلادات حول عنقها، وحول ذراعها في منتصف المسافة بين الكتف والمرفق، وسوار من اللآلئ حول رسغها، ثم الخواتم حول إصبعي الخنصر والبنصر من يدها الظاهرة التي استقرت في حجرها.
وفي الصورة الثانية ارتدى العريس طربوشا واطئا مال بشدة إلى اليمين حتى لمست حافته الحاجب، ومد شاربا كثا مدبب الطرفين في خط مستقيم فوق شفتيه، وانسدلت سترته حتى أسفل ركبتيه، كما اختفت يداه داخل قفازين أبيضين.
ووقفت العروس إلى يمينه، شابكة يدها المقفزة في ذراعه وقد غطاها فستان الزفاف من قمة رأسها إلى أخمص قدميها.
كنا آخر من غادر القاعة من روادها المعدودين، ومضينا على الرصيف المقابل للجامعة الأمريكية التي بدت كتلة من الظلام. استنشقت بلهفة عبير الأشجار الرطبة المطلة من خلف سور الجامعة. وتتبعت ببصري قضيبي الترام القديم اللذين امتدا إلى جور السور، والتمعا في الضوء الباهر المنبعث من دار للسينما تعرض فيلما ذا طابع جنسي.
تمهلنا أمام مبنى ينبعث منه ضوء خافت، وتبعت وديع فوق درجات قليلة، وعبر باب زجاجي، إلى قاعة أنيقة توزعت الموائد في جنباتها، وتغطت جدرانها الخشبية باللوحات الفنية.
اخترنا مائدة بجوار الواجهة الزجاجية المطلة على الطريق، فجلسنا متواجهين، وقد أعطى وديع ظهره للقاعة.
قال وهو يرسل البصر إلى الطريق فوق كتفي: هذا المكان من الأماكن الفريدة في بيروت؛ فصاحبه نصف فنان ونصف سياسي، وهو يقدم الوجبات الخفيفة والخمور والأخبار والمعارض الفنية. وإلى هنا يأتي ثوار المقاهي، واللصوص، والمنفيون، والعشاق، والقوادون، واللوطيون، والسحاقيات، والجواسيس.
أحضر لنا النادل كأسين من الويسكي، وصحنا من الفول السوداني أو فستق العبيد كما يسميه أهل الشام، وآخر من شرائح البطاطس المحمرة. وما لبث صاحب المكان أن انضم إلينا مرحبا بوديع. ووجدته أربعينيا ذا عينين زرقاوين ذكيتين، وفم حسي.
تبادل هو ووديع الأخبار والتعليقات الضاحكة. وانصرفت أنا إلى تأمل اللوحات المعلقة على الجدران. وكانت لمصورين لبنانيين معاصرين تنوعت مدارسهم وأساليبهم. ولاحظت أن أسماءهم تتراوح بين أرمنية ومسلمة ومسيحية. وكانت الأسماء المسيحية فريقين؛ واحد ذو طابع عربي مثل إلياس وصليبا ، والآخر أوروبي مثل إيفيت وهيلين. وبالمثل كانت موضوعات اللوحات؛ إذ تميز بعضها بجو أوروبي، والقلة منها كانت ذات طابع محلي.
أعجبني لوحتان متجاورتان لنفس المصور، تميزتا بغنى الألوان، ووحدة المصدر الشعبي. كانت إحداهما التي غلبت عليها الألوان البنفسجية تمثل فارسين متقابلين على نسق الصور الشعبية للخضر وذي القرنين. أما الثانية فاستمدت موضوعها من شكل الصليب الذي احتوى السيدة العذراء في هيئة شمعة متوهجة.
تأملت شابا وفتاة جلسا متلاصقين في أحد الأركان وأمامهما كأسان من المارتيني. وكان الشاب يهمس في أذن رفيقته بصورة متصلة. وشعرت بصاحب المقهى يغادر مائدتنا، فتابعته ببصري وهو يشق طريقه بين الموائد، ويوجه تعليقا ضاحكا إلى سيدة كبيرة الجسم في ملابس سوداء، انفردت بإحدى الموائد، وظهرها إلى ناحيتي.
خاطبني وديع: هل سمعت ما قاله؟ إنه يعتقد أن المكتب الثاني هو الذي دبر الانفجار في دار عدنان، والظاهر أيضا أن له يدا في حادث بشير عبيد. - كيف؟ - بشير عبيد مسيحي ماروني. وهو تقريبا الماروني الوحيد بين قيادات الحركة الوطنية، وإزاحته تخدم الكتائب التي تريد الانفراد بتمثيل الموارنة.
تساءلت: لكن «المرابطون» هم الذين قتلوه؟
هز كتفيه وقال: هذا لا يمنع أن يكون الأمر من تدبير المكتب الثاني لحساب الكتائب. - ما هو المكتب الثاني بالضبط؟ - جهاز المخابرات. وهو في تركيبه يعكس الوضع القائم؛ فيمكنك أن تجد به ممثلين لكافة التيارات، فضلا عن أجهزة المخابرات العالمية.
حانت مني نظرة إلى السيدة ذات الملابس السوداء، فوجدت أنها لم تعد بمفردها؛ فقد جلست قبالتها امرأة أخرى في مقتبل الثلاثين، جميلة الوجه، ترتدي بلوزة سماوية اللون بغير أكمام، كشفت عن ذراعين بضتين.
سألت وديع: وعدنان؟
قال: الاحتمالات واسعة؛ فربما كان من عملاء المكتب الثاني وتمرد فأرادوا تأديبه، وربما قاموا بالأمر كله بالعمولة أي لمصلحة جهة ما.
كنت أصغي إليه وأنا أتأمل ذات البلوزة الزرقاء. طالعني وجه مستطيل ذو بشرة نضرة، وأنف مستقيمة، وشفتين ممتلئتين. وكان شعرها فاحم السواد مرسلا فوق ظهرها.
استطرد وديع: منذ عشر سنوات لم يكن العمل يستقر بعدنان في مكان أكثر من شهر أو شهرين ثم يفصلونه؛ فقد كانت أفكاره ثورية. ثم تزوج لميا. وهي من أسرة عريقة وإن لم تكن شديدة الثراء. ونجح الاثنان في جمع ثروة طائلة تقدر بملايين الليرات.
وضعت ذات البلوزة الزرقاء ساقا على ساق، فانحسرت جوبتها عن استدارة جذابة، وجانب من فخذ مشدود، كانت تتكلم بصورة متصلة ورفيقتها تصغي باهتمام، ثم كفت عن الحديث وانصرفت إلى تأمل يدها المبسوطة فوق المائدة. ولمحت يد رفيقتها تستقر فوقها في لمسة طمأنة وود.
انتبهت إلى صوت وديع: البترول هو الذي رفع عدنان؛ فقد مكنه من أنه ينتقل من الكتب إلى المطابع والأفلام والشرائط. لكنه موهوب أيضا.
نهضت المرأة واقفة فكشفت عن قامة ممشوقة تعلوها رقبة طويلة، وألقت على كتفيها صديرية ذات كمين طويلين تدليا بجوار ساعديها العاريين، وعبرت القاعة في خطوات ثابتة وخيلاء غير متعمدة، وتبعتها زميلتها التي بدت أكبر منها في السن. كان وجهها جذابا رغم ما به من ملامح رجولية أكدها خلوه من أي أثر للزينة.
تتبع وديع اتجاه نظراتي، وإذا به يضع يده فجأة على يدي ويهتف بصوت خافت: هناك مثل لبناني يقول: إذا جبت سيرة الديب لازم تحضر القضيب. لميا.
نظرت إليه في تساؤل، فأضاف: لميا الصباغ، زوجة عدنان. - ذات الملابس السوداء؟ - لا، الأولى الطويلة.
قلت وأنا استعد للقيام: إذن تكلمها.
لم يتحرك من مكانه وهز رأسه قائلا: مثل لميا لا يكلمها أحد في الشارع هكذا. لا بد أن تتصل بها أولا عن طريق التليفون. الصباح رباح.
6
أسفر الصباح عن اختفاء المظاهر المسلحة من أمام المنزل. وعندما خرجت إلى الشارع لم أجد أثرا لعلم «المرابطون».
ركبت إحدى سيارات السرفيس المتجهة إلى البحر. وجلست بجوار شاب ملتح، فاحت رائحة الحشيش من سيجارته، واستغرق في قراءة صحيفة. ومن فوق كتفه لمحت الصورة التي نشرتها أغلب الصحف، وتمثل ثلاث جثث عارية لشبان مسيحيين، استخرجت من بئر في بلدة حمانا.
اخترقنا منطقة الروشة الأنيقة ذات البنايات الحديثة العالية، والملاهي التي لا تنام، والمقاهي والمطاعم الفاخرة. وخرجنا إلى الشاطئ قرب الصخرة الشهيرة التي ألف العشاق الفاشلون أن يلقوا بأنفسهم من فوقها. ورأيته محتلا بسيارات تبيع القهوة والمرطبات، و«بسطات» من الملابس والأحذية والأدوات المنزلية والخضراوات.
لمحت على الناحية الأخرى، واجهة مقهى «الدولشي فيتا»، الذي كان رمزا للحياة البيروتية اللذيذة في الستينيات وبداية السبعينيات. وبدت عليه مسحة من الإهمال والقدم، كما ظهرت المباني المدمرة من حوله.
انفصلنا عن طريق البحر، وانطلقنا في شارع كورنيش المزرعة. نزلت قرب السفارة السوفيتية بعد أن دفعت ليرة. وعبرت الطريق إلى الناحية الأخرى، ومضيت من أمام سوبر ماركت ومتاجر حديثة مختلفة، وأنا أطالع اللافتات المعلقة فوق مداخل البنايات وطوابقها حتى عثرت على بغيتي.
استقبلني مدير دار «التقدم» في مكتب تصدرته صورة كبيرة ملونة للينين. كان يتميز بطبيعة بالغة الهدوء، توحي بالحياة المستقرة الناعمة، وقوى من هذا الانطباع امتلاء جسده، وأناقته المفرطة.
أعطيته رسالة من أحد أصدقائي يطالب فيها ببقية حقوقه عن كتاب له، قرأها بعناية ثم دق جرسا. وجعل يتأمل أظفاره بإمعان إلى أن استجاب أحد الشبان للجرس، فطلب منه أن يحضر البطاقة الخاصة بصديقي، وأن يأمر لي بقدح من القهوة.
جاء الشاب بالبطاقة المطلوبة فتأملها لحظة ثم ابتدرني قائلا: كتاب صديقك لم يوزع منه حتى الآن غير 990 نسخة. وهو لا يستحق دفعة أخرى من حقوقه إلا عندما يتجاوز التوزيع رقم الألف.
قلت: الذي فهمته منه أنه لم يتم بينكما اتفاق على نصيبه من عائد التوزيع.
قال: الحساب تم على أساس عشرة بالمائة.
قلت: أظن أنه يستحق خمسة عشر بالمائة.
قال: نحن لا ندفع للمؤلف أكثر من عشرة بالمائة، هذه سياستنا.
قمت بحساب سريع لما سيعود علي من نشر كتابي طبقا لهذه النسبة. وقررت ألا أقدم إليه المخطوطة التي حملت معي نسخها. وعندما فرغت قهوتي قمت واقفا وأنا أقول: سأنقل إليه كلامك.
كانت هناك دار أخرى تحمل اسم «الناشر المعاصر» بالقرب من جامع جمال عبد الناصر، ترجع نشأتها إلى بداية الخمسينيات، واشتهرت بنشر ترجمات الكتب الرائجة في الغرب. لكن رواج هذه الكتب لم يستمر طويلا. ومن ناحية انتشرت الدور المنافسة المدعومة جيدا من الدول العربية البترولية. وأدى هذا إلى تدهور أمرها في بداية السبعينيات، حتى أوشكت أن تخرج نهائيا من سوق النشر. إلا أن السنوات الأخيرة شهدت نشاطا مفاجئا لها، مما يعني أن صاحبها قد عثر على مصدر جيد من مصادر التمويل.
لم أجد صاحب الدار في مكتبه، فتركت له صورة من المخطوطة مع رسالة موجزة تتضمن رقم تليفون وديع. وأخذت سيارة أجرة إلى الحمرا. ولم أجد صعوبة في الاهتداء إلى مقر الدار التي أسسها صفوان ملحم منذ عامين.
استقبلتني فتاة سمراء، قصيرة القامة، ذات عينين واسعتين ووجه صارم التقاطيع. وما لبث صفوان أن خرج إلي، فتعانقنا، ومضيت معه إلى مكتبه.
شربنا القهوة، ونحن نتذاكر ظروف تعارفنا في نهاية الستينيات. وكان وقتها محررا ضئيل الشأن في إحدى الصحف اللبنانية التي كانت تمولها السفارة المصرية.
أعطيته رسالة مماثلة لتلك التي أعطيتها لمدير دار «التقدم»، بشأن كتاب آخر لصديقي، نشره له صفوان في بداية نشاطه، فتناول ملفا من خزانة خلفه، وقلب محتوياته، ثم دون بعض الأرقام في ورقة، وقدمها إلي وهو يبتسم في أسف قائلا: ليس له شيء؛ فما وزعناه من كتابه حتى الآن لم يتجاوز 990 نسخة. وبحساب ما وصله فعلا من مال، يكون قد أخذ حقه وزيادة.
سألته: على أساس أي نسبة؟
أجاب: خمسة عشرة بالمائة.
غادر مقعده وجذبني من ذراعي، فتبعته إلى غرفة جانبية تكدست بها أكوام الكتب. قال وما زالت الابتسامة الآسفة على شفتيه: التوزيع هو مشكلة المشاكل. والكتاب لا ينجح إلا إذا أخذت منه إحدى الحكومات ألف نسخة. وهم طبعا ينتقون الكتب بمقاييس دقيقة للغاية. وبعد ذلك يأتي دور المعاملات البيروقراطية ثم الوسطاء العديدين. النتيجة أني في أزمة متصلة.
قلبت بين الكتب، فطلب مني أن آخذ ما يعن لي. اخترت كتابا عن دور المملكة السعودية في دعم النظام الرأسمالي العالمي، وآخر عن الثورة الإيرانية، وثالثا عن خطط إسرائيل لمستقبل المنطقة في العقد القادم.
خرجنا إلى الصالة فدرت بعيني باحثا عن الفتاة السمراء، دون أن أجدها. وعدنا إلى غرفته، فقال وهو يجلس إلى المكتب: لعلك تكون قد أحضرت لي شيئا معك.
أخرجت مخطوطتي من حقيبة اليد، وقدمتها إليه قائلا: للأسف أني وعدت بها عدنان الصباغ، فإذا لم يتمكن من نشرها، أعطيتها لك.
تناول المخطوطة وقال: مسكين. لقد أصيب بخسارة فادحة. لكنه سيقف على قدميه بسهولة؛ فهو مدعوم من مصادر كثيرة.
تساءلت: مثل؟
أجاب: حبيبي. المصادر معروفة ولا داعي لذكرها.
دخلت علينا سيدة أربعينية، ترتدي سترة خضراء من الشامواه فوق فستان مزركش، وتمسك في يدها بنظارة طبية. كانت بيضاء البشرة، شقراء الشعر، لكني أدركت أنه مصبوغ.
ابتدرت صفوان قائلة: سأسافر صباحا.
قدمها إلي أنها كاتبة أردنية. ولم تعبأ بي إنما وجهت حديثها إليه: هل أعددت العقد؟
أجاب: سيكون جاهزا في المساء.
قالت: سأذهب الآن إذن.
سألته وأنا أشير برأسي ناحية الباب الذي خرجت منه: ماذا تكتب؟
قال: أشياء على طريقة تحت ظلال الزيزفون ومرتفعات ويذرنج. ولولا أنها تدفع ثمن الورق وأجر المطبعة ما كنت نشرت لها شيئا.
قمت واقفا وأنا أقول: سأبلغك بموقف الصباغ من الكتاب خلال يومين. - إلى متى تنوي البقاء ببيروت؟ - حتى نهاية الأسبوع في الغالب. - لا بد أن تسهر عندي الليلة. - لا أعرف البيت. وأخشى أن أتوه. - سأمر عليك بسيارتي أو أرسل إليك واحدة في السابعة.
استرشدت منه عن الطريق إلى مكتب وديع الذي يقع في شارع قريب، ورافقني إلى الباب الخارجي. كانت السمراء منحنية على كتاب فوق مكتبها. وشعرت بنظراتي، لكنها لم ترفع رأسها.
وجدت وديع في مكتبه ينصت إلى الراديو. قلت وأنا أرتمي في مقعد: ما هي الأخبار؟
قال: 68 كيلوجراما من الديناميت انفجرت هذا الصباح في سيارتين ملغومتين بالمنطقة الشرقية. والضحايا 9 قتلى و80 جريحا، بالإضافة إلى المتاجر والمنازل والسيارات التي تضررت. - والفاعل؟ - مجهول كالعادة، لكن النتيجة معروفة. - كيف؟ - عمل انتقامي ضد الغربية.
أحضر لي أحد الشبان علبة بيرة مثلجة جرعتها في لهفة.
سألني وديع: وأنت؟ ماذا فعلت؟
ذكرت له مقابلاتي باختصار. وعلق على قصة ال 990 نسخة بقوله: هل اعتقدت حقا أنك ستأخذ منهم شيئا؟
سألني بعد برهة: هل اتصلت بلميا؟
قلت: لم أجدها فتركت لها اسمي ورقم التليفون. - واضح أنك ستبقى معنا بعض الوقت. هذا عظيم. - لماذا؟ - عندي عمل لك. - لست مستعدا لأي شيء. أنا مرهق وعاجز تماما عن التركيز. - الأمر سيهمك بالتأكيد. - ما هو؟ - كتابة التعليق لفيلم وثائقي عن الحرب الأهلية. - لكني لا أفهم شيئا بالنسبة لهذه الحرب. حتى الآن لا أعرف من مع من ومن يحارب من، ولماذا؟ - هذه ليست مشكلة. يمكنك أن تفهم الحكاية كلها بسهولة. - أليس من الأفضل أن يقوم بذلك كاتب لبناني، أو على الأقل واحد عاصر الحرب؟ هناك كتاب كثيرون في بيروت. - المخرجة تعتقد أنه من الأفضل أن يكون كاتب التعليق خارج المشكلة، لتأتي نظرته موضوعية وطازجة. - مخرجة؟ - أجل، أنطوانيت فاخوري. - سمعت عنها. هل هي جميلة؟ - لا بأس بها. - ومن المنتج؟ من الذي يقف خلف الفيلم؟ - وماذا يعنيك من أمره؟
قلت: لا أريد أن أجد نفسي في النهاية أداة بيد أحد الأنظمة.
قال: وماذا في هذا؟ هل تذكر صديقك عبد السلام؟ لقد وضع مجلدا عن سيرة القائد المعلم صدام حسين طبعت منه ملايين النسخ، فانهالت عليه الدنانير. ومن حسن حظه أن صدام حسين تخلص من أغلب رفاق النضال الذين ورد ذكرهم في الكتاب، فتم سحبه من السوق. وعهد إليه بوضع كتاب جديد. وبذلك ضمن أن يصير غنيا عن الحاجة إلى الأبد. ثم هناك صديقك الآخر الذي أشهر إسلامه على يد القذافي. على أي حال الفيلم لا علاقة له بأي حكومة. المنتج هو مجموعة تعاونية من السينمائيين اللبنانيين الشبان. - وما هو اتجاههم السياسي؟ - ليست لهم علاقة بأي حزب أو حركة، لكنهم يساريون بشكل عام. - متأكد أنه لا يوجد أحد خلفهم؟ - اطمئن، الفيلم مسئولية أنطوانيت. وهي من النوع الذي يسمى بالتقدمي النظيف؛ أي الذي ما زال غارقا في مثاليات حمقاء. - هل سيدفعون أم يعتبرون الأمر مساهمة مني في القضية؟ - سيدفعون طبعا. كل شيء الآن بثمنه. - كم تعتقد؟ - لا أعرف. لكنه سيكون مبلغا معقولا.
فكرت قليلا ثم قلت : لا بد أن أرى الفيلم أولا. - بون. كما يقول اللبنانيون المتفرنسون. سنذهب إليها بعد ساعة ونصف. إنها تستخدم الأستديو التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية.
أكلنا ساندوتشات شاورمة، وشربت علبتي بيرة. وحوالي الثالثة غادرنا المكتب، وأقلتنا سيارة أجرة إلى منطقة الفاكهاني الآهلة بالسكان والحركة.
مررنا بالبناية العالية التي تضم مكاتب دائرة الإعلام الفلسطينية، ثم تحولنا إلى شارع حفل بالمقاهي والمطاعم الشعبية. وتوقفنا بالقرب من موقف لسيارات الأجرة ينطلق منه نداء متكرر: واحد ع الشام.
ولجنا مبنى يحرسه مسلحان توليا تفتيشنا، بعد أن تأكدا بالتليفون من صحة موعدنا. وأقلنا مصعد متسخ الأرضية إلى الطابق الثالث؛ حيث شغلت أنطوانيت غرفة صغيرة بها مكتب وخزانة للملفات، وعدة مقاعد.
كانت نحيلة، متوسطة الطول، في أواخر العشرينيات، ترتدي بزة من الجينز. ومدت إلي راحة خشنة ضغطت بها على يدي في قوة تشي بالجدية، بينما كنت أتطلع في عينين جميلتين تميلان إلى الخضرة، ووجه شاحب ينطق بسوء التغذية أو الإرهاق والتوتر العصبي.
قالت وهي تتقدمنا إلى غرفة جانبية تصدرتها مائدة المافيولا التي تجرى عليها عمليات المونتاج السينمائي: للأسف لم أتمكن من احتجاز صالة عرض. لكنك ستتمكن من تكوين فكرة عن الفيلم من المافيولا.
كان هناك شاب ذو سوالف طويلة يجلس إلى المائدة، أمام لوحة من الزجاج المصنفر تعلو مصباحا صغيرا، وتحيط بها عدة عجلات، حملت إحداها شريط الصورة الأسود، وحملت ثانية شريط الصوت البني.
جلست أنا ووديع على مقعدين متجاورين خلف الشاب. وانحنت أنطوانيت فوقه تتابع يديه وهما تضمان الشريطين إلى بعض، وتثبتهما فوق الأسنان المزدوجة لجهاز التزامن.
أطفأت مصباح الغرفة، فساد الظلام عدا الضوء الخفيف المنبعث من المائدة.
ولمس الشاب بيده إحدى العجلات، فتحرك الشريطان المتطابقان، وتسللت إلى أسماعنا حشرجة موسيقية، بينما تتابعت اللقطات على الشاشة الصغيرة.
كانت الكادرات الأولى معتمة، وتبعتها أخرى مشوهة بعلامات شطب ودوائر، ثم ظهر عنوان كبير في منتصف الكادر عليه علامة شطب:
ماذا حدث للبنان؟
وتتابعت لقطات للقرى ولشوارع بيروت بأحيائه الغنية والفقيرة، ولواجهات الحوانيت وملصقات الجدران وإعلانات التليفزيون وصور الزعماء. وتردد صوت فيروز الساحر في أكثر من أغنية. وأخيرا ظهر العنوان الكبير مرة أخرى:
ماذا حدث للبنان؟
ثم اسم أنطوانيت بصفتها المؤلفة والمخرجة، وأسماء الذين عاونوها. وأخيرا بدأ الفيلم.
تمكنت في البداية من تتبع الأحداث المختلفة وتمييز بعض الشخصيات. وساعدني على ذلك أن الفيلم لجأ إلى تقليد أفلام السينما الصامتة في استخدام العناوين التي تملأ الشاشة؛ لإيضاح بعض التفاصيل. لكني لم ألبث أن عجزت عن متابعة الأحداث المتلاحقة، ولم أعد أميز بين الشخصيات أو الأماكن.
استمر العرض ساعة وربع الساعة. وعندما أضيء نور الغرفة، خلعت أنطوانيت نظارة طبية، وقدمت إلي علبة سجائر أمريكية، فأخذت سيجارة وأشعلت لها سيجارتها.
قالت وهي تبتسم في قلق: ما رأيك؟
قلت: الفيلم يشد المتفرج بالتأكيد. وهو ذو قيمة سياسية واضحة. لكني أكذب عليك إذا قلت إني فهمت كل شيء.
استرخت عضلات وجهها، ولمعت عيناها وهي تقول: هذه هي مشكلتنا؛ فلن يستوعب الفيلم بهذا الشكل إلا من يعرف لبنان جيدا؛ ولهذا لجأت من البداية إلى استخدام العناوين. والواضح أنها لم تحل المشكلة، بل خلقت واحدة جديدة في توازن الفيلم. والحل الذي توصلت إليه هو استبدال العناوين والموسيقى التصويرية بتعليق صوتي مترابط يسد كافة الثغرات، ويساهم في دعم البناء الدرامي للفيلم.
وأضافت وهي تحرك يدها بعصبية: شيء يلم الفيلم كله.
أومأت برأسي مؤمنا على حديثها، فاعتبرت هذا موافقة مني على إعداد التعليق المطلوب، وقالت: بون. لقد أعددت لك بعض الكتب والتقارير والمقتطفات الصحفية التي ستعطيك فكرة واضحة عن المشكلة اللبنانية برمتها. اقرأها أولا ثم نتحدث بعد ذلك.
عاونني وديع في حمل عدد من المجلدات والملفات إلى سيارة تابعة لدائرة الاعلام، أقلتنا إلى المنزل، ثم أوصلت وديع إلى مكتبه.
كانت الساعة تقترب من السادسة، فأخذت حماما سريعا، واستبدلت ملابسي، ثم ملأت كأسا كبيرة من الويسكي، وجلست في الصالة أمام التليفزيون. وحوالي السابعة والربع وصلت سيارة الأجرة التي وعدني بها صفوان.
وجدت عنده الكاتبة الأردنية التي تعرفت عليها في الصباح، والفتاة السمراء التي كانت في مكتبه، وشابين ليبيين من السفارة . تجمعنا في صالة كبيرة تكدست بها قطع الأثاث الفخمة، من كنبتين لوي كانز تحتل كل منهما مترا مربعا ونصف المتر، إلى طاولات ضخمة محفورة يعلوها رخام أسود.
كان الليبيان يجلسان متجاورين في طرف إحدى الكنبات، وفي مواجهة المرأتين. وبينما استرخت السمراء في مقعدها باطمئنان، وفي يدها كأس من الويسكي، استقرت الأردنية فوق حافة المقعد، حاملة سلسلة مفاتيح في يدها، كأنها مستعدة للقيام في أي لحظة.
جلست بالقرب من الليبيين، بحيث صارت السمراء أمامي مباشرة. أحضر لي صفوان كأسا من الويسكي، ثم ظهرت زوجته تحمل عددا من الأطباق. كانت أكبر منه في الحجم، وأصغر منه في السن بفارق واضح. وكانت تتحرك بفتور ظاهر، وعندما صافحتني ابتسمت، لكن الابتسامة لم تجاوز شفتيها.
سمعتهم يخاطبون السمراء باسم راندة. ورأيتها قد فرغت من كأسها فملأته من جديد، ورفضت الأردنية أن تشرب، وجعلت تنقل البصر بين الحاضرين، ثم قامت فجأة وقالت إنها مضطرة إلى الذهاب؛ لأنها ستسافر في الصباح الباكر.
حاول صفوان أن يثنيها عن عزمها دون جدوى، فودعها إلى الباب. وجلس إلى جوار الليبيين بعد أن أدار شريطا لفيروز. ولم تشترك زوجته في الأكل أو الشراب، إنما جلست مكان الأردنية، وأمسكت بذراع «أرجيلة» وأقبلت تدخن، وقد شردت نظراتها.
كانت راندة تجرع الويسكي بشراهة وثبات. وتطلعت إليها عدة مرات، لكنها تجنبت نظراتي.
انتقلت فجأة إلى جوارها قائلا: تعجبني الطريقة التي تشربين بها.
ضحكت ولم تعلق بشيء، ثم وجهت انتباهها إلى الحديث الذي كان يدور بين صفوان والشابين الليبيين.
ملأت كأسي وسمعتها تقول لصفوان: سيأخذان ألف نسخة من كل كتاب.
بادر أكبر الليبيين سنا يقول: لم نقرر بعد.
قال الآخر وقد بدا أثر الشراب في عينيه: الأستاذ تسبب في هرب واحدة. وهو الآن يريد أن يطفش الثانية.
قالت راندة: اطمئن. لن يحدث شيء من هذا.
وقامت من جانبي، فدارت حول الطاولات حتى وقفت أمام الشابين وقالت: أفسحا لي مكانا بينكما.
أطاع الاثنان في سرور، وقام صفوان فجلس إلى جواري. قرع كأسه بكأسي، ثم قال: الحرب الإيرانية العراقية أصابتني بضربة قاصمة ؛ فعندما قامت الثورة الإيرانية نشرت عنها عدة كتب، والنتيجة أن العراقيين قاطعوا كل كتبي، بل ورفضوا أن يدفعوا لي ما عندهم.
انضم إلينا شاب لبناني، أنيق الثياب، منتعش الوجه، يحمل حقيبة سامسونايت. وتهللت أسارير زوجة صفوان لرؤيته. وبدا قريب الشبه بصفوان وإن صغره في السن، وقدمه لي صفوان على أنه شقيقه.
تركت زوجة صفوان أرجيلتها، وقامت فأحضرت للشاب كأسا من الجين وطبقا من المزات.
سألته عما إذا كان يعمل في النشر بدوره، فبادرت زوجة شقيقه قائلة: يكفي واحد في هذه المهنة التعيسة.
وقال الشاب إنه يعمل في شرائط الأغاني.
قال صفوان: إنه يكسب في يوم واحد ما أكسبه أنا في سنة.
لوت زوجته شفتها وخاطبته قائلة: أين هو الذي كسبته في السنة الماضية؟
لزم صفوان الصمت واستغرق في تأمل كأسه، ثم خاطبني قائلا: لم تحدثني عن الحال في مصر. أنت تعرف أني لم أرها منذ عشر سنوات.
قلت: لن تتعرف عليها لو رأيتها الآن؛ فكل شيء تغير في هذه السنوات العشر. الهواء نفسه على رأي بعضهم.
سألني: كيف؟
قلت: الشوارع ازدحمت بالسيارات الفاخرة والمباني السوبر لوكس وبالحفر والأتربة والقاذورات والأجانب. المتاجر امتلأت بالسلع المستوردة والأطعمة الفاسدة. والصحف بالأكاذيب. ومياه الشرب بالديدان الحية.
قال: والناس. كيف يسكتون على ذلك؟
قلت: الناس ملاحقون بطوابير الخبز والسجائر والدجاج، بالأوبئة والضجة والقذارة، وبانقطاع المياه والكهرباء والتليفون، بالمواصلات المستحيلة، وبسباق التظاهر. الواحد منهم يتبعثر كل صباح عدة مئات من القطع، ويعجز عن لم نفسه في المساء مرة أخرى. حتى الكرامة الوطنية لم يعد لها معنى عندهم، فماذا تنتظر منهم؟ ثم إن عبد الناصر قتل فيهم كل قدرة على العمل الجماعي.
نهض الليبيان معربين عن رغبتهما في الانصراف. ونهضت راندة معهما وانصرفت في صحبتهما.
أعلنت رغبتي في الانصراف بدوري، لكن صفوان ألح علي في البقاء، وأراد أن يملأ لي كأسي، لكني اعترضته قائلا: عندي عمل في الصباح.
وجه الحديث إلى زوجته: توصليه بالسيارة؟ لا أظن أني أستطيع القيادة بعد كل ما شربته .
أجابته: لماذا تشرب عندما يكون لديك من تحب أن توصله؟
تدخل الشقيق قائلا: سأوصله أنا.
نهضت واقفا فوقف الجميع. واقتربت زوجة صفوان من شقيقه وألقت بيدها على كتفه قائلة: بكير، نم عندنا.
قلت: بوسعي أن آخذ سيارة أجرة.
قال الشقيق: في هذا الوقت؟ أنا مضطر للانصراف الآن لأني سأسافر في الصباح الباكر إلى دمشق، شرف يا أستاذ.
تقدمته إلى باب المسكن. وتبعنا صفوان وزوجته في صمت.
7
لزمت البيت في اليومين التاليين، انقطعت خلالهما للكتب والوثائق التي زودتني بها أنطوانيت. ولأول وهلة وجدت أني ضائع بين مغزى الأحداث، ومدلولات الأسماء والأماكن. وضاعف من حيرتي تعدد وجهات النظر، وتعارضها، فيما قرأته. كما أن كلا منها كان مسلحا بترسانة من الحجج والبراهين القاطعة. لكني لم ألبث أن تبينت فائدة ذلك؛ إذ أتاح لي أن اتخذ منهج المقارنة بين الآراء المختلفة. وساعدني وديع بذاكرته ومشاهداته. وسرعان ما كنت أشق طريقي في شيء غير يسير من الجهد.
كان لدي تصور ضبابي في السابق عن الحرب الأهلية اللبنانية، مؤداه أنها حرب بين التقدميين والرجعيين يحركها الاستعمار، وأن غالبية التقدميين من المسلمين، كما أن غالبية الرجعيين من المسيحيين. لكني أدركت الآن أن الأمر أعمق من ذلك بكثير. وبدت المشكلة اللبنانية مثل لفافة ضخمة من شرائط متعددة الألوان، اشتبك بعضها ببعض حتى صار فصل إحداها عن الأخرى ضربا من المستحيل.
على أني كلما تتبعت أحد الخيوط، انتهى بي إلى الانقسام الطائفي الشامل، الذي ينفرد به لبنان بين البلاد العربية؛ فاللبنانيون، الذين لم يزد عددهم في يوم من الأيام عن ثلاثة ملايين نسمة، تتوزعهم قرابة العشرين طائفة، على رأسها الشيعة والسنة والدروز، ثم الموارنة والكاثوليك والروم الأرثوذوكس، والأرمن والسريان (كاثوليك وأرثوذوكس)، ثم البروتستانت والأشوريون واليهود. وتسيطر على هذه الطوائف مجموعة محدودة من العشائر والعائلات، تتوارث نفوذها جيلا بعد جيل. وكأنما لبنان بلد «تجمد» عند لحظة من لحظات العصور الوسطى.
وفي ضوء التاريخ، بدت الحرب الأهلية التي اشتعلت في أبريل (نيسان) 1975، وسقط فيها 75 ألف قتيل و140 ألف جريح (ليس بينهم واحد يحمل اسم إحدى العائلات التي تؤجج القتال وتجني ثمن الضحايا)، حلقة في سلسلة طويلة من الفتن والحروب. أما البداية فهي موزعة بين اللحظة التي اكتشفت فيها العشائر المتنازعة بالمنطقة مأوى مثاليا في جبل لبنان يحميها من أعدائها، وتلك التي رست فيها سفن الغزاة الصليبيين تحت أقدام الجبل العتيد.
فأولئك المستعمرون الأوائل، الذين قدموا من أوروبا رافعين رايات المسيح المقدسة، سعوا إلى إقامة علاقات خاصة مع بعض الأقليات الدينية في المنطقة، ووجدوا ضالتهم في طائفة مسيحية شرقية، تنتسب إلى القديس مار مارون، عاشت في رخاء نسبي نتيجة احتكارها لإنتاج الحرير. ومن جانبها رأت الطائفة المارونية في المساندة الأوروبية حماية لمصالحها الاقتصادية، وتدعيما لها.
وطبق الأتراك نفس السياسة عندما حلوا بالشام عام 1516، في ظل الراية الإسلامية، فقد عمدوا إلى احتضان طائفة السنة المسلمة على حساب بقية الأقليات من مسلمة ومسيحية. وكان المصريون الذين وجههم محمد علي إلى الشام بعد 1833، هم الذين ألغوا كافة المظاهر التي فرضها الأتراك لتمييز المسيحيين من حيث الملبس، كما فتحوا الوظائف العامة أمامهم. وبدا المشرق العربي كله على أبواب مرحلة جديدة، تنقله من ظلام العصور الوسطى إلى آفاق العصر الحديث.
لكن القوى الاستعمارية كانت بالمرصاد لمحمد علي. كما أشعل الصراع البريطاني الفرنسي في المنطقة الفتنة الشهيرة عام 1840، بين الدروز والموارنة؛ ذلك أن الأولين، وهم مسلمون يؤلهون الحاكم بأمر الله (الشيعي)، قد اتبعوا مثال الموارنة، وأقاموا علاقة خاصة ببريطانيا، يوازنون بها علاقة الموارنة بفرنسا.
اتسعت الفتنة بعد خمس سنوات بانضمام الأرثوذوكس والسنة والشيعة إلى جانب الدروز، ثم تكررت عام 1860، عندما ثار الفلاحون الموارنة على إقطاعييهم؛ فلم تكد محاولات التوفيق بين الجانبين تشرف على النجاح، حتى هاجم فريق من مسيحيي المتن قرى درزية، وأغار الدروز على قرى مارونية، وتحول الأمر إلى حرب بين المسلمين والمسيحيين، انتهت بتدخل قوات الدول الأوروبية، ودخول الجيش الفرنسي بيروت.
وينسب المؤرخون لنابليون الثالث دورا في إثارة هذه الفتنة؛ فقد دخلت فرنسا في عهده، مرحلة جديدة من الآمال التوسعية، وأراد الامبراطور أن يظهر في ثوب المدافع عن حقوق المسيحيين في الشرق.
لكن الآمال الفرنسية لم تتحقق إلا في أعقاب سقوط الإمبراطورية العثمانية في نهاية الحرب العالمية الأولى؛ فقد تقاسم الإنجليز والفرنسيون المشرق العربي، وهزموا قوات الأمير فيصل، الذي كان بسبيل إنشاء الدولة العربية الموحدة من الأردن وسوريا ولبنان وفلسطين.
تولت فرنسا سلطة الانتداب على إقليمي سوريا ولبنان، فحافظت على النظام الطائفي، ودعمت مركز الموارنة، بإعطائهم امتيازات عدة، وإتاحة الثقافة الأجنبية لأبنائهم؛ الأمر الذي هيأ لهم فرصا اجتماعية لم تتوفر لغيرهم.
ولاح أمل الدولة العربية الموحدة من جديد عام 1952، عندما نشبت الثورة التي بدأها الدروز بقيادة سلطان باشا الأطرش، تحت شعار وحدة البلاد السورية (الأردن وسوريا ولبنان وفلسطين) واستقلالها. لكن الفرنسيين قمعوا الثورة بالسلاح، كما قضوا على جذوة الوحدة العربية بتأسيس دولة منفصلة لجبل لبنان.
ففي سنة 1926، أعلنت فرنسا قيام الجمهورية اللبنانية، وأعطتها علما هو العلم الفرنسي ذاته وقد أضيفت إليه شجرة أرز. وأطلق بعض الموارنة على الدولة الوليدة اسم «فرنسا الصغرى».
وبعد ثمانية عشر عاما، انتهى الانتداب الفرنسي على لبنان، فأصبحت جمهورية مستقلة. وكان الموارنة قد أدركوا خلال ذلك أن عصر الإمبراطورية الفرنسية قد ولى، فتبلور داخلهم اتجاه متحالف مع البريطانيين، شكل مع عناصر من السنة والشيعة والدروز ما عرف في تاريخ لبنان السياسي باسم «الكتلة الدستورية».
وولد الكيان اللبناني عمليا في حضن الإنجليز سنة 1943، وفقا لصيغة تم الاتفاق عليها بين بشارة الخوري (المسيحي الماروني)، ورياض الصلح (المسلم السني)، تنص على أن يتخلى المسيحيون عن رغبتهم في طلب الحماية من «الأم الحنون» - كما كانوا يسمون فرنسا - ويخرجوا من عزلتهم ليدخلوا في الجماعة العربية. ومقابل ذلك يتخلى المسلمون عن السعي للانضمام إلى سوريا أو أي وحدة عربية أكبر.
ووفقا لهذا الميثاق غير المكتوب، تم الاتفاق على توزيع مناصب الدولة الرئيسية توزيعا طائفيا عادلا، على أن تكون نسبة المسيحيين في المجلس النيابي ستة إلى خمسة مسلمين. وتضمن هذا الاتفاق أن يكون رئيس الجمهورية مسيحيا مارونيا، ورئيس الوزراء مسلما سنيا، ورئيس النواب مسلما شيعيا. وأطلق على هذا الوضع اسم التوازن اللبناني.
على أن الاتفاق كان منذ البداية، محملا ببذور الانفجار؛ فمن ناحية، لم يكن التوازن بين الطوائف وحدها، فقد كان في الوقت نفسه توازنا إقليميا، وتوازنا بين العائلات والعشائر والمؤسسات. ومن ناحية أخرى، فإن الوضع المتميز الذي هيأه الفرنسيون للموارنة أتاح لهم الازدهار، وجاء الاتفاق فأعطاهم الوظائف الخمس الرئيسية في البلاد؛ رئيس الجمهورية، قائد الجيش، رئيس المكتب الثاني، محافظ مصرف لبنان، مدير الأمن العام.
وكان من الطبيعي أن تشعر الفئات الاجتماعية العليا من الطوائف الأخرى، مسيحية ومسلمة، بالغبن، وخاصة السنة الذين تتكون منهم غالبية سكان بيروت، ويعملون بالتجارة من أقدم الأزمنة؛ فقد أصبحوا يشعرون أنهم ليسوا أقلية، بعد أن تزايدت أعدادهم بصورة واضحة.
بهذا لم يكن التوازن الطائفي مرحلة على الطريق إلى الوطن، بل تأجيلا له؛ فقد صار الوطن هو الطائفة، أو بالأحرى صراع الطوائف.
وتعددت قوانين الأحوال الشخصية نتيجة لهذا الوضع، حتى أصبحت أغلب الأمور المتعلقة بالفرد من اختصاص الطائفة، وأصبحت كل طائفة دولة ضمن الدولة، تتمتع بالشخصية المعنوية، وبحق التشريع والقضاء في مسائل الأحوال الشخصية لرعاياها، فإذا لم يندرج الفرد في إحدى الطوائف، حرم من حق العيش في ظل نظام للأحوال الشخصية، وحرم بالتالي من الزواج على الأرض اللبنانية.
خلال ذلك أخذ لبنان يكتسب الطابع الذي عرف به دائما؛ فبنيته الاقتصادية لم تقم في يوم من الأيام على أساس اقتصاد الإنتاج بالمعنى الصحيح، باستثناء زراعة الحشيش والأفيون. وإنما قامت على أساس اقتصاد الخدمات الذي يمثل سبعين بالمائة من الدخل القومي، فعرف لبنان بأنه السوق المثالي للمنتجات الأوروبية ذات السعر المنخفض.
وتدفقت على بنوك لبنان رءوس الأموال من مصادر البترول العربية؛ فانتعشت السوق المالية والمصرفية التي تتكون من مصارف أجنبية ومختلطة مهمتها هي نقل الأموال العربية إلى الأسواق الدولية. وظهرت طبقة جديدة من رجال المال والأعمال ورجال التخطيط والإدارة والمحاسبة المؤهلين للعمل في شركات البترول بالبلاد العربية التي أقامت مكاتبها الرئيسية في بيروت.
واستتبع هذا انتعاش سياحي، فأصبحت بيروت مركزا للخدمات بأنواعها بما فيها الخدمات الترفيهية. وأصبح الكسب السريع بكل صوره وأشكاله هو الغاية، ولو تم على حساب القيم الأخلاقية بل والوطنية. وتحولت بيروت إلى مركز للتآمر السياسي والجاسوسية، ووكر لتجارة الرقيق الأبيض.
وبحكم الكيان الطائفي الذي تنتقل فيه الزعامات والمناصب مع الثروات إلى الأبناء، تكدست الثروات العقارية المبنية وغير المبنية والصناعية والتجارية في أيد معدودة، استغلت ضعف السلطة المركزية وفقر أغلبية المواطنين. وأصبح نصف السكان يحصلون على 18 بالمائة من الدخل القومي ويحصل النصف الآخر على 82 بالمائة منه، بينما يستأثر عشرة بالمائة من النصف الأخير بالجانب الأكبر من هذه النسبة.
هكذا انضم عنصر جديد، هو العنصر الاجتماعي، إلى الصراع الطائفي الديني الذي أوشك أن يتطور إلى صراع قومي على هوية لبنان. لكن كما ظل الصراع القومي محكوما بالطائفة، بقي الصراع الاجتماعي أيضا في هذا الإطار. وظلت التكتلات والأحزاب السياسية - مهما اتخذت من صور العقائد السياسية أو الاجتماعية - واجهات لطوائف، وأحيانا عائلات وعشائر.
وكان من شأن المد القومي الذي اجتاح الشعوب العربية في بداية الخمسينيات، تحت شعاري التحرر الكامل من الاستعمار والوحدة العربية، إشعال الصراع القومي على هوية لبنان؛ فقد بلغت الحركة القومية ذروتها بقيام ثورة الجزائر، وتأميم عبد الناصر لقناة السويس. وعندما وقع العدوان الإنجليزي الفرنسي الإسرائيلي على مصر سنة 1956، لم يخف الموارنة ورئيس الجمهورية كميل شمعون، تعاطفهم مع العدوان، كما هللت له صحيفة حزب الكتائب.
ومن الطبيعي أن انتصار الحركة القومية بدحر العدوان الثلاثي، أدى إلى تعزيز مواقع الجبهة المعادية للموارنة، كما أدى إلى ظهور الولايات المتحدة على المسرح العربي في دور رئيسي.
وقد ذكر راندال، مراسل «واشنطون بوست»: «قال لي سفير أمريكي سابق عن فترة الخمسينيات: إننا كنا نشتري الناس بالجملة في لبنان، ولن أدهش إذا عرفت أن كل شخصية مهمة في لبنان تلقت أموالا من المخابرات الأمريكية».
ولهذا فما إن افتتحت الولايات المتحدة تحركها لاحتلال مواقع إنجلترا وفرنسا في المشرق العربي بمشروع أيزنهاور سنة 1957، حتى كان لبنان هو البلد العربي الوحيد الذي جرؤ على إعلان قبوله.
لكن المد القومي استمر، فألغت الأردن معاهدتها مع بريطانيا، وفي فبراير (شباط) 1958، أعلنت الوحدة بين مصر وسوريا، فالتهبت مشاعر العرب كافة. وتدفق آلاف اللبنانيين على دمشق؛ ليحظوا بنظرة من «ناصرهم».
ووجد زعماء السنة والشيعة المتمسحون بجمال عبد الناصر والقومية العربية، وعلى رأسهم السنيان صائب سلام - رجل السعودية الأول في لبنان - ورشيد كرامي، والشيعي كامل الأسعد - المرتبط بالسعودية أيضا - أن الوقت ملائم لاقتطاع جزء أكبر من الكعكة التي يفوز الموارنة بنصيب الأسد فيها، بالرد على عصابات الاغتيال السرية التي شكلها كميل شمعون (الذي افتضح رقمه السري في المخابرات البريطانية في بداية السبعينيات)، فأشعلوا، بالتعاون مع كمال جنبلاط زعيم الدروز، وحليف شمعون السابق ومنافسه على زعامة جبل الشوف، ما عرف بعد ذلك ب «ثورة» 1958، مستندين إلى حماس الشارع القومي، ولجأ المسلمون إلى السلاح رافعين صور جمال عبد الناصر.
وفي 14 يوليو (تموز) 1958، بلغ المد القومي العربي أقصى مداه؛ إذ سقط النظام الملكي في العراق، وانهار حلف بغداد في ثوان، وبدت الوحدة العربية الكاملة في الأفق. وطار عبد الناصر، من عرض البحر الأبيض المتوسط، إلى موسكو استعدادا لمواجهة شاملة مع الاستعمارين؛ القديم والجديد. هنا استنجد شمعون بسفراء أمريكا وبريطانيا وفرنسا. وجاءه الرد من واشنطون في الساعات الأولى من صباح اليوم التالي. وفي الساعة الثالثة من بعد ظهر اليوم ذاته - الخامس عشر من يوليو (تموز) - نزل حوالي ألفان من مشاة الأسطول الأمريكي بملابس الميدان، على بعد خمسة أميال إلى الجنوب من بيروت، بزعم حماية لبنان من جمال عبد الناصر. وفي الأيام التالية وصل مجموع القوات الأمريكية في لبنان إلى حوالي خمسة عشر ألف مقاتل.
انتهت «الثورة» باتفاق مصري أمريكي على انتخاب اللواء فؤاد شهاب رئيسا جديدا للجمهورية. وانسحب مشاة الأسطول الأمريكي نتيجة لذلك. إلا أن حزب الكتائب، الذي أنشأه الزعيم الماروني بيار الجميل سنة 1939، على غرار واسم الحزب الفاشستي الإسباني، وفي أعقاب اشتراكه في أولومبياد برلين الشهير سنة 1936، جاعلا له شعارا ذا مغزى هو «الله والوطن والعائلة»، تمرد على الاتفاق. وقام أعضاء الحزب باختطاف أنصار صائب سلام، وكي أجسادهم بعلامة الصليب. ورد أولئك بنفس الأسلوب. ولم تنته الفتنة إلا بدخول بيار الجميل وزيرا في حكومة جديدة.
وباشتراك الجميل في الوزارة بدأت الرحلة الدموية التي قطعتها أسرته من أجل الاستئثار بزعامة الطائفة المارونية والاستحواذ على الحكم. والواقع أنه حتى ذلك الحين، لم يكن اللبنانيون قد أخذوا مأخذ الجد، ذلك الصيدلي الرياضي، ذا القامة المنتصبة، والشعر الأبيض الملتصق بالجمجمة، والميليشيات المضحكة. ومن فرط استهزائهم به، أطلقوا عليه «بيار مانع الحمل»، وهو لقب جلبته له إدارته لصيدلية في ساحة الشهداء، على بعد خطوات من حي الدعارة ببيروت.
لكن اشتراك الجميل في الوزارة كانت له أهمية أخرى؛ فقد جاء بمثابة تطبيق للشعار الذي صكه الزعيم الإسلامي ذو السيجار الهافاني، صائب سلام، ومؤداه: «لا غالب ولا مغلوب». ومعناه أن كل ما جرى من أضرار وضحايا لم يعد ذا موضوع، ويجب نسيان الماضي، وإعادة كل شيء إلى ما كان عليه قبل الأحداث، على أساس أن أيا من الفريقين لم يحرز انتصارا على الفريق الآخر، ولا ينال تبعا لذلك امتيازات خاصة. وصار هذا الشعار قاعدة لما يجري في لبنان.
وبلغ لبنان في السنوات التالية قمة ازدهاره؛ فالاتجاه الاجتماعي «الاشتراكي» الذي اكتسبته الحركة القومية بعد التأميمات الناصرية الشهيرة، جعل أصحاب الأموال بمختلف البلدان العربية يرتعدون خوفا من شعوبهم، ويودعون أموالهم في مصارف لبنان، أو يشاركون في مشروعاتها.
ومن ناحية أخرى، فإن الطابع العسكري الديكتاتوري الذي صبغ الأنظمة الوطنية والرجعية على السواء، جعل من بيروت المتنفس الوحيد للاجئين السياسيين والمعارضين للأنظمة المختلفة، وميدان معركة بين هذه الأنظمة وبعضها، وبينها وبين الدولة الاستعمارية، وبين هذه الأخيرة ذاتها.
وأدرك اللبنانيون بحسهم التجاري الموروث، أنهم يستطيعون الاستفادة من هذا الوضع إلى أقصى درجة، فازدهرت كافة المحرمات، من الكتب إلى الدعارة، وأصبح لبنان كله سوقا حرة لكافة الأفكار والسلع. وصدرت عشرات الصحف التي تمولها جهات مختلفة، بل تكونت أحزاب وتنظيمات سياسية تمولها الجهات المختلفة.
واكتسب المواطن اللبناني شخصية الوسيط؛ فلم يكن بحاجة إلى أكثر من أن يرتدي - ولو عن طريق الاستدانة - أفخم الملابس وأحدث الأزياء، ويستعين بأحدث الأجهزة، كي ينجح في ترويج البضاعة التي استوردها من الغرب ويبغي إعادة تصديرها إلى العرب. وصار النائب البرلماني يتباهى بالسفارة الأجنبية التي تدعمه. وشاع أن الذي لا «يقبض» من جهة ما، هو إنسان فاشل غير جدير بالاحترام.
أما الرجعية العربية والدول الاستعمارية، فراحت تروج ل «الرخاء والحرية الاقتصادية والديمقراطية» بصفتها منتجات لبنانية ناجحة. لكن الواجهة البراقة لشارع الحمرا ما كانت لتخفي واقع البلاد المتخلف؛ فمع ارتفاع البنايات الشاهقة وسط بيروت في أحيائها الأرستقراطية، تكون حزام من عشش «التنك»؛ أي الصفيح، حول المدينة. وفي عكار وجبل عامل والبقاع (وهي مناطق تسكنها أغلبية شيعية)، عاش الفلاحون في حالة مزرية من الرق. ومن جرؤ منهم على التمرد على الملاك «البكوات» حرم من التعيين في الدرك، وعجز أولاده عن الالتحاق بالمدارس الحكومية، وإذا كان من زارعي التبغ، حرم من البذور، ولم ينل محصوله سوى أبخس الأسعار.
وجندت الدولة نفسها لخدمة مجموعة من العائلات القديمة بين مارونية وسنية وشيعية، احتكرت أمور البلد وثرواتها.
وخلال ذلك كان عدد المسلمين في تزايد دائم، حتى أصبحوا يشكلون غالبية السكان. ولم يعد الموارنة - باعتراف مجلة «الإيكونومست» البريطانية - يشكلون أكثر من عشرين بالمائة من إجمالي عدد اللبنانيين. وتحققت هذه الزيادة على يد الشيعة بالذات، الذين أصبحوا - وفقا للمجلة الإنجليزية - يكونون ربع السكان. وشهدت نهاية الستينيات بداية صعودهم تحت الزعامة القوية للإمام الطموح موسى الصدر، الذي نجح في استقطاب جماهيرهم في حركة «المحرومين»، قبل أن يختفي عام 1978 في ليبيا.
لكن الستينيات انتهت أيضا بوفاة جمال عبد الناصر، النصير القوي للشارع الوطني في لبنان، والقلعة التي كانت تحتمي بها القيادات الإسلامية وهي تطالب بإعادة توزيع الكعكة. وتلفت الجميع بحثا عن نصير جديد، وسرعان ما وجدوه في المقاومة الفلسطينية.
ويرجع التلازم بين قضيتي لبنان وفلسطين إلى بداية الغزو البريطاني للمنطقة؛ ففي نفس السنة التي احتل فيها الانجليز مصر (1882م)، كان المستوطنون اليهود يبنون أولى مستوطناتهم على مشارف نهر الليطاني. وفيما بعد، كانت المراسلات البريطانية مع زعماء العرب، تتمسك دائما ب «الأوضاع الخاصة » لكل من اليهود في فلسطين، والموارنة في لبنان.
ومن سخرية الأقدار أن لبنان يدين ب «ازدهاره» للقضية الفلسطينية، وأن الثروات الهائلة التي جمعتها العائلات الحاكمة، قد تكونت بفضل الصراع العربي الإسرائيلي، وما لحق بالعرب خلاله من هزائم وانتصارات، على حد سواء.
فقد ترتب على هزيمة الجيوش العربية وقيام دولة إسرائيل سنة 1948، انتقال مركز النشاط الاقتصادي من فلسطين إلى لبنان، وخاصة دور الوسيط الذي كانت تتولاه فلسطين من قبل في مجالات التجارة والنقل والسياحة. وساهم الفلسطينيون اللاجئون في تطوير الخدمات، وتدعم «الازدهار الاقتصادي» بالمقاطعة العربية لإسرائيل وإجماع العرب على إخراج لبنان من دائرة الصراع العسكري مع إسرائيل وإعفائه بالتالي من مصروفات التسلح. ومن ناحية أخرى، أدى الانتصار العربي في أكتوبر 1973، إلى مضاعفة عائدات البترول وتدفق الرساميل على لبنان، فارتفعت القيمة الخارجية لليرة اللبنانية إلى 2,30 للدولار الواحد مقابل 3,25 في أواخر 1970.
وفيما يتعلق بإسرائيل، فإنها لم تخف لحظة واحدة أطماعها في لبنان؛ ففي فبراير (شباط) 1954، كتب بن جوريون إلى موسى شاريت يقول: «... من الواضح أن لبنان هو أضعف حلقة في الجامعة العربية. إن الأقليات الأخرى في الدول العربية كلها مسلمة، باستثناء أقباط مصر. لكن مصر هي أكثر الدول العربية تآلفا وتماسكا .. إن خلق دولة مسيحية في لبنان يعتبر عملا طبيعيا له جذور تاريخية .. إن تحقيق شيء كهذا في الأوقات الطبيعية أشبه بالمستحيلات .. لكن في أوقات الارتباك أو الثورة أو الحرب الأهلية تأخذ الأمور منحى آخر.»
وعشية العدوان الإسرائيلي على مصر وسوريا والأردن عام 1967، صرح ليفي أشكول، رئيس الوزراء الإسرائيلي لمندوب «لوموند» الفرنسية بقوله: «لا يسع إسرائيل العطشى أن تقف مكتوفة الأيدي وهي تشهد مياه نهر الليطاني تذهب هدرا إلى البحر.»
وأمام ذلك قامت الحكومات اللبنانية بدور الذراع الإسرائيلية داخل لبنان؛ ففي أعقاب قيام إسرائيل، هاجر مائة ألف فلسطيني إلى لبنان. ومنحت الحكومة اللبنانية الجنسية لأربعين ألف مسيحي منهم، وفرضت على الباقين حياة الكلاب في مخيمات يحكمها رجال الأمن.
ووقعت هجرة فلسطينية جديدة في أعقاب استيلاء إسرائيل على الضفة الغربية لنهر الأردن وقطاع غزة عام 1967، وحل عدة آلاف جدد في مخيمات الجنوب اللبناني وحول بيروت.
فرضت السلطات اللبنانية الحصار على المخيمات الفلسطينية، وحظرت انتقال الفلسطينيين من مخيم إلى آخر، أو إلى المدينة، إلا بإذن مسبق. وحرمت عليهم إقامة تنظيمات سياسية أو الاتصال بإحداها، وطاردت وقتلت كل من حاول منهم التسلل إلى إسرائيل. كما حرمت العمال الفلسطينيين من التمتع بالضمان الاجتماعي. وألفى هؤلاء أنفسهم مرغمين على القيام بالأعمال الهامشية والشاقة، وبأجور أدنى من تلك التي يحصل عليها أقرانهم من اللبنانيين.
وعلى حد تعبير أحد الكتاب، كان البؤس والفاقة والنزوح، جمرات دفينة في أزقة المخيمات، وأسفل بيوت التنك.
لكن هزيمة القيادات العربية التقليدية في 1967، أتاحت للفلسطينيين أن ينظموا أنفسهم في جماعات مسلحة. وعندما حاولت السلطات اللبنانية تقييد العمل الفدائي في الجنوب، إثر غارة إسرائيلية على مطار بيروت دمرت خلالها 13 طائرة مدنية لبنانية دون تدخل من الجيش، وقع أول صدام كبير بين الجانبين في 1969، انتهى بوساطة جمال عبد الناصر، وبتوقيع اتفاق القاهرة السري في نوفمبر (تشرين الثاني) من نفس العام. وأعطى هذا الاتفاق للفلسطينيين حق العمل والإقامة والتنقل في لبنان، والإشراف على المخيمات، وإقامة نقاط للكفاح المسلح (الشرطة العسكرية) داخلها.
تأجل الصدام في ظل هذا الاتفاق بين المقاومة الفلسطينية والقوى المناوئة لها بعض الوقت. لكنه بدأ يتصاعد من جديد بعد أن قام الملك حسين بتصفية قوات المقاومة في الأردن عام 1970؛ فقد ترتب على ذلك نزوح آلاف جديدة من الفلسطينيين إلى لبنان، الذي أصبح أيضا المنفذ الرئيسي إلى الأراضي المحتلة.
وخلال ذلك وجد الشارع الوطني والإسلامي في المقاومة الفلسطينية حليفا قويا، كما أن المنظمات الفلسطينية كانت تنتمي إلى هذا الشارع نفسه بحكم تكوينها وأهدافها. وكان عليها أن تحمي كيانها في لبنان بأوسع تحالفات ممكنة.
ولعبت إسرائيل دورها في تصعيد التوتر بالتنسيق مع الموارنة وحزب الكتائب بوجه خاص، فشنت هجوما عسكريا على مخيمي البارد والبداوي في 1973، أشفعته بغارة كوماندوز في قلب بيروت، قتلت خلالها ثلاثة من قادة منظمة التحرير الفلسطينية، وعددا من المدنيين، دون أن يحرك الجيش اللبناني ساكنا .
تفجر الموقف بصورة لم يسبق لها مثيل، وقامت مظاهرات وإضرابات دعت لها القوى الوطنية، نددت بعجز السلطة عن حماية البلاد. وطالبت القوى اليمينية من جانبها بنقل المخيمات الفلسطينية من حول بيروت. ولم يكن سرا أن الرهبانيات التي تملك جانبا كبيرا من أراضي هذه المخيمات، تسعى جاهدة لاستردادها بعد أن ارتفع ثمنها كثيرا في السنوات الأخيرة. واضطلع رئيس الجمهورية، سليمان فرنجية، بالمهمة.
وتصلح سيرة سليمان فرنجية موضوعا لفيلم مثير من أفلام المافيا، كما أنها تعطي صورة دقيقة لطبيعة العمل السياسي في الديمقراطية اللبنانية ذائعة الصيت.
فقد بدأ سليمان فرنجية حياته العملية في الأربعينيات، في ظل أخيه الأكبر حميد فرنجية، الذي كان زعيما للعشيرة المارونية في بلدة زغرتا، وممثلها في البرلمان والوزارة. وكانت مهام سليمان تشمل إلى جنب الدعاية الانتخابية لأخيه، تدبير مقتل واحد من مسلمي مدينة طرابلس كل شهر، كنوع من الإنذار المتجدد لأبناء المدينة المجاورة ذات الأغلبية السنية.
وعشية انتخابات الرئاسة في سنة 1958، برز حميد فرنجية كمرشح محتمل. وكان كميل شمعون يطمع في تجديد رئاسته للجمهورية، فقام بمناورة ماكرة لإزاحة خصمه الماروني عن طريق إثارة النزاع بين عائلتي فرنجية والدويهي. وكما قدر شمعون، تصاعد النزاع إلى مواجهة بين العائلتين في قداس بكنيسة بلدة المزيارة، أطلق النار خلالها على منافسيه، فأردى منهم عشرين. وعلى الفور أصدر شمعون أمرا بالقبض على القاتل الذي هرب إلى سوريا ونزل ضيفا على الحكومة السورية في أحد فنادق اللاذقية، حيث تعرف على الضابطين حافظ الأسد ورفعت أسد اللذين أصبحا شركاء لعائلة فرنجية في عدد من صفقات السوق السوداء - التجارية والسياسية - المربحة.
لم تمض سنة ونصف السنة حتى صدر عنه العفو. وخلال ذلك كان أخوه قد أصيب بالشلل، فعاد سليمان ليدخل البرلمان مكانه، ويصبح زعيما مبجلا للعائلة والعشيرة بفضل سجله الحافل بالقتلى (والذين ارتفع عددهم على مر السنوات إلى سبعمائة قتيل).
وعندما حلت انتخابات الرئاسة الجديدة عام 1970، دارت المشاورات التقليدية المعقدة بين العائلات الحاكمة؛ إدة، الجميل، شمعون، جنبلاط، سلام، الصلح، حمادة، كرامي .. إلخ؛ بحثا عن مرشح يرضي الجميع. وفي مكتب غسان تويني بالطابق التاسع من مبنى جريدة «النهار» التي يملكها، تم الاتفاق على ترشيح سليمان فرنجية.
وفي يوم 17 أغسطس، آب، هبط خمسة آلاف من رجال فرنجية المسلحين من زغرتا إلى بيروت، وأحاطوا بمبنى البرلمان؛ ليضمنوا انتخاب زعيمهم. وأسفر الاقتراع الثالث عن خمسين صوتا له مقابل تسعة وأربعين لمنافسه إلياس سركيس. وعندما أعلن صبري حمادة، رئيس البرلمان، ضرورة إجراء اقتراع رابع، أطلق أنصار فرنجية في الخارج النيران معلنين انتصار رجلهم. واندفع فرنجية شاهرا مسدسه إلى حمادة صارخا، بينما اشتبك أولاد الأخير مع الأب دويهي (الذي أصبح الآن من أنصار فرنجية). وتقدم حراس حمادة لحمايته رافعين مدافعه الرشاشة، بينما أخرج رجال فرنجية، الذين نجحوا في التسلل إلى المبنى قبل الاقتراع، مسدساتهم.
انسحب حمادة إلى مكتبه وتلفن للرئيس شارل حلو طالبا النصح، فقال له الأخير: «إن معلوماتي تخول لي أن أقول لك إنه في حالة إصرارك على موقفك، فإن أحدا لن يبقى حيا من الموجودين في البرلمان، افعل ما تراه ضروريا لمنع تدمير البلاد.»
وبعد ذلك بثلاث سنوات استخدم سليمان فرنجية شعار «ما هو ضروري لمنع تدمير البلاد» ليبرر الأمر الذي أصدره في مايو (آيار) 1973م إلى قائد الجيش بمهاجمة المخيمات المحيطة ببيروت لإنهاء سيطرة المقاومة عليها. وقد وصف دبلوماسي أمريكي هذا الهجوم الذي اشتركت فيه الطائرات بقوله: «كانت المرة الأولى التي أرى فيها الجيش اللبناني يتحرك بفاعلية.»
لكن الجيش اللبناني فشل في مهمته، فشرعت الأحزاب المارونية في تدعيم ميليشياتها المسلحة لتقوم بما عجز الجيش عن القيام به. وتحملت جماعة «الكسليك»، وهي مجموعة من الرهبان والمثقفين الموارنة، العبء الأكبر في جمع التبرعات لهذا الهدف، وتمكنت من جمع 56 مليون ليرة؛ أي 21 مليون دولار بأسعار 73 / 74؛ ولهذا الهدف أيضا زار بيار الجميل المملكة العربية السعودية في أول أبريل (نيسان) 1974، على متن طائرة سعودية خاصة، وأعدت الخطط لتدريب ميليشيا الكتائب في ألمانيا الغربية وإسرائيل والأردن. وخرج إسكندر غانم من قيادة الجيش ليتولى قيادة ميليشيا الكتائب.
وقد ذكر «أنتوني سامسون» في كتابه «سوق السلاح» الذي صدر في منتصف 1977، أن الجبهة المارونية اشترت كمية من السلاح يتراوح ثمنها بين 200 و600 ميلون دولار، جاءت - على حد قوله - من البنوك التي نهبتها المليشيات المارونية في لبنان ومن وكالة المخابرات الأمريكية، وإسرائيل، وألمانيا الغربية، والفاتيكان، وشاه إيران، والدول العربية الإسلامية.
ومن الطبيعي أن الطرف الآخر - ابتداء من المقاومة الفلسطينية إلى الأعداء الدينيين التقليديين للموارنة، مرورا بأصحاب البرامج الاقتصادية والاجتماعية «التقدمية» - ما كان ليقف مكتوف الأيدي أمام هذه الحملة الضخمة من التسليح، ووجد قادته الخزائن مفتوحة أمامهم في بغداد وليبيا والسعودية أيضا، فسلح كمال جنبلاط رجاله من الدروز، وكون الإمام الصدر جهازا عسكريا لحركة «المحرومين» الشيعية، وتجمعت العناصر السنية الشابة في تنظيم «المرابطون» الناصري المسلح، وشكل الشيوعيون والبعثيون ميليشياتهم المسلحة.
ولم يعد ثمة مفر من الحرب.
8
ظلت هناك جوانب عديدة غامضة في نظري. لكن الوقت كان ضيقا. وكنت أعرف بتجربتي أن الأمور تتضح دائما أثناء العمل نفسه.
تلفنت أنطوانيت، واتفقت معها على موعد. وما إن وضعت السماعة حتى دق جرس الجهاز، فرفعتها إلى أذني من جديد.
جاءني صوت أنثوي ناعم: أستاذ ... ؟
قلت مقلدا اللهجة اللبنانية: مين عم بيحكي؟
قالت صاحبة الصوت برقة: وحياتك .. احكي مصري.
ضحكت وقلت: حاضر. - أنا لميا .. لميا الصباغ. - أهلا وسهلا. لقد اتصلت بك أكثر من مرة. - أعرف، لكني كنت في الضيعة، ثم انشغلت في ترميم الهدد. - آه! .. شيء فظيع. - لا يهم. هذه أمور أصبحت عادية هنا. أستاذ .. اليوم حكى معي زوجي من باريس. - ألن يأتي إلى بيروت؟ - لا أظن الآن .. المهم، حدث شيء سخيف؛ فقد أبلغني أن مخطوطة كتابك فقدت منه قبل أن يتمكن من قراءتها.
لزمت الصمت ولم أعلق بشيء.
قالت في تردد: آلو .. يا ترى لديك نسخة أخرى منها؟ - عندي. - هل تتكرم بإحضارها لي. - لترسليها إليه؟ - نعم. - كنت أريد الانتهاء من هذا الموضوع بسرعة. - إلى متى باقي ببيروت؟ - ربما أسبوع آخر. - إذن سنرى. متى أراك؟ - الوقت الذي يناسبك .. صباح الغد مثلا. في العاشرة؟ - أوكي. سأنتظرك. أنت تعرف أين تقع الدار؟
تساءلت مدهوشا: التي تحطمت ؟
ضحكت وقالت: الانفجار كان بالطابق الأرضي الذي يضم المخازن. أما المكاتب نفسها فلم يلحقها ضرر كبير. وقد رممناها وعادت كما كانت. - بهذه السرعة؟ سأعرف كيف أصل إليها.
قالت: في العاشرة إذن.
أعدت السماعة إلى مكانها، وأشعلت سيجارة. كان النهار ما زال في بدايته، لكني شعرت بالحاجة إلى قليل من الشراب، فأعددت لنفسي كأسا من الجين. وجلست أقلب في صفحات مجلد كبير عن وقائع الحرب الأهلية اللبنانية.
وقرب العصر اتصل بي وديع قائلا إنه سيتناول طعام الغداء مع أحد أصدقائه. وطلب مني أن أستخدم محتويات الثلاجة في إعداد طعامي.
أعددت قرصا من البيض المقلي وأكلته مع قليل من الزيتون والسلاطة، وأنا أتصفح إعلانا في صحيفة الأمس يدعو المواطنين العرب للانضمام إلى القوات المسلحة لليبيا «النواة الثورية للدولة العربية المتحدة»، لمواجهة «الانقضاض الوحشي الذي تتعرض له الأمة العربية من جانب الإمبريالية والصهيونية والرجعية العربية». واكتشفت بجوار الإعلان نبأ صغيرا عن اتساع حجم التدخل الليبي في تشاد إلى جانب رئيس الحكومة عويضي، ضد منافسه حبري الذي تدعمه الولايات المتحدة. وكانت هناك أيضا إشارة إلى افتتاحية لجريدة «الأهرام» القاهرية، تطالب أمريكا «باستعادة هيبتها ومواقعها، وتحمل مسئولياتها في حفظ السلام، ومواجهة العدوان، ووقف التوسع ورفض السيطرة وإرهاب الشعوب بالغزو والتدخل».
شعرت بعد الأكل بالرغبة في شيء من الراحة. لكني تحاملت على نفسي وارتديت ملابسي وغادرت المنزل.
أقلتني سيارة أجرة إلى مكتب أنطوانيت. ورافقني أحد المسلحين إلى غرفتها، فوجدت معها رجلا ربعة في الخمسين، احتل مقعدا مجاورا لمكتبها.
قدمتني إليه ثم قالت: أبو نادر، رئيس دائرة السينما بالمنظمة، لعلك سمعت عنه.
صافحته بحرارة وأنا أقول: من لم يسمع عنه؟!
كانت العملية الفدائية التي قادها وسط تل أبيب من القصص التي تروى. وقد قبض عليه الإسرائيليون بعدها وحكموا عليه بالإعدام، لكنه تمكن من الفرار بعد أن أصيب إصابة بالغة أقعدته عن الحركة مدة طويلة.
جلست في مواجهته، وواصل هو حديثا سابقا مع أنطوانيت: الحركة في الملعب أصبحت محدودة، غدا ستثبت لك الأحداث قولي، أنت تعرفين نبوءاتي وكيف تتحقق. إنه شيء كالحدس. هل حكيت لك عن عملية تل أبيب؟
أطرقت برأسها، لكنه واصل الحديث متوجها إلي: كان أمامنا جندي إسرائيلي يحمل مدفعا رشاشا. وكانت يده على الزناد، مستعدا لإطلاق النار في أية ثانية. لكني شعرت أنه لن يفعل، وتقدمت منه في ثبات حتى لمست فوهة المدفع صدري، ثم مددت يدي وأخذت المدفع.
غير الموضوع فجأة، وقال لي: كيف حال مصر؟ لقد زرتها مرة واحدة في الثامنة والستين وقابلت جمال عبد الناصر. وكان المفروض أن أذهب مرة أخرى في السبعين، لولا الروس.
تساءلت مدهوشا: كيف؟ أقصد لماذا؟
ابتسم وقال: في أول عملية فدائية لي تسللنا إلى الأرض المحتلة من الأردن. هل تعرف من الذي أطلق علينا النار؟ الأردنيون. يومها قلت للإخوة: مصيبتنا ستأتي دائما من أصدقائنا لا من أعدائنا.
قلت: لكن الروس ...
قاطعني: أعرف ما ستقوله. صدقني، نحن لا نأخذ منهم غير الكلام.
تدخلت أنطوانيت في الحديث قائلة: السادات يقول نفس الشيء. كأنما المفروض أن يحملوا السلاح بدلا منا. - لسنا سوى قطع شطرنج في اللعبة بين الروس والأمريكان.
ردت عليه بحدة: لو سمعك بيجين لقفز من السعادة.
اتسعت ابتسامته وقال: عندما اعتقلوني سألوني عن موقفي من الروس، فقلت لهم الحقيقة. ولم يمنعهم هذا من الحكم علي بالإعدام. ما علينا. قالت لي أنطوانيت إنك معجب بالفيلم!
قلت: فعلا.
قال: هل تعتقد أنه ينجح إذا عرض في مصر؟
قلت: الفيلم الوثائقي عموما ليس له جمهور في مصر، ثم إن الإعلام الساداتي نجح في قتل اهتمام الناس بالقضايا العربية.
وجه حديثه لأنطوانيت: ألم أقل لك إن الكتاب أفضل من السينما؟
وتحول إلي ثم أضاف: هل تعرف أني كتبت رواية كبيرة؟ كل الذين قرءوها أعجبوا بها، وقالوا إني أخطأت طريقي في الحياة.
أبديت اهتمامي قائلا: أتمنى أن تتيح لي قراءتها.
نقل البصر بيننا ثم نهض واقفا وهو يقول: سأذهب الآن، وأترككم تعملون.
قالت أنطوانيت بعد انصرافه: أبو نادر شخص ممتاز وإن كانت له آراؤه. هل أفادتك المواد التي أعطيتها لك؟ - جدا. لكني أريد أن أرى الفيلم مرة أخرى. - بالطبع. لقد حجزت لك اليوم قاعة العرض.
انتصبت واقفة وهي تجمع بعض الأوراق من فوق المكتب. كانت ترتدي البنطلون الجينز الذي رأيتها فيه أول مرة، لكنها استبدلت سترته ببلوزة مشجرة خفيفة بنصف كم.
تقدمتني إلى الخارج، وارتقينا الدرج إلى الطابق الأعلى. ولجنا قاعة عرض في حجم غرفة معيشة. وكانت بها عدة صفوف من مقاعد ذات مساند، تتوسطها طاولة صغيرة تحمل منفضتين للسجاير، وتفصلها خطوتان عن الشاشة التي غطت حائطا بأكمله.
جلست فوق أحد المقاعد بالصف الأول، وأشعلت سيجارة. ومضت أنطوانيت إلى كوة العرض فتحدثت مع العارض، ثم أطفأت النور واستقرت في المقعد المجاور لي.
بدأ العرض على الفور. ووجدتني أكثر قدرة من المرة السابقة على متابعة لقطات الفيلم.
كان الجو حارا، فخلعت سترتي، وألقيت بها على المقعد المجاور. وأرحت ساعدي الأيمن فوق مسند مقعدي. كنت أرتدي قميصا قصير الأكمام. وشعرت بساعدها العاري قريبا مني. ولدى أول حركة منها تلامس ساعدانا.
ظل ساعدانا ملتصقين بعض ثوان، ثم أزاحت ذراعها بعيدا في رفق.
وجهت اهتمامي إلى الفيلم، ولم ألبث أن اندمجت في صوره، ولم أشعر بمرور الوقت إلى أن قرأت كلمة النهاية.
قامت أنطوانيت فأضاءت النور. ووضعت يديها في جيبي بنطلونها وهي تستدير وتتقدم مني. وقفت أمامي وثنت إحدى ركبتيها وأسندتها إلى حافة المقعد الذي كانت تحتله. ولحظت أن وجهها الشاحب قد تضرج قليلا.
قدمت إليها سيجارة فأخذتها، وأخرجت ولاعة ذهبية من جيبها قربتها مني. أشعلت سيجارتي وقلت: العناوين كثيرة، ولا بد من دمجها في التعليق. لا بد أن أعمل وأمامي اللقطات.
قالت: يمكنك أن تعمل على المافيولا.
قلت: لا. المشكلة أني لا أستطيع أن أعمل في أي مكان أو أي وقت. أليس لديك سيناريو؟
قالت: مجرد خطوط عامة؛ فكل شيء هنا.
وأشارت إلى رأسها.
قلت: ولا حتى قائمة باللقطات؟
قالت: عندي واحدة لن تنفعك؛ فهي عبارة عن أرقام ورموز. - لم يبق إذن غير أن أعد قائمتي بنفسي؛ أسجل مضمون اللقطات من المافيولا. - لكن الفيلم ستة فصول غير المقدمة. - سيكون الأمر مرهقا بالتأكيد وسيستغرق بعض الوقت. لكنه سيضعني داخل الفيلم تماما. فقط لدي شرط. - ما هو؟ - ألا يتعرض ما سأكتبه لأي تعديل إلا بموافقتي. أنا أدرك ما تمليه السينما من ضروريات، وسأحاول التلاؤم معها قدر الإمكان. لكني لن أقبل أي محاولة لتحريف ما سأكتبه لصالح جهة ما بالذات. - هذا حقك. متى يمكن أن تبدأ؟
تطلعت في ساعتي ثم قلت: الآن. نقوم بتجربة مع المقدمة.
ارتديت سترتي، وهبطنا إلى مكتبها. وتبعنا العارض حاملا العلب المعدنية المحتوية على الفيلم، فتعاونا في نقلها إلى غرفة المونتاج. وتولت أنطوانيت تثبيت شريطي الصوت والصورة بأصابع مدربة، ثم ناولتني بضع ورقات بيضاء وأطفأت النور بعد أن ارتدت نظارتها. وجذبت مقعدا إلى جوارها ثم أخرجت قلمي من جيبي.
تتابعت اللقطات الأولى المعتمة والمشوهة، وظهر اسم الفيلم فوضعت سن القلم على الورقة دون أن أرفع عيني عن الشاشة الصغيرة، وشرعت أسجل ما أراه:
لقطات عامة للطبيعة، الثلج يغطي قمة الجبل، أشجار الأرز تبرز من تحت الثلج الذائب، سفح الجبل يتغطى بخضرة سابغة، أشجار توت وتين وبرتقال، جدول ماء تحت شجرة جوز، أشعة الشمس تلتمع فوق المياه، شجيرات التبغ الصغيرة الخضراء، أوراق التبغ السمراء فوق قطع من القماش على حافة طريق إلى جوارها مزارعون في ملابس بيضاء وسراويل منتفخة، رعاة ماعز، راديو ترانزستور فوق حمار، فيروز تغني: يا طير الوروار.
الطريق يمتد صاعدا إلى قصر كبير فوق ربوة، في شرفة واسعة جلس «البك» في ملابس ريفية وفوق رأسه طربوش قصير مائل، على مقربة عدد من «القبضايات» ينتظرون أوامره.
الطريق يخترق قرية، حوار ترابية وبيوت واطئة، أمام أحدها تربع عجوز فوق مصطبة حجرية يدخن «الأرجيلة»، متجر به عدة موائد خشبية يلعب حولها عدد من الصبية لعبة مثل الفليبرز.
القرية بالليل، شبان صغار في قمصان وبنطلونات يطوفون بطرقاتها حاملين مصابيح اللوكس وهم يهتفون: بدنا الوحدة باكر باكر، مع ها الأسمر عبد الناصر.
فيروز تغني: «حبيتك بالصيف، حبيتك بالشتي.»
فيروز في أغنية أخرى تتميز بإيقاع سريع، غربي.
كانت باللهجة اللبنانية فلم أتمكن من تمييز كلماتها. وأشرت إلى أنطوانيت أن تعود إليها، فأوقفت العرض. ومدت يدها إلى طارة متصلة بمحور المافيولا، فحركتها ببطء، وعاد الفيلم إلى الوراء.
بدت لي الأغنية مألوفة، لكني عجزت مرة أخرى عن تمييز كلماتها، وأدركت بعد لحظة ما اجتذب انتباهي إليها؛ فقد كانت الموسيقى لأغنية أوروبية شائعة. وبدا مزيج العامية اللبنانية والموسيقى الغربية الراقصة غريبا.
أوضحت أنطوانيت: الأغنية اسمها «كان زمان».
أومأت برأسي فأدارت الفيلم، واستأنفت التسجيل:
شارع الحمرا في بيروت، الواجهات الزجاجية الأنيقة، اللافتات البارزة بعرض الإفريز، السيارات الفارهة المسرعة، الأنوار المتلألئة، متاجر المجوهرات والفليبرز، معاطف الفيزون، دور السينما الفخمة، الميني جيب والميدي والماكسي، أنوار خافتة حمراء في الشوارع الجانبية، مقهى الدولشي فيتا، مقاه متناثرة على البحر حتى صخرة الروشة، زحام كيوم الحشر، الغطرة الخليجية والجلاليب البيضاء، فتيات شقراوات شبه عاريات في استعراض فوق خشبة مسرح.
ملصق يملأ فراغ الشاشة يحمل هذه الكلمات:
كازينو لبنان السياحي
يقدم كل مساء
أفخر المزات وأطيب المأكولات الشرقية
استعداد تام لتلبية كافة الطلبات
ملصق آخر:
لبنان واحة الحرية
صوت فيروز الملائكي: «زوروني كل سنة مرة، حرام تنسوني بالمرة.»
مطار بيروت، طائرة قادمة من أفريقيا يغادرها خليط من الأفارقة واللبنانيين، لبناني ممتلئ الجسم في بزة بيضاء، أصلع الرأس، يتدلى بطنه فوق بنطلونه داخل قميص من الحرير الأبيض، سوالفه تصل إلى منتصف وجنتيه، يحمل حقيبة سامسونايت، يتابع في لهفة وقلق نقل صندوق كبير من الكرتون إلى خارج المطار.
قاعدة معدنية ترتفع عن الأرض قرابة المتر، تدور حول نفسها حاملة نماذج ضخمة من الأجهزة الكهربائية؛ ثلاجة وستنجهاوس، عصارة مولينكس، مكنسة هوفر.
سيارة حديثة خالية تدور حول نفسها فوق الحامل.
صوت رجل في لهجة مسرحية وإلقاء سريع: «استمتع بالحياة اللذيذة مع السيارة الجديدة الرياضية، خمس سرعات، كمبيوتر لترشيد الرحلة واستهلاك الوقود واختبار المحرك، مع ساعة رقمية وفتحة بالسقف وراديو كاسيت.»
شاب في ملابس أوروبية حديثة، شعره غزير وناعم، مصفف بعناية، يشبه الشبان الأوروبيين في كل شيء، يجلس على نفس الحامل الدائري، ويدور معه بسرعة حول نفسه، يتوقف الحامل فجأة جاعلا الشاب في مواجهة الكاميرا، يمد يده إلى ياقة سترته ليرينا علامتها التجارية وهو يبتسم في فخر.
واجهة صالة لبيع المفروشات، سيدة متوسطة العمر في معطف متواضع، رأسها مغطى بمنديل ملون، انعقد طرفاه أسفل ذقنها، تلصق وجهها بالزجاج لتتأمل المعروضات، عيناها تنتقل بين مطبخ «ستينليس ستيل» وأنواع الموكيتات، وكنبات «لوي كاتورز».
سيدات مثل السيدة السابقة يقلبن بأيديهن بين أكوام من الملابس المختلفة وضعت فوق عربات خشبية في ساحة البرج.
أكواخ متجاورة من الصفيح، الأرض قذرة بها آثار مياه مستخدمة، أطفال في ملابس متواضعة يحملون أواني من البلاستيك الملون فوق رءوسهم، الأواني مليئة بالمياه التي يجلبونها من صنبور عام إلى كل كوخ.
امرأة تغسل ملابس في بركة مياه منسابة من حطام ماسورة.
صور جمال عبد الناصر فوق جدران الأكواخ.
صوت فيروز: «نطرتك بالصيف، نطرتك بالشتي.»
قصر فاخر تحيط به حديقة واسعة تغمرها الأضواء، مجموعات من الرجال والنساء في ملابس السهرة، الموسيقى الراقصة التي استخدمت في أغنية فيروز «كان زمان».
إعلان يغطي الشاشة:
أمعاء الخروف هي أكل الكلاب المفضل. وقد أعددناها
لكم بعدة طرق تلائم الأمزجة المتنوعة
الحمرا ليلا، فتاة في جينز أبيض تعبر الشارع، الكاميرا تركز على فخذيها تقترب منها، البنطلون ضيق للغاية، الكاميرا تقترب من أعلى فخذيها، تتضح تفاصيل جسمها؛ الجوانب الممتلئة والشق في المنتصف.
واجهة زجاجية لمتجر ملابس، تماثيل متقنة الصنع لنساء فاتنات في ملابس داخلية شفافة وملونة، عدد من الشبان يحدقون في المعروضات، الشبان يرتدون قمصانا مزركشة وأحذية ذات كعوب عالية، سوالفهم طويلة، هيئتهم العامة توحي بأنهم من العمال أو الفقراء عموما.
شاشة تليفزيون ملونة يظهر عليها إعلان عن كيلوتات رجالية، يرتديها شبان ذوو أجسام ناعمة تخلو من الشعر.
إعلان آخر عن كريم جديد للرجال، عنوان يملأ الشاشة:
اعتن ببشرتك كما تعتني بسيارتك
عدد من الشبان تحلقوا حول كتب ومجلات مفروشة على إفريز الشارع، جريدة في حجم نصف الصحيفة اليومية تتصدرها صورة كبيرة لفتاة شبه عارية، تظهر من مانشيت الصفحة كلمة «اغتصاب ».
أزقة متعرجة تمر بالأسواق القديمة ذات الطابع العثماني ، كما تؤدي إلى حي الدعارة، ساحة الشهداء، مواقف سيارات السرفيس المرسيدس المتجهة إلى طرابلس وعمان وحلب، ساحة البرج في المساء، زحام أمام واجهات متواضعة لمتاجر ملابس وأحذية، مطاعم الفلافل والحلوى، تلال «المعمول» و«البرازق»، وصواني البقلاوة خلف الواجهات الزجاجية، الزحام مضاعف أمام مدخل ضيق لإحدى دور السينما، لافتة عريضة تحمل صورة شبه عارية للنجمة الأمريكية «راكيل والش».
داخل السينما أثناء العرض، سحب كثيفة من دخان السجاير، راكيل والش على الشاشة في أسمال بالية تكشف فخذيها، صيحات وصفير من القاعة.
جانب من أخبار الجرائم والحوادث في صحيفة يومية: «جريمة برج حمود
حملت بدرية محمد طه سفاحا من شخص مجهول،
والتجأت إلى دير الراعي الصالح حيث وضعت طفلا.
ومنذ شهر ونصف أخذها أهلها بعد أن تعهدوا إلى
النيابة العامة بعدم إيذائها. وقبل عشرة أيام زوجوها إلى
كامل كرم طه، وهو عامل سابق في بلدية بيروت، فأحضرها
إلى العاصمة وأقاما في منزله بمحلة برج حمود. وبعد
خمسة أيام عثر عليها مقتولة إثر إصابتها بطلقتين ناريتين
في رأسها وصدرها انطلقتا من مسافة قريبة، واختفى
الزوج عن الأنظار.» «الاعتداء على طفلة
استدرج وديع «ز» (17 سنة) الطفلة رجاء إلى غرفته الخاصة وانتزع عنها ثيابها، ثم حاول الاعتداء عليها.»
شارع الحمرا بالنهار، محلات الويمبي، الموفنبيك، الهورس شو، المودكا، كافي دي لاييه، مظاهرة وسط الشارع من شبان في ملابس أنيقة، المظاهرة ترفع لافتات باللغتين؛ الإنجليزية والفرنسية، تحمل شعارات يسارية تدافع عن الطبقات الشعبية.
ملصقات وشعارات حماسية على الجدران.
رسم بالزيت على أحد الجدران لصورة جمال عبد الناصر وتحتها عبارته الشهيرة: «ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة.»
عدد من الشبان يحيطون بواحد منهم جلس إلى مائدة في مواجهة الكاميرا، الشاب يرتدي قميصا مفتوحا يكشف عن شعر غزير وسلسلة ذهبية، يتحدث في ميكروفون بلهجة نارية: «إن التحرك الإمبريالي الصهيوني في المنطقة العربية بات يشكل تهديدا خطيرا ومباشرا لمكاسب الثورة العربية وجماهيرها الصامدة وتطلعاتها القومية الاشتراكية الديمقراطية التقدمية الوحدوي...»
فيروز في المقطع الحماسي الأخير من أغنية «زهرة المدائن»: «الغضب الساطع آت،
الغضب الساطع آت، وأنا كلي إيمان،
من كل طريق آت.»
صف من أجهزة التليفزيون والفيديو وغيرها، شاب أنيق يبتسم للكاميرا يشير بيده إلى الأجهزة: «أكثر من أربعين لعبة فيديو كلها إثارة وتشويق.»
إعلان آخر عن أجهزة مماثلة فوق شاشة التليفزيون، صوت من وراء الشاشة: «الآن! عالم جديد من المشاهدة الملونة الثلاثية، شاهد وسجل أشرطة الفيديو على مدى خمس ساعات! ابحث عن الصورة التي تريدها وثبتها وتحكم في الجهاز كله وأنت جالس على مبعدة!»
ملصق يحمل هذه الكلمات فوق خلفية من قمم جبلية تغطيها الثلوج:
لبنان
أرض الترحيب والتسامح
ملتقى الحضارات
شبان في ملابس عسكرية سوداء وقبعات كبيرة من نفس اللون يسيرون بخطوات منتظمة في أحد الشوارع وهم يصيحون: «هان دوي، هان دوي» (أي واحد اثنين بفرنسية الشارع اللبناني).
ملصقات من أحجام مختلفة تحمل صورا فوتوغرافية لزعماء لبنان.
عنوان يملأ الشاشة:
أمراء لبنان
صوت فيروز في أغنية «يا أنا أنا وياك»، ملحوظة لي: «موسيقى الأغنية مقتبسة عن سيمفونية لموتسارت.»
الكاميرا تمر بصور كميل شمعون، سليمان فرنجية، بيار الجميل، الأباتي شربل قسيس، البطريرك خريش، ريمون إدة، صائب سلام، المفتي حسن خالد، كامل الأسعد، الإمام موسى الصدر، رشيد كرامي، إلياس سركيس.
تتوقف الكاميرا عند صورة كمال جنبلاط.
عنوان: «ورث كمال جنبلاط عن والديه نفوذا إقطاعيا ودينيا كبيرا على طائفة الدروز. إلا أن ثقافته الواسعة ورحلاته قادته إلى غاندي وماركس. أصبح صوفيا متعبدا يمارس اليوجا ولا يأكل اللحم. ولم يمنعه هذا من الاشتراك بنشاط في لعبة السياسة اللبنانية ووفقا لقواعدها، حتى وصف بصانع الرؤساء ورئيس حكومات الظل. اشتكى مرارا من أن الدروز لا يحق لهم - طبقا لاتفاق التوازن الطائفي - الوصول إلى أكثر من منصب وزير. كون الحزب الاشتراكي التقدمي، قبل خروجه من منصبه كوزير للداخلية في أوائل السبعينيات رخص للحزب الشيوعي بالعمل العلني. نال جائزة لينين للسلام. في سنواته الأخيرة تزعم أولاد الشوارع ضد أبناء العائلات.»
مائدة مستديرة يتحلق حولها زعماء التنظيمات الناصرية والبعثية والشيوعية ، يتوسطهم كمال جنبلاط، بين الجالسين جورج حاوي، محسن إبراهيم، إبراهيم قليلات، بشير عبيد، إنعام رعد، كمال شاتيلا.
أغنية «مذنب» الفرنسية، موسيقى الأغنية هي التي اقتبست منها أغنية فيروز الشهيرة «حبيتك بالصيف».
مدينة النبطية في الجنوب، مهرجان ديني في ذكرى عاشوراء، التي يحتفل بها الشيعة في العاشر من شهر محرم كل عام، موكب من سيارات المرسيدس والدراجات ترفع صور الخميني وموسى الصدر، صورة الأخير تحمل هذه الكلمات: «دوري محدد من الله ومن تاريخ وطني وديني وأمتي»، فوق سيارة المقدمة جلس شابان؛ أحدهما في قميص أبيض يحمل هذه العبارة: «لبيك يا حسين»، الآخر في قميص أسود نقشت عليه عبارة «الله أكبر»، حول رأس كل منهما عصابة سوداء تكاد تخفي عيونهما.
ساحة وسط المدينة، عشرات الشبان يهوون بأكفهم فوق رءوسهم المحلوقة على صورة دائرية، بعضهم يستخدم جوانب السيوف بدلا من الأيدي ويواصل لطم الرءوس حتى تنبثق منها الدماء (التقليد يعبر عن ندم الشيعة عن موقف أسلافهم منذ أكثر من ألف سنة، عندما تخلوا عن الحسين، ابن الإمام علي، وتركوه يذبح على يد أعدائه).
ابتهالات دينية لاتينية.
داخل كنيسة مهجورة خافتة الضوء، قسيس يصعد المنبر ويفتح الكتاب المقدس، يتلو: «يا ليت لي في البرية مبيت مسافرين فأترك شعبي وأنطلق من عندهم؛ لأنهم جميعا زناة، جماعة خائنين.»
داخل قفص اتهام في محكمة، قسيس ينهض واقفا، القضاة يجلسون أسفل نجمة داود.
عنوان: «في أغسطس (آب) 1974، اعتقلت إسرائيل المطران كبوجي، زعيم الطائفة المسيحية في القدس، بتهمة الانتماء إلى منظمة «فتح»، وتهريب الأسلحة للفدائيين، وحكم عليه بالسجن اثني عشر عاما.»
كبوجي يعلن من داخل القفص: «قوميتي هي الأساس لمسيحيتي، وما لم أكن عربيا حتى الدم فلست مسيحيا.»
ميناء حيفا في الأربعينيات، سفينة أوروبية احتشد فوقها المهاجرون اليهود تقترب من الشاطئ وترسو بجواره.
عنوان: «مصلحتنا في أن تكون في المنطقة دول طائفية عدة لتبرر وجود إسرائيل.»
بن جوريون
الشاشة تنقسم إلى أربعة أقسام، في كل قسم تتتابع لقطات خاصة بمشهد مستقل، اللقطات جميعا تمثل الدبابات والطائرات الإسرائيلية أثناء القتال ، أحد الأقسام يعود إلى تاريخ قديم، ويبدو فيه الجنود الإسرائيليون وهم يهاجمون منازل قرية فلسطينية بالسلاح الأبيض، في قسم آخر تبدو شوارع بورسعيد بعد تدميرها سنة 1956، في قسم ثالث الطائرات الإسرائيلية تغير على أطلال مدينة السويس 1967، القسم الرابع يمثل الهجوم الإسرائيلي على مدينة القنيطرة السورية 1973.
عنوان: «لن يكون هناك سلام .. وستستمر الحرب بيننا وبين العرب حتى ولو وقعوا معنا معاهدة صلح.»
مناحم بيجين
حقل ممتد، حافة طريق زراعي، أسرة عربية تخطو في بطء، الأسرة مكونة من نساء وأطفال ولا يوجد بينها رجال، الجميع يحملون لفائف وأغراضا مختلفة، يتطلعون إلى الأفق في وجل.
صوت مذيع البرنامج الفلسطيني الذي يذاع منذ ثلاثين عاما: «... يطمئن الأهل أنه بخير ويطلب منهم تطمينه، نحن بخير طمنونا عنكم.»
عنوان: «اليهودي عندما يذبح فلسطينيا أو عربيا يتخلص من مخاوفه، ويصبح جديرا بحمل رمز الذكورة.»
مناحم بيجين
أشلاء أسرة عربية كانت تلعب الورق، طفل قتيل ما زال يمسك بورقة لعب في يده، شظايا القذيفة التي سقطت عليهم تختلط ببقايا الأجسام وبقع الدماء، ملابس داخلية لطفل معلقة على حبل، باب الثلاجة مفتوح.
عنوان: «إن قلوبكم أيها الإسرائيليون لا يجب أن تتألم وأنتم تقتلون عدوكم، ولا ينبغي أن تأخذكم بهم شفقة طالما أننا، بعد، لم نقض على ما يسمى بالحضارة العربية، التي سوف نبني حضارتنا الخاصة على أنقاضها.»
مناحم بيجين
صورة تذكارية من مذبحة دير ياسين سنة 1948. في طرف الصورة مجموعة من اليهود الأوروبيين كما يتضح من ملامحهم وملابسهم، يتطلعون في بهجة ظاهرة إلى جندي من عصابات الأرجون زفاي الصهيونية وهو يحمل فوق السلاح الأبيض لبندقيته رأسا عربيا يسيل منه الدم، في الطرف الآخر من الصورة سيارة شحن عسكرية تقل مجموعة من النساء العربيات العاريات المقيدات بالحبال.
عنوان: «إني أومن بتفوقنا الخلقي والفكري بحيث يستخدم نموذجا لإصلاح الجنس العربي.»
بن جوريون
جامعة بيروت العربية، قاعة جمال عبد الناصر الضخمة وقد غصت بالحاضرين، في الصف الأول أمام المنصة جلس كمال جنبلاط وزعماء الأحزاب الوطنية والتقدمية اللبنانية والمنظمات الفلسطينية، ياسر عرفات يتقدم من المنصة في نشاط، يستدير إلى الحاضرين بوجه متهلل، الجميع يقفون ويصفقون طويلا.
عنوان: «ياسر عرفات أو أبو عمار، زعيم منظمة «فتح»، كبرى المنظمات التي تتكون منها منظمة التحرير الفلسطينية، والأمين العام للمنظمة الأخيرة، والقائد العام لقوات الثورة الفلسطينية، كما يلقب في النشرات الرسمية، و«الختيار» أي العجوز كما يناديه أعوانه.»
ياسر عرفات في حديث إلى الصحفيين: «لا نطلب إلا أن يؤمن ظهرنا، ولا يساوم بنا أو علينا.»
صورة تذكارية لفيروز وعاصي الرحباني في شهر العسل بالقاهرة، سنة 1955.
عنوان: «طوال الحرب الأهلية، كان القتال يتوقف تماما في الساعة السابعة من مساء كل يوم، ليستمع كل اللبنانيين إلى برنامج زياد الرحباني، ابن فيروز، من الإذاعة اللبنانية.»
صوت زياد: «بعدنا طيبين».
زياد بوجهه النحيف السقيم، يرتدي بيجامة مخططة، ويتحرك فوق خشبة مسرح، فوق مدخل المسرح لافتة تعلن عن المسرحية التي ألفها واشترك في تمثيلها:
فيلم أمريكي طويل
عنوان يملأ الشاشة:
ماذا حدث للبنان؟
يظل العنوان ثابتا بينما تتتابع على جانبيه أسماء العاملين في إنتاج الفيلم. •••
رفعت أنطوانيت يدها عن طارة المافيولا، فتوقف العرض. خلعت نظارتها، وأراحت ساعديها على سطح المائدة وهي تتطلع إلي باسمة في الضوء الضعيف، ثم نهضت في حركة سريعة ومضت إلى مفتاح النور فأدارته.
تطلعت إلى ساعتي فوجدتها تقارب الثامنة. قلت وأنا أتأمل شريطي الفيلم اللذين تجمعا في أكوام متداخلة داخل صندوق من القماش بجوار المافيولا: استغرقت منا المقدمة ساعتين ونصفا تقريبا. بهذا المعدل يمكن أن أنتهي من تفريغ جميع اللقطات في أقل من أسبوع.
عادت إلى مكانها بجواري وقالت: وأسبوع آخر لكتابة التعليق؟ أليس كذلك؟
قلت: تقريبا.
قالت: هل يزعجك هذا؟
وابتسمت في خبث.
قلت: أبدا.
انهمكت في لف شريطي الفيلم وإعادة كل منهما إلى علبته بينما أشعلت سيجارة. وعندما انتهت عاونتها في حمل العلب إلى غرفتها. وتركتني لحظة ريثما أحضرت سترة صوفية وحقيبة يدها.
سألتني وهي تخرج مفتاحا من الحقيبة: أين أنت ذاهب الآن؟
قلت: إلى المنزل.
قالت وهي تتقدمني إلى خارج الغرفة، وتغلق بابها بالمفتاح وراءنا : وأنا أيضا.
سألتها: أين تسكنين؟
قالت: في المنطقة الشرقية.
تطلعت إليها مبهوتا فضحكت قائلة: استغربت؟ - يعني تعودين إلى هناك في المساء وتأتين في الصباح؟
قالت ونحن نخرج إلى الشارع الذي حفل بالأضواء والمارة: لا تنس أنها مدينة واحدة. أثناء الحرب كنت آتي أيضا إلى هنا كل يوم. أترك أهلي في بلوزة وجيبة أو فستان، وبمجرد وصولي ألبس الأوفرول العسكري وأحمل الكلاشينكوف. وبالليل أغير ملابسي قبل أن أعود إلى أهلي. - هل هم ...؟ - أجل، موارنة متعصبون. - أنت مثل زياد الرحباني إذن؟ - زياد كان متمردا على أمه. - وأنت؟ - أنا متمردة على الوضع كله.
فتحت حقيبة يدها وأخرجت سيجارة. وحانت مني نظرة إلى محتوياتها فلمحت فوهة مسدس صغير الحجم.
أشعلت لها سيجارة، وأشعلت واحدة لي. وتقدمنا من سيارة فولكس فاجن قديمة.
سألتني فجأة: هل تعرف وديع من مدة؟
قلت: كنا في المدرسة معا؟
عادت تلح في السؤال: هل تعرفه جيدا؟
حرت في الإجابة، وجذبت هي باب السيارة وهي تقول: اركب معي. سأوصلك.
9
كان الطلق الناري قريبا للغاية ومفاجئا حتى أوشكت كأس الويسكي أن تقع من يدي. وكنت جالسا في الصالة مع وديع نشاهد فيلما فرنسيا في التليفزيون.
قال وديع دون أن يرفع عينيه عن التليفزيون: الطابق الأعلى في الغالب.
وضعت كأسي على الطاولة وأنا أتساءل: ماذا تظن؟
هز كتفه وأجاب: أي شيء.
نهضت واقفا ومضيت إلى الشرفة فجذبت بابها. وخطوت إلى الخارج فلفح الهواء البارد وجهي. ووقفت أتأمل الشارع الهادئ الغارق في الظلام. وألقيت نظرة على ساعتي فوجدتها تشير إلى منتصف الليل.
شعرت بوديع خلفي وسمعته يقول بصوت خافت: أفضل شيء في هذه الظروف ألا نفعل شيئا على الإطلاق.
استدرت عائدا إلى الداخل، فتبعني وهو يضيف: ليست هذه أول مرة، ولن تكون الأخيرة. منذ شهرين فقط دق ثلاثة من المسلحين باب المسكن الذي يجاورني مباشرة. وعندما فتحه شاغله أطلقوا عليه الرصاص. كان من الشيوعيين العراقيين.
أشعلت سيجارة وسألت: وهم؟
قال: مخابرات عراقية. - قتلوه وانصرفوا هكذا؟ - كان القتيل في حماية أبو عمار؛ فقد تجنبه الشيوعيون اللبنانيون حرصا على علاقتهم بصدام حسين. وعندما علم أبو عمار بالحادث أصدر أمره إلى جهاز أمن «فتح»، فقام باعتقال عشرات من عملاء البعث العراقي، ثم سوي الأمر فيما بعد بين جميع الأطراف كالعادة.
تعالى صوت سيارة مسرعة في الطريق، وتوقف الصوت أمام منزلنا. وارتفع صوت حوار بين عدة أشخاص. تباعد صوت المتحاورين ثم تردد خافتا بعد قليل وانقطع. ودوى طرق على الأبواب في الطابق الذي تحتنا، ثم ساد الصمت.
كان وديع قد خفض من صوت التليفزيون، فأوشكت أن أعيده إلى ما كان عليه عندما اقترب وقع خطوات ثقيلة من باب المسكن ودق الجرس.
شحب وجه وديع ثم قام وخطا نحو الباب وصاح: مين؟
جاءنا صوت أبو شاكر: أنا يا أستاذ وديع. في إخوان من جماعة ال 17.
همس لي وديع: أمن «فتح».
أدار وديع مفتاح الباب، وجذب مصراعه في تردد كاشفا عن حارس البناية وفي رفقته شابان مسلحان برشاشات الكلاشينكوف. كان أحدهما متوسط الطول في العشرينات تبدو عليه علامات الارتباك، بعكس زميله الذي كان يكبره في السن، وينم مظهره عن خبرة ونفوذ واضحين.
تساءل الأخير في دماثة عن صاحب المسكن، فقدم وديع نفسه. وأخرجت جواز سفري. سأل وهو ينقل البصر بين وجهينا: سمعتما الرصاص؟
قال وديع: سمعنا رصاصة واحدة ونحن جالسون هنا. - ولم تعرفا من أين انطلقت؟
هز وديع رأسه نفيا فطلب الشاب أن يلقي نظرة على السكن. تنحى وديع عن الباب وصحبناه إلى غرفتي فألقى نظرة على محتوياتها دون أن يمس شيئا، ثم انتقلنا إلى غرفة وديع.
كان المسدس ما زال في مكانه فوق الكومودينو المجاور للفراش. لمحه الشاب فالتقطه وقرب فوهته من أنفه ثم حمله في يده إلى الصالة. وأخرج دفترا صغيرا من جيبه فدون به علامات المسدس وتركه على الطاولة، ثم انتزع ورقة بيضاء من دفتره، وسجل عليها عدة أرقام وناولها لوديع قائلا: أرجو أن تتصل بأحد هذه الأرقام إذا عرفت شيئا.
تناول وديع الورقة وهو يقول: أنا أعرف الرقم. سأفعل.
أعرب الشابان عن أسفهما لإزعاجنا، وغادرا المسكن فانضما إلى أبي شاكر الذي سبقهما إلى باب المسكن المجاور.
أغلق وديع الباب بينما كنت أملأ لنفسي كأسا من الويسكي.
قال وهو يرتمي في أحد المقاعد: املأ لي واحدة أنا الآخر.
ملأت له كأسه، وناولتها له فرفعها إلى شفتيه ثم أعادها إلى الطاولة وهو يقول: تذكرت. لقد قابلت هذا المسلح قبل الآن. كان وقتها في الجبهة الشعبية.
تساءلت: ولماذا تركها إلى «فتح»؟
هز كتفيه قائلا: من يعلم؟ ربما تشاجر مع رؤسائه، أو اختلف معهم فكريا، أو ارتكب خطأ ما وأرادوا معاقبته. وقد يكون الراتب هو السبب؛ ففتح تدفع أكثر لمقاتليها.
مددت يدي إلى المسدس فتناولته وقلبته في حذر قائلا: هل تعرف أن هذه هي أول مرة في حياتي أمسك بمسدس حقيقي؟ لكني تدربت جيدا على البنادق الروسية أيام العدوان الثلاثي. كان يدربنا جندي عجوز. وكان يتعمد أن يتشدد معنا بسبب آرائنا. وعندما دخلنا السجن نقل إليه، صدفة على ما أعتقد. وكان يستمتع بالإشراف على تعذيبنا، ثم يجمعنا أمامه ويأمرنا بأن نجلس القرفصاء ونهتف بحياة جمال عبد الناصر، كأنما الهتاف لعبد الناصر يتطلب كل هذا العناء.
أعدت المسدس إلى مكانه. وحانت مني نظرة إلى جهاز التليفزيون، فرأيت أن الفيلم انتهى، وأن المذيع يقرأ نشرة الأخبار الأخيرة، فرفعت درجة صوته.
كان الموقف في بيروت هادئا، وعلى العكس من ذلك كان الوضع في الخليج؛ فقد استأنفت القوات العراقية والإيرانية تدمير المنشآت البترولية في البلدين. وبلغ عدد لاجئي الحرب من الطرفين أكثر من مليون لاجئ.
كان النبأ الأخير من مصر، ومؤداه أن إحدى طائرات النقل الأمريكية، تحطمت في الساعات الأولى من الصباح، أثناء هبوطها في قاعدة غرب القاهرة الجوية، ضمن تدريبات قوات الانتشار السريع. ولقي 13 عسكريا أمريكيا مصرعهم.
شعرت بشيء من النشوة، فملأت لنفسي كأسا جديدة.
قال وديع وهو يرتشف من كأسه ببطء: أنت تشرب كثيرا.
أغلقت التليفزيون وقلت: لأتمكن من النوم. - أعطيك قرص فاليوم. - إنه يجعلني كالمسطول في الصباح. وأنت تعرف أني محتاج لكل ذرة انتباه أثناء تسجيل اللقطات.
علت شفتيه ابتسامة ماكرة وقال: أراك صرت متحمسا للفيلم. على العموم أنطوانيت فتاة هائلة. - ماذا تعني؟ - أقصد أنها غير معقدة، تذهب إلى الفراش بسرعة.
أشعلت سيجارة، واقتربت من رف الكتب وأنا أقول: هذا عكس ما أريده تماما؛ فأنا أذهب إلى الفراش ببطء.
قلبت بين الكتب القليلة، والتقطت كتابا قديما لكولن ويلسون.
قال: اقرأه، إنه يزعم أن إطالة مدة القذف ستحقق السعادة الأبدية للبشر.
أعدت الكتاب إلى مكانه وتناولت غيره قائلا: هذه ليست مشكلتي. - ما هي مشكلتك إذن؟
سألته: ماذا تشعر أثناء القذف؟
قال: أحيانا أجأر من اللذة.
قلت: يا بختك!
تناولت مفكرتي وعلبة سجائري من فوق الطاولة وأنا أقول: سأحاول النوم. تصبح على خير.
مضيت إلى غرفتي، فخلعت ملابسي واستلقيت على الفراش. ثبت عيني على السقف وفكرت في زوجتي السابقة، ثم في أول فتاة أحببتها، أو بمعنى أصح أحببناها؛ فقد كنت أنا ووديع، واثنان آخران من أصدقائنا نحبها في وقت واحد. كان ذلك في الجامعة، في بداية الخمسينيات، عندما كان الأغنياء والفرسان هم وحدهم الذين يستطيعون كسر الحواجز الخفية القائمة بين الجنسين. كنا نحيط بها طول الوقت ونتمشى معها ساعات طويلة. وعندما تنخفض درجة الحرارة، كنا نلعب لعبة تدفئة الأيدي، فتضع يدها اليمنى في جيبي الأيسر، ويدها اليسرى في جيب وديع الأيمن.
تذكرت أيضا أول مرة استمنيت فيها، والمرة التي شربنا فيها أنا ووديع زجاجة نبيذ، واستمنى كل منا أمام الآخر. وتذكرت أول فتاة نمت معها. وكنت أنا ووديع وثالث من مجموعة تدفئة الأيدي، قد نجحنا في ادخار جنيهين، فالتقطناها من مكان مظلم على شاطئ النيل، هو نفسه الذي يقوم عليه الآن قصر أنور السادات وفندق الشيراتون. وذهبنا بها عند أحد أصدقائنا. وعندما جاء دوري وجدتها غارقة في نوم عميق. وأيقظتها ثم لم أدر ماذا أفعل، فأرقدتني على ظهري وركبتني. ولم يستغرق الأمر غير ثوان، ولم أشعر خلالها بشيء سوى أني أحدثت قدرا كبيرا من البلل. وعندما غادرت الغرفة كانت قد استأنفت النوم وعاد شخيرها يتردد في انتظام.
10
لم تذكر صحف الصباح شيئا عن حادث الطلق الناري. وبينما كنا نتناول إفطارنا، دق أبو شاكر الباب ليبلغنا أن الرصاصة انطلقت على سبيل الخطأ أثناء تنظيف مسدس بأحد مساكن الطابق الأخير.
عكفت على تنظيف بزتي الزرقاء الداكنة بالفرشاة، ثم كويت القميص الذي غسلته بالأمس. ودعكت حذائي بقطعة من القماش وجدتها في المطبخ. وأخيرا علقت حقيبتي في كتفي، وانطلقت خلف وديع.
أقلتنا سيارة أجرة إلى منطقة «عين المريسة» القريبة من نقاط التماس مع المنطقة الشرقية. وطلب وديع من السائق التوقف أمام مبنى حديث تبدو آثار الحريق في مدخله، فغادرت السيارة التي كرت عائدة بوديع إلى مكتبه.
كانت آثار الحريق تمتد إلى متجر لبيع السجاير والحلوى، تتصاعد منه رائحة البن المنعشة، وتتصدر مدخله مجموعة من الأواني الزجاجية الكروية الشكل والمتماثلة الحجم، تضم أنواع البندق واللوز المقشور، والفستق الحلبي الشهير.
اعترضني شابان مسلحان في مدخل المبنى، أصرا على تفتيش حقيبة يدي، والاتصال من تليفون أمامهما بمكتب لميا قبل أن يسمحا لي بالصعود.
ارتقيت درجات قليلة إلى كشك المصعد. ولم يكن موجودا ففضلت أن أواصل صعود الدرج الذي ظهرت آثار الانفجار على جدرانه. وعندما بلغت الطابق الثاني، رأيت لافتة «دار الثقافة» فوق باب مفتوح، انتصب أمامه حامل معدني. وكان هناك عامل فوق قمة الحامل، عكف على إضافة طبقات من خليط إسمنتي إلى السقف.
كان هناك عامل آخر بالداخل يطلي الجدران، يراقبه رجل طويل القامة بصورة غير مألوفة، يتدلى مسدس من خاصرته. ولم يسمح لي بالمرور إلا بعد أن اطلع على جواز سفري وتولى تفتيشي، ثم أسلمني إلى سكرتيرة ممتلئة الجسم ضاحكة الوجه، أرشدتني إلى غرفة في أقصى ممر على يمين المدخل.
طرقت الباب ودخلت، فطالعتني عينا لميا الواسعتان. كانت تجلس خلف مكتب معدني في صدر غرفة رحبة. نهضت باسمة، ودارت حول مكتبها ثم مدت يدها لي فتصافحنا. واحتفظت بيدي في يد رخصة، وهي تقودني إلى كنبتين صغيرتين متعامدتين في ركن الغرفة، استقرت بينهما طاولة زجاجية صغيرة، فجلس كل منا على واحدة.
كانت ترتدي رداء أخضر اللون، يتألف من بلوزة ذات كمين قصيرين، وجوب على شكل البنطلون القصير. وملأت عيني من بشرتها الموردة وشفتيها الممتلئتين الناعمتين.
خاطبتني في صوت رقيق: كيفك أستاذ؟
قلت: منيح.
قالت: نحن نحب اللهجة المصرية ونفهمها بسهولة، فلا تتعب نفسك في تقليد لهجتنا.
قلت وأنا أستخرج من حقيبتي المظروف الذي يضم نسخة من مخطوطة كتابي: ماذا أفعل إذا كنت قد أحببت اللهجة اللبنانية؟
تناولت مني المظروف بأصابع مستقيمة ذات أظفار طويلة مصبوغة بلون بشرتها ووضعته على الطاولة قائلة: ماذا تشرب؟ قهوة أم شيئا باردا؟ - قهوة. - مرة أم على الطريقة المصرية؟
قلت وعيناي على شفتيها: كما ستشربينها أنت.
نهضت واقفة في حركة رشيقة. ومضت إلى مكتبها فانحنت فوقه معطية ظهرها لي. ضغطت زر جهاز ديكتافون، وتحدثت فيه بصوت شبه هامس.
لم أرفع عيني عن ردفيها المشدودين المتناسقين. والتقت عيوننا عندما استدارت فجأة وخطت عائدة إلى الكنبة، ولمحت في عينيها ظل ابتسامة خفيفة.
انضمت إلي على الكنبة الملاصقة، ووضعت ساقا على ساق وهي تقول: حكى معي عدنان مرة أخرى اليوم. وهو يعتذر إليك بشدة عما سببناه لك من إزعاج. وقد فوضني التصرف في أمر كتابك. - أصبح مصيري بين يديك.
ضحكت وقالت: ليس إلى هذه الدرجة.
قلت: هل تعرفين أنني رأيتك منذ أيام؟ - أين؟ - نسيت اسم المكان، مقهى قرب الجامعة الأمريكية. كانت معك سيدة في فستان أسود. - آه .. هذه صديقتي.
أحضرت السكرتيرة القهوة في صينية صغيرة من الفضة ثم انصرفت. ورفعت فنجاني إلى شفتي وابتلعت رشفة من القهوة المرة، بينما كانت عيناي تجريان على ساقي لميا حتى قدميها المتناسقتين، وأظفارها الطويلة، الممتلئة.
لحظت اتجاه نظراتي، فحولت عينيها إلى قدميها. وفي هذه اللحظة دق جرس التليفون، فنهضت من جديد. وسارت إلى مكتبها ثم دارت حوله بحيث واجهتني. رفعت سماعة التليفون إلى أذنها وأنصتت لحظة ثم ضغطت زرا في الجهاز. وقالت بنفس الصوت الهامس: هالو.
رأيتها تقطب حاجبها قليلا وهي تنصت دون أن تنبس بشيء، ثم غمغمت بكلمة لم أتبينها، وأعادت السماعة إلى مكانها في بطء.
تشاغلت بالنظر إلى خزانة زجاجية احتوت على نسخ من منشورات الدار في مجلدات فاخرة . وخاطبتني من خلف مكتبها وهي تومئ إلى جهاز التليفون: هذه كانت صديقتي التي تحدثنا عنها. للأسف أنا مضطرة للانصراف الآن. تحب أوصلك إلى أي مكان؟
قلت: أنا ذاهب إلى الفاكهاني.
مالت على الديكتافون وضغطت زره ثم همست فيه بكلمتين. وجذبت حقيبة يد صغيرة من فوق المكتب ونهضت واقفة.
وضعت فنجاني في الصينية، وتناولت حقيبتي وأنا أنهض بدوري، وتبعتها إلى الخارج.
كانت السكرتيرة تنتظرنا وبجوارها الشاب الطويل الذي تقدمنا إلى الخارج بنشاط. خطوت نحو المصعد، لكن لميا مدت يدها ولمست ذراعي قائلة: ننزل الدرج أحسن. تعليمات الأمن. - لماذا؟ - المصعد يمكن أن يكون ملغما وينفجر.
نزل الشاب أمامنا على الدرج، ومالت لميا برأسها ناحيتي فلفح عطرها أنفاسي.
قالت هامسة وهي تومئ إليه بعينيها: تعليمات الأمن أيضا ألا أذهب إلى أي مكان دون حارس.
سبقنا المرافق إلى سيارة شيفرولية حديثة الطراز، احتل مقعد قيادتها سائق في بزة ذات صفين من الزراير النحاسية اللامعة، فجذب بابها الخلفي إلى الخارج، وانتظر حتى صعدت لميا، فأغلقه ودار حول السيارة وأنا أسير في أعقابه. وفتح لي الباب الآخر، وبعد أن أغلقه خلفي، أكمل دورته حول السيارة واحتل المقعد المجاور للسائق.
قلت والسيارة تنطلق من أمام السفارة الأمريكية وتتجه إلى الحمرا: يمكنك أن تقرئي المخطوطة على مهل؛ فسأبقى في بيروت عشرة أيام أخرى على الأقل.
قالت مقلدة اللهجة المصرية: كويس قوي. وسأتصل بك بمجرد أن أنتهي منها.
اخترقت السيارة شوارع ضيقة مزدحمة بالمارة، ثم توقفت أمام مؤسسة الإعلام الفلسطيني. غادرت السيارة وسرت حتى المبنى الذي يضم مكتب أنطوانيت. وبعد الإجراءات الأمنية المعتادة صعدت إلى مكتبها. ووجدتها تنتظرني في غرفة المونتاج وقد انتهت من تثبيت شريطي الفيلم. أخرجت أوراقي وقلمي، وبدأنا العمل على الفور.
الفصل الأول من الفيلم
تشكيلات من طائرات حربية تحمل نجمة داود على جوانبها، الطائرات في طلعات متلاحقة فوق منازل متواضعة وحقول ممتدة، القنابل تنفجر وسط الحقول، المنازل تتهاوى.
عنوان: «مع الساعات الأولى من عام 1975، ارتفعت حدة الاعتداءات الإسرائيلية على الجنوب اللبناني.»
دائرة حول فقرة من جريدة معاريف الإسرائيلية بتاريخ 31 يناير (كانون الثاني) 1975، مردخاي جور رئيس الأركان الإسرائيلي، يعلن: «يجب خلق وضع جغرافي سياسي جديد في المنطقة.»
بلدة شتورة اللبنانية السياحية الجميلة، الثلوج تغطي الشوارع وقمم المنازل الأنيقة، موكب الرئيس السوري حافظ الأسد يخترق شوارع البلدة، الرئيس اللبناني سليمان فرنجية يهبط درج قصره، ويتقدم لاستقبال الرئيس السوري.
متحدث رسمي يقرأ على الصحفيين بيانا عن اجتماع الرئيسين، البيان يؤكد استعداد سوريا لدعم لبنان في مواجهة الاعتداءات الإسرائيلية.
عنوان: «وفي نفس الوقت ...
كميل شمعون يقف أمام مائدة مستطيلة التف حولها الجالسون والواقفون، يرفع كأسا إلى شفتيه ليشرب نخب شركة «بروتين».»
عنوان: «تأسست شركة «بروتين» برساميل لبنانية وخليجية، وقرض من شاه إيران، ومعونة تكنولوجية من عدة شركات أجنبية. واختار المؤسسون شمعون رئيسا للشركة، فحصل لها من حكومة صائب سلام على امتياز احتكار الصيد على الشواطئ اللبنانية لمدة 99 سنة.»
مظاهرات احتجاج من صائدي الأسماك والأحزاب الوطنية والتقدمية، لافتات تحمل شعارات متعددة بينها: «السمك الكبير يأكل السمك الصغير»، «أبناؤنا الجنود للدفاع عن الجنوب».
بلدة صيدا، مظاهرة حاشدة ترفع على الأعناق النائب الناصري «معروف سعد»، الجيش يطلق النار على المظاهرة.
عنوان صحيفة لبنانية: «إصابة معروف سعد بطلق ناري».
بيروت، عدة آلاف من الطلبة والطالبات الموارنة في مظاهرة تأييد للجيش، لافتات تطالب بسحب الأسلحة من الفلسطينيين.
عنوان صحيفة لبنانية: مصرع معروف سعد.
مظاهرة هائلة ترفع صورة مجللة بالسواد لمعروف سعد.
مقر وزارة الدفاع في بيروت، ممر هادئ طويل على جانبيه أبواب مغلقة، ضابط كبير يبرز من إحدى الغرف ويصفق الباب خلفه بشدة.
عنوان: «رفض الجيش أن يسلم للمحاكمة الجندي الذي قتل معروف سعد، وضابط المخابرات الذي أعطاه الأمر بذلك.»
زعماء الأحزاب الوطنية واليسارية حول مائدة مستديرة، يتوسطهم كمال جنبلاط، الصحفيون يسجلون بيان جنبلاط: «... إن أهداف اغتيال معروف سعد هي إرهاب الحركة الشعبية والتحضير لفتنة طائفية وجر المقاومة الفلسطينية إلى صراع داخلي لبناني.»
طائرات إسرائيلية تسقط قنابلها على الجنوب اللبناني.
تل أبيب، سيارة أمريكية فاخرة تقل شربل قسيس، زعيم الرهبانيات المارونية اللبنانية، في ردائه الكهنوتي الأسود، صليب ذهبي يتدلى من رقبته.
عنوان: «وصل الأباتي شربل قسيس إلى إسرائيل في 5 أبريل (نيسان).»
شربل قسيس يلوح بيد ازدانت بالخواتم الماسية والمجوهرات، لقطة مكبرة لوجهه السمين وشفتيه الممتلئتين. يقول: «ماذا يظن المسلمون أنفسهم؟ هل بعولهم أكثر فحولة من رجالنا؟ إن لدينا في الجبل رجالا يمكن للواحد منهم أن ينجب عشرة وعشرين.»
بيروت، مبنى المجلس الشيعي الأعلى في منطقة الحازمية، القلعة المارونية في العاصمة اللبنانية، مدخل المبنى الأنيق، عشرون ألف شيعي تجمعوا حول المبنى.
عنوان: «في الأسبوع الأول من شهر أبريل (نيسان)، انتخب المجلس الشيعي الأعلى الإمام موسى الصدر رئيسا مدى الحياة.»
سيارة أتوبيس متوسطة الحجم، خالية من الركاب، آثار طلقات الرصاص على جدرانها ونوافذها.
عنوان: «بعد ظهر الأحد 13 أبريل (نيسان) 1975، كان هذا الأتوبيس في طريق العودة من احتفال بذكرى ضحايا مذبحة دير ياسين. وكان الأتوبيس يقل عددا من سكان مخيم «تل الزعتر» من لبنانيين وفلسطينيين. وعند وصوله إلى منطقة عين الرمانة، أطلقت عليه ميليشيا الكتائب النار، فأردت 26 من ركابه - أغلبهم من الأطفال - وأصابت 29 آخرين بجروح.»
جثث مغطاة بالأعلام الفلسطينية.
شارع الجميل، سيارة فولكس فاجن يقودها شاب، السيارة تبلغ كنيسة سيدة الخلاص، أعيرة نارية تنطلق من داخل الكنيسة على السيارة.
شارع مار مارون، سيارة فيات مسرعة تقل عددا من المسلحين يلفون رءوسهم ب «الحطة» المزركشة، التي يرتديها عادة الفلسطينيون وسكان الجنوب اللبناني، عدد من المسلحين يحاولون إيقاف السيارة، لكنها تمر منهم عنوة، يتبادل ركاب السيارة إطلاق النار مع المسلحين، يسقط أحد المسلحين على الأرض، كما يصاب أحد ركاب السيارة.
سطح إحدى البنايات العالية، ثلاثة شبان خلف مدافع رشاشة فوق حوامل، تستند إلى حافة السطح، بالقرب من الشبان إبريق ماء وصفيحة، أحد الشبان يرتدي حذاء ذا كعبين من طراز قاع الكوب، الشاب الثاني يرتدي سترة جلدية، الثالث لف حول ساقي بنطلونه حزاما عسكريا.
لقطة بعيدة من خلال منظار الرؤية لمدفع رشاش، المنظار يتحرك بحثا عن هدف، خطأ تحديد الهدف، المتعامدان على شكل صليب يلاحقان جسما متحركا، يقترب الجسم بالتدريج من نقطة التقاء خطي الرؤية، فيكشف عن رجل متوسط العمر يغذ السير، المنظار يبتعد عن الرجل قليلا ويستقر عند نقطة خلف قدميه، رصاصة تنطلق، المنظار يعود إلى الرجل، يتابعه وهو يجري. رصاصة أخرى تنطلق على مبعدة قدم أمامه، الرجل ينبطح أرضا، يزحف في رعب، ينهض فجأة واقفا ويواصل الجري، المنظار يركز على يد الرجل، رصاصة تصيبها وتحدث بها جرحا، الرجل يضع يده الأخرى على اليد المصابة ويواصل الجري، المنظار يهتز في حركة شبه راقصة بحثا عن هدف جديد، رصاصة تصيب الرجل في ساقه، يقع على الأرض، المنظار يستقر على بطنه، رصاصة تصيب الرجل في بطنه.
أكياس الرمال على جوانب شوارع خالية، متجر تعلوه لافتة «قطع مرسيدس أصلية، وكلاء فبارك وموزعون»، سيارة محطمة أمام حانوت مغلق.
رصيف محطة بنزين مدمرة، لافتات صغيرة على الجدران لم يتبق منها غير كلمة واحدة هي «سوبر»، شاب منكوش الشعر في قميص وبنطلون ملقى على جانبه فوق الأرض. يزحف والدماء تسيل منه.
القباب الداخلية المحترقة لمسجد المجيدية في ميناء الخشب، جثة محترقة تظهر بها آثار الحبال التي كانت تقيدها.
لوحة زيتية كبيرة الحجم للسيدة العذراء تحمل السيد المسيح فوق ساقيها بعد صلبه وقد استقرت الأسهم في قلبها. آثار الأعيرة النارية واضحة في أنحاء اللوحة.
العنوان الرئيسي لصحيفة النهار: «اتفاق على وقف إطلاق النار وسحب المسلحين وإزالة المتاريس».
دائرة حول فقرة من مقال لبيار الجميل في صحيفة حزب الكتائب: «لبنان أجمل بلد في العالم، وأفضل دولة في الشرق. وللأسف فإن هذا الوضع بدأ يتشوه منذ أربع أو خمس سنوات عندما بدأ سيل من الغرباء المجهولي الهوية والانتماء يتسلل إلى لبنان.»
دائرة حول فقرة من مقال بجريدة «الثورة» السورية: «الثورة الفلسطينية لا تقف وحدها في مواجهة أعدائها، والقيادة الموحدة بين سوريا والمقاومة هي الرد.»
أمام مبنى مجلس النواب اللبناني، مصفحة تحمل لافتة «الأمن الداخلي اللبناني»، عدد من الضباط، سيارة مرسيدس تحمل علما، داخل المجلس، النواب مجتمعون، رئيس الوزراء، رشيد الصلح ، يتكلم: «من الواضح أن حزب الكتائب يتحمل المسئولية الكاملة عن المجزرة، وعن المضاعفات التي أعقبتها، والضحايا والأضرار المادية والمعنوية التي لحقت بالبلاد نتيجة لها.»
النائب أمين الجميل يجري خلف رئيس الوزراء ويجذبه من ذراعه محاولا الاعتداء عليه.
واشنطون، هنري كيسينجر في مكتبه بالطابق السابع لمبنى وزارة الخارجية الأمريكية يتحدث لصحفي أمريكي: «الوضع في لبنان يشبه ما كان عليه في الأردن سنة 1970. كل ما يحتاج لمعالجته هو أن ترسل سوريا لواء من قواتها.»
قاعة واسعة يتصدرها مفتي الجمهورية السني الشيخ حسن خالد، على رأسه عمامة بيضاء، إلى يمينه يجلس وزير الخارجية السوري عبد الحليم خدام، إلى يساره إمام الشيعة في عباءته السوداء، ثم رئيس أركان الجيش السوري، ثم كمال جنبلاط الذي عقد ذراعيه فوق صدره، وأغمض عينيه، إلى يسار الإمام الصدر زعيم سنة طرابلس رشيد كرامي، وإلى جواره صائب سلام زعيم سنة بيروت العجوز، ذو السيجار الهافاني.
دائرة حول خبر في صحيفة لبنانية: اعتمدت المملكة السعودية أربعين مليون ليرة باسم صائب سلام لمحاربة الالحاد والشيوعية.
عنوان رئيسي لصحيفة أخرى: حكومة جديدة برئاسة رشيد كرامي وعضوية كميل شمعون للداخلية.
عنوان رئيسي في صحيفة أخرى: عدوان إسرائيلي على مخيمات الجنوب، مصرع 11 وتهدم 60 منزلا في الرشيدية.
بيروت، منطقة المسلخ-الكارنتينا، عشش متلاصقة من الصفيح (التنك)، أعلام فلسطينية ولبنانية، لقطة أخرى لنفس المكان وقد تحول إلى دمار، مجموعة من القذائف التي سقطت عليه، إحدى القذائف في حجم وارتفاع قامة صبي يافع، قذيفة أخرى تحمل رمز المملكة السعودية الذي يتألف من سيفين متقاطعين حول عبارة «لا إله إلا الله»، وجه عجوز مذهولة يتطلع من بين الخرائب، طفلة حافية في رداء مزركش تحمل رضيعا فوق ساعديها، وتجلس إلى جوار جدار متهدم، سيدة متوسطة العمر تغطي رأسها بلفاعة بيضاء شفافة عقدتها حول عنقها وأرسلت طرفا منها فوق صدرها، تبكي ويدها على خدها، إلى جوارها فتاة تشبهها تبكي بدورها، أسرة تجري في الشارع وقد حمل الأب لفافة على ظهره وأمسك بطفل في كل يد، طفل ثالث يتقدمهم، عدد من الشبان بينهم من تلفع ب «الحطة» المزركشة، يبتسمون للكاميرا وهم يرفعون أصابعهم بعلامة النصر، إلى جوارهم جثث مغطاة بالأعلام الفلسطينية.
العنوان الرئيسي لصحيفة «السفير»: «الإمام الصدر يعلن ولادة أفواج المقاومة اللبنانية «أمل» للدفاع عن الجنوب، الإمام يحدد التزامه بتحقيق مطالب المحرومين من كل الطوائف، وإنهاء التمييز الطائفي، والدفاع عن الثورة الفلسطينية.»
شاب يحمل مدفعا رشاشا فوق سطح منزل، يرتدي فانلة بيضاء نقشت عليها كلمة «أمل» بالحروف اللاتينية.
لقطة طويلة لأحد الشوارع، برميلا بترول في عرض الطريق وإلى جوارهما عدد من المسلحين، المارة قليلون، المسلحون يستوقفونهم ويتفحصون هوياتهم، يحتجزون البعض ويطلقون سراح الآخرين، يعصبون أعين المحتجزين.
أمام فرن محلة أبو شاكر، كتلة من الأحذية والشباشب المستعملة تناثرت قرب الجدار، قرب الخط الأخضر، حفرة واسعة أصبحت تستخدم جبانة للمسلمين، كوم من الجثث الملقاة حديثا، الأعضاء التناسلية للرجال مقطوعة وتبرز من أفواههم.
عنوان: «في مايو/آيار، قامت جماعة متطرفة من الشيعة تسمي نفسها «فرسان علي» بقتل خمسين شخصا، بينهم عدد من اليساريين.»
شبان يجرون وقد حملوا على أكتافهم لفائف كبيرة من الخبز، ناصية شارع، سيدة في جوب قصيرة تجري في اتجاه سيارة احتمى خلفها أحد المسلحين.
الصفحة الأولى من جريدة لبنانية، عنوان رئيسي: «قائد كتائبي يعترف»، عنوان آخر: «سعيد نعيم الأسمر يقر بأنه عمل قناصا في منطقة الشياح، ويقول إن مسلحي الكتائب بقيادة جوزيف أبو عاصي هم الذين قاموا بمذبحة عين الرمانة»، عنوان ثالث: «الأسمر يتهم عناصر رسمية من المكتب الثاني وأخرى من المخابرات الأردنية بأنها تساعد الكتائب في عملياتها العسكرية».
عنوان في صحيفة «النهار»: «قصف مدفعي إسرائيلي على الجنوب».
عنوان في صحيفة «السفير»: «واشنطون تكشف النقاب عن صفقة سلاح أمريكية أرسلت إلى لبنان أخيرا عن طريق السفارة الأمريكية ببيروت».
عنوان آخر لنفس الصحيفة: «الإنتربول تحذر من وصول سبعة إرهابيين أوروبيين من عملاء الصهيونية إلى بيروت».
بلدة بتغرين، شعارات على جدران المنازل: «كل الحمير تدعم الثورة الفلسطينية»، شعار آخر: «تسقط فلسطين».
قصف إسرائيلي لمدينة صور من البر والبحر والجو.
عنوان صحيفة: «كيسينجر يتجه إلى مصر في جولته المكوكية الحادية عشرة».
عناوين صحف: «توقيع اتفاقية سيناء بين مصر وإسرائيل في أول سبتمبر (أيلول)»، «وكالة الأنباء الفرنسية تقول إن واشنطون هي الفائز الأكبر في هذه الصفقة»، «ياسر عرفات يحذر: الاتفاقية تترك السوريين والفلسطينيين يقفون وحدهم وتؤدي إلى حرب أخرى، تخطئ إسرائيل وأمريكا واهمة إذا اعتقدتا أن الجيش المصري سيقف مكتوف الأيدي إذا تعرضت الثورة الفلسطينية للتصفية»، «الاتحاد السوفيتي يطلب رسميا من الولايات المتحدة دعوة مؤتمر جنيف للانعقاد باشتراك منظمة التحرير الفلسطينية».
الصفحة الأولى من مجلة «الكرازة» الصادرة عن الكنيسة القبطية المصرية، صورة الأنبا صموئيل، مسئول العلاقات الخارجية للكنيسة المصرية، في لقاء مع أعضاء مجلس الكنائس العالمي.
عنوان: «فضحت تحقيقات الكونجرس الأمريكي، علاقة مجلس الكنائس العالمي، الذي اشترك جون فوستر دالاس في تأسيسه، بالمخابرات المركزية الأمريكية.»
فقرة عن مقال بمجلة ألمانية غربية عن الكنيسة المصرية، صورة الأنبا صموئيل وتحتها هذه الكلمات: «قام الأنبا صموئيل، وهو أحد أبرز قيادات الكنيسة القبطية، بدور هام في مساعدة أبناء العائلات القبطية الغنية التي أضيرت بقرارات المصادرة والتأميم الناصرية، مستغلا علاقاته الدولية الواسعة، وخاصة في ألمانيا الغربية، فحصل للكثيرين منهم على مراكز مرموقة في المؤسسات المصرفية والتجارية الأجنبية التي فتحت لها سياسة السادات الأبواب.»
بيروت، الصحفيون يحيطون برشيد كرامي، رئيس الوزراء اللبناني باسم الوجه في بزة بيضاء ورباط عنق ملون، يقول للصحفيين: «الرئيس فرنجية زعيم عظيم، وأنا واثق أن آخر سنوات عهده سيسجلها التاريخ.»
عنوان صحيفة لبنانية: «مسلحون من موارنة زغرتا، معقل الرئيس فرنجية، يحتجزون 25 رهينة من مدينة طرابلس، معقل رئيس الوزراء رشيد كرامي، ويقتلون 12 منهم».
عنوان صحيفة أخرى: «انفجار القتال في ثلاثة أماكن بالشمال، الكتائب تطالب بإنزال الجيش، إذاعة صوت العرب المصرية تهاجم المقاومة الفلسطينية، وتدعو الجيش اللبناني للنزول إلى الشارع لضربها».
دائرة حول فقرة من افتتاحية جريدة «أخبار اليوم» المصرية: «... الاشتباكات الحالية جزء من مؤامرة الرفض لإحباط التسوية السلمية بين مصر وإسرائيل بهدف خلق وضع يضطر سوريا إلى التدخل، وإذا حدث ذلك فإن إسرائيل ستضطر للتدخل.»
شارع مهجور في بيروت، النفايات والبراميل في كل مكان، أقفال محطمة وملقاة أمام الحوانيت المغلقة، باب منزل مفتوح، في الداخل غرف فارغة منهوبة، لص يحمل ثريا كهربائية يجري في الشارع، يطارده أفراد من قوة «الكفاح المسلح الفلسطيني».
النيران تشتعل في سينما ريفولي.
قصر الرئاسة في دمشق، رشيد كرامي يصعد الدرج.
جانب من اجتماع في بيروت؛ زهير محسن، قائد منظمة «الصاعقة» الفلسطينية التابعة لسوريا في قميص حريري ملون وبنطلون أبيض، يحمل في يده غليونا فاخرا، أبو الحسن مسئول أمن فتح، ياسر عبد ربه من قادة الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، العقيد أنطوان الدحداح مدير الأمن العام اللبناني.
عنوان: «تم الاتفاق على وقف إطلاق النار، لكن الكتائب فجرت الموقف في زحلة.»
بيروت، ساحة الشهداء، أنقاض الفندق العربي وتظهر بينها ساق آدمية، رجل ملقى على وجهه في مدخل حانوت تبدو في واجهته الزجاجية صناديق «نينكس»، الدم يلطخ ظهر الرجل.
رجل معصوب العينين يمشي بين اثنين من المسلحين.
عناوين صحف لبنانية: «خطف 307، وإعادة 200، العثور على 21 جثة»، «مجموعة فلسطينية متطرفة تهاجم مطار بيروت، مصرع ثلاثة أفراد في الهجوم، قيادة المقاومة تستنكر الهجوم وتسلم السلطة أحد المهاجمين».
شاحنات تحمل مسلحين تغادر إحدى القرى وتنطلق على الطريق الزراعي، تمر بقرية فتطلق النار على منازلها.
بيروت، شارع مهجور، عجوز بلا أسنان في بزة كاملة يسير وهو يضم كيسا إلى صدره، تصيبه رصاصة قناص في فخذه فيقع على الأرض، يرفع رأسه ويتطلع حوله ثم يزحف مستغيثا دون أن يتخلى عن الكيس، رجل احتمى بمدخل منزل مجاور يعقد حبلا في أنشوطة ويلقي بها إلى العجوز دون أن يغامر بإبراز رأسه من مدخل المنزل، يجر العجوز بالحبل بعيدا عن مرمى القناص، الكيس يسقط من يد العجوز وتتدحرج منه أرغفة خبز.
النار تشتعل في سوق سرسق القديم، الدمار يمتد إلى سوق الخضار وسوق الأوبرا وسوق الصاغة.
أطفال ونساء في ثياب رخيصة ملونة ينقبون بين ركام الأسواق والمتاجر، يشترك معهم في التنقيب بعض المسلحين، شبان يحملون أكواما من الملابس واللفائف، آخرون يفرشون سلعا مختلفة على أرصفة الحمرا والروشة.
منزل في حي البرجاوي اخترقت القذائف جداره ، أطلال مصنع عسيلي للنسيج في الشياح، سيارة مرسيدس تحول ظهرها إلى منخفض عميق بفعل قذيفة، سيارة أخرى محطمة تسلقها أحد المسلحين ليقفز إلى نافذة منزل فخم، حطام مسكن، هياكل متفحمة للسراير والعلاقات والمقاعد.
سيارة مسرعة فوق جسر فؤاد شهاب، متجهة إلى حي الأشرفية المسيحي، رصاصة قناص تصيب قائدها فيصطدم بسياج الجسر وتميل السيارة من فوقه.
الناس تحيط بسيدة مذهولة يتغطى رأسها بمنديل، إلى جوارها مباشرة قتيل ملقى على الأرض.
مرسيدس يعكف سائقها على ربط حقائب الركاب فوق سطحه، أسرة من سيدتين ورجل وطفلين يحملون الحقائب ويسيرون في طريق يغلفه الغبار.
واجهة مبنى محطم أسفله متجر كبير مغلق يحمل لافتة «تركيب جميع أنواع الزجاج والبللور»، غرفة داخل المبنى نسفت الصواريخ حوائطها، رأس طفل وسط الحطام.
عنوان صحيفة: «جنبلاط يعلن أن الكتائب وحدها تتكلف مليون ليرة يوميا في حالة الاستنفار العسكري، أقل مقاتل لديهم يتقاضى من 500 إلى 900 ليرة، ورئيس المتراس 2000 ليرة، وآمر الحي 3000 ليرة، بالإضافة إلى أجور المرتزقة الفرنسيين، وتكاليف التأمين عليهم».
ياسر عرفات في ملابس عسكرية يضع يده على ذراع كميل شمعون مبتسما في تودد، شمعون متجهم الوجه.
عنوان رئيسي بصحيفة لبنانية: «الاتفاق على إزالة المتاريس والمسلحين في مناطق القتال بالعاصمة».
عنوان: «وبعد أربعة أيام ...»
مدفع هاون عيار 21 ملم يقذف لهبه، حريق ودخان، الناس تهرول إلى المخابئ، النساء بقمصان النوم والرجال حفاة.
عنوان رئيسي في صحيفة «السفير»: «الكتائب والنمور تقصف حي اللعازارية وقلب بيروت يحترق».
سماء بيروت بالليل، القذائف المتطايرة بين الأحياء تضيئها.
الإذاعة: معظم شوارع بيروت غير آمنة.
شارع تجاري طويل عند الغروب، الحوانيت مغلقة، ليس هناك أثر لإنسان، المنازل التي تعلو الحوانيت تبدو كأن سكانها هجروها، سواتر من أجولة الرمال في طرفي الشارع، القذائف متبادلة بين الطرفين، ترتفع راية بيضاء أعلى كل ساتر فيتوقف القتال، يتقدم مسلح من كل جانب حاملا الراية البيضاء، يلتقي الاثنان في منتصف الشارع، يتبادلان حديثا قصيرا ثم ينضم إليهما عدد من زملاء كل منهما، يتوزعون إلى مجموعات من اثنين، واحد من كل طرف، تقوم باقتحام الحوانيت الواقعة على جانبي الشارع، المسلحون ينقلون محتويات الحوانيت إلى الخارج، الملابس والأحذية والأجهزة الكهربائية والمواد الغذائية تتجمع في كوم كبير وسط الطريق، يجري اقتسام الأغراض المنهوبة بين الطرفين، يحمل رجال كل طرف نصيبهم إلى موقعهم، يستأنف القتال.
حي القنطاري الأرستقراطي المسيحي يحترق، الدخان يغطي سماء بيروت، النيران تلتهم مطعم «ميرندوم هاوس» النمساوي، سيارة من طراز «ألفا روميو» تحترق في عرض الطريق، النيران تلتهم مبنى قديما من الطراز التركي، رجال ونساء يتدافعون في مداخل المنازل، بين داخلين وخارجين، يحملون الحقائب واللفائف ويلقون بها إلى الشاحنات والسيارات.
درج مبنى فخم، مسلحون يحملون سجاجيد فارسية، مدخل مسكن ويبدو الأثاث الوثير محطما إلى قطع صغيرة.
عنوان: «في 26 أكتوبر (تشرين الأول) أقر مجلس الوزراء اتفاقا بوقف إطلاق النار.»
سيارات رانج روفر مدهونة باللون الأسود، تقل حوالي عشرين مسلحا مقنعا، من ميليشيا النمور التابعة لوزير الداخلية شمعون، تتوقف السيارات أمام فندق السان جورج، المسلحون يقومون بإنزال صناديق الأسلحة والذخائر، داخل الفندق يقوم عماله بجمع السجاد.
عنوان: «في 29 أكتوبر (تشرين الأول) عقد اتفاق جديد لوقف إطلاق النار ضمنه كل من رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء.»
سيارات شبه عسكرية مدهونة باللون الأسود تطلق زماميرها أثناء السير، يقفز منها مسلحون في ملابس سوداء وقبعات سوداء، من رجال الكتائب، يحملون البنادق الرشاشة، يركض أحدهم من زاوية إلى أخرى وعلى صدره يتأرجح منظار ميدان، المسلحون يصرخون في المارة ثم يبدءون بإطلاق النار في كل اتجاه.
عنوان: «في أول نوفمبر (تشرين الثاني) عقد اتفاق جديد لوقف النار، وخرقته الكتائب والنمور بعد ثلاث دقائق.»
وبعد يومين اجتمع ممثلو الأحزاب والفرق المتقاتلة من جديد، واتفقوا على إزالة المظاهر المسلحة وإعادة جميع المخطوفين.
وفي اليوم التالي ...
عنوان رئيسي لصحيفة: «حواجز متنقلة تقتل أكثر من خمسين مواطنا على الهوية، العثور على عشرات الجثث، إلقاء قنبلتين من سيارة على مقر الحزب القومي الاجتماعي».
عنوان رئيسي لصحيفة أخرى: «الحركة الوطنية والمقاومة الفلسطينية يتهمان المكتب الثاني بالعمل على تخريب كل هدنة بالقيام بأعمال إرهابية ضد كل الأطراف».
عنوان رئيسي لصحيفة ثالثة: «لجنة ارتباط من خبراء مدنيين وعسكريين يمثلون حلف الأطلنطي، تعمل في غرفة عمليات وزارة الدفاع اللبنانية».
مدينة طرابلس، مؤتمر صحفي في مستشفى المدينة العام يعقده النقيب إسكندر نقولا المعلوف، يقول للصحفيين: «لقد انتدبت في مهمة من جول بستاني، رئيس المكتب الثاني، مع ضباط آخرين، لإلقاء القنابل في أماكن متفرقة من طرابلس من أجل إشعال الفتنة».
صحيفة «الأهرام» المصرية، عنوان رئيسي: «حسني مبارك، نائب الرئيس، يعلن أن الشيوعيين هم الذين يفجرون الأحداث في لبنان، وأنه ليست هناك حركة وطنية وإنما مجرد تغطية لأهداف الشيوعية الدولية».
القاهرة، مبنى مجلس الشعب، الدكتور صوفي أبو طالب رئيس المجلس يؤكد أن هناك توجيها من الرئيس «المؤمن» أنور السادات يجعل الشريعة الإسلامية أساسا لقوانين الدولة بحيث تطبق على غير المسلمين، يقول لأحد الصحفيين إن هناك مشروع قانون مقدما للمجلس عن «أحكام الردة» يقضي بالإعدام شنقا لمن يخرج عن الدين.
بيروت، ممثلو الأطراف المتقاتلة حول مائدة مستديرة، المجتمعون يتبادلون قوائم المخطوفين، يستخدمون التليفون في العمل على إطلاق سراح أعداد كبيرة منهم، الجميع يصرحون للصحفيين أنه لا توجد علاقة بينهم وبين حوادث الخطف.
عنوان صحيفة لبنانية: «قوة إسرائيلية تعبر الحدود وتقيم حاجزا وتخطف مواطنين لبنانيين».
دائرة حول فقرة من صحيفة «واشنطون بوست»: «اليسار اللبناني خرج من معركة بيروت الأخيرة أقوى عسكريا، لكنه أقل تلاحما؛ فبعد سبعة شهور من القتال استطاع أن يحقق نصرا واضحا على الكتائب.»
رشيد كرامي للصحفيين: «لا بد من تعديل نسبة تمثيل المسلمين في مجلس النواب وجعلها مناصفة.»
الإذاعة اللبنانية: .. إلى الأهل، نحن بخير، طمنونا عنكم.
عنوان: «التقديرات الأولية لضحايا المعارك: 8 آلاف قتيل، و40 ألف جريح.»
11
لم تكن أنطوانيت في غرفتها عندما ذهبت إليها في اليوم التالي. وكان الباب مغلقا فاضطررت إلى انتظارها في غرفة المونتاج. وقضيت الوقت في قراءة الصحف والمجلات، ثم جذبت جهاز التليفون، ومددت يدي إلى جيب سترتي الأعلى حيث أحتفظ بمفكرتي عادة. كان الجيب خاليا، ففتشت بقية جيوبي، وفي حقيبة يدي. وتذكرت فجأة أني وضعتها على الكومودينو المجاور للفراش ، عندما كنت أرتدي ملابسي، ونسيتها هناك.
وصلت أنطوانيت بعد ساعة برفقة شاب وسيم يصغرها في السن بعامين أو ثلاثة. وكان وجهها مضرجا من الانفعال. اعتذرت عن تأخرها، وقدمت لي رفيقها على أنه رسام سوري، ثم انصرفت إلى إعداد القهوة.
عرض علي الشاب بيانا موجها إلى الحكومة السورية يطالب بالإفراج عن عدد من المثقفين اليساريين الذين اعتقلوا أخيرا في دمشق. وكان ثمة عدة توقيعات أسفل البيان. وسألني أن أضع توقيعي، ففعلت.
شربنا القهوة، ثم حملنا علب الفيلم إلى مائدة المونتاج. وغادرنا الشاب ليواصل جمع التوقيعات، فبدأنا العمل.
الفصل الثاني من الفيلم
الصفحة الأولى من جريدة «النهار» اللبنانية، صورة الرئيس فورد، العنوان الرئيسي: «الرئيس الأمريكي يقول: الولايات المتحدة ستعمل كل ما في وسعها للمحافظة على الحرية والديمقراطية في لبنان».
صحيفة «نيويورك تايمز»، دائرة حول فقرة من مقال: «... السلاح الغربي يتدفق على اليمين اللبناني، وتمويله بواسطة الكنيسة المارونية والمملكة العربية السعودية».
مطار بيروت، كوف دي مورفيل، المبعوث الفرنسي، يهبط درج طائرة.
دائرة حول فقرة من مجلة «ليكسبريس» الفرنسية: «فرنسا، عراب الميثاق، تأتي اليوم لتؤكد أنها لم تتخل عن المسيحيين.» فقرة أخرى من نفس المقال: «المبعوث الفرنسي يلمح إلى مسئولية الفلسطينيين عن أزمة لبنان.»
صفحة من مجلة سويدية تتصدرها صورة فوتوغرافية لعدد من الشبان الملتحين، في جلاليب بيضاء، يطاردون شبانا آخرين في قمصان وبنطلونات، أحد الملتحين يلوح بمطواة من نوع «قرن الغزال»، في الخلف تبدو ساعة جامعة القاهرة، الكاميرا تركز على عبارة أسفل الصورة، بينما تظهر ترجمتها إلى اللغة العربية على الشاشة «سلاح ذو حدين».
دائرة حول فقرة من الصفحة المذكورة، تظهر ترجمتها على الشاشة: «استمع أنور السادات إلى نصيحة صديقه المليونير عثمان أحمد عثمان، وعهد إليه هو والمحافظ عثمان إسماعيل، بتسليح عدد من المتطرفين المسلمين ليرهب بهم معارضيه ويتقرب إلى التيار الإسلامي بالبلاد، وما أغفله السادات هو أن المدى سلاح ذو حدين.»
الصفحة الأولى من صحيفة إسرائيلية، صورة شيمون بيريز، وزير الدفاع الإسرائيلي، أسفل عنوان مستمد من تصريح له يقول فيه: «الحرب الأهلية اللبنانية حرب دينية، ودليل على استحالة إنشاء دولة فلسطينية تشارك فيها جميع الأديان».
صحيفة النهار اللبنانية، عنوان رئيسي على الصفحة الأولى: «لجنة الكسليك، تدعو إلى إعلان الحياد اللبناني بين العرب وإسرائيل».
سرب من الطائرات الإسرائيلية يحلق على ارتفاع منخفض فوق حقول تين وزيتون، أسراب أخرى فوق مخيمات ترفع الأعلام الفلسطينية واللبنانية.
العنوان الرئيسي لصحيفة «السفير»: «30 طائرة إسرائيلية تغير على الجنوب، مقتل 60 في المخيمات والقرى، وجرح 140، وتهدم 70 منزلا».
مبنى الأمم المتحدة، اجتماع لمجلس الأمن، أمام أحد الجالسين لافتة باسم منظمة التحرير الفلسطينية.
مذيع أمريكي متعجل: «لأول مرة تشارك منظمة التحرير الفلسطينية، رغم المعارضة الأمريكية العنيفة، في مناقشات مجلس الأمن حول الاعتداءات الإسرائيلية».
صحيفة «السفير»، صورة المطران «إيلاريون كبوجي»، العنوان يقول: «كبوجي يضرب عن الطعام في سجنه»، عنوان آخر: «رسالة مهربة من المطران السجين»، عنوان ثالث بنص الرسالة: «إلى الأهل في الجنوب الصامد: ما زلنا على العهد، فلسطين في القلب».
دمشق، بيار الجميل يصعد درج قصر الرئاسة.
عنوان: «وفي اليوم نفسه ...»
بيروت الشرقية، نهر من السيارات المسرعة التي تدق أبواقها بصورة متصلة وتتجه إلى المتحف، حيث نقطة العبور إلى المنطقة الغربية، المارة يجرون، عدد من المسلحين في ملابس سوداء يطاردونهم، موسيقى البوب تنبعث من أجهزة الراديو.
ساحة البرج، الفواكه وصناديق البيبسي كولا والسفن أب متناثرة في عرض الطريق، رجال يجرون، أحدهم انكمش في ملابسه من البرد، الآخر غطى رأسه بقلنسوة روسية، ثالث يضع طاقية شعبية، في الخلف دار للسينما تعرض الفيلم المصري: «احترسي من الرجال يا ماما».
عنوان: «السبت الأسود
في يوم السبت 6 ديسمبر (كانون الأول) 1975، وبعد فترة من الهدوء النسبي، أطلقت ميليشيا الكتائب مقاتليها في ساحة الشهداء وباب إدريس، فقاموا بخطف العشرات، وقتلوا أغلبهم، ثم حملوا الباقين إلى مقار حزبهم، فذبحوهم أمام أبوابها. وقاموا بمهاجمة المكاتب الحكومية، وخاصة شركة الكهرباء، حيث اغتالوا أكثر من مائتي مسلم. كما هاجموا المرفأ وأطلقوا النار على عماله، ثم ألقوا بجثثهم في البحر.»
مبنى شركة الكهرباء، المملوكة للدولة، في بيروت الشرقية، الكاميرا تركز على نافذة في الطابق الثالث عشر.
عنوان: «نجا رئيس الشركة، فؤاد بزري، المسلم السني، من المذبحة بفضل علاقاته الوثيقة برئاسة الجمهورية؛ إذ عمل من قبل مستشارا لاثنين من الرؤساء؛ فقد تلفن لمساعد الرئيس فرنجية، واتصل هذا على الفور بقيادة الكتائب، فتم تأمين حياته.»
مفترق طرق في بيروت، عربة يد ذات إطارات ثلاثة من الكاوتشوك، صحون وأكواب وأدوات منزلية تغطي سطحها، يدفعها صاحبها بسرعة وقد أحنى رأسه محتميا ببضائعه، قذيفة قوية تصيبه فتطوح به فوق عربته والدماء تنزف منه.
الإذاعة اللبنانية: مجددا نحن معكم، لا تتحركوا من منازلكم، كل الطرق غير آمنة.
سيارة فولكس فاجن انغرزت إطاراتها المثقوبة في الأرض، هيكلها امتلأ بثقوب متجاورة متساوية الأحجام إلا عندما يلتحم ثقبان منها.
ردهة مستشفى، أنين الجرحى، سلال مهملات يحوم حولها الذباب، السلال تمتلئ بالأقدام المقطوعة والعيون السائلة.
صحيفة «السفير»، العنوان الرئيسي: «قيادة الكتائب تعترف، الميليشيا تمردت وخطفت وقتلت».
دائرة قلمية حول فقرة من مقال بصحيفة «ليموند» الفرنسية: «دارت مذبحة يوم السبت في عدة أحياء من بيروت، وبطريقة منظمة للغاية، فهل هم أنصار تقسيم لبنان، أم عملاء أجانب إسرائيليون وأمريكيون، كما يقول الزعيم الماروني المستقل ريمون إدة، أم متطرفون يحلمون بلبنان مسيحي صغير؟»
متراس من الأتربة، شاب في ملابس عسكرية انحنى فوق مدفع كلاشينكوف، خلفه شاب ملثم ب «الحطة» الفلسطينية المزركشة، يثبت صاروخا من صواريخ أر بي جي الروسية المضادة للدبابات، استعدادا لإطلاقه، الشاب يحمل خزانة الصواريخ على ظهره.
شاطئ البحر، النار والدخان يتصاعدان من فندق فينيسيا الفخم.
العنوان الرئيسي لصحيفة «السفير»: «القوات الوطنية تقوم بتطهير منطقة الفنادق».
شارع كورنيش المزرعة، مكتب منظمة التحرير الفلسطينية، مصفحة تابعة للجيش اللبناني تطلق النار على المبنى.
العنوان الرئيسي لصحيفة «السفير»: «الانعزاليون يحتلون حارة الغوارنة بعد أن أحرقوا 300 منزل، وأسروا النساء والأطفال والشيوخ».
مستشفى الأمراض العقلية جنوب بيروت، قرب طريق دمشق الدولي، داخل حديقة مسورة، عدد من المرضى بملابسهم المخططة يتريضون في الشمس، الطريق المؤدي إلى المستشفى، سيارة عسكرية تقبل مسرعة وتتوقف أمام بوابة المستشفى، يغادرها عدد من المسلحين، يقتحمون المستشفى عنوة ويخرجون بنزيل شاب، النزيل يبدو على صلة ما بأحد المسلحين، عدد من المرضى ينتهزون الفرصة ويندفعون خارج المستشفى، يمضون بخطوات سريعة في الطريق المؤدي إلى المدينة، أحدهم كهل يضع على رأسه طاقية حمراء.
شارع وسط بيروت، جثث عارية مشوهة ملقاة على مسافات متباعدة بعرض الطريق، فتاة عارية يتدفق الدم بين فخذيها، إلى جوارها زجاجة يلوث الدم عنقها، شاب مجرد من أعضائه التناسلية، إلى جواره شاب آخر يرقد على بطنه وتبرز من مؤخرته الأعضاء التناسلية المقطوعة للآخر.
الطريق المؤدي إلى مستشفى الأمراض العقلية عند الغروب، المريض الكهل ذو الطاقية الحمراء يهرول عائدا نحو البوابة الحديدية للمستشفى.
دائرة حول فقرة من صحيفة أمريكية: «أسفرت الأيام الأخيرة عن بوادر انقسام في صفوف جبهة الأحزاب «الوطنية والتقدمية» في لبنان؛ فقد طالب رشيد كرامي بوقف الاقتتال، بينما أعلنت الجبهة عزمها على الاستمرار في المعركة ضد الوجود المسلح للمسيحيين، وإذا بمجموعة من الأحزاب والتنظيمات المرتبطة بسوريا، بالإضافة إلى «المحرومين» أتباع الإمام الصدر، تعلن تأييدها لكرامي، وتبدو المقاومة الفلسطينية عازفة عن التورط في مزيد من القتال، وهي تبذل لذلك مساعي مكثفة لعمل مصالحة بين كرامي وجنبلاط، واستئناف الحوار من أجل وقف إطلاق النار.»
عنوان صحيفة: «طوني فرنجية زعيم ما يسمى ب «جيش التحرير الزغرتاوي» يعلن: نحن مرتاحون في منطقتنا، ولسنا بحاجة إلى العاصمة».
العنوان الرئيسي لجريدة «السفير»: «المقاومة الفلسطينية تبذل المساعي لوقف القتال بين أهالي زغرتا وطرابلس».
دمشق، مدخل قصر الرئاسة، رشيد كرامي وجول بستاني، رئيس المكتب الثاني اللبناني، يرتقيان الدرج.
بيروت، أجراس الكنائس، مقر البطريرك الماروني في بكركي، سيارة دبلوماسية ترفع العلم الفرنسي أمام الباب.
عنوان: «كالعادة، رأس سفير فرنسا القداس «القنصلي» في عيد الميلاد.»
مطار دمشق، الملك خالد، ملك السعودية يهبط درج طائرته.
عنوان: «قدمت السعودية بالاشتراك مع دول الخليج، ثلاثة مليارات من الدولارات لسوريا، كمساعدة مالية عن عام 1975، وبلغت ميزانية سوريا التقديرية لعام 1976 ستة عشر مليارا من الليرات السورية؛ منها تسعة مليارات من السعودية والخليج.»
العنوان الرئيسي لصحيفة سعودية: «متحدث باسم الملك خالد يقول إن السعودية تؤيد الجهود العربية لحل الأزمة اللبنانية من خلال سوريا وحدها».
دمشق، وزير الخارجية السوري للصحفيين: «لبنان كان جزءا من سوريا، لو قسم سنضمه».
بيروت: كميل شمعون للصحفيين: «كنت أتمنى أن يتمكن من استعادة الجولان قبل التفكير بضم لبنان».
جانب من صحيفة لبنانية تتصدره صورة زهير محسن، عنوان: «رئيس منظمة الصاعقة يحذر من أي انتصار كبير على الانعزاليين؛ لأنه سيستدرج تدخلا إسرائيليا».
العنوان الرئيسي لجريدة السفير: «الكتائب والأحرار بمساعدة الجيش يقتحمون مخيم ضبية الفلسطيني الذي يبعد عشرين كيلومترا عن بيروت، مصرع وإصابة 47 من سكان المخيم».
عنوان: «يضم مخيم ضبية الصغير 200 عائلة فلسطينية مسيحية.»
العنوان الرئيسي لجريدة «السفير»: «مذبحة في المسلخ والكارنتينا يروح ضحيتها 500 قتيل، الكتائب تعلن سيطرتها على الكارنتينا وتهجير أهلها».
لقطات عامة لعشش الصفيح والخشب التي تتألف منها منطقة الكارنتينا، قرب مبنى المجلس الحربي ل «القوات اللبنانية» ذي الطوابق الثلاثة.
عنوان: «ضمت الكارنتينا ثلاثين ألفا من السكان، أغلبهم من الأكراد وفقراء الشيعة المهاجرين من الجنوب.»
صورة فوتوغرافية ثابتة لعدد من الشبان يرقصون فوق كوم من الجثث، أحدهم يقوم بفتح زجاجة شمبانيا، وسطهم فتاة في بلوزة وبنطلون تعزف على الجيتار.
صورة فوتوغرافية ثابتة لرجال من أعمار مختلفة، وقفوا ووجوههم إلى جدار مبنى خلفهم عدد من المسلحين الذين تتدلى الصلبان «الخشبية» الكبيرة من أعناقهم.
صورة فوتوغرافية ثابتة لموكب من النساء والأطفال يحمل أفراده رايات بيضاء، ليس بينهم رجل بالغ واحد.
مصنع أثاث «سليب كومفرت» أي «نم في راحة».
عنوان: «داخل هذا المصنع، تحصن بضع عشرات من الفلسطينيين المسلحين، من سكان الكارنتينا، وصمدوا في وجه الكتائب لمدة ثلاثة أيام حتى قتلوا عن آخرهم.»
على جانب الطريق العام، جلست امرأة فلسطينية ذات عيون واسعة وملامح قوية محددة، في وجه بيضاوي أحاط به منديل مزركش عقد أسفل ذقنها، إلى جوارها حشد من الأطفال الحفاة يتطلعون باسمين إلى الكاميرا وهم يرفعون أيديهم بعلامة النصر.
عنوان: «وبعد يومين ...»
بلدة الدامور، قصر كميل شمعون، مسكن فقير مهجور على حافة البلدة، حجرتان من الحجر، موقد ، جهاز تليفزيون، أدوات زراعية إلى جوار الجدار، صورة ملونة لمسيح حزين العينين ذي شعر أشقر طويل.
عنوان: «انتقاما لمذبحة الكارنتينا، هاجمت بعض القوات الفلسطينية واللبنانية اليسارية المتطرفة، بلدة الدامور المسيحية في الجنوب، التي تعتبر من معاقل النمور والكتائب. وبعد أن حاصرت قوات الميليشيات المارونية، طردت السكان من منازلهم وذبحت البعض منهم بينما احتمى الآخرون بالكنيسة. وتدخلت قوات «فتح» فحوطت الكنيسة لحماية من بها، ونقلتهم سالمين إلى بيروت، كما نقلت شمعون وابنه في طائرة هليكوبتر إلى بيروت الشرقية.»
الحدود السورية اللبنانية، ناقلات جنود سورية تعبر الحدود إلى داخل لبنان.
جريدة كويتية: «ألفا فلسطيني يقودهم ضباط سوريون دخلوا لبنان من سوريا، شمعون يرحب بالخطوة السورية».
جريدة النهار، صورة ريمون إدة فوق تصريح له: «رغبة كيسينجر في التوصل إلى اتفاق بين سوريا وإسرائيل، تجعله يحاول الحصول لسوريا على أجزاء من لبنان».
جريدة كويتية: «الجميل يعلن استعداده لإنهاء القتال على أساس قاعدة لا غالب ولا مغلوب».
جريدة النهار، عنوان رئيسي: «وزارة الخارجية الأمريكية تعلن اعترافها بالدور البناء الذي تلعبه الحكومة السورية في لبنان بعد الوصول إلى اتفاق وقف النار».
جريدة «السفير»: «نايف الحواتمة، زعيم الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين يعلن: لا أظن أن هدف سوريا هو احتواء المقاومة.»
جريدة فرنسية: «عناصر من منظمة الصاعقة التابعة لسوريا هاجمت بالصواريخ الثقيلة جريدتي المحرر وبيروت اللتين تمولهما العراق، وسقط 7 قتلى ضحية الهجوم بينهم الصحفي المصري إبراهيم عامر».
جريدة أمريكية: «الجميل يصرح لوكالة أ. ب: نحن نستورد أسلحة جديدة استعدادا لجولة أخرى.»
ريمون إدة لأحد الصحفيين: «إن حزب الكتائب الذي كان شعاره الله والوطن والعائلة، خالف الوصايا الإلهية، وقضى بتصرفاته على الوطن، وشرد عائلات الغير وهدم بيوتها، واستثمر الشعب، وما زال يفرض الخوة ويحصل الإتاوات على مواقف السيارات، ويجبي الرسوم التي مفروض أن تجيبها الدولة.»
أبو إياد، الرجل الثاني في فتح، لمندوب «السفير»: «هناك حوادث سلب ونهب قامت بها عناصر محسوبة على الثورة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية. لقد اغتنى بعض الأفراد، واغتنت بعض التنظيمات على حساب الثورة.»
جريدة الوطن الكويتية، تصريح لزهير محسن، رئيس الدائرة العسكرية لمنظمة التحرير الفلسطينية، وزعيم منظمة الصاعقة التي تمولها سوريا: «قيادة المقاومة في حاجة إلى دم جديد.»
عنوان في صحيفة أخرى: «هل يحل زهير محسن محل عرفات؟»
زهير محسن خارجا من مبنى منظمة التحرير في قميص ملون، في يده سيجار.
عنوان: «اشتهر زهير محسن باسم زهير عجمي، بسبب هوايته للسجاد الذي كان يجمعه من المنازل المدمرة والمنهوبة. وقد تزوج من ابنة تاجر سجاد، ثم اشترك مع أحد زعماء الكتائب، شقيق سفير لبنان في فرنسا، في تهريب الأسلحة قبل أن تغتاله رصاصات مجهولة على أبواب كازينو القمار في مدينة كان الفرنسية.»
جريدة «ليموند» الفرنسية: «القذافي ينفي أنه قدم مساعدات إلى أي من أطراف النزاع في لبنان».
جريدة النهار، صورة سليمان فرنجية وتحتها تصريحات له على رأسها قوله: «لبنان مختبر إنساني فذ».
جريدة الأنباء، صورة كمال جنبلاط أسفل تصريح له: «أتمنى أن يكون رئيس الجمهورية المقبل عنده شخصية ورجولة وثقافة أكثر».
جريدة كويتية: ««جورج حبش» زعيم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين يتهم سوريا بمحاولة فرض وصايتها على المقاومة، ويدعو القوى الوطنية إلى إقامة السلطة الشعبية على جميع الأراضي اللبنانية.»
جريدة السفير: «تمرد عسكري يقوده أحمد الخطيب مكونا «جيش لبنان العربي».»
جريدة النهار: «جنود صربا يتمردون ويستولون على أسلحة ومصفحات كتبوا عليها «جيش التحرير اللبناني»، ثم يقيمون حواجز ذهب ضحيتها 15 قتيلا مسلما.»
أحد الشوارع المتفرعة من الحمرا، نهارا، مجموعة من الرجال والنساء في ملابس تشي بانتمائهم للطبقة المتوسطة يقتحمون سوبر ماركت سبينز، ينهبون محتويات الحانوت من أطعمة وأجهزة كهربائية وخمور، يعودون بأحمالهم إلى حيث تركوا سياراتهم فيفاجأ بعضهم بأنها سرقت، تنشب معركة بينهم يتبادلون خلالها إطلاق الرصاص.
مطعم لي ريليه دي نورماندي، أثناء تناول طعام العشاء، مسلحون يندفعون إلى الداخل، يجمعون نقود الجالسين وساعاتهم ومجوهراتهم، يجبرون فتاتين على الخروج معهم.
جريدة السفير: «الأحزاب والقوى الوطنية تفوض كمال جنبلاط اتخاذ كل المواقف باسمها بشأن موضوع الحكومة.»
جريدة النهار: «الإمام الصدر والمفتي حسن خالد يطالبان بتعديل نسب توزيع المقاعد بين المسلمين والمسيحيين.»
جريدة الأنباء: «جنبلاط يقول: الزعماء التقليديون المسلمون الذين يعادون العلمانية ليسوا أفضل من الانعزاليين.»
مدخل قصر المختارة في جبل الشوف، أسفل البوابة الضخمة العتيقة وقف صفان من المسلحين في سترات وحطات مزركشة وقد خفضوا فوهات مدافعهم الرشاشة، جنبلاط يرحب بوزير الخارجية السوري عبد الحليم خدام.
صحيفة إسرائيلية، «مردخاي جور، رئيس الأركان الإسرائيلي، يقول: الحرب الأهلية في لبنان أسفرت عن لبنان جديد يختلف عن لبنان بصورته المعروفة. وهو سيشترك بصورة فعالة في أي مواجهة عسكرية جديدة مع إسرائيل.»
مؤتمر صحفي لكمال جنبلاط، يقول: «الناس يطلبون ثمنا لعشرة آلاف قتيل وعشرين ألف جريح أكثر بكثير مما ورد في بيان رئيس الجمهورية .. لا بد من تعديل الدستور وتبديل النظام السياسي بكامله والقفز فوق عتبات التقليديين، والانعزاليين المسيحيين والمسلمين على السواء، لغاية علمنة الدولة وإلغاء الطائفية السياسية .. الحركة الوطنية يجب أن تشترك في حكومة جديدة موسعة.»
صحيفة السفير: «66 نائبا من اتجاهات مختلفة بينهم رشيد كرامي وصائب سلام وكمال جنبلاط يطلبون استقالة فرنجية».
مطار بيروت، طائرة مدمرة تابعة للخطوط الجوية السورية.
صحيفة لبنانية: «جنبلاط يتهم المكتب الثاني بضرب الطائرة السورية لدفع سوريا إلى التدخل العسكري».
صحيفة العمل الناطقة بلسان حزب الكتائب: «الوفد الكتائبي يعود من دمشق بخطة جديدة أهميتها في سريتها».
ميناء بيروت، الكتائبيون ينهبون الميناء وينقلون محتوياته من سيارات وأجهزة كهربائية وسجاد وأدوات مختلفة إلى مخازنهم.
عنوان: «قدرت المسروقات بمليار دولار. وأصبح في وسع أي تاجر أن يدفع ستة آلاف دولار لأحد الكتائبيين مقابل أن يملأ شاحنته بما يشاء من السلع المنهوبة. ثم قام الكتائبيون بتقسيم الغنائم حسب أنواعها، وعقدوا لها مزادا عاما في كلية الإخوة المسيحيين بالجميزة.»
شارع المصارف في بيروت.
عنوان: «تنقل شارع البنوك بين عدة أيد قبل انهيار الجيش، لكن الإتاوات التي دفعها أصحاب البنوك بسخاء، حمتهم من الأذى، إلى حين؛ فقد قام رجال الكتائب والنمور بتجريد البنك الوطني مما به من نقد، ونهبت منظمة الصاعقة بنك دي روما. واستولى مسلحو الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين على محتويات الخزائن الخاصة للبنك البريطاني التي قدرت بأكثر من مائة وثلاثين مليونا من الدولارات. وعند انصرافهم بالغنائم اعترضهم مسلحو الصاعقة، فنشب قتال وجيز بين الجانبين حسمته لصالح الجبهة الديمقراطية مدافع ثقيلة وصلت محمولة فوق سيارات عسكرية.»
الهيكل الناقص لبرج المر، القذائف تنطلق من طابقه الرابع والثلاثين وتسقط في منطقة الفنادق التي تحصن بها مسلحو الكتائب.
واجهة فندق «هوليداي-إن»، ذي السبعة والعشرين طابقا، عمال الفندق يدلون بملاءات بيضاء من نوافذ الطابق الثاني، الردهة الداخلية للفندق، ثريات فخمة تتدلى من السقف. حشد من المسلحين الفلسطينيين الشبان يتجمعون أمام الكاميرا في صورة تذكارية، في أيديهم اليسرى مدافع كلاشينكوف، يرسمون باليمنى شارة النصر.
العنوان الرئيسي لجريدة لبنانية باللون الأحمر، العنوان يحتل أغلب النصف الأعلى من الصفحة الأولى: «سقوط الهوليداي-إن في أيدي القوات الوطنية».
واجهة الفندق مرة أخرى، على الإفريز أمامها جثة عارية منتفخة، هناك بقايا كيلوت فوق الفخذين، نفس اللقطة في صورة فوتوغرافية بصحيفة، أسفل الصورة هذه الكلمات: «قناص الهوليداي-إن الكتائبي، وقد سقط هكذا من الطابق الثاني والعشرين للفندق».
النار تشتعل في فندق السان جورج، أمام الفندق دبابة تبدو كلمة «الله» بجوار مدفعها، خلفها مصفحة تحمل صورة جمال عبد الناصر فوق عبارة «الاتحاد الاشتراكي العربي».
مسلح يحمل علم الكتائب ويقف خلف مدفع دوشكا، يرمي العلم ويجري تاركا المدفع.
عنوان صحيفة: «القوات الوطنية تحكم تطويق فندق الهيلتون والنورماندي، وتدفع الكتائبيين إلى الخلف حتى ساحة الشهداء.»
عنوان صحيفة: «جنبلاط يقول: وقف النار ليس واردا لدى الحركة الوطنية».
دائرة حول فقرة من جريدة «البعث» السورية: «... والأخطر امتداد اللعبة إلى بعض القوى الوطنية لتصبح طرفا في تثبيت تقسيم لبنان كأمر واقع، وترتد المؤامرة ليقع صف من الجانب الوطني في مقلب التقسيم والانعزال لهاثا وراء مكاسب آنية بحتة.»
عنوان في صحيفة لبنانية: «عرفات يعمل على تقريب وجهات النظر بين جنبلاط ودمشق.»
عنوان في صحيفة أخرى: «جنبلاط يجتمع إلى الأسد تسع ساعات.»
عنوان في صحيفة ثالثة: «فرنجية يهرب إلى جونية.»
عنوان في صحيفة رابعة: «جنبلاط يعلن: الطرف الآخر في طور الانهيار.»
جبل لبنان، أحدث الأسلحة وأثقلها وسط أكوام الجليد، مصيف عالية الجميل بشوارعه الدائرية وبيوته الحديثة الواطئة، القتال يدور من شارع إلى آخر.
طرابلس، النيران تشتعل في المدينة.
صيدا، سيارة محترقة تسد مدخل المدينة.
الحدود الجنوبية، حشود إسرائيلية كثيفة.
عنوان صحيفة: «القوات الوطنية منتصرة».
جريدة حزب البعث اللبناني التابع لسوريا: «جنبلاط يخرب المبادرة السورية لصالح المخطط الأمريكي».
عنوان في جريدة أخرى: «الموفد الأمريكي براون، الذي حضر مذبحة الفلسطينيين في الأردن سنة 1970، يعلن تأييد بلاده للمبادرة السورية.»
صحيفة واشنطون بوست، براون لمراسل الصحيفة في بيروت: «جنبلاط قال لي إن الحل الوحيد للمشكلة اللبنانية هو ذبح 12 ألف ماروني.»
مؤتمر صحفي لجنبلاط بعد اجتماع الأحزاب الوطنية والتقدمية: «جنبلاط: ليس هناك اتجاه لوقف إطلاق النار رغم الضغوط السورية.
صحفي: هل تنوي الاستمرار في المعركة إذا قرر الفلسطينيون وقف إطلاق النار؟
جنبلاط: نحن حركة لبنانية مستقلة بأهدافها؛ لأن لنا تطلعات لتبديل الدستور وتغيير النظام السياسي .. ليحل محله نظام ديمقراطي حقيقي يلغي التصنيف السياسي للمواطنين على أساس الأديان والمذاهب ويفصل بين الكنيسة والدولة .. لكن يبدو أن الأنظمة العربية تخاف قيام دولة ديمقراطية علمانية في الشرق؛ لأنه ليس هناك نظام سياسي عربي، باستثناء تونس، تبنى مبدأ العلمنة .. لا نطالب بدولة اشتراكية ولا بتأميم .. إننا نطالب بتغيير النظام السياسي الذي لم يعد يمكن النخبة اللبنانية من الوصول إلى الحكم .. لن نوقف القتال قبل استقالة رئيس الجمهورية».
كمال جنبلاط يغادر المؤتمر الصحفي فجأة، إثر اتصال تليفوني، ويستقل سيارته إلى مقر عرفات، جنبلاط ينضم إلى اجتماع من أبو عمار ونايف الحواتمة والمفتي حسن خالد، وأبو إياد وإنعام رعد وبشير عبيد.
عنوان في صحيفة السفير: «بعد اجتماع استمر ساعتين ونصفا، جنبلاط يقول: عرضنا الوضع مع عرفات ومدى الضغوط التي تمارس على الفلسطينيين، ونأسف لتعرض المقاومة الفلسطينية لأي ضغوط على صعيد التموين والأسلحة من أي دولة كانت».
عنوان: «وفي اليوم التالي ...»
عناوين الصحف: «أبو عمار يرحب بوقف إطلاق النار»، «الحركة الوطنية توافق على هدنة عشرة أيام يتمكن خلالها مجلس النواب من الاجتماع لانتخاب رئيس الجمهورية الجديد».
شارع الحمرا بالقرب من بنك بيبلوس، زحام الناس والسيارات، السلع المختلفة معروضة على الأرصفة، فتاتان صغيرتان وطفلة اقتعدن الأرض إلى جوار الحائط الرخامي لمتجر مجوهرات، الفتاتان تمدان أيديهما للمارة.
واشنطون، الملك حسين يرتقي درج البيت الأبيض، يتوقف ليعلن للصحفيين: «إني أؤيد أي تدخل سوري محتمل في لبنان لمواجهة محاولات المتطرفين تغيير تركيبة الحكم لصالحهم.»
صحيفة أمريكية: «كيسينجر يصف دور سوريا السياسي بأنه: كبح جماح العناصر اللبنانية الأكثر تطرفا».
صحيفة أمريكية بتاريخ 14 أبريل (نيسان): «كيسينجر يصرح بأن الولايات المتحدة وإسرائيل متفقتان على أن التدخل السوري لا يهدد إسرائيل».
مدرج دمشق، الرئيس حافظ الأسد يخطب: «إننا نملك حرية الحركة بشكل كامل ونستطيع اتخاذ المواقف التي نراها دون أن يستطيع أحد منعنا (تصفيق طويل وحاد)، نحن ضد من يصر على استمرار القتال .. قيل لي: نريد أن نحسم عسكريا، قلت كما نقول في العامية: بدكم عنب ولا تقتلوا الناطور؟ (تصفيق حاد).»
صحيفة كويتية: «فرنجية يبرق مهنئا الأسد على خطابه في مدرج دمشق»، «الجميل يمتدح خطاب الأسد واشتراكيته ويهاجم اليسار الدولي».
صحيفة إسرائيلية: «وزير الخارجية الإسرائيلي آلون: فيما يتعلق بلبنان، فإن السكوت من ذهب»، «إسحق رابين: إسرائيل رسمت خطا أحمر للقوات السورية هو نهر الليطاني».
صحيفة لبنانية: «الكتائب تخرق الاتفاق ال 35 لوقف إطلاق النار».
الصواريخ تضيء سماء بيروت في الليل.
صحيفة لبنانية: «600 قتيل وجريح في يومين».
مكتب الأمن العام اللبناني، زحام من أجل جوازات السفر للهجرة.
مؤتمر صحفي لإلياس سركيس يعلن فيه ترشيح نفسه لرئاسة الجمهورية ويرحب بتأييد سوريا له.
عنوان صحيفة: «الأحزاب الوطنية والتقدمية تدعو إلى الإضراب العام وتناشد النواب الامتناع عن حضور جلسة انتخاب سركيس».
فندق بريستول في بيروت الغربية، سيارات مدرعة تتوافد على باب الفندق ويهبط منها مدنيون يحملون حقائب يد متنوعة، عدد من المسلحين يرافقونهم إلى داخل الفندق.
عنوان: «في مساء 7 مايو (آيار) بدأت منظمة الصاعقة في جمع أعضاء البرلمان في فندق بريستول، وأصبح معروفا أن ملايين الليرات دفعت للأعضاء، منها ثلاثة ملايين تقاضاها كامل الأسعد رئيس مجلس النواب، مقابل عقد الجلسة وإحضار مجموعته البرلمانية. وأكد زهير محسن، زعيم الصاعقة، أنه لم يدفع إلا للذين أحضرتهم الصاعقة إلى مقر الجلسة، وأن هناك مصادر أخرى دفعت.
وفي نفس المساء، اتصل الشيخ بيار الجميل بكميل شمعون ووعده بإرسال شيك بمبلغ مليونين من الليرات السورية مقابل حضوره هو ومجموعته البرلمانية. وأصر شمعون أن يكون الدفع بالليرات اللبنانية؛ لأن السورية أقل منها قيمة. كما طلب أن يكون الدفع نقدا، فاتصل الجميل بمدير بنك لبنان-فرنسا، الذي أصبح وزيرا للمالية بعد ذلك في حكومة سليم الحص، وطلب منه سحب المبلغ من حساب صهره عضو مجلس إدارة البنك. وتوجهت سيارة فولكس فاجن إلى مقر البنك، فحملت المبلغ في حقائب، تحميها مجموعة من رجال الكتائب، إلى مقر شمعون الذي تحرك مع مجموعته البرلمانية فور تسلمه المبلغ.»
قصر منصور، المصفحات والمسلحون يحيطون بالمبنى الأثري، ذي العمارة التركية، أصوات قصف ورصاص، اثنان من المصورين الأجانب احتميا بهيكل سيارة، نائب متقدم في السن يعبر الطريق إلى مدخل القصر جريا، خلف ثلاثة من الحراس المسلحين بالمدافع الرشاشة، يجرون مطأطئي الرءوس، أمام مدخل القصر وقف رجل ضخم الجثة أبيض شعر الرأس، شاهرا مسدسه ليحمي باب سيارة خرج منه نائب محني القامة.
عنوان: «وقبل انعقاد الجلسة بلحظات، فاجأ كامل الأسعد ممثل منظمة الصاعقة بأن المبلغ الذي قبضه هو مقابل عقد الجلسة وحضوره هو شخصيا، ولا بد من دفع مبالغ أخرى إلى أعضاء مجموعته البرلمانية من أجل حضورهم، واستكمال النصاب القانوني للمجلس وهو 66 عضوا على الأقل.»
إلياس سركيس يغادر قصر منصور في حماية عدد من الضباط والجنود.
عنوان صحيفة: «انتخاب سركيس رئيسا جديدا للجمهورية».
عنوان صحيفة أخرى: «جنبلاط يقول: الأنظمة العربية جميعا رجعية حتى التي تدعي التقدمية، تحقيق العلمنة سيفجر الأنظمة العربية كلها».
عنوان صحيفة ثالثة: «الإمام الصدر يقول: لا فرق بين دعاة العلمنة والإسرائيليين».
عنوان صحيفة رابعة: «300 قتيل وجريح واشتباكات بين أنصار العراق وأنصار سوريا».
عنوان صحيفة خامسة: «قيادة الثورة الفلسطينية تدين حوادث العنف التي ارتكبتها عناصر من جيش التحرير الفلسطيني (التابع لسوريا) والقوات السورية ومنظمة الصاعقة، وتطلب من القيادة السورية رفع الحواجز التي أقامتها في مناطق مختلفة».
عنوان صحيفة إسرائيلية بتاريخ 13 مايو (آبار): «القوات السورية قتلت من المخربين في الأسبوع الماضي أكثر مما قتلت إسرائيل في العامين الماضيين».
مطار بيروت، طائرة سورية قادمة من دمشق، رئيس وزراء ليبيا جلود يهبط درج الطائرة مع ياسر عرفات.
البيت الأبيض في واشنطون، جيسكار ديستان، رئيس جمهورية فرنسا، يتحدث إلى الصحفيين في أحد الأبهاء: «من المحتمل أن ترسل فرنسا قوة مسلحة إلى لبنان؛ لتوفير الأمن، وقد تقاتل هذه القوة في بعض الأماكن الحساسة.»
مستشفى الجامعة الأمريكية ببيروت، الزعيم الماروني ريمون إدة في الفراش وفي مقعدين أمامه يجلس كمال جنبلاط ونايف الحواتمة.
عنوان: «في أعقاب محاولة فاشلة لاغتيال ريمون إدة، ذهب إلى بيار الجميل في بكركي واتهمه بتدبير المحاولة، وفي طريق عودته تعرض لإطلاق النار ومطاردة انتهت بإصابته برصاصة في ساقه».
عنوان صحيفة: «اغتيال ليندا جنبلاط، مسلحون ملثمون اقتحموا منزل شقيقة زعيم الحركة الوطنية بشارع سامي الصلح، واغتالوها، وأصابوا ابنتيها بجراح خطيرة».
جنازة ليندا جنبلاط، الآلاف يشيعونها.
صحيفة واشنطون بوست: «ثمة شكوك لا يمكن تفاديها بأن كيسينجر طرف أو شريك صامت فيما يشهده لبنان».
صحيفة لبنانية: «قوات من جيش لبنان العربي بقيادة المعماري تهاجم قرى مسيحية في الشمال، المقاومة الفلسطينية وجنبلاط يتهمان المعماري بخطة مشبوهة تهدف إلى تبرير دخول قوات سورية إلى المنطقة.»
صحيفة لبنانية: «المعماري يصرح: أريد أن أسألهم ليدلوني على فريق واحد في لبنان لا يتعاون مع إحدى الدول العربية، فلماذا يريدون إذن أن أقاوم سوريا وأتصدى لها وهي كانت وستظل قلب العروبة النابض؟»
إذاعة دمشق، برقيات استغاثة من بيروت إلى حافظ الأسد.
عنوان: «وفي اليوم التالي وهو الأول من يونيو (حزيران) دخل ستة آلاف جندي سوري منطقة زحلة، وقاموا بتجريد الفدائيين الفلسطينيين من أسلحتهم.»
12
جففت جسدي، وارتديت ملابسي الداخلية، ثم غادرت الحمام بعد أن أطفأت نوره. مررت بوديع جالسا أمام التليفزيون، وولجت غرفتي. أضأت النور ووقفت أمشط شعري أمام مرآة الصوان . وعندما تناولت قميصي وجدته مشبعا برائحة العرق، فألقيت به جانبا. وخرجت إلى الصالة وسألت وديع أن يقرضني أحد قمصانه.
أعطاني قميصا نظيفا أوشكت ياقته أن تبلى. وكان من النوع الذي لا يحتاج إلى كي، فلبسته على الفور. وأكملت ارتداء ملابسي ثم فتحت باب الصوان، وجذبت حقيبة سفري، وتناولت منها الكيس الذي أحتفظ فيه بملابسي المتسخة. وحانت مني نظرة إلى قاع الحقيبة فلمحت طرف مفكرتي أسفل بعض الأوراق.
دفعت بالقميص المتسخ إلى داخل الكيس، والتقطت المفكرة وقلبت صفحاتها. نقلت البصر بينها وبين قاع الحقيبة، ثم وضعتها في جيب سترتي، وحملت الكيس إلى الحمام.
ملأت حوضا من البلاستيك بالمياه، وأفرغت فيه محتويات الكيس، ثم خرجت إلى الصالة. أشعلت سيجارة وقلت: أخيرا وجدت المفكرة.
قال وديع دون أن يرفع عينيه عن التليفزيون: ألم أقل لك إنها لن تضيع؟! أين وجدتها؟
قلت: في حقيبة السفر، لكني متأكد أني تركتها على الكومودينو في الصباح.
قال في شيء من الحدة: جل من لا يسهو.
أطفأ التليفزيون وغادرنا المنزل. أخذنا سيارة أجرة إلى أحد الشوارع المتفرعة من كورنيش المزرعة. وتركنا السيارة أمام مبنى محطم، وولجنا مبنى مجاورا حديث البناء، ذا شرفات عريضة زينتها النباتات.
قال ونحن نرتقي الدرج: هل تحب أن تصعد إلى الجبل غدا؟ سأذهب مبكرا مع صحفية كندية. ويمكن أن أطلب منها إحضار صديقة لها.
فكرت لحظة ثم قلت: لا أظن أني أستطيع؛ فلا بد أن أعمل.
قال: غدا الأحد.
قلت: أعرف. سأعمل في البيت.
استقبلنا نزار بعلكي بوقار متكلف. وقادنا إلى صالة أنيقة الأثاث، احتلت جانبا منها مائدة طويلة من الخشب الثقيل، حفلت بزجاجات الشراب وأطباق الشواء والمزات. وأحاط بها عدد من الرجال الذين انهمكوا في نقاش صاخب.
جلست إلى جوار قصاص عراقي يعمل بإحدى دور النشر البيروتية. وكنت أعرف اثنين آخرين من الجالسين؛ أحدهما سينمائي سوري، منع البعثيون عرض فيلم له عن تربية الأرانب. والثاني باحث فلسطيني يحضر لدرجة الدكتوراه من جامعة القاهرة.
وضع نزار كأسا صغيرة فارغة أمامي وأخرى أمام وديع، وصب فيهما ملء إصبع ونصف من العرق، ثم أضاف نفس القدر من الماء وقطعة من الثلج. وابتلعت الكأس مرة واحدة.
تبينت أن النقاش يدور حول موقف الشيوعيين اللبنانيين أثناء الحرب الأهلية. وكان ثمة رجل ضخم الجثة ذو شارب كث، يدعى مروان، يتهمهم بالخيانة؛ لأنهم أضاعوا فرصة الاستيلاء على السلطة.
كان يتحدث بحدة وعنف غير عاديين، ويستخدم كلمات من نوع «الانتهازية اليمينية»، و«خيانة القضية». وعارضه بنفس الحدة والعنف، كاتب لبناني، مؤكدا أن أحدا ما كان سيسمح لهم بذلك، ابتداء من أطراف الجبهة اليسارية اللبنانية ذاتها حتى إسرائيل.
لاحظت أن نزار يصغي في اهتمام دون أن يشارك في النقاش. ونقل مروان هجومه إلى ميدان جديد قائلا: بماذا تفسر أنهم لا يرفعون إصبعا واحدا للدفاع عن المعتقلين اليساريين في سوريا؟
لم يتمكن اللبناني من الإجابة؛ إذ انضم إلينا في هذه اللحظة الرسام حامل العريضة، الذي لقيته عند أنطوانيت، ومعه شاب ذو سوالف طويلة وشفاه غليظة صافحني بحرارة، وأوشك أن يقبلني في فمي لولا أني نحيت وجهي في اللحظة المناسبة. وسرت في جسدي قشعريرة وأنا أرقبه يوزع قبلات الفم على الجالسين.
وجهت اهتمامي إلى صحن عريض من جمبري مشوي في أحجام كبيرة. ملأت صحني منه وأنا أحاول أن أتذكر إن كنت أكلت في حياتي جمبريا من هذا الحجم.
جرعت كأسا أخرى من العرق، وأقبلت أستمتع بملء فمي من اللحم الأبيض الطري، ثم أشعلت سيجارة. ورآني وديع أبحث عن منفضة، فوضع كأسه على طاولة صغيرة بجواره، ريثما التقط منفضة من فوقها وناولها لي.
نهض نزار فجأة منفعلا، فأحضر منشفة وهرع إلى الطاولة الصغيرة، فرفع الكأس من فوقها وجفف سطحها في عناية شديدة.
اضطرب وديع، ومد يده فتناول كأسه من نزار وهو يتمتم معتذرا، ودققت النظر إلى سطح الطاولة الذي خلته من الفورمايكا العادية.
خاطبني مروان بغتة: هل سمعت ما قاله السادات أمس لصحيفة جيروزاليم بوست؟
هززت رأسي نفيا. وأطرق وديع برأسه قائلا: أنا قرأته. ذكر أنه يقوم بإعداد قرار سياسي هام.
قال مروان: ووصف القرار بأنه سيكون خطوة تاريخية. ترى ماذا ينوي؟
قلت: لم يبق إلا الانضمام إلى حلف الأطلنطي أو عقد اتفاقية دفاع مشترك مع إسرائيل.
ذكر أحد الجالسين اسم زياد الرحباني، فتحول الحديث إلى مسرحيته الجديدة المسماة «فيلم أمريكي طويل». واستفسرت من نزار عن مغزى الاسم فقال إنه مشتق من برامج التليفزيون التي يوصف فيها فيلم السهرة عادة بهذه العبارة.
عقب مروان بطريقته الحادة القاطعة: زياد انتهى تماما. لقد فقد كل رصيده من أيام الحرب.
قال لي وديع موضحا: كان وقتها مع اليسار.
سألته: والآن؟
أجاب: لا أحد يعرف أين يقف.
ملأت كأسي وأنا أنقل البصر بين الجالسين حول المائدة. وتساءلت بيني وبين نفسي عن مدى انطباق عبارة وديع على كل واحد منهم.
13
لم تكفل لي كمية الشراب التي احتسيتها نوما عميقا متصلا؛ فقد شعرت بوديع عندما غادر المسكن في الصباح الباكر. ولم أتمكن من النوم بعد ذلك.
تركت الفراش أخيرا في تثاقل، فاغتسلت وأفطرت، وأعددت كوبا كبيرا من القهوة، ثم جلست أراجع المشاهد التي سجلتها من الفيلم. وقبل الظهر بقليل دق جرس التليفون.
رفعت السماعة فجاءني صوت لميا: كيفك؟ هل أيقظتك من النوم؟
قلت: أبدا.
قالت: ماذا تفعل اليوم؟ هل ستتولى أمرك إحدى نساء بيروت؟
قلت: لا أعرف منهن غيرك.
ضحكت.
سألتها: هل قرأت الكتاب؟
قالت: قرأت جزءا كبيرا منه. لكن نتكلم فيما بعد. ما رأيك في أن أدعوك للغداء؟
قلت: هذا شرف كبير لي.
قالت: سأمر عليك بعد ساعة بالتمام.
قلت: لكن من غير مرافق.
ضحكت وقالت: سأحاول. على أي حال اليوم عطلة عند الجميع.
وصفت لها موقع المنزل وأعدت السماعة إلى مكانها. أشعلت سيجارة وبحثت عن زجاجة من الكونياك الفرنسي كان وديع قد ابتاعها منذ يومين، فأفرغت منها كأسا تشممتها في استمتاع. وأخذت رشفة احتفظت بها في فمي لحظة قبل أن أبتلعها.
مضيت إلى الحمام فتأملت وجهي في المرآة وتحسست ذقني. حلقت، لكن الصورة التي طالعتني لم تتحسن كثيرا. أخذت حماما سريعا أحسست بعده بالانتعاش. كانت السماء ملبدة بالغيوم، وثمة لسعة برد في الجو، فارتديت بزتي الكاملة، وجلست أحتسي كأسي في الصالة.
فرغ كأسي فملأت واحدة جديدة. وما إن أتيت عليها حتى جاءني من الشارع صوت «زمور» سيارة، كما يسميه اللبنانيون. وتكرر الصوت فأسرعت إلى الشرفة. رأيت رأسها بارزا من نافذة السائق في سيارة بيضاء من مقعدين. لوحت لها بيدي وأسرعت إلى الداخل بعد أن أغلقت باب الشرفة. وتناولت رشفة من زجاجة الكونياك مباشرة، ثم هبطت إلى الطريق.
فتحت لي باب السيارة، فلفحني عطرها وأحاط بي وأنا أستقر إلى جوارها. كانت ترتدي بنطلونا أبيض وبلوزة حريرية من نفس اللون، وتضع على كتفيها صديرية وردية اللون من الصوف. وكان شعرها مضموما في خصلة واحدة استقرت على صدرها. وأحاطت بعنقها قلادة عريضة من اللؤلؤ.
اتجهت السيارة إلى الروشة. وأتاني الهواء باردا من النافذة، فممدت يدي بحثا عن المقبض الذي يرفع زجاجها، لكنها استوقفتني قائلة: لا تتعب نفسك.
ومدت إصبعا ذا طرف قرمزي، فضغطت زرا أمامها. وبدأ الزجاج «الفيميه» يرتفع من تلقاء نفسه.
ضغطت زرا آخر، فانسابت موسيقى فيلم «الأب الروحي». واسترخيت في مقعدي أتأمل الشوارع الخالية والمتاجر المغلقة والهدوء السائد.
قالت: لو بقيت معنا حتى الكريسماس ستستمتع بالثلج.
قلت: لا أحبه كثيرا.
قالت: أما أنا قأعشقه. أمنيتي أن أذهب إلى موسكو.
التفتت نحوي وتطلعت إلي كأنما تسألني رأيي.
قلت: موسكو مدينة تستحق أن ترى.
قالت: هل تحصل لي على دعوة؟
نظرت إليها مدهوشا: من تظنينني؟ مندوب الكومينترن في الشرق الأوسط؟
ضحكت وقالت: ألا تقبض منهم؟
قلت: طبعا.
اخترقنا عدة شوارع قبل أن يتجلى لنا البحر. وتوقفنا أسفل لافتة بارزة تعلن عن مطعم.
سألتها إن كان لديها زر يفتح الباب، فضحكت قائلة: ليس بعد.
غادرنا السيارة، وتقدمتني بخطوات رشيقة مغناجة إلى مدخل المطعم. وتبعتها وأنا أتأمل حركة ردفيها في البنطلون الضيق.
اجتزنا المدخل إلى حديقة واسعة، قسمت إلى خمائل مستقلة، تضم كل منها عدة مقاعد مريحة وطاولة عريضة من القش.
كنا الزبائن الوحيدين تقريبا ، فاحتفى بنا عدد من النوادل في تهذيب بالغ. طلبنا عرقا وشواء. وسرعان ما امتلأت المائدة بأطباق التبولة والكبة والحمص والطحينة والفجل الأحمر والنعناع الأخضر واللبن.
جرعت كأسا من العرق، واكتفت هي برشفة واحدة ثم قالت: مشكلة كتابك أن توزيعه يكاد يكون مستحيلا. - لماذا؟ - أنت لم تترك نظاما واحدا من الأنظمة العربية دون تعريض، ثم إن هناك قدرا كبيرا من الجنس.
أشعلت سيجارة وقلت: لقد ذكرت كل هذا لعدنان في مراسلاتنا. لكنه لم يعترض على شيء. - لا أظن أنه تصور أنك ستتمادى إلى هذا الحد. - والنتيجة؟
مدت يدا حفلت بالخواتم الفضية، فوضعتها فوق يدي قائلة: لا تنزعج. أنا لم أقرأه كله بعد، ثم إن عدنان له الرأي الأخير، وأعتقد أنه مهتم بأن ينشر لك. - إذن دعينا من هذا الموضوع وحدثيني عن نفسك.
رفعت حاجبيها: ليس هناك ما يحكى. - حاولي. - أنا أكذب كثيرا. - لا بأس.
قالت وهي تدير كأس العرق بين أصابعها: كنت دائما أتمنى أن أكون كاتبة. تزوجت عن حب. وزوجي تحسدني عليه الأخريات. عندي بنت في السادسة. عملي مع عدنان يملأ حياتي. وقد حصلت عليه بعد صراع طويل مع عائلته التي كانت تريدني في دور ربة المنزل .. هذا هو كل شيء.
لم أرفع عيني عن بشرتها الموردة وشفتيها الناعمتين.
سألتني: وأنت .. متزوج؟
أجبت: كنت. - والآن لديك طبعا صديقة؟ - زوجتي كانت صديقتي الوحيدة. - معقول؟
أشعلت سيجارة وقلت: بودي لو تجمعين شعرك إلى الخلف.
رفعت يديها إلى شعرها وضمته إلى الخلف، ثم عقدته على هيئة ذيل حصان.
استأذنت مني كي تغادر المائدة، وغابت بضع دقائق. وقالت بمجرد عودتها: ما رأيك في أن ننصرف؟
قلت: لكن القنينة لم تفرغ بعد.
قالت: لا بد أن أمر على المنزل من أجل ابنتي.
غادرنا المطعم وانطلقنا إلى وسط المدينة. وأدارت الراديو فجاءتنا موسيقى غربية خفيفة، لكنها حركت المؤشر، وانتقلت به من موسيقى كلاسيكية إلى نشرة الأخبار وبرنامج للأطفال. واستقرت به أخيرا عند أغنية لفريد الأطرش.
ظل نحيب فريد الأطرش يتردد في أذني حتى وصلنا إلى قرب مبنى التليفزيون. أوقفت السيارة أمام مبنى فخم ذي مدخل عريض، يتألف من عدة طبقات من الدرجات الرخامية.
كان ثمة عدد من الحراس في ملابس مدنية، اصطحبنا أحدهم إلى أحد المصاعد، وأخرجت لميا مفتاحا من حقيبة يدها، ففتحت باب المصعد. ولجته خلفها ووقفت أتأمل لوحة الأزرار التي توسطها زر واحد لا غير.
خطوت خلفها عندما توقف المصعد، فغاصت قدماي في طبقات من السجاد الوثير. وألفيتني في ردهة فاخرة الأثاث. وتبعتها إلى غرفة واسعة تغطي الأخشاب المزخرفة جدرانها.
قالت: لحظة.
وتركتني.
كان ثمة كنبة عريضة، ذات رياش سميك أبيض اللون تمتد بطول أحد الجدران، تحمل عددا لا حصر له من الوسائد الصغيرة في ألوان من درجات الأبيض والبني. وأمامها مقاعد من نفس الطراز. وطاولة خشبية واطئة، ذات سطح مصقول وحافة سميكة.
وحل محل الجدار الثاني، مصراعان كبيران منزلقان من الزجاج، ظهرت خلفهما قاعة أخرى، تدور بجدرانها مقاعد ذات ظهور عالية مذهبة، ومزينة بالنقوش العربية، وطاولات صغيرة تعلوها صوان من النحاس، استقرت بينها مرآة كبيرة، أوشكت أن تلمس السقف.
أما الجدار المواجه للكنبة، فشغلته ثلاث لوحات زيتية ذات أسلوب حديث، ومكتبة خشبية.
اقتربت من المكتبة، وقلبت بين كتبها. كانت هناك نسخة فاخرة من القرآن، وعدة روايات لإحسان عبد القدوس، وطبعة جيب من كتاب الدكتور سبوك عن رعاية الطفل، وترجمة إنجليزية لرواية فرنسية تدعى «إنجيليك والسلطان»، بالإضافة إلى عدة مجلات أمريكية، وأخرى نسائية فرنسية. وتبينت فيما خلته للوهلة الأولى صفا من كتب الجيب الأمريكية، علبا من أفلام الفيديو، تضم أحدث الميلودرامات المصرية. وكان الجهاز نفسه فوق رف مستقل. وانفردت صورة فوتوغرافية متوسطة الحجم لعدنان الصباغ، في إطار مذهب، برف آخر.
تأملت وجهه الباسم، ثم اتجهت إلى مقعد بمسندين إلى جوار الكنبة، فغصت فيه. ورحت أتأمل واحدة من اللوحات الزيتية تتألف من صفوف طولية متوازية من مربعات بيضاء صغيرة تحيط بها مربعات حمراء أكبر منها حجما. وفي نقطة من منتصف اللوحة، لا تتضح لأول وهلة، كان الحال ينقلب، فتصبح المربعات الحمراء هي الأصغر داخل المربعات البيضاء.
أحضرت فتاة عادية الملامح، في ملابس نظيفة وحذاء ، صينية الشاي. وكان الإبريق الخزفي على شكل عصري ذي خيوط انسيابية، ويد عريضة مطلية بماء الذهب. وتألف إناء السكر من كتلة واحدة يعترضها في المنتصف خط رفيع لا يكاد يبين، يفصل بين الإناء وغطائه المذهب.
صببت لنفسي فنجانا، وقلبت محتوياته بملعقة مذهبة. وكنت أهم بإشعال سيجارة عندما عادت لميا، فجلست على الكنبة، وسألتني أن أعطيها واحدة.
قالت: هل أعجبك منزلي؟
قلت: جدا. رغم أني لم أر غير جانب صغير منه.
قالت ضاحكة: سترى الباقي فيما بعد.
صببت لها الشاي وسألتها عن ابنتها فقالت: ذهبت إلى عمتها.
أخذت من فنجانها رشفة ثم وضعته على المائدة ونهضت واقفة وهي تقول: هيا بنا.
تبعتها إلى المصعد. وقالت ونحن نهبط: تحب أن نذهب إلى المسبح؟
قلت: في هذا البرد؟
لم تعلق، وركبنا السيارة. وجعلت تقود وهي ساهمة.
سألتها بعد قليل: إلى أين؟
قالت: لا أعرف، أين تريد أن تذهب؟
قلت: ليس إلى مكان محدد.
مررنا بملصق يحمل إعلانا عن فيلم لروجيه فاديم تقوم ببطولته «سيلفيا كريستيل». وكنت قد رأيتها في فيلم «إيمانويل» الذي قامت فيه بدور امرأة تستمتع بكافة أشكال الجنس.
قالت لميا: لقد رأيتها شخصيا.
قلت: وجهها يعجبني جدا، تعالي نتفرج عليها.
قالت: لو رآني أحد معك في السينما تصير قصة. سأوصلك إلى منزلك.
لزمت الصمت حتى بلغنا المنزل فقلت: ما رأيك في فنجان من القهوة عندي؟
قالت: تقصد عند وديع؟
قلت: وديع في الجبل ولن يعود قبل المساء.
قالت بلهجة الأفلام المصرية: أوكي يا بيه.
كان هناك مكان فارغ أمام المنزل مباشرة، يتسع للسيارة. لكنها قامت بعدة مناورات، لتقف في زقاق جانبي بمنأى عن الطريق العام.
شعرت بقذارة المسكن والفوضى المتفشية في أرجائه بمجرد دخولنا. أجلستها في الصالة ثم فتحت باب الشرفة، ورحت أجمع الكتب والمجلات والملابس المتناثرة على المقاعد، ثم أحضرت زجاجة الكونياك وكأسين. وضعت كأسا أمامها، فألقت بيدها فوقها وأتلعت رأسها ناحيتي قائلة: القهوة.
صببت لنفسي كأسا جرعتها مرة واحدة، ومضيت إلى المطبخ فأعددت القهوة. وتركتها تغلي بعض الوقت لتكتسب المرارة التي يحبها أهل الشام، ثم حملتها في فنجانين فوق صينية مستديرة من البلاستيك الملون.
سألتني وأنا أصب لها: ما هي أخبار الفيلم؟
قلت: كيف عرفت؟
قالت: بيروت مدينة صغيرة لا يخفى فيها شيء.
قلت: ستنتهي بعد أسبوع تقريبا.
ابتسمت في خبث وقالت: أنطوانيت مخرجة جيدة.
قلت وأنا أجلس في مواجهتها: فعلا. - أرجو ألا يكون الفيلم عن بطولات الفلسطينيين وتضحياتهم. - وماذا لو كان؟
هزت كتفها وقالت: لا شيء. سوى أننا مللنا هذا النوع من الأفلام، ثم إنهم سبب البلاء الذي نعيش فيه.
لم أعلق. وسألتها بعد لحظة: هل كنت في بيروت أثناء الحرب الأهلية؟
قالت: لا. كنت في لندن طول الوقت.
بدأت أشعر بالصداع فقمت أبحث عن قرص من الإسبرين. ووجدت واحدا في حقيبتي، فابتلعته برشفة من الكونياك وعدت إلى مقعدي.
تأملت شفتيها ثم قلت لها فجأة: نفسي أبوسك.
خرجت الكلمات من فمي ثقيلة بفعل الخمر. وتململت هي في مكانها بخجل مفتعل، فانتقلت إلى جوارها على الكنبة وأحطتها بذراعي.
قالت: الشرفة.
قمت إلى الشرفة فبسطت الستارة فوق بابها. وعدت إلى مكاني بجوارها، ثم استدرت بكل جسدي نحوها.
رفعت إلي فمها، فوضعت شفتي عليه، واستمتعت بلمس شفتيها الناعمتين. حركت فخذها وألصقته بي، ثم لمستني بركبتها بين فخذي، وأمكنها أن تتبين أني لم أكن مشدودا.
تخلصت مني برفق دون أن تبعد ركبتها. وأردت أن أقول شيئا، ففتحت فمي، وبدا لي أن لساني يتحرك بصعوبة بالغة.
كان اليوم مليئا بالأخطاء؛ فقد بدأت الشراب في ساعة مبكرة، ثم خلطت بين أنواعه. والآن أردت أن أقول لها شيئا فخاطبتها باسم زوجتي السابقة.
ابتعدت عني وقد اتسعت حدقتاها وشحب وجهها. وحاولت أن أشرح لها أن الحرف الأول من اسمها هو نفس الحرف الأول من اسم زوجتي، وأن الخمر أثقلت لساني. وأجهدتني المحاولة فركنت إلى الصمت.
قالت بعد لحظة: الوقت تأخر ولا بد أن أنصرف.
قلت: ابقي قليلا.
قالت: معليش. ربما جاء وديع. يجب أن أذهب.
رحبت في أعماقي بذهابها، فقمت واقفا. تناولت حقيبة يدها وسألتني عن مكان الحمام فأرشدتها إليه.
وقفت أنتظرها في الصالة حتى عادت بعد أن سوت شعرها وهيئتها. وصحبتها إلى الباب فقالت: لا داعي.
وضعت يدي على ذراعها، فاقتربت مني، قبلتها في شفتيها، وقلت بصوت حاولت أن أضفي عليه رنة الصدق: لا أريد أن تذهبي.
التصقت بي، وقوست فخذيها حتى أمكنها أن تلمسني. لكن شيئا هناك لم يكن قد تغير، فابتعدت عني قائلة: يجب أن أذهب.
رفعت يدها إلى وجهي ولمست خدي بأصابعها، ثم أضافت: شربت كثيرا اليوم. كلمني غدا.
قلت: سأفعل.
فتحت الباب، وهممت باستدعاء المصعد، فاستوقفتني قائلة إنها تفضل الدرج. ولوحت بيدها هامسة: باي باي.
انتظرت حتى اختفت في منحنى الدرج، ثم دخلت وأغلقت الباب خلفي.
14
ردت علي أنطوانيت تحية الصباح دون أن ترفع عينيها عن الأوراق المتناثرة فوق مكتبها. وعندما جلست على مقعد أمامها، اكتشفت أن جفونها متورمة، وأنها وضعت كمية كبيرة من الكحل لتخفي التورم، وشعرت أنها متوترة للغاية.
قامت إلى المطبخ الصغير المجاور وهي تقول: نشرب القهوة ثم نبدأ.
تناولت الصحف من فوق مكتبها، وألقيت نظرة سريعة على عناوينها. كانت المحاولات ما زالت مستمرة لإنقاذ مؤتمر القمة العربية المقرر عقده بعد أسبوع في عمان. وفي مسقط أعلن السلطان قابوس أن الاتحاد السوفييتي هو المسئول عن عدم الاستقرار في منطقة الخليج، وطالب دول الغرب بالتصدي لسياسة السوفييت التوسعية. وفي الخرطوم بحث مسئول أمريكي متطلبات الدفاع السودانية. وفي واشنطون أعلن بيجين أن حكومته لن تتخلى عن مرتفعات الجولان السورية المحتلة. وفي باريس قالت الفيجارو إن سوريا أصبحت إثيوبيا أخرى في قلب الشرق الأوسط بعد إبرام معاهدة الصداقة والتعاون بينها وبين الاتحاد السوفييتي.
عادت أنطوانيت بالقهوة، فلمحتني أتثاءب. قالت: يبدو أنك سهرت أمس.
قلت: أبدا. دخلت الفراش مبكرا. لكن نومي كان منقطعا، ربما بسبب جو الأحداث المتلاحقة.
قالت وهي ترتشف من فجانها: عندما كانت المعارك على أشدها كنت أنام بعمق. المسألة مسألة تعود. وصوت الرصاص يمكن التعود عليه بسهولة، بعكس أشياء أخرى . - مثل؟
تطلعت داخل فنجانها وأجابت: أن تجلس لتأكل بعد أن تشهد عددا من الجثث المتعفنة. أن تندلع الحرائق وتنطلق القذائف بينما الراديو يذيع موسيقى البوب. أن يعترضك عدد من المسلحين ويطلبوا منك هويتك ليعرفوا مذهبك الديني، دون أن تعرف أنت مذهبهم هم. أو أن تقضي يوم الأحد بمفردك بين أربعة جدران.
قلت: أنا جربت حكاية الأحد هذه كثيرا.
أعادت فنجانها إلى طبقه، وتناولت حقيبة يدها، وتقدمتني إلى غرفة المونتاج دون تعليق. عاونتها في حمل علب الفيلم من خزانتها، وفي تثبيت البكرة التي سنشهدها، ثم أعددت أوراقي وقلمي، واتخذت مكاني أمام شاشة المافيولا.
الفصل الثالث من الفيلم
عنوان: «في نفس يوم التدخل السوري في لبنان، وهو أول يونيو (حزيران) 1976، وفيما صورته وكالات الأنباء الغربية على أنه دعم للتحرك السوري، وصل رئيس الوزراء السوفييتي كسيجين إلى دمشق، على رأس وفد رسمي كبير.»
مطار دمشق الدولي، أعلام الاتحاد السوفييتي في كل مكان، موكب المسئول السوفييتي الكبير يتحرك من أمام المطار.
العنوان الرئيسي لصحيفة البعث السورية: «كسيجين بعد أول جولة مباحثات مع الرئيس القائد حافظ الأسد: نؤيد استئناف مؤتمر جنيف في أقرب وقت ممكن، مع اشتراك جميع الأطراف المعنية مباشرة بأزمة الشرق الأوسط، ونؤيد القوى اللبنانية التي تناضل من أجل الوحدة الوطنية ووحدة الأراضي وتسوية الأزمة بالطرق السلمية».
عناوين متفرقة في الصحف اللبنانية: «المجلس الإسلامي برئاسة شفيق الوزان يرحب بالتدخل السوري»، «كمال شاتيلا، أمين اتحاد قوى الشعب العامل (الناصري)، يرحب بالخطوة السورية، ويهاجم الرجعيين والانعزاليين والإقليميين الذين يلتقون على العلمانية والحرية الجنسية والعداء للعروبة»، «الشيعة وحراس الأرز والكتائب يرحبون بالتدخل السوري ويباركون الرئيس السوري الشجاع»، «العراق يقدم ثلاثة ملايين دولار للجبهة العربية المشاركة في الثورة الفلسطينية».
بيروت، مكتب لمنظمة الصاعقة في الشياح، قوات فتح تحاصر المبنى، قوات أخرى من فتح تحاصر مكتبا لتنظيم كمال شاتيلا في حي كراكاس.
عنوان: «وردا على ذلك تحركت القوات السورية صوب بيروت، فاستنجدت المقاومة بالليبيين والجزائريين طالبة وقف القوات المتقدمة مقابل إعادة كل شيء إلى ما كان عليه، وتم إخلاء مكاتب الصاعقة وشاتيلا.»
عنوان صحيفة لبنانية: «القوات السورية تحتل الشمال اللبناني كله».
فقرة من صحيفة «برافدا» السوفيتية: «الصراع المسلح بين الأطراف المتنازعة في لبنان أوشك على الانتهاء بفضل التدخل السوري».
زهير محسن، زعيم الصاعقة، من راديو دمشق: «فتح تحولت من أداة للثورة إلى خنجر موجه ضد شعب فلسطين.»
عنوان في صحيفة لبنانية: «القوات السورية والصاعقة تمطر بيروت والمخيمات بالصواريخ، 700 قتيل وجريح، تصدع نحو 4 آلاف منزل، الصواريخ تتساقط بمعدل قذيفة كل ست دقائق».
موسكو، مقر وزارة الخارجية السوفييتية، مسئول سوفييتي يقرأ بيانا عاجلا على الصحفيين: «بالنسبة لسوريا التي أعلنت أن مهمة قواتها المساعدة على وقف النزيف في لبنان، الملاحظ أن الدم ما زال يسيل في مزيد من الغزارة.»
دمشق، مدخل القصر الجمهوري، رئيس الوزراء الأردني وزيد بن شاكر القائد العام للجيش الأردني برفقة مصطفى طلاس وزير الدفاع السوري.
دائرة حول فقرة من صحيفة إسرائيلية: «القسم الأكبر من القوات السورية التي رابطت في الأشهر الأخيرة بين دمشق والخطوط الإسرائيلية سحب وأرسل إلى لبنان والحدود السورية العراقية.»
عنوان في صحيفة لبنانية: «القوات السورية تجرد المواطنين من الأموال والممتلكات والمراد التموينية»، صورة برقية مرسلة من الزعيم الماروني ريمون إدة إلى الرئيس حافظ الأسد: «الجيش السوري سرق منزلي في صوفر .. ويعزيني أنه لم يستثن منزل رشيد كرامي.»
صوفر، جندي سوري يتحدث إلى فريق التليفزيون الفرنسي: «نحن ننتظر دورنا بفارغ الصبر، المجيء إلى لبنان كان دائما حلما .. الحوانيت المليئة، والسلع المستوردة والأفلام والنساء، يختاروننا من كل تشكيل في الجيش؛ كي لا نكون عصبة، وليشعر الجميع في الوقت نفسه أن فرصة الذهاب إلى لبنان متاحة للجميع على قدم المساواة.»
الرئيس حافظ الأسد يخطب في حشد جماهيري: «... هاجموا الجنود السوريين الذين دخلوا لمساعدتهم .. اخترنا هؤلاء الجنود من مختلف قطاعات الجيش، وتعمدنا أن نختار هذا الاختيار، تعمدنا أن يذهب جنود كل تشكيل من تشكيلات الجيش السوري لأسباب قومية؛ ليدافعوا عن المخيمات، ولتقوى روح الدفاع عن القضية الفلسطينية وعن المخيمات في كل تشكيل من تشكيلاتنا في سوريا.»
القاهرة، مذيع التليفزيون يقرأ موجز نشرة الأخبار: «وزراء الخارجية العرب يقررون إحلال قوات أمن عربية محل القوات السورية في لبنان.»
بيروت، حي الأشرفية في المنطقة الشرقية، عبد السلام جلود، رئيس وزراء ليبيا، في سيارة أبو الحسن، مسئول أمن فتح، السيارة تتوقف أمام منزل بيار الجميل.
عنوان: «وبينما كان الحل اللبناني يشق طريقه إلى الوجود تحت مظلة عربية، قام أعضاء منظمة يسارية صغيرة تسمي نفسها حزب العمل الاشتراكي العربي، على صلة بالجبهة الشعبية لتحرير فلسطين التي يرأسها جورج حبش، باختطاف السفير الأمريكي ومستشار السفارة، وسائقهما اللبناني. ووقع الاختطاف في المنطقة الغربية، قبل أن تصل سيارة السفير إلى الحد الفاصل بين المنطقتين، في طريقها إلى مقر سركيس، وبعد ثلاث ساعات اكتشفت جثث الثلاثة في محلة الجناح.»
عنوان في صحيفة لبنانية: «الحكومة السوفييتية تقدم مساعدة فورية من المواد التموينية والطبية إلى الحركة الوطنية والمقاومة الفلسطينية عن طريق مطار بيروت والموانئ الأخرى».
عنوان في صحيفة البعث السورية: «وزير الإعلام السوري ينفي أن هناك قتالا بين القوات السورية وما يسمى بالقوات المشتركة (اللبنانية والفلسطينية) ويقول: ما يجري في لبنان هو قتال بين المنظمات الفلسطينية».
دائرة حول فقرة من صحيفة سوفيستكايا روسيا السوفييتية: «بالرغم من التصريحات السورية المتكررة حول مساعدة لبنان على وقف النزيف الدموي، فإن الدماء لا تزال تسيل في الواقع بصورة أكبر منذ دخول القوات السورية هذا البلد، وهي التي تقصف في كثافة المناطق التي تسيطر عليها القوات الوطنية وتقع بها مخيمات الفلسطينيين.»
عنوان في صحيفة لبنانية: «الرئيس فرنجية - قبل أيام من مغادرته لمنصب الرئاسة - يعين كميل شمعون نائبا لرئيس الوزراء ووزيرا للداخلية والبريد والبرق والهاتف والموارد المائية والكهربائية والشئون الخارجية والمغتربين والتربية الوطنية والفنون الجميلة والتصميم العام».
فتاة ممشوقة القوام في ملابس عسكرية، وقد انسدل شعرها على كتفيها، تستعرض عددا من المسلحين والمسلحات، يحملون جميعا شارة «نمور الأحرار»، ميليشيا شمعون.
مسلحون يحملون نفس الشارة، يقفزون في الهواء وهم يصرخون صرخة الهجوم.
أزقة ضيقة تمتد مصارف المياه غير المغطاة في منتصفها، أمام كوخ من الصفيح وقف شاب يصب الماء من علبة بلاستيكية لشاب آخر أقعى أمامه على الأرض يغتسل.
ساعة الغروب في نفس المكان، عشرات الرجال من مختلف الأعمار في ملابس متواضعة وخطوات منهكة، يظهرون في الطرقات قادمين من الخارج، ويدخلون الأكواخ والمنازل الواطئة.
عنوان: «يقع مخيم «تل الزعتر» في بيروت الشرقية، قرب المنطقة الصناعية. وأغلب سكانه من الفلسطينيين واللبنانيين، وفقراء الأكراد والمصريين والسوريين، مسلمين ومسيحيين، بالإضافة إلى عدد من المنفيين السياسيين من مختلف البلدان العربية.
وتحظى الرهبانيات المارونية بملكية النصيب الأكبر من الأرض التي يشغلها المخيم. وكانت تسعى دائما إلى إزالة المخيم من أجل استرداد الأرض التي ارتفع ثمنها في السنوات الأخيرة. ومن ناحية أخرى، فإن موقع المخيم يحول دول أن تصبح المنطقة الشرقية بكاملها، تحت السيطرة المارونية الكاملة.»
منظر عام لمخيم «تل الزعتر»، مصفحات تحمل علامة «النمور» تطوق المخيم من كل ناحية، القذائف والصواريخ تتطاير فوق منازله، مدفع هاون فوق عربة مدرعة في القلعة يصب نيرانه على المخيم.
شمعون، بشعره الفضي المصفف في عناية، ونظارته السوداء بين أصابعه، يستمع جالسا إلى تقارير قادة «النمور» وهو يبتسم.
عنوان في صحيفة لبنانية: «جنبلاط يقول: الهجوم على تل الزعتر سباق على الزعامة المارونية بين شمعون والجميل».
عناوين صحف لبنانية: «بيروت بلا ماء ولا كهرباء ولا بنزين»، «الكاز 18 ليرة»، «حصار تمويني من القوات السورية»، «الدولار يرتفع إلى 330 قرشا لبنانيا والمصارف الأمريكية والكندية تحقق أرباحا بالمليارات».
عربة خشبية يجرها حمار وقد امتلأ صندوقها الخلفي بالمواطنين، وحمل أحدهم لافتة عريضة فوقها هذه العبارة: «هكذا كان أجدادنا. لسنا بحاجة للبنزين».
شارع في بيروت، مسلح فلسطيني يحمل شارة «فتح» يوزع الدقيق من فوق شاحنة عسكرية، مئات الأيدي تمتد إليه.
مبنى شركة الكهرباء في بيروت الشرقية.
عنوان: «بعد أن قطع المتحاربون الخطوط الثلاثة عشر التي تغذي شطري المدينة بالكهرباء، نجح فؤاد بزري، رئيس الشركة الذي أصبح يدعى «أبو النور»، في إتمام اتفاق بين ياسر عرفات والكتائب، يرسل الزعيم الفلسطيني بموجبه ناقلتين بحريتين صغيرتين محملتين بالوقود الثقيل، إلى محطة الكهرباء في المنطقة المسيحية، على مبعدة كيلومترات معدودة من بيروت، كي تتمكن من تزويد قسمي المدينة بالتيار.»
عنوان صحيفة: «القوات الوطنية والفلسطينية تتقدم في اتجاه عين الرمانة، بهدف تخفيف الضغط على تل الزعتر».
عنوان: «وفي 27 / 6 أعلنت الكتائب دخولها معركة تل الزعتر.»
مؤتمر صحفي للنائب أمين الجميل: «الكتائب اشتركت في الهجوم على تل الزعتر؛ لأن الذين خططوا وبدءوا الهجوم عجزوا عن الاستيلاء عليه».
ملصق يحمل توقيع «النمور»، ويحمل صورة فتاة حسناء، أسفل الصورة بالفرنسية: «سعدة خياط، أول امرأة لبنانية تسقط في ساحة الشرف أثناء الهجوم على تل الزعتر».
مؤتمر صحفي لجلود، رئيس وزراء ليبيا: «المؤامرة كبيرة ودولية .. لقد استجلب الجيش السوري إلى المؤامرة ليضبط العناصر الأساسية كلها في الساحة اللبنانية .. إن القوى الوطنية والناس المؤمنين بعروبتهم، مسيحيين ومسلمين، والمؤمنين بانتمائهم القومي والفلسطينيين .. رأيي أن يمشوا إلى تل الزعتر صفوفا حتى يفقد الانعزاليون ذخيرتهم كلها، نصف مليون فلسطيني، يبقى منهم مائة ألف، لا يهم. هذه نظرتنا حتى إلى إسرائيل. لو كان العرب يريدون أن يموتوا لما كانت إسرائيل موجودة».
عنوان صحيفة: «المقاومة تأسر بشير الجميل بعد أن قتل عددا من الفلسطينيين بيديه، الإفراج عنه بعد 8 ساعات في أعقاب تدخل الرئيس سركيس والمكتب الثاني».
عنوان في صحيفة: «تل الزعتر يصد الهجوم رقم 49».
عنوان في صحيفة «العمل» الكتائبية: «قادة الكتائب والنمور يتابعون سير المعارك في أرض المعركة مباشرة».
عنوان: «وفي اليوم العشرين لصمود تل الزعتر ...»
عنوان في صحيفة لبنانية: «قيادة منظمة التحرير لمقاتلي تل الزعتر: الساعات المقبلة مصيرية، وصمودكم هو الأساس».
عنوان في صحيفة لبنانية: «اتصالات بين عرفات والقذافي ومحمود رياض، وبين جنبلاط والملك خالد والسادات وبومدين والبكر، وبين الأسد وحسين».
عنوان في صحيفة لبنانية: «تل الزعتر يصد الهجوم رقم 51».
عنوان في صحيفة لبنانية: «إحباط هجوم جديد على تل الزعتر استمر 7 ساعات».
عنوان في صحيفة لبنانية: «مذكرة سوفييتية في عشر صفحات تحذر سوريا من المضي في ضرب المقاومة والحركة الوطنية اللبنانية».
عنوان في صحيفة الأنباء اللبنانية: «جنبلاط لمؤتمر وزراء الخارجية العرب: خدعكم تجار الفئة الانعزالية، وهم الأقرب إلى ملوككم ورؤسائكم».
عنوان في صحيفة فرنسية: «مقتل وليم حاوي رئيس المجلس العسكري الكتائبي خلال معارك تل الزعتر، أوساط المراسلين الأجانب في بيروت تؤكد أن قتله تم بتدبير بشير الجميل الذي حل محله في رئاسة المجلس العسكري للكتائب».
أمام مبنى المجلس العسكري للكتائب، بشير الجميل في ملابسه العسكرية يحيط به أنصاره.
عنوان: «تخرج بشير الجميل من مدارس الجزويت وجامعتهم؛ حيث درس القانون. لكن السلطة كانت أكثر إغراء له من المهنة المنتظرة.
تميز منذ صباع بالاندفاع والميل إلى العنف. وكان يلتجئ بسهولة إلى قبضتيه عندما تواجهه مشكلة من المشاكل، وتعددت هذه المشاكل عندما بلغ مرحلة المراهقة؛ فقد امتلأ وجهه بالبثور، واكتشف أن قامته قصيرة، وجسمه غير متناسق، ثم تبين بعد قليل أن الزعامة العائلية محصورة بين أبيه القوي، وأخيه الأكبر أمين، الذي تميز بالرشاقة والوسامة والمواهب الذهنية. لكنه لم ييأس، والتجأ إلى الشارع، وطوال خمس عشرة ساعة في اليوم، لا يكف خلالها عن التهام قطع الشكولاتة، كان يحضر حفلات الزواج والتعميد والجنازات والقداسات، متقربا إلى صغار الحرفيين، وأشباه العمال، والموظفين الصغار، وبقية المحبطين، في انتظار الفرصة الملائمة.»
مدرج جامعة دمشق، حافظ الأسد يخطب: «... يجب أن يفهم أولئك الذي يطرحون من بعيد، أني لست من هواة السلطة، ولست إلا فردا من أفراد هذا الشعب، ولن يبعدني شيء عن التحسس بأحاسيس هذا الشعب، واتخاذ القرار الذي أشعر أنه يعبر عن أحاسيس المواطنين في هذا البلد ورغباتهم. ... عندما بدأت أحداث لبنان منذ أشهر طويلة كان لنا تفسير لهذه الأحداث .. وقلنا إن المؤامرة لا تستطيع أن تحقق أهدافها إلا من خلال القتال. إذن لكي نحبط المؤامرة علينا أن نوقف القتال، وانطلقنا نعمل من أجل ذلك. ... لكن هناك من يريد أن تبقى المشاكل هي إياها؛ لأنه يريد أن يعمل؛ فبعض المسلحين الآن في لبنان ضد الأمن؛ فلو تحقق لفقدوا العمل، وهذه مشكلة. ... واستقبلنا كمال جنبلاط، وقلت له إننا نريد أن تعلمونا حقيقة ما تريدون .. تحدث عن العلمنة، دولة علمانية في لبنان. قلت له إن الكتائب متحمسة للعلمنة. لقد قال لي الشيخ بيار الجميل إنه لا يقبل للعلمنة بديلا. أنا مصر ومتمسك بدولة علمانية في لبنان. لكن مفتي المسلمين وإمام الشيعة وبعض رؤساء الوزراء ورؤساء مجلس النواب رفضوا العلمنة.
قال جنبلاط: خلونا نؤدبهم. لا بد من الحسم العسكري. من 140 سنة عم يحكمونا، بدنا نخلص منهم. هنا رأيت أن كل قناع قد سقط. المسألة هي مسألة ثأر وانتقام.
الحسم العسكري في بلد كلبنان، بين فئتين في وطن واحد، أمر غير ممكن. الحسم العسكري بالنسبة لأي مشكلة يعني تصفية هذه المشكلة تصفية نهائية. وهذا المعنى في لبنان غير ممكن؛ لأن عنصر القوة ليست الشرط الوحيد الذي يجب أن يوفر، وإنما هناك عناصر أخرى يجب أن تتوافر وهي غير متوافرة الآن. أما إذا كان الحسم العسكري المقصود هو أن يخلق حالا من القهر على الساحة اللبنانية، فهذا سينتج عنه بروز مشكلة جديدة في لبنان وفي هذه المنطقة. مشكلة شعب ما، دين ما، مشكلة لبنان أو جزء من لبنان. مشكلة مقهورين سيتعاطف معها العالم.
كلنا نستطيع أن نتصور أن هذا الحل لن يكون إطلاقا إلا بتقسيم لبنان، ستنشأ دولة يملؤها الحقد، دولة أكثر خطرا وأشد عداء من إسرائيل.
شيء ثالث: الحسم العسكري بهذه الطريقة تقدرون جميعا أنه سيفتح الأبواب على مصراعيها لكل تدخل أجنبي وخصوصا التدخل الإسرائيلي.
وفي اليوم نفسه استدعيت ياسر عرفات، وقلت له هذا الكلام؛ قلت له وأقول الآن: لا أستطيع أن أتصور ما هي العلاقة بين أن يقاتل الفلسطينيون في أعلى جبال لبنان وتحرير فلسطين .. تذكروا أيها الإخوان ما كان يتردد في العام 1970 في الأردن؟ رفعوا آنذاك الشعارات. السلطة كل السلطة للمقاومة. فلسطين نحررها من خلال عمان. الأمر من حيث الجوهر بيتكرر الآن في لبنان. وعدني ياسر عرفات في ذلك اللقاء أن ينسحب من القتال. ... سوريا هي بلد الصمود، فمن كان مع الصمود يجب أن يكون مع سوريا. سوريا هي بلد التحرير، من كان مع التحرير يجب أن يكون مع سوريا. سوريا هي بلد الوطنية والتقدم، من كان مع الوطنية يجب أن يكون مع سوريا. سوريا هي بلد النضال الفلسطيني، من كان مع النضال الفلسطيني يجب أن يكون مع سوريا. كل كلام عن تحرير فلسطين من دون سوريا إنما هو جهل وتضليل للجماهير.»
عنوان: «وفي نفس اليوم ألقى فيه الرئيس السوري بهذا الخطاب، وجه إليه مفتي لبنان النداء التالي:
إننا اليوم بعد أن اشتد ضغط أزمة الجوع والعطش والخوف والمرض، وباتت الأوبئة السارية تهدد حياة كل مواطني بيروت وضواحيها، فضلا عن خطر انتشار عدواها في كل لبنان .. بسبب استمرار حرب الخمسمائة يوم القذرة، واشتداد الحصار علينا من كل مكان، من البر والبحر والجو. ... نتوجه إليكم، مطالبين باسم الأخوة الإسلامية والعربية، أن تلبوا نداء الواجب الوطني والقومي الإنساني وذلك:
أولا:
بأن تتركوا طريق دمشق بيروت الدولية مفتوحة أمام كل القوافل التي تحمل مواد الغذاء والدواء والوفود من الدول العربية الشقيقة عبر سوريا.
ثانيا:
أن تحولوا دون أي تهديد يمنع وصول السفن إلى مبادئ صيدا وطرابلس ...»
عنوان مستقل: «وبعد يومين ...»
مقر الحزب التقدمي الاشتراكي في بيروت، حشد من الصحفيين والسياسيين، كمال جنبلاط، رئيس الحزب، يعقد مؤتمرا صحفيا، الزعيم اللبناني يعلن إنشاء مجلس سياسي مركزي برئاسته يقوم بمهام القيادة السياسية للأحزاب والقوى الوطنية والتقدمية في لبنان.
أمام مخيم تل الزعتر، حشود عسكرية، رتل من سيارات الصليب الأحمر يقترب في بطء.
عنوان صحيفة: «القوات الانعزالية تطلق النار على بعثة الصليب الأحمر التي حاولت إجلاء الجرحى من مخيم تل الزعتر».
عنوان صحيفة: «تاس تتهم السعودية بأحداث لبنان».
عنوان صحيفة: «سيسكو يعلن احتمال تسوية الشرق الأوسط بعد إضعاف المقاومة الفلسطينية في لبنان».
عنوان صحيفة «القوات السورية تعجز لمدة ثلاثة أيام عن اختراق قوات المقاومة في بحمدون».
عنوان: «وفي 29 يوليو (تموز) ...»
عنوان صحيفة: «اتفاق في دمشق بين المقاومة وسوريا لإنهاء القتال».
دائرة حول فقرة من نفس الصحيفة: «... وأكد الجانب السوري موقفه الثابت والمستمر الداعم لمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلة للشعب الفلسطيني في نضاله ضد العدو الإسرائيلي ومن أجل التحرر، وأن سوريا كانت وستبقى قاعدة النضال لشعب فلسطين .. كما أشاد الجانب الفلسطيني بموقف القطر العربي السوري من نضال الشعب العربي الفلسطيني ومن القضية الفلسطينية ومن دعم القطر السوري ومساندته للمقاومة الفلسطينية ...»
عنوان: «وبعد يومين ...»
عنوان صحيفة بتاريخ 31 / 7: «إجلاء جرحى تل الزعتر، طبيب سويدي يعلن أن عدد القتلى بالمخيم بلغ ألفا وأربعمائة قتيل والجرحى أربعة آلاف».
حي النبعة قرب بيروت، ميليشيا الكتائب تطلق الرصاص في كل اتجاه، تقوم بإجلاء السكان من منازلهم.
نقطة العبور بين المنطقتين الشرقية والغربية عند المتحف، مئات من سكان حي النبعة المطرودين من المنطقة الشرقية يتوافدون، شارع ضيق ينتهي بباص مقلوب، براميل مليئة بالرمال، أنابيب مكسورة، نساء يحملن كل ما يملكنه فوق رءوسهن ويجرجرن أطفالا خلفهن، طفلة تحمل دمية وأخرى تحمل موقد كاز، الجميع يتقدمون من نهاية الشارع حيث يوجد حاجز المنطقة الغربية.
عنوان: «وفي اليوم الخمسين لحصار تل الزعتر، بعث ياسر عرفات برسائل إلى الزعماء العرب يضعهم أمام مسئوليتهم بشأن مصير المخيم. وفي نفس اليوم جرى الاتفاق عن طريق الصليب الأحمر وقوات الأمن العربية على أن يتم إجلاء 12 ألف مدني من المخيم، ينقلون إلى البقاع وبيروت الغربية.»
وبعد يومين .. في 12 / 8 / 1976.
سيارات الصليب الأحمر أمام تل الزعتر، شاحنة تحمل شارة قوات الأمن العربية، يصعد إليها عدد من النساء والأطفال ليس بينهم أثر لرجل، أرض الشارع مغطاة بأعداد لا حصر لها من مختلف أنواع الأحذية؛ شباشب، صنادل، أحذية نسائية بكعوب وبدونها. شاحنة أخرى ذات جوانب من قضبان متشابكة مثل شاحنات نقل الحيوانات.
أمام دار المعلمين في المنطقة الغربية، زحام، شاحنة صغيرة تهبط منها سيدة باكية وأخرى ممزقة الثياب، وأطفال، سيدة أخرى باكية تحتضن طفلين.
مستشفى الجامعة العربية، جريح بلا ساقين تنحني عليه سيدة متقدمة في السن وتحتضنه.
عنوان: «وأثناء إجلاء المدنيين اقتحم الكتائبيون والنمور المخيم في أعداد كثيفة، وجرى القتال بينهم وبين ثلاثمائة شاب فلسطيني ولبناني رفضوا الاستسلام وواصلوا المقاومة حتى النهاية. وفي نهاية اليوم أعلن سقوط تل الزعتر.»
15
كانت المرأة ساحرة حقا، وقد التفت بغلالة شفافة أبرزت مفاتن جسدها، وأسفل الصورة قرأت هذه الكلمات: «الغرب المدهوش بالشرق وغرابته، يجعل من مادته الخصبة، عصا سحرية، تحيلك إلى امرأة الألف وجه».
حولت عيني عن الإعلان، وعدت أقرأ خبر الفيلسوف الفرنسي العجوز ألتوسير، الذي خنق زوجته، ثم وضعت الصحيفة جانبا وتناولت سماعة التليفون.
أدرت رقم دار الثقافة، ووجدت الخط مشغولا، فاتصلت بوديع في مكتبه.
قلت حالما سمعت صوته: لم تأت الشغالة بعد، وأنا أريد الخروج.
قال: لن تأتي اليوم ما دامت تأخرت إلى الآن، هل أنتظرك على الغداء؟
قلت: لا أظن؛ فأنا وأنطوانيت مدعوان لدى أحد المعارف الفرنسيين في المساء. وربما ذهبنا إليه مباشرة من الفاكهاني.
كانت الشمس ساطعة توحي بيوم دافئ، فاكتفيت ببلوفر من الصوف فوق قميصي، وعلقت حقيبة يدي في كتفي، ثم أدرت رقم دار الثقافة مرة أخرى، وعندما ألفيته ما زال مشغولا، غادرت المسكن.
وقفت أنتظر سيارة تقلني إلى مكتب أنطوانيت. وتوقفت أمامي واحدة خالية، فطلبت من سائقها أن يذهب بي إلى عين المريسة.
كان المرافق الفحل يجلس في مدخل المبنى، إلى جوار أحد الحارسين المسلحين. وصحبني على مضض إلى أعلى، فأسلمني إلى السكرتيرة التي خابرت لميا بالتليفون، وطلبت مني أن أنتظر.
جلست على مقعد في مواجهتها. وأصبحت أشرف على الممر الذي تقع غرفة لميا في نهايته. وكان بابها مغلقا.
انفرج الباب بعد لحظات وبرزت منه. كانت ترتدي بلوزة مزركشة بألوان زاهية ذات أكمام طويلة واسعة، وبنطلونا من القطيفة رمادي اللون. وكان شعرها مجدولا في ضفيرتين كبيرتين فبدت كفتاة مراهقة.
اقتربت مني في خطوات بطيئة وفي عينيها نظرة ساهمة كالمأخوذة. ومدت يدها لي وهي تغتصب ابتسامة.
خاطبتني قائلة: شرف.
استدارت نحو غرفتها فخطوت في أعقابها. وعندئذ رأيت طرف بلوزتها يتدلى خارج البنطلون.
طالعني وجه الصديقة التي رأيتها معها من قبل في المقهى. وكانت تجلس فوق كنبة، واضعة ساقا على ساق، وهي تحتسي القهوة.
اتجهت لميا إلى مكتبها ودارت حوله ثم جلست إليه وهي تقول: صديقتي جميلة. لقد سبق لك أن رأيتها.
أحنيت رأسي لها، ومضيت إلى مكتب لميا فجلست على مقعد أمامه، ووضعت حقيبة يدي على الأرض.
تطلعت إلى جميلة وسألتها: تعملين في النشر أنت أيضا؟
ابتسمت وهزت رأسها نفيا.
قالت لميا: قريب من النشر. إنها مديرة بنك.
تحولت إلى لميا قائلا: اتصلت بك أمس.
بدرت منها نظرة سريعة إلى صديقتها ثم قالت: لم أكن بالمنزل.
خاطبتني جميلة قائلة: أخذت مخطوطة كتابك من لميا وسأقرؤها اليوم.
عقبت لميا بسرعة: لا تقلق؛ فلم يتبق لي سوى الفصل الأخير.
قلت: لست قلقا. كل ما أريده هو أن أنتهي من هذا الموضوع قبل سفري.
سألتني جميلة: متى تسافر؟
أجبت: خلال أسبوع.
أحضرت السكرتيرة القهوة، فارتشفتها في صمت، بينما تشاغلت لميا بأوراق على مكتبها، وتناولت صديقتها مفكرة من حقيبة يدها، فجعلت تقلب بين صفحاتها. كان اللون الأحمر الساطع الذي طلت به شفتاها متناسقا مع تكوين وجهها العريض، ولون بشرتها القمحي. وبدت لي أكبر من لميا بعشر سنوات على الأقل.
انتهيت من قهوتي، فتناولت حقيبتي، ونهضت واقفا وأنا أقول مخاطبا لميا: لا بد أن أنصرف الآن. سأتصل بك فيما بعد.
لم تبدر منها محاولة لاستبقائي، ولم تودعني حتى الباب، واكتفت بمصافحتي وهي جالسة. وغادرت الغرفة بعد أن أومأت برأسي لصديقتها.
غالبت رغبة ملحة في الشراب، وأخذت سيارة أجرة إلى الفاكهاني.
وجدت أنطوانيت في غرفة المونتاج. ولاحظت أنها صففت شعرها في عناية، وصبغت أظفار يديها بلون شفاف. وكانت ترتدي بلوزة صوفية ضيقة أبرزت صدرها الصغير.
أعددت أوراقي وقلمي، وأطفأت النور، ثم اتخذت مكاني إلى جوارها أمام المافيولا. لمست طارة الآلة بيدها، فتتابعت أمامنا اللقطات الخاصة بسقوط تل الزعتر.
أوقفت الآلة فجأة، وقالت: هل من الضروري أن تسجل الفصل التالي؟ إنه مجرد شهادات لمجموعة من النساء اللاتي أفلتن من المذبحة. وهي تغني عن كل تعليق.
فكرت لحظة ثم قلت: ربما. لكن لا بد لي من دراسة مضمون الشهادات وإيقاعها وحجمها وارتباطها بما سبقها ويتلوها من لقطات. وهذه الدراسة ستقرر مصير التعليق السابق عليها، هل يدمج فيها أم ينتهي قبلها بذروة أو بدون ذروة. سأسجل كل شيء؛ لأتمكن من العمل على راحتي.
قالت: كما تريد.
الفصل الرابع من الفيلم
نساء في مقتبل العمر أو أواسطه، الملابس بسيطة، الرءوس تحيط بها أوشحة معقودة أسفل الذقون، أصواتهن جافة لا أثر فيها لحياة، الكاميرا تستقر على كل واحدة منهن دون حركة حتى تنتهي من شهادتها.
عنوان:
أم علي سالم، خمسون عاما. «عندما هجرونا من فلسطين ذهبنا إلى الشام، ثم جئنا إلى تل الزعتر. وكنا دائما مطاردين؛ فالرقيب أبو عبود من المكتب الثاني اللبناني كان يتنصت علينا من تحت الشباك. وبعدها حبسوا زوجي بسبب المنشورات. وكل أولادي انضموا للمقاومة وهم صغار، وراحوا دورات تدريب ثم حملوا السلاح. ولم يبق عندي أحد منهم. وأنا كنت أشارك في وحدات محو الأمية اللي كانت تعمل بالمخيم، وكثيرا ما أخذ رجال المكتب الثاني زوجي وعذبوه؛ ليدلهم على مكان الأولاد، وصاروا يحضروا كل يوم يفتشوا البيت ويسألوا عن الأولاد، لكن كل هذا تغير بعد أن تولت المقاومة الإشراف على المخيمات.
وأثناء الحصار، استشهد لي خمسة أولاد في المخيم، ولما خرجنا من الزعتر أخذت معي قمصان أولادي الشهدا علشان أشم ريحتهم الغالية .. وعرفت أنهم شحطوا زوجي بعد أن ربطوا كل رجل من رجليه بحبل وكل حبل بسيارة ومشوا بالسيارات.»
عنوان:
زينب أم علي، أربعون سنة، أم لعشرة أطفال. «كان أبو عبود يلاحقني أنا شخصيا. في يوم من الأيام في الساعة الحادية عشرة ليلا طرق الباب. فتحت بعجلة فإذا هو أبو عبود ومعه جورج حزيني. أول كف والثاني صرخت. قلت له يا جبان. عندها خرج أولادي: شو بدك بأمي؟ أخذني عند أبو أحمد العازوري، ضربني أبو أحمد بالكرباج خمس ضربات، بقيت إحدى عشرة ساعة، نمت على الأرض مغمضة عيوني .. بقيت ثلاثة أيام عندهم في السجن ...
ثم جاءت المقاومة وقضي على العملاء، وبدأت أعمل في معسكر الأشبال .. وعندما بدأ حصار المخيم جاءت قذيفة استشهد بها زوجي المريض كما استشهدت ابنتي بينما كانت ذاهبة لترى أباها .. وفجأة أتى صبحي عراقي وحسن شحرور إلى الملجأ وقالوا بدنا شباب لنجلب الشهيد نمر، فلم يتحرك أحد. ذهبت أنا وابني البالغ من العمر ستة عشر عاما ورفعنا الشهيد نمر، وفي العودة استشهد ولدي الوحيد الذي لا يوجد أغلى منه سوى فلسطين؛ لأنه وحيد بين تسع بنات.»
عنوان:
نزهة حسن الدوقي، 65 سنة، أم لخمسة أبناء وجدة لعشرة. «... في بداية الأحداث حضر ابني أحمد وعمره 38 سنة من السفر، وحمل هدية من صديق له إلى زوجته وأولاده في الجديدة ولم يعد. وبعد ثلاثة أشهر وجدنا جثته في حشحاشة هناك.
وأثناء الأحداث استشهد ابني جلال بقذيفة. وفي أحد الأيام ذهبت ابنتي فطوم لتملأ الماء ولم تعد؛ إذ أصابتها قذيفة واستشهدت على الفور.
وعند سقوط الملجأ كان ولدي علي يعمل في رفع الأنقاض، فاستهدفه الانعزاليون بقذيفة فسقط شهيدا.
وعند سقوط المخيم خرج زوجي وأبناؤه الثلاثة وأحفادي، فاعترضهم الانعزاليون عند الكنيسة، وأوقفوا أولادي الثلاثة على الحائط وأخذوا يضربوهم بمدقات الكبة على ظهورهم بكل قواهم حتى سقطوا، كما قتلوا أحد أحفادي. بكيت وصرخت لكن أحفادي رجوني أن أسكت؛ لئلا يأخذهم المسلحون .. وعند وصولنا إلى الفندقية صاروا يتسلون علينا، فتارة يطلبون منا الصعود إلى الطابق الثالث وزخات الرصاص تلاحقنا، وكنا نركض ونتدافع ونختبئ ببعضنا البعض .. وأخيرا أخرجونا إلى الطريق العام، وصعدنا إلى سيارات الشحن، ووقفت إلى جوار زوجي الذي أمسك بحديد الشاحنة .. وأحضر المسلحون شبابا وقتلوهم مجموعات أمامنا. وبكى زوجي فلمحه أحد المسلحين وأنزله من الشاحنة. وأخذوا بتعذيب الشباب أمامه، ثم قتلوه فسقط على الأرض، فصرخ أحفادي من الخوف، فأطلقوا علينا الرصاص، فنزلنا بسرعة من السيارة دون وعي. وضاع أحفادي جميعهم، وها أنا أعيش وحدي فقط، ولم يبق لي أحد.»
عنوان:
سعاد صالح، 42 سنة، أم لخمسة أولاد. «عندما بدأ الحصار كان في بيتي 10 كيلوجرام دقيق فعجنتهم وخبزتهم وبعثت بهم إلى المقاتلين. كما كنت أهيئ لهم الشاي والقهوة ليلا. ثم قطعت الكهرباء فكنا نصنع الشمع للمستشفى، وحصلنا على من مستودع قريب، فكان ابني يحضره ونسخنه على النار لإذابته، ثم نصبه في علب اللحم والسردين ونضع خيطا فيه، وبعد جفافه نقص العلبة ونخرج الشمع منها. وأخيرا تقدمت صناعتنا فصرنا نحضر صور الأشعة نلفها ونربطها ثم نصب الشمع بها. وبعد فكها نحصل على شمعة رشيقة جميلة ...»
عنوان:
فاطمة عوض، 22 سنة، ممرضة. «منذ بداية الحصار وأنا أعمل ليل نهار لتأمين الطعام والمياه للجرحى. وكان الكثيرون منهم يموتون لقلة الأدوية. ولم يكن متوافرا لتعقيم الجروح سوى الماء والملح. وقبل سقوط المخيم بعشرة أيام تواترت أنباء عن وصول الصليب الأحمر لنقل الجرحى، لكنه لم يصل إلا بعد ثلاثة أيام، بعد أن وصلت عزلة المخيم عن العالم 42 يوما .. فنقل حوالي 80 جريحا، وفي اليوم 150 جريحا، وفي الثالث 750 جريحا، مع عدد من الأطفال الرضع الذين أصيبوا بالجفاف.
وليلة سقوط المخيم قيل لنا إن هناك ضمانات من الصليب الأحمر وقوات الأمن العربية، بنقل سكان المخيم دون التعرض لمن يستسلم. وفي الصباح التالي انتظرنا من الساعة التاسعة والنصف حيث كان متفقا أن يحضر الصليب الأحمر في التاسعة. لكن في ذلك الوقت اشتد القصف بشكل جنوني ودخل الانعزاليون المخيم. وقيل لنا إن سيارات الصليب الأحمر موجودة في الدكوانة لنقل الجرحى والأهالي، فانطلقنا مجموعة من الممرضين مع العديد من السكان إلى هناك، فاعترضنا حاجز من رجال الكتائب فتشونا وهم يشتموننا. وفي الحاجز الثاني أخذ الانعزاليون الممرضين الرجال وعذبوهم ثم قتلوهم أمامنا ...»
عنوان:
فاتن بدران، 23 عاما. «اشتركت مع متطوعات أخريات في إنشاء مركز طبي بحي القلعة برعاية أطباء الزعتر. وليلة سقوط القلعة في يد الانعزاليين كنت مع جدتي في الملجأ. وكانت جميع العائلات في الملجأ تحمل الجنسية اللبنانية إلا أنا وجدتي، فازداد خوفنا.
ودخل الانعزاليون المنطقة فأخذوا يطلقون الرصاص من الشبابيك والأبواب على الملاجئ المكتظة بالنساء والأطفال والشيوخ؛ لأن الشباب التحقوا بمقاتلي تل الزعتر، ثم نقلونا إلى مدخل بناية أخرى دون أن يعرفوا أننا فلسطينيون. وبعد قليل أتى الانعزاليون بأشخاص تعرفوا على أصدقائهم بيننا فأخذوهم ومضوا. ولم يبق سوى أنا وجارتي وجارة أخرى تدعى وداد قصور. وهنا اشتد خوفي، فأخذت تطمئنني وتقول لي إن لها أصدقاء سوف يحضرون ويأخذونها، وسوف تأخذنا معها. لكن القذائف انهالت علينا ففرقتنا. وسرنا حتى التقينا بعائلة فلسطينية تحمل الهوية اللبنانية فذهبنا معهم في سيارة، وسألنا السائق إذا كنا إسلام أو مسيحية وهو يقول: إذا كنتم إسلام فسوف تنزلون في حي سن الفيل المسيحي. لكني أقنعته بأن يأخذنا إلى حد فرن الشباك الإسلامي.»
عنوان:
حياة فريحة، 20 سنة. «في أوقات فراغنا كنا نعد المخازن لأسلحة المقاتلين. واشتركت في عملية اقتحام مع الشهيدة سميرة بدران في موقع متقدم بالحازمية، وعدنا سالمين بعد أن دمرنا مصفحة وأصيب أحد شبابنا. أبدينا رغبتنا في التواجد عند الأسلحة الثقيلة (المضادات) على تلة المير فوافقوا. وعندما أبديت رغبتي في التدرب عليها ضحك المقاتلون، وأكدوا أن المرأة لا تستطيع القيام بمثل هذه الأعمال، فقط تحكي. لكني صممت لأثبت لهم جدارتي. وفعلا تدربت وقمت بإطلاق خمس عشرة قذيفة على مركز مضاد، وازداد إيماني بثورتي. وأبدوا استعدادهم لتدريب كتيبة مناضلات.
وعند سقوط المخيم دافعنا حتى آخر محور، وأخيرا أتلفت سلاحي بناء على التعليمات، وذهبت مع أهلي إلى الدكوانة ...»
عنوان:
آمنة فريحة، 35 سنة. «عندما قطعت المياه عن المخيم كنا نروح البئر حوالي خمس عشرة امرأة ونرجع ستا؛ أي إن كوب الماء كان يعادل كوبا من الدماء ...»
عنوان:
شيخة أحمد شحرور، 32 سنة، أم لطفلين. «كنا نختبئ من بيت إلى آخر حتى نصل إلى الماء، وهناك كان رجال الكتائب يحتلون الأماكن المرتفعة التي تشرف على المياه من مسافة قريبة، فيصيحون علينا: واحد واحد بالصف. وعندها يبدأ القنص. وفي بعض الأوقات نسهر طول الليل ونرجع دون ماء، فيبدأ الأطفال بالبكاء والصراخ لحاجتهم إلى نقطة ماء بدلا من الحليب.
ومرض ابني الصغير وعمره سنة واحدة، فأخذته إلى طبيب الهلال الأحمر، فقال: لا يوجد عندنا دواء. وارتفعت حرارة ابني إلى 40 درجة، فأصبح عنده شلل في رجله، وكان زوجي مصابا في بطنه ورجليه. وكنت في السابق أقول له: سافر وأمن لنا مستقبلنا. فيقول لي: لن أخرج من تل الزعتر وبه حجر واحد. وقد وفى بوعده، وبقي هناك حتى آخر لحظة، وحتى الآن لا أعرف إذا كان حيا أو ميتا.»
عنوان:
عفاف محمد، 32 عاما، أم لسبعة أطفال بقي منهم 3. «ذهبت إلى مستشفى الهلال الأحمر في الشارع الرئيسي للمخيم؛ لأرى الجرحى. وقبل أن أصل وقعت قذيفة على باب الملجأ وأولادي به، وبينهم ابنتي الكبرى آمال وعمرها 11 سنة، فاستشهدت مع ستة أطفال في سنها. وبعدها تدهورت صحتي وكنت حاملا في الشهر السادس. وجاع الأطفال ومات البعض من العطش. وأرضعت الأمهات أطفالهن من ماء العدس المسلوق، وانتشرت الحمى بين الأطفال ومات بعضهم بها، وآخرون أصابهم الجفاف. ولما حان موعد ولادتي كان القصف قد اشتد فولدت طفلتي على الدرج. ولم أستطع أن أنام لحظة واحدة.»
عنوان:
خزنة محمد صالح، 29 سنة. «... في يوم سقوط المخيم أعطيت السلاح الذي أحمله بعد أن أكدوا لنا وجود ضمانات من الصليب الأحمر وقوات الأمن العربية. وتوجهت إلى الدكوانة مع عدد من النساء. وفي حاجز قرب ستديو فوزي حاول أحد المسلحين تمزيق ثيابي، فأعطيته كل ما أملك من فلوس. وعند مدرسة الفندقية رأيت امرأة من الانعزاليين ترتدي السواد وهي تضرب فتى عمره حوالي خمسة عشر عاما بالمسدس على رأسه ووجهه، ثم أخذته إلى مكان مليء بالقاذورات وقتلته وهي تشتم الفلسطينيين. ووجدت أمي وإخوتي في المدرسة. وحاولت أمي نقلنا في سيارة، وكان إخوتي يرتجفون خوفا وجزعا، فدفعت مبلغا من المال للسائق وصعدنا السيارة. ورأيت الانعزاليين يربطون حبلا حول عنق أحد الشباب وشنقوه، ثم مشوا على جثته بالسيارة، فالتصق لحمه بالأرض. كل ذلك أمام زوجته الجريحة وأطفاله الصغار الذين لم يستطيعوا النطق بكلمة.
سارت بنا السيارة قليلا ثم توقفت، وهنا رأيتهم يحضرون شابا اسمه محمد كروم. وبعد أن أشبعوه ضربا ربطوا رجليه بسيارتين فانقسم جسمه إلى شطرين. أما زوجي الذي خرج عن طريق الجبل فلم نعرف عنه شيئا حتى الآن.»
عنوان:
فريال شحرور، 18 سنة. «لم نكن نأكل سوى العدس والتمر، وكانوا يغلون الشاي مع التمر لقلة السكر فيصبح الشاي بلا مذاق. وكان الرجال يقاتلون طوال النهار بالقليل من الأكل والشرب ويدخنون لفافات من غذاء العصافير والعيزقان ...»
عنوان:
حورية مصطفى، 20 عاما. «في يوم اشتد فيه القتال نزلت والدتي لتجلب الماء فإذا بها تفاجأ بقتيل على الأرض. اقتربت منه وسط القذائف والصواريخ فوجدته ولدها. نعم كان أخي.
وفي يوم سقوط المخيم نزلنا عن طريق الدكوانة، واقترب أحدهم مني، وأخذ واحدا من إخواتي فضربه بالسلاح الذي بيده حتى نزفت الدماء في وجهه، ثم أفرغ رصاص الكلاشن في رأسه، فتلفت علينا كأنه يودعنا، وسقط على الأرض جثة هامدة. وأخذوا أخي الثالث فتدخلت أمي لتنقذه وتقول لهم كفى اثنان، دعوه لي، إنه الصغير، لكنهم لم يكترثوا، وأطلقوا النار عليه.
وحاولوا أن يأخذوني معهم، لكني رفضت. وظللت واقفة في مكاني؛ لأني فضلت الموت. وتدخلت والدتي مستغيثة باكية. لكنهم ساقوها وأطلقوا النار عليها فأردوها قتيلة، وانتهزت الفرصة فحملت إخوتي الصغار وجريت هاربة ...»
عنوان:
فاطمة الموسى، 45 سنة، أم لثمانية أطفال. «فقدت ثلاثة من أبنائي، مع العلم بأن زوجي هجرني، ولم يساعدني بشيء.»
عنوان:
فاطمة بدران، 36 سنة، أم لتسعة أبناء. «جرحت أثناء نقل المياه. وبعد يومين استشهد زوجي وابني وعمره 16 سنة. واعتنت بي ابنتي سميرة. وكانت تشترك في نقل الجرحى تحت القصف الشديد، فأصيبت في رقبتها واستشهدت على الفور.
وعند سقوط المخيم خرجت مع أبي وأمي وبقية أطفالي، فأخذوا أبي وقتلوه. والتفت لأراه فرأيته والدم يفور من جسده وفمه وهو ينتفض على الأرض. وكذلك الشباب الثمانية الذين كانوا يرافقوننا، قتلوهم جميعا. ورأيت شابا صغيرا برفقة أمه، فأخذه المسلحون وكان يقف على الحائط حيث درزه المسلح على رأسه حتى قدمه فصرخ، وصرخت المسكينة أمه، فضربوها بأعقاب البنادق ودفعونا في اتجاه الفندقية.
بحثنا عن سيارة تأخذنا إلى المتحف، فطلب منا السائق 300 ليرة للراكب. وكنا نرتجف من الخوف، ولم يكن معنا المبلغ، فانتظرنا سيارة أخرى طلب سائقها 100 ليرة للراكب، فصعدنا وسار بنا حتى المتحف. وهناك أوقفونا على الحائط، وأمرونا أن نهتف لبيار الجميل، وأخذوا أربع فتيات. وكانوا يمسكون الفتاة من يدها ورجلها ويرمون بها في السيارة، ثم أخذوا ابنة عمي إلى غرفة مجاورة وكانت حاملا، فأجبروها على خلع ثيابها، وحاولوا شق بطنها ...»
عنوان:
فوزية شحرور، 30 سنة. «... رأيتهم يبقرون بطن حامل في شهرها الأخير، فخرج الطفل أمامنا من بطنها، وماتت المرأة على الفور. وذعر الجميع، ولم يستطع أحد النظر إلى الخلف ...»
عنوان:
زينب أم علي، 40 سنة، أم لعشرة أطفال (بقية). «... أخذ مني بناتي الاثنتين بعد أن هددني؛ وذلك ليعتدي عليهما، فعرضت عليه كل ما عندي من مال، وجريت للمسئول عنهم قبلت رجله، وقلت له كل شيء إلا الكرامة. بعد أن كان عرى بناتي أمام عيني تماما. قلت له لماذا تفعل هذا، يكون ما عندك ضمير إذا ما بترشنا نحن العشرة. أتى أحدهم وقال له اتركها. ثم جلبوا سيارات الشحن. صعدنا في الشاحنة أنا وأولادي، ونحن مارون كانوا يلقون علينا الماء الوسخ ويضربوننا بالأحذية. وكنا نمشي على جثث الشباب والبنات. رشوا 18 شابا عند المتحف، ولم يتركوا غير الأطفال والنساء. كانوا يسألون المرأة: كيف تريدين أن يموت زوجك، رشا أم ذبحا؟ وكانت امرأة الدوقي تجر أولادها فأوقفوها، وقالوا لها ضمي ابنك فلم تقبل وأخذت تبكي، فضربها أحدهم بكعب الكلاشن وقتل ولدها. وجروا أبو ياسين وقتلوه وسط الناس وحركوا السيارة عليه وفلخوه. وجلبوا سليمان المسئول العسكري للجبهة وربطوا رجليه بالكميون وشمطوه ...»
عنوان:
واحدة خافت من ذكر اسمها. «كنت أنا وزوجي وأهلي جالسين في المنزل فسمعنا صوت طيران، فهرعنا نحن ومن حولنا من الجيران إلى الملجأ. وبعد قليل رأيت زوجي ومعه ثلاثة شبان يقولون: لا تخافوا هذا ليس طيران إسرائيلي، إنه طيران سوري. لا تخافوا، اخرجوا إلى منازلكم. وخرجنا من الملجأ فكان الطيران يحلق فوقنا فلم نخف؛ لأننا عرفنا أنه طيران سوري، وأخذنا ننظر إليه، ويا لهول ما كان ينتظرنا! فقد أخذ يقصف تلة المير، وعندها بدأت المجزرة.»
عنوان:
عفاف محمد، 32 سنة، أم لسبعة أطفال بقي منهم 3 (بقية). «... حملت طفلتي الصغيرة التي لم يكن عمرها أكثر من أسبوعين، وابنتي سونيا وعبير التي عمرها سنتين فقط، والباقون أمسكوا بذيل فستاني. وعلى الطريق أصبح أولادي بغير أحذية، مروا فوق الردم والزجاج، وسال الدم من أرجلهم إلى أن وصلنا مدرسة الفندقية. وهناك بقينا من الرابعة صباحا حتى الثانية بعد الظهر. وجاع أولادي. ولن أنسى ما حييت صوت عبير وهي تقول لي: ماما بدي زعتر بالصحن ...»
عنوان:
فاطمة محمود، 45 سنة. «... أخذوا الشباب وصفوهم صفا واحدا ووجوههم إلى الحائط، وبدءوا يضربوهم بمدقات الكبة على ظهورهم حتى وقعوا على الأرض مغشيا عليهم. وأمروا البعض أن يركع، والبعض الآخر أن يقف وظهره إلى الحائط، ورشوا النيران على الراكعين أمام الواقفين، ثم أشعلوا النيران ووضعوا فيها قضبانا من الحديد حتى احمر لونها، ثم وضعوها بشكل صليب على بطون الواقفين. وبعدها ربطوهم في حبال وربطوهم بالسيارات وأخذوا يطوفون بهم الشوارع، ونساء تلك المنطقة تزغرد لهم وتغني ...»
عنوان:
جميلة قاعور، 33 سنة، أم لأربع بنات. «... وصلنا إلى المدرسة الحديثة، وقاموا بتفتيشينا وكان معهم ضابط سوري، وجدوا معي 75 ليرة فأخذوها. ثم حضر الكميون وطلع أولادي ثم والدتي ووالدي، وأخيرا أنا، فسألتهم عن بناتي فقالوا: إن اثنتين منهما فقدتا بين حشود النساء والأطفال. أخذت أبحث عنهما داخل الكميون بشكل جنوني وأنا أصرخ فزعا. وبعد لحظات وجدتهما تحت الأرجل؛ الأولى كانت فارقت الحياة وازرق جسدها، والثانية على وشك ذلك. فأخذت أسعفها حتى استطعت إنقاذها.
أنزلونا عند السيار. وأردت أن أحضر جثة ابنتي من الكميون فرفض المسلحون وهددوني بالقتل. ووضعوها في رأس الأرزة وهم يقولون: تعالي خدي بنتك أعطيها لأبو عمار. ثم أخذوا يطلقون الرصاص علينا رغم أننا كنا قريبين من السوريين والليبيين في قوات الأمن العربية التي لم تحرك ساكنا، بل طلبنا من هذه القوات قليلا من الماء للأطفال، فرفضوا وقالوا: الآن تعرضونا للمشاكل، اشربوا من مكان آخر. فابتعدنا حتى حضرت سيارات تابعة للمقاومة، فركبناها ونحن نصرخ ونبكي وننادي: خسارة على شباب تل الزعتر.»
عنوان:
فوزية مصطفى حسين، 16 سنة. «كان طفل يصرخ ويبكي من الجوع فطلبوا من والدته أن تسكته لكنه لم يسكت، فقال لها الكتائبي: أنا سأسكته. أعطني إياه. وأخذه منها ورماه بعيدا ليسقط جثة هامدة، ثم قال لها: الآن سكت.»
عنوان:
عفاف محمد، 32 سنة، أم لسبعة أطفال بقي منهم 3 (بقية). «... أحضروا شاحنات كبيرة عالية لنقل الأهالي فهرعت النساء مع أولادهن، ومن كثرة الأهالي الذين هرعوا إلى السيارة وقف الكبار فوق الصغار. وعندما انتهيت من رفع أولادي إلى الشاحنة حاولت أن أطلع أنا، لكن السائق سار، فرجوته، لكنه رفض، وقال لي أن أطلع بشاحنة أخرى. وفعلا تم ذلك، ووصلت المتحف قبل الأولاد، وانتظرت هناك حتى جاءت الشاحنة ونزل الجميع ما عدا أولادي. وفي النهاية نزل أخي وعمره 12 سنة، وابني فيصل وعمره خمس سنوات، وابنتي نورما وعمرها أربع سنوات. وسألت عن الباقي، فقال أخي: إن الركاب داسوا عليهم مما أدى إلى استشهاد سهام وعمرها 3 سنوات وعبير وعمرها سنتين. أما سونيا وعمرها تسع سنوات فقد فقدت ولا أدري لغاية الآن أين هي، حية أم ميتة. وبالمثل فقد زوجي.»
عنوان:
مريم يعقوب، 45 سنة. «... يوم الخروج كان أولادي الاثنان معي، قلت لهم: امشوا أمامنا. ورأيت فتاة مقتولة، وبعدها رأيت ابني مقتولا هو وعدة شباب، فبكيت. وقال لي زوجي العجوز: الآن تبكين ولدنا وبعد هذا تبكينني أنا.
وفي الفندقية فتشونا بحثا عن المال والذهب، ثم جاءت الشاحنات لتقلنا، وصعد الانعزاليون مؤخرة الشاحنة ليروا إذا كان هناك رجل بين النساء والأطفال، فأنزلوا زوجي وأخذوا ما معه من مال ثم قتلوه. وعلى حاجز آخر أنزلوا الأطفال وبينهم ولدي محمد، وعندما رأيت الانعزالي نزل من الجانب الآخر خبأته تحتي. وجلست فوقه حتى مشت الشاحنة ...»
عنوان:
رندة إبراهيم الدرقي، 14 سنة. «... كانت القطط في تل الزعتر سمينة جدا لأنها كانت تأكل الجثث. وكانت خطرة؛ لأنها كان يمكن أن تهاجم الناس بعد أن تعودت على أن تأكلهم. وكان مقاتلونا يطلقون عليها النار.»
عنوان:
أم نبيل، 45 سنة، أم لعشرة أبناء. «... كنت أقوم بعجين الخبز للمقاتلين مع مجموعة من نساء المخيم عندما علمت باستشهاد ابني كايد وعمره 22 سنة، فأكملت عجيني وذهبت إلى مكان جثته وقبلته وتركته ورجعت. ولم أخبر إخوته حتى لا تنهار عزائمهم.
وبعد أسبوع علمت باستشهاد ابني فارس وعمره 25 سنة، وتحملت. لكن قلب الأم لم يتحمل أكثر، فصبرت نفسي بنفسي؛ لأني كنت قدوة لأمهات الشهداء. وخرج ابني نبيل عن طريق الجبل. ولغاية اليوم لم أعرف عنه شيئا. واقتحموا المخيم وأنا به وابني خالد وعمره 14 سنة، فصفوا الرجال وأخذوا البنات وفتشوا النشاء تفتيشا مخجلا. وجاء دوري فسألوني من أين لي مثل هذا الولد لأنه أشقر وعيونه خضر وأنا سمرة وقالوا: حرام يكون عند الفلسطينيين مثله. فأجبتهم بصوت كله تحدي: هذا فلسطيني، ابني أنا، ابن فلسطين، وما إن انتهيت من كلامي حتى أطلقوا الرصاص عليه، ولم أهتز بل تسمرت في مكاني، وأمروني أن أدوسه فرفضت، وقلت لهم أعرف هذه النهاية، وهذا قدرنا، ولن نركع أبدا وما زال لنا طفل يرضع.»
عنوان:
مريم يعقوب، 45 سنة (بقية). «... ووقفنا عند حاجز آخر وأنزلونا للتفتيش، وكان معي قليل من السكر والملح داخل إبريق الشاي وكثير من الصور لأولادي وأوراق أرضنا في فلسطين داخل علبة ...»
عنوان:
ثريا قاسم، 48 سنة، أم لخمسة أولاد. «... كان عندي ولد الله يرحمه، اسمه محمد. وكان عمره يقبرني شي 18 سنة. وكان متحمس كثير، وما كان يشيل السلاح من إيدو. والله كتبلوا يستشهد في 2 / 7 / 76، بساحة الشرف والبطولة، وبعدها شي أسبوع استشهد ابني التاني إبراهيم، وكان بعد ما خلص ال 14 سنة، حزنت كثير، حزنت عليهم حزن أي أم وكمان لأن ما عاد عندي شباب أقدمهم ليقاتلوا ويدافعوا عن كرامتنا. زوجي رجال كبير وحالته على قدو.
أما بناتي الله يستر عليهم مطرح ما هن، كان عندي ثلاث بنات؛ لميا (20 سنة) وعايدة (22 سنة) وديية (17 سنة) كانوا يساعدوا بنقط الإسعاف وبعدين طلعوا الجبل. ولحد الآن ما سمعت أي خبر بالعاطل أو بالمنيح عنهن. مش عارفة إذا استشهدوا أو بعدهن طيبين ...»
عنوان:
رندة إبراهيم الدوقي، 14 سنة (بقية). «... في الليلة الأخيرة تمكنا من الاتصال بياسر عرفات باللاسلكي وسألناه عما نفعل فقال: لا تستسلموا ...»
عنوان:
واحدة لم تذكر اسمها. «... الزعتر كان آخر معقل في المنطقة المسيحية، وكان واضح أن النصر للانعزاليين بسبب تأييد سوريا وإسرائيل لهم، وعزلة التل عن مناطقنا. وكان من الممكن التفاوض على استسلام مبكر. وبدلا من ذلك استشهد أكثر من ألفي فلسطيني ولبناني دون ضرورة.»
عنوان:
وطفة شحادة ضاهر، 35 سنة، أم لسبعة أولاد. «كان واضحا للجميع أن المخيم سيسقط؛ لأن الجرحى والشهداء كانوا أكثر من المقاتلين، ولم يبعث لنا إخواننا في الغربية ولا مقاتل واحد، أو ذخيرة للمدفعية والأسلحة الأخرى، بدلا من الذي فقدناه في الهجمات الانعزالية التي زادت على 58 هجوما.»
عنوان:
نزهة حسن الدوقي، 65 سنة، أم لخمسة أبناء وجدة لعشرة (بقية). «... شو عملنا عاطل يا خالتي ما بعرف، حتى إنه نموت عشان نرجع بلدنا. ممنوع؟ شو بدهم منا .. يفنونا؟»
16
رحب بنا جاك ليروت وزوجته بحرارة، وجعل يردد بالعربية وهو يضحك: أهلين .. أهلين.
كان متوسط القامة مثل أغلب الفرنسيين، في حوالي الخامسة والثلاثين، تطل من عينيه الباسمتين نظرة ساخرة، ويضحك دائما بلا سبب ظاهر. وكانت زوجته سوداء الشعر مليئة، تبدو أكبر منه في العمر.
تقدمانا إلى غرفة متسعة، تضيئها المصابيح الجانبية. وصافحت مروان، ذا الشارب الكث، وزميله السينمائي، وشابا آخر ذا لحية ثقيلة غطت كل وجهه.
جلست في مقعد وثير ذي مسندين من الخشب المصقول. وخاطبني جاك ضاحكا في عربية سليمة ليس بها أثر للكنة أجنبية: نحن نلتقي دائما بالصدفة.
قلت: آخر مرة كنت تدرس مآذن القاهرة.
ضحك بصوت عال وقال: أنا أدرس الآن اللهجة اللبنانية.
وتحول إلى أنطوانيت متسائلا: كيف حال الفيلم؟
أجابت: منيح، ماشي الحال.
قال غامزا بعينه في اتجاهي، وهو ينحني على طاولة صغيرة صفت فوقها زجاجات الشراب: أكيد؟
ملأ لكل منا كأسا من الجين، ثم تقدم من ستريو كبير يعلوه غطاء من البلاستيك الشفاف وقال: فيروز أم أم كلثوم؟
قلت: باخ.
ضحك وهو يقلب في مجموعة من الأسطوانات: هذا هو سر فشل اليسار العربي؛ الجري وراء الثقافة الأوروبية والانفصال عن الشعب.
قلت محتجا: باخ ملك للجميع.
التقط إحدى الأسطوانات قائلا: ما رأيك في شيء معاصر قريب من باخ ومن الموسيقى العربية أيضا؟ هل سمعت جاريت؟
هززت رأسي نفيا، فوضع الأسطوانة فوق الجهاز، وثبت إبرته على حافتها، ثم عاد إلى مقعده.
اشتبكت انطوانيت في حديث بالفرنسية مع زوجة جاك، ووجه الأخير حديثه إلى مروان وهو يشير بإصبعه إلى ورقة استقرت فوق طاولة أمامه: العريضة بهذه الصورة لن تنشرها صحيفة واحدة في فرنسا.
تعلقت به عينا مروان في تركيز، بينما سأله الشاب الملتحي في تحد: لماذا؟
ضحك وأجاب: لأنها تتحدث عن اعتقال بضع عشرات من اليساريين بينما هناك آلاف من المعتقلين الآخرين في سوريا، من الإخوان المسلمين وغيرهم، ثم إنها لا تحدد المسئولية بوضوح. كلنا نعرف أنه لولا الاتحاد السوفييتي لتهاوى النظام السوري. والعريضة لا تشير إلى ذلك بحرف.
أطرق مروان برأسه قائلا: أنا معك. لا بد من تغيير صيغة العريضة.
قال الشاب الملتحي بحدة: هذا مستحيل.
تدخلت أنطوانيت في الحديث قائلة: إذا تغيرت صيغة العريضة فسأسحب توقيعي من عليها.
ضحك جاك وقال: ليس من الضروري تغييرها. يمكن إعداد صيغة مختلفة للنص الفرنسي.
تابعت النقاش وأنا أنصت للموسيقى. كانت قريبة الشبه بمعزوفات آلة القانون العربية. لكن بناءها كان مركبا، يتصاعد بين الحين والآخر حتى ليوشك أن يبلغ الذروة، وعندئذ يتراجع إلى نقطة البداية، ليبدأ محاولة جديدة لبلوغ القمة.
دعتنا زوجة جاك إلى مائدة صفت فوقها مجموعة كاملة من الصحاف والأواني الخزفية ذات الحواف المذهبة. وبدأنا بالحساء ثم تتابعت بقية الأصناف وفقا للترتيب الكلاسيكي. وانتهينا بالقهوة والكونياك في الغرفة الأولى.
قال جاك وهو يلتقط لفافة صغيرة في حجم علبة الثقاب، من صندوق للسيجار، ويضعها على الطاولة: هل تعرفون أن الذكرى الثالثة لزيارة السادات للقدس تحل غدا؟
تناول مروان اللفافة وفض غلافها الشفاف ثم قربها من أنفه وقال: هذا نوع جيد.
عقب جاك: جاءني أمس من بعلبك.
التقط من صندوق السيجار مسمارا خشبيا قدمه إلى المخرج السينمائي. وبحركة مدربة أولجه الأخير في طرف سيجارة، وجعل يحركه إلى الداخل والخارج، ثم اقتطع من لفافة الحشيش حمصة، دعكها جيدا بين أصابعه، وفتلها بين راحتيه، ثم دفعها داخل السيجارة في الفراغ الذي صنعه المسمار. وقدم السيجارة إلى زوجة جاك وأشعلها لها.
أخذت الفرنسية نفسا عميقا من السيجارة، جعل طرفها يتوهج مسافة تربو على السنتيمتر، ثم أعطتها أنطوانيت وقالت: كنت في القاهرة هذا الربيع عندما وصلها السفير الإسرائيلي. كان مشهد سيارته وهي تجتاز وسط المدينة رافعة العلم الإسرائيلي مشهدا مذهلا بحق.
سألها مروان بالفرنسية: وماذا كان موقف الناس؟
قلبت شفتها وقالت: لم يكن هناك جمهور كثير. وكانت السيارة تسير بسرعة. وكان رجال الشرطة يقفون على جانبي الطريق في أعداد غفيرة.
قال السينمائي وهو يحرك المسمار في سيجارة جديدة: لو جاء إلى دمشق لخرجت الجماهير مرحبة.
ضحك جاك وقال: كل هذا لأنهم منعوا لك الفيلم.
قال السينمائي: أي شيء أهون لدينا الآن من الأسد وأعوانه.
أخذت نصيبي من السيجارة المحشوة وقدمتها إلى جاك فسألني: هل وجدت ناشرا لكتابك؟
قلت: ليس بعد.
قال وهو يرمقني بنظرة فاحصة: هذه هي الأنظمة العربية.
كانت دقات البيان ما زالت تجاهد للوصول إلى الذروة. ويبدو أنها أشرفت عليها؛ فقد صاحبتها فجأة آهة بشرية ناطقة بالألم أو اللذة أو كليهما معا.
سألت جاك: هل ستبقى طويلا في بيروت؟
أجاب: ربما. لا أعرف. سأعود إلى فرنسا بعد شهرين لأشترك في الحملة الانتخابية.
تطلعت إليه متسائلا، فقال: أنا عضو في الحزب الاشتراكي. وهناك فرصة كبيرة أمامه هذه المرة. ولو نجحنا في الانتخابات لأصبح ميتران رئيسا.
ضحك ثم أضاف: ماذا .. ألا يعجبك ميتران؟
قلت: أليس هو الذي أعلن أن العدوان الإسرائيلي عام 1967، هو حرب وقائية شنتها إسرائيل دفاعا عن النفس؟ - لا تريد أن تنسى أبدا؟ أليس كذلك؟ - ولماذا يجب أن ننسى؟
تشاغل بتناول السيجارة من مروان، فجذب منها عدة أنفاس وقدمها إلي. أخذت نفسين ومددت بها يدي إلى أنطوانيت.
استقرت أناملها فوق أصابعي لحظة، ثم أحاطت بالسيجارة وجذبتها في بطء في اتجاه أظفاري دون أن تتخلى عن ملامستي.
تكررت الآهة البشرية المصاحبة لنغمات البيان. وكان الخدر قد سرى في ساقي، وازداد إحساسي بالموسيقى إرهافا.
أعلنت أنطوانيت فجأة أنها مضطرة للانصراف كي تعود إلى منزلها في المنطقة الشرقية. وعرضت عليها زوجة جاك أن تقضي الليلة عندهما، فرفضت بإصرار قائلة إن أمها ستنزعج إذا تغيبت عن المنزل. وتطلعت نحوي بعينين لامعتين فنهضت واقفا وأنا أقول: طريقنا واحد.
أطرقت برأسها، وقالت: سأوصلك.
رافقنا جاك وزوجته إلى الباب الخارجي. وما إن خطونا إلى الشارع حتى لفح الهواء البارد وجهينا، ترنحت أنطوانيت فأمسكت بذراعي وأسندت رأسها إلى كتفي.
سألتني: هل يمكنك أن تقود السيارة؟
أجبت: لا. لماذا؟
قالت: أشعر بالدنيا تدور بي. - نترك السيارة ونأخذ تاكسي. - لن نجد واحدا في هذه الساعة. لا. سأقود أنا.
أخرجت سلسلة مفاتيح من حقيبة يدها وركبنا السيارة. بحثت طويلا عن مفتاح المحرك إلى أن وجدته، فأدارته وانطلقت بالسيارة في حركة مفاجئة دفعت بي إلى الخلف في عنف.
قلت: على مهلك. - لا أظن أن سأتمكن من السير حتى الشرقية. - باتي عندنا.
وجهت اهتمامي إلى الطريق متوقعا كارثة في أي لحظة. لكن الشوارع كانت خالية، ولم نلبث أن عبرنا الحمرا، واتجهنا إلى مسكن وديع.
أوقفت السيارة أمام المنزل، ومالت برأسها على المقود وهي تقول: نفسي أنام.
قلت: اصعدي معي ونامي عندنا.
قالت: الظاهر أن هذا هو ما سيحدث.
خطوت إلى الخارج وانتظرتها حتى غادرت السيارة، وأغلقت بابها بالمفتاح، ثم تقدمت من الباب وناديت على أبو شاكر، ففتح لنا بعد لحظات.
كان المصعد في الطابق الأرضي فولجناه. وأمسكت بساعدها عندما أوشكت أن تتعثر في العتبة، ثم أغلقت الباب وضغطت الزر.
أمالت رأسها على كتفي، فأحطتها بذراعي، ورفعت إلي وجهها فتطلعت في عينيها.
قالت: متأكد أني لا أسبب إزعاجا لك أو لوديع؟
قلت: متأكد.
كانت عيناها عاجزتين عن التركيز كعيون السكارى. وكان فمها قريبا من فمي، وشفتاها منفرجتين، منداتين.
قالت: ألا تريد أن تقبلني؟
توقف المصعد في هذه اللحظة، فجذبت مصراعه الزجاجي ثم دفعت الباب الحديدي، وغادرنا المصعد وأنا أخرج مفتاح المسكن من جيبي.
طرقت الجرس أولا، ثم وضعت المفتاح في قفل الباب وأدرته. وشعرت بالباب يجذب من الناحية الأخرى، ثم انفرج كاشفا عن وديع.
تهلل وجهه لرؤية أنطوانيت، وأفسح لها وهو يقول: أهلين.
خطت إلى الداخل قائلة: عليكم أن تتحملوني الليلة.
أحاطها وديع بذراعه وطبع قبلة على عنقها ثم قال: الليلة فقط؟
وجه إلي الحديث وهو ما زال يضمها إليه: أيام الحرب كان الواحد إذا هبط الليل، يبيت أينما يكون.
تخلصت منه في رفق، واتجهت إلى الحمام دون أن تستفسر عن مكانه. وتبعت وديع إلى الصالة بعد أن أغلقت باب المسكن، وشعرت من حركاته أنه ثمل.
أمسك بزجاجة فودكا على الطاولة وسألني: أصب لك؟
هززت رأسي نفيا وأنا أرتمي على الكنبة، فصب لنفسه كأسا وأضاف إليها شيئا من عصير البرتقال. وقال بعد أن أخذ منها رشفة: الليلة مفترجة.
عادت أنطوانيت من الحمام بعد أن غسلت وجهها، فعرض عليها الفودكا لكنها اعتذرت.
قال: عندي حشيش لو أحببتما.
قالت: أفضل فنجان قهوة.
قمت واقفا وانا أقول: وأنا أيضا. سأعملها.
مضيت إلى المطبخ فأشعلت الموقد، ووضعت كنكة القهوة على النار. وانتظرت حتى غلت فصببتها. وحملت الفناجين في صينية إلى الصالة.
وجدت وديع منهمكا في إعداد سيجارة محشوة، بينما أسندت أنطوانيت رأسها إلى راحتها وشردت. وضعت فنجانا أمامها، وجلست على الكنبة أحتسي فنجاني.
انتهى وديع من حشو السيجارة فأشعلها وقدمها إلي. أخذت منها نفسين وأعطيتها لأنطوانيت التي أخذت نفسا ثم أعادتها إليه.
جذب عدة أنفاس في استمتاع، ثم قدم السيجارة إلي، فاعتذرت قائلا: لقد دخنت بما فيه الكفاية، وأريد أن أدخل لأنام.
قالت أنطوانيت: أنا أيضا لا بد أن أنام الآن؛ لأتمكن من العمل في الصباح.
أتى وديع على السيجارة، ثم قام إلى غرفته وعاد بجلباب واسع قدمه إلى أنطوانيت.
قلت: سأترك غرفتي لأنطوانيت وأنام في الصالة.
قالت: لا يمكن أن أحرمك من غرفتك.
قال وديع: سأنام أنا في الصالة وتنام أنطوانيت في غرفتي.
قالت: المشكلة أني لا أستطيع النوم وحدي. لن يغمض لي جفن طول الليل.
قال وديع وهو يحيط كتفها بذراعه: إذن تنامي معي في غرفتي، فيها سريران.
كان في غرفتي أيضا سريران، لكني لم أفه بكلمة. وتركتهما إلى الحمام فاغتسلت، ثم مضيت إلى غرفتي فخلعت ملابسي، وارتديت البيجامة.
استلقيت على الفراش. وبعد قليل شعرت بالعطش فغادرت الغرفة إلى الصالة ثم المطبخ. كان باب غرفة وديع مفتوحا والنور مضاء. ولمحت أنطوانيت بملابسها الداخلية في منتصف الحجرة. وعندما كررت عائدا بكوب من الماء، رأيت باب الغرفة مغلقا.
17
الفصل الخامس من الفيلم
جنين، نابلس، القدس، أريحا، بيت لحم، الخليل، الأعلام السوداء ترفرف فوق مدن الضفة الغربية المحتلة لنهر الأردن، لافتات تنعى شهداء تل الزعتر، عربات الجيش الإسرائيلي تجوب الشوارع والميادين، سيارات اللاسلكي في الساحات وعند مفارق الطرق (ملحوظة لي: أصبحت سيارات الجيب العسكرية الإسرائيلية، ذات القاعدة المنخفضة، مميزة تماما بمثل ما كانت موتوسيكلات الجستابو ذات المقاعد الجانبية).
الطريق المؤدي إلى جبل لبنان، مدرعات سورية تتقدم وهي تطلق مدافعها.
دائرة حول فقرة من بيان لكمال جنبلاط في جريدة «الأنباء»: «معركة الجبل تقترب فاحملوا السلاح واصمدوا؛ فإن الصمود يعني ألا نهتز كثيرا لسقوط هذا الموقع أو ذاك.»
إلى جوار الفقرة السابقة عنوانان: «جنبلاط يستعجل عقد مؤتمر القمة العربية»، «أبو إياد ينتقد الصمت العربي إزاء العمل العسكري السوري في صف الكتائب».
واشنطون، دين براون يتحدث إلى الصحفيين: «نحن نسعى لمنع تحول لبنان إلى اليسار.» و«إسرائيل عامل أساسي في الموقف، وهي تزود الموارنة بالسلاح.» - دائرة حول فقرة من مجلة تايم الأمريكية الصادرة في 3 سبتمبر (أيلول) 1976م «في شهر مايو (آيار) الماضي نزل الكوماندوز الإسرائيلي في ميناء جونية .. فانتشرت قوات الطرفين على حد سواء، وعملت على تأمين مساحة للهبوط، وارتفعت طائرة هليكوبتر على سطح سفينة شحن تقف قرب الشاطئ في حراسة أسطول صغير، وكانت تحمل المسئولين الإسرائيليين؛ وزير الدفاع بيريز ورئيس الوزراء رابين. وتم اللقاء مع زعماء الموارنة في نقطة تحول حقيقية في علاقات إسرائيل.»
بيروت، جنبلاط للصحفيين: «وضعنا رأسنا في كفة الميزان.»
عنوان في صحيفة لبنانية: «أول بيان سوفييتي يدعو القوات السورية إلى الانسحاب من لبنان».
تصريح لإيجال آلون في صحيفة دافار الإسرائيلية: «لقد أحرق لهيب الحرب الأهلية في لبنان، الفكرة الخيالية لمنظمة التحرير بشأن تصفية إسرائيل عن طريق إقامة الدولة العلمانية الديمقراطية، العربية اليهودية، التي ستحل محل إسرائيل.»
دائرة حول فقرة من مجلة أمريكية: «إن نساء القاهرة اللاتي يتغطين من قمة الرأس إلى أخمص القدم ما زلن أقلية، وبالمثل تلك الجماعات التي تدعو إلى معاملة الأقباط باعتبارهم «أهل ذمة» كما كان الأمر في الإمبراطورية الإسلامية منذ عشرة قرون. وهؤلاء كانوا محرومين من المواطنة الكاملة؛ أي كانوا مواطنين من الدرجة الثانية، يدفعون الجزية أو يدخلون في الإسلام.»
عنوان في صحيفة «صوت النمور» الناطقة باسم شمعون: «نظرية التعايش في فلسطين سقطت في لبنان».
مبنى قوات النمور، شمعون يستعرض ثلاثة آلاف مقاتل كتائبي بالملابس السوداء في حفل تخرجهم، يخطب قائلا: «الحرب طويلة، وما زلنا في بداية الطريق.»
مسلح لبناني يحمل مدفعا ويحيط ساعده بشارة الأرز، يقول بالفرنسية في مقابلة سينمائية تجريها الممثلة الإنجليزية فانيسيا ريدجريف: «على كل لبناني أن يقتل فلسطينيا.»
بيار الجميل وكميل شمعون وسليمان فرنجية يمرقون من بوابة قصر قديم، ينضم إليهم شربل قسيس في بهو فاخر الرياش.
عنوان في صحيفة الكتائب: «تشكيل قيادة عسكرية موحدة برئاسة بشير الجميل».
عنوان في «السفير»: «جنبلاط يدعو الفلسطينيين إلى الانتظام وتشكيل حكومة مؤقتة».
عنوان في صحيفة: «جورج حبش، زعيم منظمة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ينتقد تردد الحركة الوطنية في إقامة سلطة شعبية».
عنوان في صحيفة: «موسكو تنتقد اليمين المتطرف واليسار المتطرف في لبنان».
عنوان في صحيفة: «نايف الحواتمة، زعيم الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، يقول: الحسم العسكري مستحيل».
عنوان في صحيفة: «حبش يقول: لا تسوية، وسنقيم هانوي عربية».
عنوان في صحيفة: «إغلاق خامس صحيفة في الكويت بعد حل البرلمان وتعطيل الدستور خوفا من اللبننة».
قصر الرئاسة اللبنانية في بعبدا، الرئيس الجديد إلياس سركيس يصعد الدرج.
عنوان: «في 21 / 9 / 1976، تسلم سركيس الرئاسة من فرنجية، وعلى الفور دعا المقاومة الفلسطينية إلى الانسحاب من الجبل.»
ياسر عرفات للصحفيين: «لا نطلب إلا أن يؤمن ظهرنا ولا يساوم بنا أو علينا.»
عنوان في صحيفة: «نمور شمعون يطلقون النار على سيارة جنبلاط بعد اجتماعه بسركيس».
عنوان في صحيفة: «اعتداء على السفينة التي أقلت جنبلاط إلى قبرص».
دمشق، حافظ الأسد يخطب في جنود «سرايا الدفاع»: «جهودكم في لبنان وتصديكم للمتآمرين حالت دون تقسيم لبنان.»
بيروت الغربية، طرابلس، صور، صيدا، احتفالات بالذكرى السادسة لرحيل جمال عبد الناصر.
عنوان في صحيفة: «وكالة نوفوستي السوفييتية للأنباء في ذكرى رحيل جمال عبد الناصر: غيابه ملموس بقوة».
عناوين صحف: «القوات السورية تدخل معظم قرى الجبل والقوات الوطنية المشتركة تقاتل وتتراجع»، «حصار بحري إسرائيلي لصور وصيدا يمنع وصول المؤن والأسلحة للقوات الوطنية»، «المجلس السياسي للحركة الوطنية ينتقد الصمت العربي والقصور الدولي التقدمي». «بشير الجميل يعلن: سنحرر لبنان حتى لو توقف السوريون».
عنوان في صحيفة: «ياسر عرفات إلى المقاتلين: إلى السلاح؛ فالنصر آت».
دمشق، الرئيس الأسد يوجه كلمة بالتليفزيون في ذكرى حرب أكتوبر/تشرين: «مصممون على الاستمرار في مساعدة لبنان لإنقاذه من آلامه والحفاظ على استقلاله ووحدته، وإنقاذ المقاومة الفلسطينية.»
دائرة حول سطور من صحيفة سوفييتية: «أحداث لبنان وضعت موضع الشك وطنية الأنظمة العربية تجاه فلسطين».
مطار الرياض، الملك خالد يستقبل السادات، الأسد، سركيس، ياسر عرفات، أمير الكويت.
بيروت، جنبلاط للصحفيين: «الموقف الآن في أيدي دول النفط.»
عناوين ضخمة لصحيفة لبنانية: «مؤتمر الرياض يقرر وقف إطلاق النار في لبنان ابتداء من 21 / 10 / 76م. المؤتمر يقرر تحويل قوات الأمن العربية إلى قوة ردع بإمرة سركيس. القوة الجديدة تتألف من 30 ألف مقاتل، عمادها القوات السورية (21 ألف مقاتل) بالإضافة إلى الكتيبتين السعودية والسودانية».
صورة فوتوغرافية في صحيفة لاجتماع بين جنبلاط وأبو جهاد قائد القوات المشتركة في الجبل وأحد أبرز زعماء «فتح»، أسفل الصورة عنوانان: «أبو جهاد: الكل في الحرب الأهلية خاسر»، «جنبلاط: أطالب الفلسطينيين بموقف موحد».
عنوان: «وأخيرا توقفت الحرب.»
مجموعات من أهالي بيروت ترحب بمصفحات قوات الردع، ترحيب ونحر خراف في الشوف وكسروان وجبيل، قوات الردع تعسكر بجوار المؤسسات الرسمية، دباباتها تجوب الشوارع المدمرة.
عناوين الصحف: «عودة الهاتف بين منطقتي بيروت، الكهرباء تعود 8 ساعات يوميا».
شارع في بيروت، جرافة تعمل في إزالة الأنقاض، في منتصف الشارع متراس يتألف من سيارتي ركاب محروقتين.
غرفة في مستشفى، في الوسط فراش وحيد يرقد عليه الزعيم الماروني المستقل، ريمون إدة، يدخل جنبلاط زائرا، عند خروجه يصرح لأحد الصحفيين: «أتوقع محاولات اغتيال جديدة.»
عنوان في صحيفة: «منظمة الصاعقة تهاجم الجبهة الديمقراطية لتسترد مقرها في مبنى الاستديو».
عنوان: «أعلن الصليب الأحمر السويدي، أن 700 ألف لبناني قد تضرروا من الحرب، وأن هناك عشرة آلاف مفقود في لبنان.
وقدرت خسائر البرق والهاتف ب 110 ملايين ليرة.
وخسائر رأس المال في عامي 75 و76 ب 700 مليون ليرة.
والخسائر غير المباشرة في الدخل القومي بقطاع الصناعة ملياران و274 مليونا من الليرات.
وخسائر قطاع الاستيراد خمسة مليارات و350 مليون ليرة.
وخسائر قطاع الصادرات ملياران و225 مليون ليرة.
وأمكن حصر 9000 تأشيرة من أستراليا للبنانيين.
وقدر أن الحرب خلفت ربع مليون يتيم.»
كمال جنبلاط للصحفيين: «أمريكا دفعت في الحرب 250 مليون ليرة.»
مقر الأمم المتحدة في نيويورك، التصويت يجري على قرار انسحاب إسرائيل من المناطق العربية المحتلة، وإنشاء دولة فلسطينية، أجيز القرار بأغلبية تسعين صوتا مقابل ستة عشر صوتا.
دمشق، عبد الحليم خدام، وزير الخارجية السوري، للصحفيين: «نزع السلاح يشمل المقاومة، مقياس الوطنية هو العلاقة مع سوريا.»
أمين الجميل للصحفيين: «الموقف السوري وفر علينا مراحل صعبة جدا.»
الشارع الذي يقع فيه منزل كمال جنبلاط في بيروت، بقايا سيارة متفجرة قرب منزله، قطع لحم فوق فروع الأشجار، الدماء تلوث سيارة بيضاء على مقربة، سيارة إسعاف تنقل ضحايا الانفجار، طبيب يعلن لأحد الصحفيين: حتى الآن قتيلان، و24 جريحا.
عنوان في صحيفة: «عناصر من منظمة الصاعقة تهاجم مكاتب صحف «المحرر»، و«بيروت»، و«الدستور»، والمخابرات السورية تهاجم مكاتب «السفير» وتعتقل عددا من محرريها وتنقلهم إلى أحد سجون دمشق».
عنوان في صحيفة: «جنبلاط يطالب باستقالة العقيد أحمد الحاج، ضابط المكتب الثاني الذي عينه سركيس قائدا لقوات الردع العربية».
عنوان في صحيفة: «الكتائب ترفض إغلاق إذاعتها».
زغرتا، قصر فرنجية، الرئيس السابق للصحفيين: «لن نلقي بارودتنا قبل أن ترجع الطمأنينة.»
عنوان في صحيفة: «الحركة الوطنية تبلغ قيادة الردع بمكاني تجميع أسلحتها».
أبو مازن للصحفيين: «المقاومة لن تسلم أسلحتها، لكنها ستنقلها من المدن إلى الجنوب.»
مجلة نوفل أوبزرفاتور الفرنسية، دائرة حول فقرة من حديث لجنبلاط: «الفلسطينيون مارسوا علينا نوعا من الانتداب؛ الإدارة العسكرية ووسائل العيش والاتصال كانت بأيديهم.»
عنوان في صحيفة: «بدأت الرقابة على الصحف اللبنانية».
عنوان في صحيفة: «قيادة سياسية موحدة بين مصر وسوريا، الاتفاق على عقد مؤتمر جنيف قبل أبريل (نيسان)، على أن يمثل فيه الفلسطينيون بوفد مستقل».
الإسكندرية، مبنى الكاتدرائية المرقصية الكبرى.
عنوان: «في 17 يناير (كانون الثاني) 1977، عقد الأقباط المصريون في الإسكندرية أول مؤتمر من نوعه في تاريخ مصر الحديث، حضره البابا شنودة، الذي اكتسب منذ انتخابه للكرسي البابوي سنة 1971، شعبية كبيرة بين الأقباط. وقد لعب دورا بارزا في تنظيم هذا المؤتمر، الأنبا صموئيل، المسئول عن العلاقات الخارجية للكنيسة القبطية. وبحث المؤتمر «حرية العقيدة»، و«حرية ممارسة الشعائر الدينية»، «حماية الأسرة والزواج المسيحي»، «المساواة وتكافؤ الفرص وتمثيل المسيحيين في الهيئات النيابية»، «خطر الاتجاهات الدينية المتطرفة».
وقدم المؤتمر إلى السلطات عدة مطالب منها: «إلغاء مشروع قانون الردة»، «العدول عن التفكير في تطبيق قوانين مستمدة من الشريعة الإسلامية على غير المسلمين»، «إلغاء القوانين العثمانية التي تقيد حق بناء الكنائس»، «استبعاد الطائفية في تولي وظائف الدولة على كل المستويات».» «وفي نفس اليوم ...»
الصحف المصرية تحمل عناوين ضخمة: «إلغاء الدعم عن بعض السلع استجابة لمطالب صندوق النقد الدولي، قائمة بخمس وعشرين سلعة «تحركت» أسعارها».
عنوان: «وفي الصباح الباكر لليوم التالي، 18 / 1 / 1977، خرجت مظاهرات الاحتجاج على الزيادات الجديدة في الأسعار في مدينة الإسكندرية، ثم انفجرت بعد ساعات في القاهرة، ولم يكد النهار ينتصف حتى كانت المظاهرات تجتاح مصر من أقصاها إلى أدناها.
وفي اليوم التالي، انضمت إلى المظاهرات بعض العناصر التي اندفعت إلى النهب والتدمير. وزحفت الجماهير الغاضبة في أسوان على الاستراحة التي يوجد بها أنور السادات، وهي مقره المفضل في الشتاء، فاضطر إلى الفرار وعاد إلى القاهرة في حماية قوات الأمن المركزي.»
وسقط بضع عشرات من القتلى برصاص قوات الأمن.»
الشوف في لبنان، المعزون يتوافدون على مأتم لأحد الأهالي، كمال جنبلاط ينضم إلى المعزين، يتحلق البعض حوله، يحدثهم عن فلسفته بالنسبة للموت، يقول: الإنسان يشم رائحة الموت قبله بثلاثة أيام.
عنوان: «وبعد يومين، في 16 مارس (آذار) 1977 .. استقل كمال جنبلاط (60 سنة) سيارته المرسيدس السوداء من قصر المختارة إلى منزله الريفي في الشاوية، حيث درج على الانزواء كل يوم جمعة غارقا بين الكتب والطبيعة، على ارتفاع 1500 متر عن سطح البحر.
لكنه في هذه المرة ارتدى ملابس كاكية، واشترك مع عدد من العمال في نقل الحجارة سوية قطعة أرض اختارها لحارسه الخاص، وفيما بعد أحضر مرافقاه طعاما مكونا من البيض والجبن البلدي والتفاح، إلى مائدة من حجرين كبيرين، وعندما انتهى الغداء، قام جنبلاط قائلا: «يللا، بدنا نمشي»، وارتدي ثيابه، ثم استقل السيارة مع مرافقيه؛ سائقه وحارسه الخاص، في الطريق إلى بيروت.
وعند تقاطع دير دوريت ...
دماء تملأ الأرض، سيارة جنبلاط وقد اخترقها الرصاص من كل جانب.
أمام قصر المختارة القديم، أسفل مظلة من القماش، جنبلاط مسجى على فراش عريض من الحرير الأبيض، بين مرافقيه في الحياة والموت، نساء باكيات في ملابس سوداء، وأوشحة بيضاء، يحطن بالفراش، طوابير طويلة من البشر في ملابس سوداء، يمرون أمام الفراش تحت المطر، طلقات المدافع الرشاشة في الهواء تختلط بأصوات الرعد وأضواء البرق.
بيروت، موكب مهيب من عشرات الألوف يشيعون جنازة جنبلاط.
مكان الجريمة مرة أخرى، سيارة تحمل هذه الأرقام؛ بغداد 72719.»
عنوان: «السيارة التي استخدمها الجناة، لكن الشكوك تتجه إلى عاصمة عربية أخرى.»
صورة فوتوغرافية ثابتة لآخر لقاء ثنائي بين كمال جنبلاط والرئيس السوري حافظ الأسد في دمشق.
18
قالت أنطوانيت وهي تسحب الشريط من الآلة: بقي الجزء الأخير من الفيلم وهو الخاص بعملية الليطاني. هل تظن أننا نستطيع الانتهاء منه غدا؟
تساءلت: لماذا لا نحاول اليوم؟
ألقت بنظرة على ساعتها وقالت:
الساعة الآن الثالثة، ولا بد أن نأكل شيئا، ثم إني أريد أن آخذك إلى مكان.
تطلعت إليها متسائلا، فقالت: أريدك أن تقابل شخصا أعرفه. - من هو؟ - لن أخبرك الآن.
تأملتها في استغراب، فسألتني: هل تثق بي؟
قلت: طبعا. - إذن لا تسأل.
غادرنا المكتب إلى الشارع المزدحم، وولجنا مطعما شعبيا صغيرا. أكلنا كوسة بالطماطم واللحم وأرزا ، مع حساء العدس. وأصرت أنطوانيت على أن تدفع الحساب الذي بلغ عشرين ليرة.
عدنا إلى حيث تركت سيارتها الفولكس، فركبناها. وبعد قليل كنا ننطلق في الطريق المؤدي إلى المطار.
بلغنا مخيم صابرا، فانحرفت بالسيارة نحوه. واعترضنا عدد من المسلحين عند حاجز من البراميل. كانوا يحملون شارات الكفاح المسلح الفلسطيني. وتعرف أحدهم على أنطوانيت فحياها في ود وتركونا نمر.
أوقفت أنطوانيت السيارة بعد عدة أمتار، إلى جوار بائع فلافل صنع من عدة مقاعد وموائد خشبية، مطعما في الهواء الطلق. تناولت حقيبة يدها ورفعت زجاج النافذة، ففعلت مثلها بالنافذة المجاورة لي، ثم غادرت السيارة ووقفت أتأمل برطمانات «الكبيس» الملون، الموزعة فوق موائد المطعم الصغير.
جذبتني من ذارعي، وانطلقنا في شارع مزدحم بالبوتيكات والحوانيت، بينها واحد للملابس المستعملة، التي تدلت على علاقات مثبتة في السقف. وكانت الجدران مغطاة بالشعارات والملصقات السياسية وصور الشهداء.
انتقلنا إلى شبكة من الأزقة، قامت على جوانبها منازل متواضعة لا يتجاوز أغلبها الطابقين ارتفاعا. وتسللت إلى أنفي رائحة البصل المقلي والكزبرة مع التوم. وأوشكت أن أصطدم بعدد من الأطفال يلعبون الكرة. واضطررنا أن نتوقف ونلتصق بالجدران، لنفسح الطريق لثلاث سيدات في معاطف سوداء، أحطن رءوسهن بمناديل بيضاء، يسرن متجاورات.
جاءنا صوت شجار حاد من نافذة فوق رأسينا. وسمعت امرأة تصرخ بلهجة مصرية صميمة، طالبة جواز سفرها كي تعود إلى مصر. ومرت السيدات الثلاث، فواصلنا السير بضع دقائق، ثم ولجنا منزلا وطرقنا باب أحد المسكنين اللذين يتألف منهما الطابق الأول.
فتح لنا شاب طويل القامة في بنطلون وبلوفر، أضاءت وجهه ابتسامة مشرقة لرؤيتنا. ودلفنا إلى صالة نظيفة بها مائدة معدنية وعدة مقاعد، وفي نهايتها مكتب تعلوه أرفف من الكتب.
أشار لنا أن نجلس، ثم خطا ببطء وهو يحرك إحدى ساقيه بصعوبة، واحتل مقعدا في مواجهتنا. تأملني صامتا دون أن تختفي البشاشة من وجهه. كان وجها وسيما، حاد التقاطيع، تملؤه التجاعيد التي تتناقض مع شعر أسود فاحم، تدلت منه خصلة فوق جبهته. وكان ثمة تعبير غريب في عينيه لم أتبين مغزاه .
ساد بيننا الصمت فأشعلت سيجارة. وفعلت أنطوانيت المثل. وأخيرا اغتصبت ضحكة وقلت لها: ألن تعرفيني بصديقك ؟
قالت: وليد فلسطيني من مواليد يافا. وهو معلم رسم في مدرسة المخيم. كما أنه يعمل في الترجمة بمؤسسة الإعلام.
وأضافت بعد لحظة: لقد حدثته عنك، وهو سعيد بلقائك.
نقلت البصر بينهما في حيرة. ولاحظت أن عينيه لا تفارقان شفتيها.
قالت بصوت مرتعش: إنه لا يسمع ولا يتكلم.
تطلعت إليه، فبادلني النظرات، وأحسست أنه فهم ما قالته.
سألتني: ماذا تريد أن تشرب؟ لا أظن أننا سنجد خمرا هنا.
قلت بسرعة: لا أريد أن أشرب شيئا.
قالت: نفسي في قهوة، أعمل لك معي؟
قلت: لا بأس.
مضت إلى باب في جانب الصالة، تبدو منه أسطوانة غاز. ورفعت عيني إلى الجدران، وجعلت أتأمل الملصقات التي انتشرت فوقها. وكان بينها جريدة حائط مطبوعة، موجهة إلى الأطفال. وحانت مني نظرة إلى وليد، فألفيته يتأملني في ابتسامة ودودة. وأدركت أن التعبير الغريب الذي تعكسه عيناه، هو نفسه الذي نراه دائما عند ذوي العاهات المتصلة بالسمع والبصر، ويجعلهم يبدون كأنهم يرونك ويفكرون في شيء آخر في الوقت نفسه.
أقبلت علينا أنطوانيت بصينية القهوة. مددت يدي إلى أحد الفناجين، فقالت: لا. هذا لوليد؛ فهو يشربها بسكر زيادة.
قلت وأنا آخذ فنجانا آخر: لماذا المفاجأة؟ لماذا لم تقولي لي من البداية؟
ترددت ثم أجابت: لا أعرف.
أخذ وليد رشفتين من فنجانه، ثم أعاده إلى الصينية. واستدار نحو المكتب، فالتقط ورقة وقلما، وكتب بضعة أسطر، ثم ناول الورقة إلى أنطوانيت.
قالت بعد أن قرأت السطر الأول: إنه يرحب بك.
أكملت قراءة الورقة في صمت، ثم طوتها ووضعتها في جيبها. وأرسلت بصرها نحوه.
فرغت من قهوتي فتململت في مجلسي، وقلت لأنطوانيت إن لدي موعدا في المنزل بعد نصف ساعة، فقامت واقفة وهي تقول: يمكننا أن ننصرف.
تغيرت ملامح وليد، وبدا شيء من اللهفة في عينيه. رمقته أنطوانيت متسائلة، فغادر مقعده، وتقدم وهو يعرج إلى مكتبه فجلس إليه. وتناول قلما سميكا من أفلام الفلوماستر، وورقة بيضاء .
تقدمت أنطوانيت منه حتى أصبحت خلفه وهي تقول لي: دقيقة.
عكف وليد على الورقة بضع ثوان ، ثم نحاها جانبا، وجذب ورقة أخرى. والتقطت أنطوانيت الورقة ثم ناولتها لي.
طالعني رسم لم أتبين فحواه. كان يتألف من عدة خطوط وبقعة سوداء. قلبت الورقة في يدي. ولم ألبث أن تعرفت على خريطة فلسطين كما كانت تبدو سنة 1948، عندما اقتطع منها الصهاينة جزءا صغيرا أعلنوا فيه دولتهم.
انتهى وليد من ورقة ثانية، وعكف على أخرى. وناولتني أنطوانيت الورقة، فوجدتها تمثل نفس الخريطة، لكن البقعة السوداء التي تمثل إسرائيل كبرت وتضخمت، فاحتوت الضفة الغربية لنهر الأردن، وشبه جزيرة سينا، وهضبة الجولان السورية، ومدينتي غزة ورفح.
وفي الورقة الثالثة، امتدت أسهم من البقعة السوداء إلى جنوب لبنان. وفي الرابعة امتدت الأسهم إلى بيروت وعمان ودمشق. وفي الورقة الخامسة امتدت إلى بغداد والكويت والظهران وبني غازي.
شعرت بالضيق؛ فقد بدا لي أنه يعاملني كما لو كنت تلميذا في مدرسته؛ فما أراد أن يلمح إليه يعرفه الكافة من المحيط إلى الخليج. ولم يلبث ضيقي أن تبدد، عندما رأيت أن ظواهر الحال تنطق بعكس ذلك.
طويت الأوراق الخمس ودسستها في جيبي ثم صافحته. غادرت المسكن وخطوت إلى الخارج. ووقفت أنتظر أنطوانيت في مدخل المنزل. ورأيت على الجدار المقابل إحدى ملصقات الشهداء. وكانت تحمل صورة فوتوغرافية رديئة لوجه باسم يفيض بالفتوة، وأسفل الصورة كان اسمه، وإشارة إلى أنه تلقى دراسة عسكرية أكاديمية، وأنه قتل أثناء فك شحنة متفجرة.
لحقت بي أنطوانيت بعد فترة، فعدنا أدراجنا في صمت إلى حيث تركنا السيارة. وسرعان ما اجتزنا حاجز المسلحين. وانطلقنا في الطريق إلى مركز المنطقة الغربية.
قالت: أصيبت ساق وليد أثناء المذبحة التي دبرها الملك حسين للفلسطينيين في الأردن سنة 70. وتعرفت أنا عليه في نهاية ال 75. وكان طبيعيا تماما؛ يتكلم ويغني وكل شيء. وبعد الزعتر لزم الصمت.
سألتها: ألم يذهب إلى طبيب أو مستشفى؟ - كل الذين فحصوه أجمعوا على أن أجهزته السمعية والصوتية سليمة.
أبطأت السرعة لتتفادى الاصطدام بسيارة تحمل أرقاما سورية ، كانت تسير في منتصف الطريق. ودقت آلة التنبيه عدة مرات دون فائدة. واضطرت في النهاية أن تبقى خلف السيارة الأخرى.
استطردت: إنه يترك لي الحرية أن أفعل ما أشاء، وأن أتركه إذا أردت.
رمقتها متسائلا، فأضافت في عجلة وقد تضرج وجهها: إنه لا يلمسني، لكني لن أتركه؛ فأنا أحبه.
قطعنا بقية الطريق في صمت. وأردت أن أترك السيارة في الحمرا، لكنها أصرت على توصيلي حتى باب المنزل. ووقفت في الطريق حتى انصرفت، فعبرته إلى بقالة على الرصيف المقابل. واشتريت كيلو من العنب، وعدة قطع من الجبن، وبعض العلب المحفوظة، وعدة علب من البيرة.
كان المصعد في الطابق الأخير، ففضلت أن أصعد الدرج. ولم أجد وديع في الداخل، فوضعت مشترواتي على طاولة المطبخ. وأخرجت علبة بيرة من الثلاجة. أولجت إصبعي في حلقة غطائها وجذبتها في عجلة فالتوى. وانطلق من العلبة رشاش من البيرة سقط فوق وجهي وملابسي.
أفرغت العلبة في كوب زجاجي، وجففت وجهي وملابسي، ثم حملت الكوب إلى الصالة، وجلست بجوار التليفون. جرعت نصف الكوب مرة واحدة، وتناولت سماعة التليفون، ثم أدرت الرقم.
دق الجرس طويلا قبل أن يأتيني صوتها باردا متحفظا.
قلت: مر يومان دون أن أراك.
قالت: لقد رأيتني بالأمس. - لكنك لم تكوني وحدك.
لم تعقب فقلت: أريد أن أراك. - متى؟ - الآن. - هذا مستحيل. - لماذا؟ - أهل عدنان جاءوا من الضيعة ولا أستطيع تركهم. - والعمل؟
ضحكت وقالت: انتظر للغد.
قلت: لكني أريدك الآن بشدة. - إنت شربان؟ - لم أشرب اليوم غير نصف علبة بيرة، قررت الامتناع عن الشراب.
ضحكت ساخرة.
قلت: أريد أن أقبلك، كلك، حتى قدميك.
تساءلت في دلع: صحيح؟ - أجل. - لا بد أن أتركك الآن، كلمني في الصباح. - كلميني أنت أحسن.
أعدت السماعة مكانها، وأفرغت بقية علبة البيرة في الكوب وجرعتها مرة واحدة. أشعلت سيجارة، وأدرت جهاز التليفزيون.
تابعت اللقطات الأخيرة من حلقة أمريكية، حيث تجمعت كالعادة سيارات الشرطة من كل حدب وصوب، وسيريناتها تعوي. وجاءت بعد ذلك نشرة الأخبار. كان بها نبأ عن مؤتمر قمة عربي في عمان خلال أيام، وتصريحات للمسئولين المصريين بمناسبة الذكرى الثالثة لمبادرة السلام التاريخية. وظهر وزير الخارجية المصري على الشاشة، وهو يعلن أن معاهدة السلام جعلت حرب 73 آخر الحروب. وتبعه رئيس الأركان أبو غزالة، معلنا استعداد القوات المسلحة المصرية للدفاع عن دول الخليج.
سمعت صوت فتح الباب الخارجي. ودلف وديع حاملا كيسا من التفاح. تناولت منه الكيس ووضعته على الطاولة. وخلع سترته وألقى بها على الكنبة.
أومأ إلى التليفزيون وسأل: هل رأيت النشرة من أولها؟
أومأت برأسي قائلا: لم تتحدد بعد الدول التي ستشترك في القمة.
قال: سأذهب إلى عمان في الصباح. أرى أنك انتهيت اليوم مبكرا. هل تمت عملية التفريغ؟ - ستنتهي خلال يومين. وبعد ذلك يومان أو ثلاثة لكتابة التعليق، ثم أسافر على الفور. - والكتاب؟ - صاحب «الناشر المعاصر» كلمني معتذرا. أما لميا فلم تفرغ بعد من قراءة المخطوطة. - ألم تقل إن هناك اتفاقا بينك وبين عدنان؟ لا أفهم موقفها. أخشى أن يكون في الأمر شيء. - تقصد محاولة للتنصل من الاتفاق؟ - شيء من هذا القبيل.
هززت كتفي وقلت: في هذه الحالة لا يبقى أمامي غير صفوان. - لكن صفوان لن يدفع لك شيئا. الآن على الأقل. - إذن يتبقى لي أجر الفيلم. - كم سيدفعون لك؟ - لا أعرف. لم نتكلم في هذا حتى الآن. - يجب أن تفاتح أنطوانيت. ليس في الأمر ما يعيب. الجميع هنا يقبضون. هل تحب أن أكلمها لك؟ - لا داعي. سأتكلم معها.
مد يده إلى جيب سترته، وأخرج مفكرته، ثم اتجه إلى جهاز التليفون. قال وهو يدير رقما: ألا تحتاج إلى نقود؟
قلت: ليس بعد.
قال وهو يدير الرقم من جديد: لماذا لا تكتب مقالا أو قصة قصيرة لإحدى الصحف؟ يمكنك أن تجمع مبلغا معقولا لو أردت. - أعرف.
ألصق السماعة بأذنه وهو يقول: اكتب أي كلام. الجميع يفعلون ذلك. وأنت تعرف المصطلحات الرائجة؛ فكلها من القاموس الثوري. - أنا مرهق جدا. ولا أنام جيدا. وأمسك القلم بصعوبة. حتى التعليق لا أعرف كيف سأكتبه.
أعاد السماعة إلى الجهاز وقلب صفحات مفكرته قائلا: ما رأيك في مقابلة مع شخصية لامعة؟
سألته بدوري: كم تساوي مقابلة صحفية مع كارلوس؟ - الإرهابي الدولي؟ هناك إشاعة عن وجوده في بيروت.
أطرقت برأسي وقلت: لو التقيت به سأجري معه حوارا. أعتقد أن ذلك في إمكاني.
تطلع إلي مبهوتا: تقصد أنك تعرف مكانه؟
قلت: لا. لكني قد أقابله.
خطا نحوي في انفعال: حوار كهذا لا يقدر بمال. كل صحف العالم ووكالاته ستتنافس على شرائه. هل تتكلم جادا؟ - بالطبع. - ستكون أول من يقابله في العالم. - ولهذا سألتك عن الثمن. - أنت الذي تحدده. اسمع. دعني أذهب معك. سنعد حوارا لم يحدث من قبل. - لست واثقا بعد أني سأنجح في لقائه.
تطلع إلى ساعته ثم خطا نحو التليفون. وتوقف فجأة وجعل يذرع الصالة جيئة وذهابا وهو يفكر، ثم تناول سترته، وأعاد المفكرة إلى جيبها، وارتداها قائلا: أنصحك أن تهتم بهذا الأمر. إنها ضربة العمر بالنسبة لأي صحفي. إذا خفت أو غيرت رأيك لأي سبب فأنا مستعد لأن أحل محلك. سأذهب الآن إلى الوكالة، كلمني هناك إذا احتجت إلى شيء.
أطرقت برأسي، وشيعته بنظري إلى الباب.
19
تناولت إفطاري بسرعة، ثم كنست المسكن، ورتبت الصالة، ودعكت حوضي الحمام، ومقعد التواليت وغطاءه. وتمكنت بصعوبة من إزالة قطع الصابون التي التصقت بالحوض. وغسلت الأواني المتراكمة في المطبخ، وأدخلت شيئا من النظام على فوضاه، ثم حلقت ذقني واستحممت. واستبدلت ملابسي الداخلية، ثم علقت المنشفة المبتلة في الشرفة، ووضعت واحدة نظيفة مكانها.
وحوالي العاشرة تلفنت لميا.
سألتني: هل أنت ذاهب إلى الفاكهاني اليوم؟
أجبت: أجل. لماذا؟
قالت: يمكنني أن أوصلك؛ فلن أذهب إلى الدار.
قلت: عظيم. سأنتظرك. ما رأيك في أن تصعدي الأول لتحتسي القهوة؟
ترددت لحظة ثم سألتني: وديع عندك؟ - وديع في عمان، ولن يعود قبل الغد. - أوكي. - والمرافق؟ هل سيأتي معك؟
ضحكت وقالت: سأتخلص منه قبل أن آتي. باي باي.
ملأت كاسا من الكونياك، وجلست أرتشفها في الصالة وأنا أتأمل، خلال باب الشرفة، السماء التي غطتها الغيوم. وبعد ربع ساعة دق جرس الباب.
احتضنتها بذراعي وأنا أغلق الباب بالذراع الأخرى. تخلصت مني في رفق وهي تقول: هربت من أبو خليل، ويجب أن أعود بسرعة وإلا اعتقد أني اختطفت.
خطت نحو الأريكة وهي تفك أزرار معطفها الواقي من المطر، ثم خلعته وألقت به على مقعد، وأتبعته بحقيبة يدها. وأخيرا جلست.
كانت ترتدي بنطلونا ضيقا من الشمواه، بني اللون، وبلوزة صفراء. وكان ثمة جورب أصفر من الصوف السميك في قدميها، داخل حذاء مفتوح من الخلف، ذي قاعدة مرتفعة من الخشب.
قالت: أين القهوة المزعومة؟
قلت: حالا.
هرعت إلى المطبخ، فأعددت القهوة، وحملتها إلى الصالة. وضعتها على الطاولة، وجلست إلى جوار لميا وأحطتها بذراعي ثم قبلت شفتيها.
قالت فجأة وهي تتخلص مني: ما هذا؟
كانت تقصد صندوقا أسود صغيرا، مثبتا فوق باب المسكن.
قلت في دهشة: جرس الباب.
قالت: أكيد؟
قلت: وماذا يمكن أن يكون؟ - جهاز تسجيل أو كاميرا سرية.
ضحكت، فأخذت رشفة من فنجان القهوة وأعادته إلى الصينية قائلة: أريد أن أدخل الحمام.
نهضت واقفا لأفسح لها الطريق، فقالت: يجب أن تخرج من المسكن.
قلت مبهوتا: لماذا؟ - لن أستطيع إذا أنت بقيت هنا. أخجل. - لكن أين أذهب؟ - اشتر لي شيئا. هل توجد لديك مياه معدنية؟ - أظن ذلك. توجد زجاجة أو اثنتان من «صحة». - أنا لا أشرب المياه اللبنانية. اشتر لي زجاجة «برييه».
ارتديت سترتي وصحبتني إلى الباب، فأغلقته خلفي بالمفتاح. ولم أكد أخرج إلى الطريق حتى أخذ المطر يتساقط بقوة. ألفيت البقالة المواجهة مغلقة، فجريت حتى الناصية، وولجت بقالة أخرى.
اشتريت زجاجة البرييه، وتلكأت قليلا داخل الحانوت على أمل أن يتوقف المطر. وعندما رأيته يشتد، ابتعت صحيفة وضعتها فوق رأسي، وعدت جريا إلى المنزل.
فتحت لي، فسألتها: كله تمام؟
ضحكت وأجابت: تمام يا بيه.
أفرغت لها كوبا من المياه المعدنية، وعرضت عليها كأسا من الكونياك فرفضت. ملأت واحدة لي. ومضيت إلى الحمام فأغلقت بابه خلفي، ووقفت أتأمل محتوياته. لم يكن هناك ما يدل على أنها كانت به، ثم اكتشفت أن المنشفة في غير المكان الذي وضعتها فيه، ووقعت عيناي على زجاجة «سبراي» على حافة الحوض، لم تكن هناك من قبل. تناولت الزجاجة فوجدتها فرنسية وعليها إشارة إلى أنها أفضل ما يمكن استخدامه «لتطهير الأجزاء الحميمة من الجسد وإكسابها رائحة وطعما منعشين».
أعدت الزجاجة إلى مكانها، ووقفت أفكر: هل نسيتها صدفة؟ أم تعمدت أن تتركها لأراها؟ النتيجة واحدة في الحالتين.
رجعت إلى الصالة فوجدتها قد أغلقت باب الشرفة، وأشعلت المدفأة الكهربائية، وخلعت صندلها وجوربها، ومدت ساقيها أمامها على الطاولة.
جلست إلى جوارها، وأنا أتأمل قدميها البيضاوين المتناسقتين، وأصابعهما الرشيقة التي يلتمع الطلاء الأحمر القاني فوق أظافرها الطويلة. ورأيتها تنظر إلى قدميها نظرة ذات مغزى.
ركعت على ركبتي فوق الأرض، وأمسكت بقدميها وتحسستهما بيدي.
قلت: لا كالو أو أي زوائد جلدية.
قالت: ولماذا يكون لدي؟ - كل الناس عندهم. - بسبب الأحذية. أنا أدفع مصاري للحصول على أحذية مريحة.
سألتها: من بيروت؟
أجابت: لا. من إكزافييه.
لم أكن سمعت الاسم من قبل فلزمت الصمت. وانحنيت برأسي فوق قدميها. قربت فمي من أصابعها، وتناولت أحدها بين شفتي، وامتصصته في بطء.
رفعت عيني إليها، فألفيتها تتأملني في استغراق، وقد خلا وجهها من أي تعبير. لعقت بين الأصابع، ثم مررت بشفتي فوق ظهر قدميها وجانبيهما حتى الكاحلين.
اصطدمت بعد لحظة بطرف البنطلون، فاعتدلت على ركبتي ومددت يدي إلى وسطها. تمنعت قليلا ثم ساعدتني. وسرعان ما تكوم البنطلون عند قدميها.
تجلى فخذاها البيضاوان لناظري. تحسست بشرتهما الناعمة براحة يدي، ثم أحنيت رأسي فوقهما.
تسلل عطرها الغامض إلى حواسي، خفيفا آسرا. قبلت أسفل ركبتيها وباطن فخذيها. وكان طعمها رطبا منعشا، مثل طعم الجسم بعد الحمام مباشرة.
اعترضني قماش شفاف طرز بالدانتللا، فلعقت خشونته التي امتزجت بطراوتها. وجذبته إلى أسفل، فتكشف شعرها، خفيفا، مقصوصا في عناية.
مالت بجسدها حتى استلقت على الأريكة ووجهها ناحيتي. قربت وجهي فأحاطت بشرتها الحريرية بوجنتي، والتحمت شفتاي بلحمها الرطب. وتسلل إلى لساني طعم البحر المالح، فامتصصته باستمتاع.
بدأ فكي يؤلمني فرفعت بصري إليها. ورأيتها قد أغمضت عينيها. وبعد لحظة لم أعد قادرا على تحريك فكي ، فابتعدت عنها. وارتميت على مقعد خائرا مرهقا.
فتحت عينيها بعد برهة. واعتدلت جالسة في إعياء وأخذت تصلح من شأن ملابسها، ثم تنهدت. وطلبت مني سيجارة.
أشعلت سيجارة وأعطيتها لها، ثم أشعلت واحدة لي. ولحظت أن عينيها اغرورقتا بالدموع.
قالت بصوت هامس: اليوم ذكرى وفاة أمي.
انتقلت إلى جوارها وأحطتها بذراع. وأراحت رأسها على كتفي، ثم تطلعت إلى فخذي. ومدت يدها إلى بطني في تردد، ثم نظرت في عيني وسألت: هل؟ - لم يحدث لي شيء. ليست هذه عادتي. - أنا كمان ما باغازل هيك.
نظرت إلى ساعتي من فوق رأسها وقلت: الساعة الآن الثانية عشرة. ويجب أن أخرج. أنت أيضا وإلا سألوا عنك. - أوف. هذه المدينة تضغط على أعصابي. صغيرة صغيرة. لا يستطيع الواحد أن يتحرك فيها بحرية دون أن يراه أحد. نفسي أن نكون معا في باريس. وحدنا. نتشاجر ونتصايح. وننام معا. - العرب هناك في كل خطوة. - صحيح. إذن جنيف. - تعرفينها جيدا؟ - طبعا. زرتها عدة مرات. - وكنت تنزلين في فندق نوجا هيلتون؟
تساءلت بدهشة؟ - كيف عرفت؟ - لأن كل العرب أمثالك ينزلون هناك. - وماذا في هذا؟ - لا شيء سوى أن صاحب الفندق إسرائيلي يتبرع لإسرائيل بمليوني دولار سنويا. وكان في رفقة بيجين عندما زار القاهرة أول مرة. وكان معه في استقبال السادات في بئر سبع العام الماضي.
رفعت حاجبيها في استنكار: وما شأني أنا بكل هذا؟ - صحيح. ما شأنك أنت بكل هذا؟
أضفت بعد لحظة: ثم إني لا أملك نقودا للسفر.
قالت بحماس: أدفعلك.
هززت رأسي: وما أدراك أني أريد أصلا أن أسافر معك؟
دفعتني بيدها في صدري قائلة: ما أتقلك!
نهضت واقفة، فسوت شعرها، وتناولت حقيبتها، وأسرعت إلى الباب.
هرعت خلفها، وأمسكت بها، ثم ضممتها إلي وقبلتها. ثنيت فخذيها وألصقتهما بجسمي، وجعلت تتحرك ببطء، ثم ابتعدت قائلة: يجب أن أذهب.
قلت: أنسيت أنك وعدت بتوصيلي؟
قالت: الأفضل ألا أفعل حتى لا يرانا أحد معا.
تركتها تذهب. وساويت الأريكة، وأصلحت من شأن ملابسي وشعري، ثم ارتديت سترتي وانطلقت إلى الخارج.
20
الفصل السادس والأخير من الفيلم
عنوان: «في شهر مايو (آيار) 1977، تولى مناحم بيجين رئاسة وزراء إسرائيل. وبعد شهرين كان يزور واشنطون حاملا مشروعا لاستئناف مفاوضات التسوية لأزمة الشرق الأوسط. وقبل سفره أعلن أن إسرائيل مستعدة للاشتراك في مؤتمر جنيف، بشرط استبعاد منظمة التحرير الفلسطينية.
لكن الزيارة أسفرت عن اتفاقه مع الرئيس كارتر على الالتفاف حول مؤتمر جنيف، وإخراج الاتحاد السوفييتي ومنظمة التحرير الفلسطينية من المفاوضات.
كانت المؤشرات واضحة عن أهداف السادات، ومفاتيح شخصيته. ووجد بيجين الفرصة ملائمة لإخراج مصر نهائيا من التجمع العربي.
وبدأ بيجين بأن ألمح للسادات من خلال القصر الملكي في المغرب، أن لديه معلومات عن مؤامرة ليبية ضد السادات. وأوضح أنه على استعداد لإعطاء التفاصيل مباشرة لمندوب مصري مفوض.
وسارع السادات بإرسال مدير المخابرات العسكرية المصري إلى الرباط حيث التقى هناك برئيس الموساد، الذي أعطاه تفاصيل المؤامرة. وأمر السادات على الفور بشن حرب تأديبية على ليبيا، فقصفت الطائرات المصرية لمدة أسبوع كامل مواقع ليبية على الحدود ووراء الحدود. وأمل السادات أن يثبت بهذه الغارة قدرته على التصدي للنظم المناوئة للولايات المتحدة.
وخلال الشهور التالية، جرت حمى من الاتصالات السرية توجت بلقاء سري بين موشيه دايان، وزير خارجية إسرائيل، والملك حسين ملك الأردن في 24 أغسطس (آب)، وبينه وبين ملك المغرب في الشهر التالي.
وبعد شهرين، في 19 نوفمبر (تشرين الثاني) 1977م ...»
مطار القدس، الرئيس السادات يهبط سلم طائرته الخاصة (وثمنها 12 مليون دولار دفعتها السعودية) وإلى جواره إسحق نافون، رئيس دولة إسرائيل.
عنوان: «بأول زيارة من نوعها لرئيس عربي، وتحت شعار السلام الدائم بأي ثمن، وفي ظل الهيمنة الأمريكية، اعترف السادات بحق اليهود التاريخي في فلسطين، وفي المدينة المقدسة، فضلا عن حق المستوطنين الصهاينة في الوجود.
وقلب هذا الاعتراف المعايير، فأصبح بيجين يتحدث عن اعترافه بحق الوجود لمن تبقى من الفلسطينيين تحت الاحتلال الصهيوني في شكل مشروع الإدارة الذاتي لسكان الضفة الغربية لنهر الأردن وقطاع غزة، أما من لا يوجد تحت الاحتلال الصهيوني، فليس له حق في فلسطين، ويجب تذويبه في الدولة التي يعيش فيها.»
الكنيست الإسرائيلي، السادات يخطب معلنا: «لن تكون هناك حروب أخرى .. بين مصر وإسرائيل.»
عنوان : «وقبل أيام قليلة ...
قامت إسرائيل بتجربة طائرات الكفير التي أنتجت في مصانعها، في هجوم مفاجئ على قرية العزية جنوبي لبنان.»
عنوان صحيفة «يديعوت أحرونوت» الإسرائيلية: «قائد سرب الكفير يعلن أن التنفيذ كان منقطع النظير، والأجهزة المتطورة عملت بامتياز».
مطار القدس، السادات يستعد لركوب طائرته متوجها إلى بلاده، يصافح قائد سرب الكفير الإسرائيلي الذي هاجم قرية العزية، وهو نفسه الذي تولى مرافقة طائرة السادات في سماء القدس.
دائرة حول فقرة من مقال بتوقيع الصحفي «جيم هوجلان» في صحيفة «واشنطون بوست»: «أثبتت التحقيقات التي أجراها الكونجرس، عن طريق لجنة برئاسة السناتور فرانك تشيرش، مع بعض قيادات وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، أن الملك حسين كان يتلقى أموالا من المخابرات الأمريكية، وبينما كان جمال عبد الناصر يحاول إسقاط النظام السعودي المحافظ في الستينيات، استطاع كمال أدهم، مدير المخابرات السعودية، وضابط الاتصال بينها وبين المخابرات الأمريكية، أن يجند بحرص السيد السادات، الذي كان نائبا لرئيس مصر في ذلك الوقت. وفي إحدى المراحل، كان السيد أدهم يزود السادات بدخل شخصي ثابت، وفقا لما قاله مصدر مطلع رفض الإدلاء بتفصيلات.»
مدينة الإسماعيلية، الاستراحة الفخمة للرئيس المصري، السادات وزوجته يستقبلان مناحم بيجين وزوجته يوم عيد الميلاد لعام 1977، مؤتمر صحفي على الهواء، السادات يقرأ من ورقة: «اتفقنا على أن حرب أكتوبر سوف تكون آخر الحروب بين مصر وإسرائيل.» تبدو في الصورة خلف السادات مباشرة، العصابة السوداء لعين موشيه دايان.
عنوان: «وبعد ذلك بشهرين ونصف ...»
جنوب لبنان، قرب الحدود مع إسرائيل، شجيرات التبغ الصغيرة الخضراء منتشرة على الوهاد والتلال، عائلات بأكملها عاكفة على الزراعة، جمال ودواب محملة، مزارعون يفترشون الأرض أمام سلال التين والعنب والصبير يبيعونها بالكوز، سعف النخيل وغصون البرتقال، بركة «ميس الجبل»، لبنانيات يغسلن الملابس والأواني المنزلية في المياه العكرة، الدواب تشرب من نفس المياه، على أرض الطريق نقشت الشعارات الوطنية والفلسطينية.
لبنانية شابة ترتدي بلوزة مشمرة الأكمام، لفت رأسها بمنديل كبير معقود فوق الشعر، أمامها مقعد واطئ مستطيل، فوقه طبق من الدقيق، على يمينها الفرن الذي يتألف من قطعتي حجر، تحملان صينية من النحاس، المرأة تبسط قطعة العجين على المقعد الواطئ، ثم تفرشها فوق الصينية بحيث تغطي سطحها كلها.
نفس المكان بعد الغروب، المزارعون يعودون إلى منازلهم، الطرقات تخلو بالتدريج، من أحد المنازل يرتفع صوت فتاة تغني: «يمي من تل الزعتر،
لبعتلك رسالة.
من شادر لونه أخضر،
لوصفلك ها الحالة.
يمي من تل الزعتر،
صواريخ بتحرق البيوت،
والجرحى يمي بتموت.
بيروت بتشكي وبتبكي،
وما عاد فيها بيوت.»
الظلام يلف الطرقات تماما، عواء ذئب يتردد من بعيد.
عنوان: «وفجأة ...»
قنابل مضيئة تتساقط فوق الحقول، انفجارات ضخمة، ألسنة النيران تندلع في كل مكان.
عنوان: «في الساعة الواحدة بعد منتصف ليلة 15 مارس (آذار) 1978، بدأ الهجوم الإسرائيلي المكثف للعملية التي أطلق عليها الكمبيوتر في البداية، اسم «قمة الذكاء»، وعرفت بعد ذلك باسم عملية الليطاني، واشترك بها ثلاثون ألفا من الجنود المعززين بالطائرات والدبابات والأساطيل. أما هدف العملية المعلن فهو «خلق حزام آمن بعمق عشرة كيلو مترات».
وبعد ساعات أصدر بيجين بيانا قال فيه: «تمر أيام يقول فيها جميع مواطني إسرائيل، وكذلك ذوو النية الطيبة في دول مختلفة: كل الاحترام للجيش الإسرائيلي. وهذا اليوم هو أحد هذه الأيام؛ فخلال 24 ساعة، وفي أحوال جوية وجغرافية سيئة، أنجز الجيش الإسرائيلي المهمة التي ألقتها الحكومة على عاتقه، فوق جبهة طولها مائة كيلومتر.»
دائرة قلمية حول فقرة من كتاب عزرا وايزمان «معركة السلام» .. .. ..: «وبعد دقائق قليلة من اجتياز أول دبابة إسرائيلية حدود جنوب لبنان، دق جرس التليفون في مكتب «اليعازر ريمون» رئيس وفدنا في القاهرة. وبالرغم من الساعة المتأخرة في الليل صدرت تعليمات القيادة العامة في تل أبيب إلى ريمون للاتصال برئيس المخابرات المصرية - الجنرال شوكت - ليوافيه برسالة هامة .. وأخطر ريمون شوكت: منذ وقت قصير، بدأت قواتنا عملية محدودة على الحدود اللبنانية لإزالة قواعد الإرهابيين من المنطقة، وآمل أن هذه العملية المحدودة لن تعطل المحادثات بين بلدينا».
مدرعات إسرائيلية ذات لون أصفر مغبر تتقدم في طريق زراعي، على الجانبين أطفال فلسطينيون، قيدت أيديهم وعصبت عيونهم، النيران تلتهم قرى بكاملها، ناس تجري مذعورة، بيوت تنهار، دماء على الوجوه، جثث في الطريق، طفلة في الثالثة من عمرها تنفجر الدماء من فخذها المبتور، مسلح يحمل شارة فلسطينية يطلق النار من فوق ربوة، قذيفة تصيب الربوة فتفجرها.
دائرة قلمية حول فقرة من مذكرات محمد إبراهيم كامل، وزير الخارجية المصري: «في صباح اليوم التالي للغزو الإسرائيلي .. اتصلت تليفونيا بالرئيس السادات في استراحة القناطر الخيرية لأعرض عليه البيان الذي أعددته .. حول العدوان .. إلا أني لم أتمكن من محادثته لأنه كان لا يزال نائما. وعاودت الاتصال به بعد ذلك عدة مرات في فترات متباعدة دون جدوى .. فبادرت بإصدار البيان دون انتظار رأي السادات فيه؛ إذ كان الموقف محرجا بالنسبة لمصر، خاصة أمام العالم العربي ...
وفي الساعة الواحدة والنصف بعد الظهر، اتصل بي السادات تليفونيا في الوزارة وسألني في صوت ملؤه تثاؤب عن السبب الذي طلبته تليفونيا من أجله عدة مرات في الصباح، فأجبته بأن الأمر يتعلق بالهجوم الإسرائيلي على لبنان.
فقال السادات ضاحكا: «هل أعطوهم العلقة والا لسة؟» ولم يخطر ببالي ما يقصده، فقلت متسائلا: أفندم؟ فقال: «يعني أدبوهم ولا لسه؟» وفهمت أخيرا أنه يقصد إن كان قد تم للإسرائيليين تلقين الفلسطينيين درسا ...»
بلدة مرجعيون، فتاتان جميلتان في زي ميليشيا الكتائب اللبنانية، تحملان السلاح فوق كتفيهما، وتقومان بإرشاد الدبابات الإسرائيلية في شوارع البلدة الضيقة، تتبادلان كلمات بالعبرية مع الجنود الإسرائيليين.
سيارة ركاب تقل عددا من الصحفيين الأوروبيين، تتقدم على طريق ترابية محفوفة بالأشجار والصخور، على جانب الطريق مدرعة سوفييتية معطوبة، من بعيد تتردد أصوات قذائف الطائرات الإسرائيلية، أحد اللبنانيين المسلحين يتولى توجيه السيارة، يقول في مكبر صوت: «نحن المسيحيين عقدنا حلفا مع الشعب اليهودي.» شبان بالملابس العسكرية لميليشيا الكتائب وقوات سعد حداد، يلوحون لركاب السيارة بأيديهم، السيارة تقترب من قرية «القليعة»، الأهالي يخرجون إلى الطرقات، بعضهم يهتف: «شالوم. مرحبا» بضع فتيات يجرين وراء السيارة ويلقين الأرز عليها.
قرية تبنين، الرايات البيضاء فوق سطوح وشرفات بعض المنازل التي ينطق منظرها بيسر أصحابها، بائع لبناني يتكئ في رضا على سيارة مرسيدس وقد فرش على الأرض صناديق السجاير وزجاجات الويسكي وأوراق اللعب وموانع الحمل.
بلدة الخيام، الرياح تصفر بين النوافذ المحطمة، علبة فارغة من الصفيح تتدحرج في دوي مرعب، البلدة مدمرة تماما ولا أثر بها لمخلوق.
عنوان: «ضمت بلدة الخيام، قبل العدوان الإسرائيلي، 14 ألف لبناني من المسلمين الشيعة.»
جامع البلدة.
عنوان: «تحت إشراف القوات الإسرائيلية جمعت قوات الرائد اللبناني المنشق سعد حداد، أكثر من مائة شيعي، من الرجال والنساء والأطفال، في هذا المسجد، وأطلقت عليهم النار.»
بلدة مرجعيون، عزرا وايزمان وزير الدفاع الإسرائيلي يتفقد القرية، سعد حداد يتقدم من وايزمان ومرافقيه، يمتثل أمامهم ساكنا، ثم يؤدي التحية العسكرية، يهوي على عنق وايزمان ويعانقه طويلا والدموع تنهمر من عينيه.
حداد: «كل الاحترام للجيش الإسرائيلي. باسم جميع اللبنانيين أؤدي التحية للجيش الإسرائيلي.»
دائرة حول فقرة من صحيفة «دافار» الإسرائيلية: «الرائد حداد والأستاذ فرنسيس رزق، مدرس الأدب في القليعة، ومستشار حداد السياسي، شخصان مرحان وطيبا القلب خصوصا عندما يحتميان في ظل الجيش الإسرائيلي. وتبدو سعادتهما من وقوفهما أمام أضواء الرأي العام الإسرائيلي والعالمي، وهما مستعدان للرد على أسئلة الصحافة باللغة العبرية، وبالعربية والإنجليزية والفرنسية.»
موكب من سيارات لاندروفر خضراء، سيارة المقدمة تقل الرائد سعد حداد في زي الجيش اللبناني، يحيط به رجاله المسلحون بمدافع رشاشة أمريكية، السيارات تجتاز قرية مهجورة، يتوقف بعضها في ساحة القرية.
مسلح من رجال سعد حداد يبرز من أحد بيوت القرية حاملا طاولة خشبية على رأسه، يتجه إلى سيارة اللاندروفر فيضع الطاولة بها ويعود أدراجه، مسلح آخر يعاون زميلا له في حمل فرن كبير من أفران الغاز، مسلح ثالث يفتش في ضيق بين محتويات منزل مهجور، لا يجد غير قضيب طويل من الحديد فيحمله ساخطا.
عنوان: «وفي اليوم الخامس لبدء العملية أصدر مجلس الأمن قراره رقم 425، ويقضي بانسحاب الجيش الإسرائيلي من جنوب لبنان. وبعد يومين، في الساعة السادسة من مساء 21 مارس (آذار) 1977، أوقف الجيش الإسرائيلي إطلاق النار بعد أن وصل إلى نهر الليطاني، وفي أعقاب مشاورات تليفونية بين بيجين وواشنطون. وقبل ذلك بيوم واحد، انتهى في دمشق اجتماع وزراء خارجية دول الرفض العربية (سوريا وليبيا والعراق والجزائر واليمن الجنوبية)، دون أن يقرر أي عمل ضد إسرائيل.»
قلعة بوفور المطلة على الجنوب من أيام الصليبيين، المدرعات الإسرائيلية تحيط بالقلعة، البوابة الرئيسية للقلعة مغلقة من الداخل بأكوام من جثث القتلى والجرحى الذين يحملون شارات فلسطينية.
دائرة حول فقرة من صحيفة عربية بالقدس الشرقية: «ردت هذه الحرب الاعتبار إلى الكرامة الفلسطينية. وكان الافتخار بأن الفلسطينيين وحدهم يخوضون حربا ضد إسرائيل على مرأى ومسمع من عالم عربي متخاذل. إن الغضب من العالم العربي خلق إحساسا بالمشاركة والاتحاد لم يشهد الفلسطينيون مثله منذ عهد بعيد.»
واشنطون، مبنى وزارة الخارجية الأمريكية، متحدث رسمي للصحفيين: «إن وزارة الخارجية الأمريكية ما زالت تدرس ما إذا كانت إسرائيل قد انتهكت اتفاقيات شراء الأسلحة الأمريكية التي استخدمتها في جنوب لبنان، وهي الاتفاقيات التي تحظر استخدام الأعتدة المتطورة (مثل طائرات إف 15) لدواعي الهجوم، لكن تسمح باستخدامها لدواعي الدفاع.»
دائرة حول فقرة من جريدة «أحرونوت» الإسرائيلية: «عقب قائد الطيران الإسرائيلي عفري على بيان وزارة الخارجية بشأن الأسلحة بقوله: أقول بشكل واضح وقاطع إننا لم نتجاوز أي بند من الاتفاق. لقد استخدمنا الطائرات للدفاع الجوي عن قواتنا. وهذا السلاح شكل مظلة قوية لقواتنا، مما لا يشكل أي تجاوز لأن موضوع الحديث هو الدفاع فقط.»
وزير الدفاع الإسرائيلي عزرا وايزمان يتحدث إلى مراسل صحيفة «معاريف» الإسرائيلية: «الصحفي: خلال التخطيط المسبق، هل أخذتم في الحسبان النواحي المعقدة لعملية بهذا الحجم؛ 150 ألف لاجئ يهربون مذعورين خوفا من الجيش الإسرائيلي، والمئات وربما أكثر من القتلى والجرحى من بين السكان المدنيين؟
وايزمان: .. لقد أوجدت الحرب الأهلية اللبنانية لاجئين كثيرين بلا حدود، وبعدد يفوق ذلك الذي نشأ عن عملية الجيش الإسرائيلي وعملية الأردنيين سنة 1970، والسوريين لدى دخولهم لبنان؛ حيث ذبحوا من المخربين أكثر بكثير مما فعل الجيش الإسرائيلي خلال الأيام العشرة الأخيرة.
الصحفي: أنت جندي قديم، ألم تشعر بوخز الضمير، وأنت ترى الجيش الإسرائيلي يستخدم أكثر طائراته ومدافعه تطورا، وبمثل هذه القوة، ضد أعداء مزودين برشاشات «كلاشينكوف» في أحسن الأحوال، وفي أحوال كثيرة لا يجدون ما يدافعون به عن أنفسهم؟
وايزمان: في كل حرب يكون لك قلب وضمير وجميع أنواع الوخزات، والعسكريون الذين يعرفون عن كثب أهوال الحرب وفظائعها، هم المحبون للسلام أكثر من غيرهم، لكن ماذا كان يجب أن نفعل؟ نزود جنودنا ببنادق «جليل» لأنهم لديهم رشاشات «كلاشينكوف»؟ لدي مثل آخر يمكن أن نسميه أرق النفس. لقد زرت الجرحى اللبنانيين في المستشفيات الإسرائيلية، وانتابني شعور غير سار تماما.»
عنوان: «تكلفة عملية الليطاني وفقا للمصادر الإسرائيلية:
30 مليون دولار.
1300 قتيل لبناني وفلسطيني.
عدة آلاف من الجرحى.
150 ألفا من سكان الجنوب فقدوا منازلهم والتجئوا إلى الشمال.»
دائرة حول فقرة من مجلة «بما حانيه» الإسرائيلية، بتوقيع حاييم رافيف: «لقد كان من نصيب منظمات المخربين في الأسبوع الماضي مفاجأتان؛ أولاهما الحجم الكبير لعملية الجيش الإسرائيلي في جنوب لبنان، وثانيهما رد الفعل المخيب للأمل من جانب الدول العربية.
فقد أعلنت مصر وسوريا، دولتا المواجهة الرئيسيتان، كل واحدة بأسلوبها، عن عدم استعدادها للدخول في مواجهة مع إسرائيل. أعلنت مصر أنها ستواصل التمسك بمبادرة السلام، واعترفت سوريا بأنها لن تنجر إلى حرب مع إسرائيل قبل الأوان.
لكن كان لا بد من بعض التظاهرات؛ ففي دمشق عقد مؤتمر طارئ لدول الرفض. وركب الملك حسين الحصان الفلسطيني داعيا إلى لقاء قمة عربي. وصدرت تصريحات تدين العدوان الإسرائيلي. وقدم المصريون فرقا طبية لمساعدة المصابين من غير المخربين، والجميع سعداء بفرصة إضعاف منظمة التحرير الفلسطينية.»
دائرة حول فقرة من صحيفة «ها آرتس» الإسرائيلية: «لا شك أن الأمريكيين كانوا مطلعين على العملية قبل أن تبدأ، ولا نخطئ إذا قلنا إنهم عرفوا، بصورة عامة، النقاط الرئيسية التي ستحتلها إسرائيل في القطاع المحاذي للحدود.»
دائرة حول فقرة من صحيفة أمريكية: «إن المعلومات التي توفرت لدى أطراف عربية عديدة، والتي وصلت إليها عن طريق الولايات المتحدة، كانت تفيد بأن العملية ستكون محدودة زمانا ومكانا؛ ولهذا السبب اتخذ حكام سوريا في البداية بروفيلا منخفضا تماما. وخصصت وسائل الإعلام السورية للموضوع في اليوم الأول بضع عبارات فقط؛ ولهذا كان توسيع العملية من عشرة كيلومترات إلى أربعين، مفاجأة. إن أمريكا إما أن تكون متواطئة في عملية خداع مع إسرائيل، وإما أن تكون هي نفسها قد وقعت في خداع إسرائيل.»
بلدة الطيبة في جنوب لبنان، تبدو كمدينة أشباح.
بلدة القنطرة، معظم البيوت لا تزال قائمة في مكانها لكن النوافذ بلا زجاج، والمداخل بلا أبواب، مواسير المياه والحنفيات منتزعة، في الجدران كرات ضخمة، أبواب الحوانيت مخلوعة، محتوياتها منهوبة أو محطمة، سيارة عسكرية إسرائيلية يجري تحميلها بأجهزة التليفزيون والثلاجات والمفروشات.
دائرة حول فقرة من صحيفة «ها آرتس» الإسرائيلية: «وقال لنا أحد الجنود: لقد رافقت أعمال النهب جميع حروب إسرائيل. هنا كان حظنا أحسن؛ فقد كنت في مصر سنة 73، وبسبب ظروف الحياة البائسة في القرى المصرية، على الضفة الغربية لقناة السويس، لم نجد شيئا تقريبا ذا قيمة. استولينا فقط على أغطية وبطانيات وملابس داخلية وخارجية أرسلت إلى البلاد بواسطة الجسر الجوي الأمريكي. وكانت من نوعية ممتازة وتقدر بملايين الليرات. تم توزيعها على عشرات الألوف من الجنود. وطوال أشهر طويلة حتى 28 فبراير (شباط) 74، تاريخ انسحابنا من الضفة الغربية لقناة السويس، كانت أتوبيسات «إيجد» التي تنقل الجنود لقضاء الإجازة في إسرائيل، محملة حتى الإعياء بهذه الحاجيات.»
دائرة حول فقرة من جريدة «دافار» الإسرائيلية: «تستمر المساعدة الإنسانية والمادية التي يقدمها الجيش الإسرائيلي للقرى اللبنانية التي تضررت من جراء المعارك الأخيرة. وقد حضر أمس إلى قرية العباسة الإسلامية نحو خمسة عشر مسكنا مستقلا جاهزا من إسرائيل. ونصبت المساكن في مشاع القرية. وأسكنت فيها أول مجموعة من الأسر اللبنانية التي هدمت بيوتها في القرية أثناء المعارك. وقد بقي في القرية نحو ستمائة فرد من ستة آلاف كانوا يسكنونها قبل نشوب الحرب، وهرب معظم السكان إلى بيروت.»
وزير الدفاع الأمريكي هارولد براون في التليفزيون الأمريكي : «لقد اعترف الإسرائيليون بأنهم خرقوا اتفاقهم مع الولايات المتحدة بشأن استخدام القنابل الانشطارية في حالات معينة، وقد بحثت الولايات المتحدة مع إسرائيل تعهداتها بعدم تكرار هذا الخرق. لكني لا أريد أن أبالغ أكثر من اللازم في هذا الشأن؛ لأن الأمر المهم في موضوع لبنان هو أن تنسحب إسرائيل من هذه المنطقة.»
عنوان: «تعتبر القنابل الانشطارية من أخطر الأسلحة الفتاكة في الترسانة الأمريكية. وهي شديدة الفعالية إذا ما استخدمت ضد الدبابات والمدرعات. أما إذا استخدمت ضد المناطق المدنية فإن النتيجة مذبحة.
ويتم إسقاط هذه القنابل من الطائرات في أسطوانات، تحمل كل واحدة منها عددا كبيرا من الشظايا. وعلى ارتفاع معين، تفتح هذه الأسطوانات ويخرج من كل أسطوانة 650 شظية ملتهبة، قطر الواحدة منها 5,6 سنتيمترات، تندفع بحركة معزلية في اتجاه مختلف عن بقية الشظايا. وهناك نوع منها يحتوي على جهاز توقيت يجعل الشظايا تنفجر بعد فترة من إصابة الهدف. وقد استخدمت الطائرات الإسرائيلية هذا النوع في قصف المستشفيات وملاجئ الأطفال بالجنوب اللبناني.»
قاعة طعام واسعة، عدد من المدنيين والعسكريين الإسرائيليين والأمريكان، يحيطون بمائدة حفلت بصنوف الطعام، ثريات كهربائية ضخمة تتدلى من السقف، على رأس المائدة يجلس «مردخاي جور» رئيس الأركان الإسرائيلي، يدلي بكلمة إلى الحاضرين فيقول: «عندما أمرت باستخدام القنابل الانشطارية في لبنان .. لم أكن أشك قط بأن هذا يتلاءم مع روح الاتفاق المعقود بين بلدينا وروح الشعب الأمريكي.»
جور في حديث مع مندوب مجلة «عل همشمار» الإسرائيلية: «الصحفي: هل كان القصف يتم بلا تمييز بين المخربين والمدنيين؟
جور: أنا لا أملك ذاكرة انتقائية. إنني أخدم في الجيش منذ ثلاثين سنة كاملة، ألا تدرك ما فعلناه طوال هذه السنين؟ ماذا فعلنا على طول قناة السويس؟ لقد صنعنا مليونا ونصف مليون لاجئ. قصفنا الإسماعيلية والسويس وبورسعيد وبور فؤاد. مليون ونصف مليون لاجئ.»
دائرة حول فقرة من جريدة: «ها آرتس»: «يكمن نجاح إسرائيل في أن الأمم المتحدة، التي هي في الحقيقة قوات حلف الأطلنطي في قبعات زرقاء، تقف حاليا على الليطاني وليس على حدود إسرائيل أو داخل الأراضي الإسرائيلية، ثم هناك الجيوب المسيحية، وطلب من إسرائيل الانسحاب، لكنها لم تدن، ولم يتدخل السوريون. كما أن وجهاء الشيعة في البرلمان اللبناني حملوا الفلسطينيين مسئولية الكوارث التي حلت بلبنان، ونشر التجمع الدرزي بيانا مشابها. وبرزت ظاهرة العداء لمنظمة التحرير بين الجمهور اللبناني.»
دائرة حول فقرة من جريدة «دافار» الإسرائيلية: «يجب أن تتضمن معاهدة السلام التي ستوقع في المستقبل مع حكومة لبنان إتاحة الاستغلال المشترك لمياه الليطاني.»
عنوان: «ليس من المعقول أن تبقى فلسطين محدودة بحدودها الحالية؛ ففي استطاعة اليهود الانتشار والتوسع إلى جميع البلاد المحيطة بها، من البحر الأبيض المتوسط إلى الفرات، ومن لبنان إلى النيل؛ فهذه هي البلاد التي أعطيت لشعب الله المختار.»
نورمان بنتويش «لن نتخلى أبدا عن إسرائيل.»
كيسينجر
21
كانت المشاهد الأخيرة للفيلم تمثل عملية انسحاب القوات الإسرائيلية من جنوب لبنان، وحلول قوات الأمم المتحدة محلها. واقترحت على أنطوانيت إلغاء هذه المشاهد، والوقوف بنهاية الفيلم عند الاحتلال الإسرائيلي لنهر الليطاني. وقلت إن هذا الحل سيرتفع بالفيلم من مجرد تسجيل للأحداث، إلى مستوى الرؤية المستقبلية؛ فإسرائيل وجدت لتنمو وتتسع وتبتلع. وإذا كانت قد غادرت لبنان سنة 1978 بعد ثلاثة أشهر من الغزو، فإنها تركت مكانها «قوات حلف الأطلنطي ذات القبعات الزرقاء» على حد تعبير القادة الإسرائيليين أنفسهم. كما أنه لا يوجد ما يمنع عودتها في أي لحظة.
وافقتني أنطوانيت على هذا الرأي، واتفقنا على أن أعتكف في منزلي يومين أو ثلاثة، أنتهي خلالها من كتابة التعليق المطلوب.
تركتها تقوم بلف البكرة الأخيرة من الفيلم، وعدت إلى المنزل. لم يكن وديع قد عاد بعد من عمان، فأخذت حماما. وأعددت فنجانا من القهوة. وجلست أتصفح الأوراق التي دونت فيها مشاهد الفيلم. سجلت بعض الملاحظات ثم نحيت الأوراق جانبا. وأعددت عشاء خفيفا تناولته مع علبتي بيرة، ثم لجأت إلى الفراش.
كان نومي خفيفا مضطربا. وشعرت بعودة وديع في الليل، وبخروجه في الصباح. ونهضت أخيرا متثاقلا، فأفطرت ووقفت أدخن في الشرفة. ولاحظت أن الشوارع هادئة تماما، والحوانيت مغلقة. ثم تذكرت أن اليوم يوافق عيد الاستقلال.
جلست إلى مكتب وديع. لكن لم أجد حماسا للعمل. جذبت التليفون وأدرت رقم لميا. واستمعت إلى الجرس يدق طويلا، ثم وضعت السماعة ومضيت إلى غرفتي.
ارتديت سترتي، واطمأننت على وجود جواز سفري في جيبها الداخلي. وأحصيت ما معي من نقود فوجدتها لا تزيد على مائتي ليرة، ثم غادرت المسكن.
اتجهت صوت الحمرا، عبر شوارع أوشكت أن تخلو من المارة. وعندما بلغت الشارع العتيد، مضيت من أمام الويمبي، والموفينبيك، ثم سينما الحمرا والردشو. ووقفت على ناصية الردشو أتأمل مقهى المودكا على الرصيف المقابل.
عبرت الطريق ومضيت من أمام المودكا. وواصلت السير حتى كافيه دي لابيه.
دفعت الباب الزجاجي ودخلت. جلست على مقعد من الجلد الصناعي. وأحضرت لي فتاة غارقة في الأصباغ، فنجانا من القهوة العربية.
احتسيت القهوة مع سيجارة وأنا أتأمل الرواد القليلين، ثم دفعت حسابي وغادرت المقهى. اتجهت يسارا ومشيت على مهل. مررت بجريدة النهار ومصرف لبنان. وبلغت ساحة برج المر ثم أشرفت على مطلع جسر فؤاد شهاب.
عبرت حاجزا مهجورا من البراميل إلى حي زقاق البلاط. وبدت المنطقة كلها مهجورة تماما. ولم يلبث الطريق أن انحدر بي جهة اليسار، واعترضني حاجز وقف عنده بعض المسلحين الذين لم أتبين هويتهم. لكنهم لم يعبئوا بي، فاجتزته. وبعد قليل ألفيت نفسي في ساحة رياض الصلح. اتجهت يمينا وولجت ساحة الشهداء.
بدت الساحة الرئيسية لبيروت القديمة، محاطة بالأطلال من جميع الجوانب. كانت المنازل القديمة، التي يعود أغلبها إلى أيام الأتراك، لا تزال قائمة. لكن نوافذها وأبواب حوانيتها تحولت إلى كوات مظلمة تتخللها قضبان ملتوية من الحديد. وفوق الأسطح خيمت بقية من هياكل إعلانات النيون، التي كانت تحيل الساحة في الليل إلى شعلة من الأضواء، ميزت منها آثار إعلان عن بيرة «لذيذة»، وشكولاتة «غندور»، إلى جوار زجاجة كوكاكولا.
وبالرغم من ذلك، كانت الساحة تشغى بالنشاط؛ فأمام الأبنية المهدمة، اصطفت العربات الخشبية المحملة بكافة أنواع السلع، من ملابس وأحذية وأوان منزلية، وأدوات كهربائية. وفي مداخل بعض الحوانيت المهدمة، جلس الصرافون . وأشرفت على هذا كله عدة مدرعات تحمل شارة الردع.
طفت حول الساحة بحثا عن زقاق به بائع للكتب الأجنبية المستعملة، تعاملت معه في زيارتي السابقة. وولجت زقاقا قام عند مدخله حانوت للسجائر والصحف والمجلات. واجتذب بصري ملصق كبير الحجم على الحائط المجاور للحانوت، يتألف من صورة فوتوغرافية مكررة عدة مرات للجزء الأعلى من امرأة عارية، أحاطت بذراعها الأيمن رأس رجل عار، انحنى بفمه فوق أذنها. كان شعره مبعثرا حول رأسها وقد فرجت شفتيها، وأغمضت عينيها. وأعطى تكرار الصورة الإيحاء بهذه اللحظة الممتدة المتجددة.
M;تأملت الصورة طويلا، وتبينت أسفلها سطرا من الكتابة الدقيقة، فدنوت منها. وأمكنني أن أميز الكلمات المطبوعة بالإنجليزية: «الأورجازم استجابة ينفرد بها الانسان؛ فلا تعرف الحيوانات الثديية الأخرى، خلال الجماع، لحظات مماثلة من الذرى الحادة».
استغرقني تأمل الملصق، فلم ألحظ الأصوات التي كانت تنبعث من باب مظلم في نهاية الزقاق، إلا عندما خرج منه عدة رجال، متواضعي المظهر، مرة واحدة، ولم ألبث أن ميزت فيها تأوهات أنثوية، ثم أدركت أنها تنبعث من صالة للعرض. ومن خروج الرجال وغياب أية لافتة، استنتجت أنها صالة رخيصة تعرض أردأ الأفلام الجنسية.
اجتزت الزقاق حتى نهايته، فألفيتني عند مفترق ثلاثة شوارع، يطل عليه حانوت مغلق يحمل اسم «صيدلية الجميل». ولم أنتبه إلى مغزى الاسم إلا عندما طالعني على الجدران، في ملصقات صغيرة الحجم، الوجه القاسي ذو العينين المجنونتين لزعيم الكتائب. وأدركت أني دخلت المنطقة الأخرى دون أن أدري.
أوشكت أن أعود أدراجي، عندما توقفت إلى جواري سيارة سوداء، فتح باباها الجانبيان في لحظة واحدة. وفي اللحظة التالية كان ثمة رجلان يحيطان بي، ويمسكان بذراعي ثم يدفعانني إلى المقعد الخلفي للسيارة. وعلى الفور قفزت السيارة إلى الأمام، وانطلقت في سرعة فائقة، وعجلاتها تحدث صريرا حادا.
وقبل أن أتبين وجه أحد من ركاب السيارة، استقرت عصابة سميكة فوق عيني، عقدتها أصابع مدربة في قوة خلف رأسي، وامتدت الأيدي إلى جيوبي وأسفل إبطي، وخلف ظهري، وبين فخذتي، وأعلى الجوارب.
توتر جسدي في انتظار ضربة ما . وخطر ببالي أني في وضع أفضل من مرة اعتقلت فيها، ووضعت في سيارة مماثلة إلى جانب السائق ، ثم انهالت الضربات، من الخلف فوق عنقي ورأسي.
أبطأت السيارة ثم توقفت. وسمعت صوت فتح أحد أبوابها. وتحرك الجالس إلى يميني وهو يشدني بعنف إلى الخارج.
تعثرت وكدت أقع لولا أن أحدهم سندني من الخلف وهو يسبني، ثم أمسك بذراعي الأيسر، وجرني جرا عبر إفريز ضيق انتهى بعدة درجات. سرنا قليلا بعد ذلك، ثم صعدنا درجتين أخريين وواصلنا السير. وبعد قليل هبطنا درجا طويلا ومشينا في مكان رطب تردد وقع أقدامنا فيه عاليا.
توقف مرافقي، وسمعت صوت مفتاح يدور في قفل، ثم لفح الهواء البارد وجهي. تخلت عني الأيدي التي كانت تمسك بذراعي. ودفعني أحدهم إلى الأمام بعنف، فكدت أقع على وجهي، ثم سمعت صوت اصطفاق باب قريب، وأقدام تبتعد.
جمدت في مكاني، وأرهفت حواسي لأتبين إذا كان هناك أحد على مقربة. كانت يداي حرتين، فرفعتهما في تردد إلى وجهي. وعندما لم يتعرض لي أحد انتزعت العصابة عن عيني مرة واحدة.
مرت ثوان قبل أن أتمكن من الإبصار. وألفيتني بمفردي في غرفة مستطيلة، عالية السقف، شبه مظلمة، يتسلل الضوء إليها من كوة قرب السقف، تعترضها قضبان حديدية. كانت الغرفة عارية من أي أثاث، وليس بها ما يدل على هوية المكان أو أصحابه. ورأيت في أقصاها بضعة صناديق من الكرتون. تقدمت منها، فوجدتها فارغة. وكان أحدها يحمل اسم مسحوق أمريكي للتنظيف.
بحثت عن علبة سجائري فلم أجدها. وتبينت أن جيوبي كلها خالية. وأن ساعة يدي انتزعت مني، وقدرت أن الوقت يقترب من الثانية أو الثالثة.
مضيت إلى الباب، فألفيته من الحديد المتين. انحنيت على ثقب المفتاح، ووضعت عيني عليه. لكني لم أميز شيئا في الخارج، بسبب قلة الضوء. أبعدت عيني وألصقت أذني بالثقب، فلم أسمع شيئا.
ابتعدت عن الباب، ومشيت حتى طرف الحجرة، ثم استدرت ومشيت حتى الطرف الآخر. جعلت أذرع الغرفة جيئة وذهابا إلى أن شعرت بالتعب؛ فاقتعدت الأرض العارية، مسندا ظهري إلى الجدار. وسرعان ما تسللت الرطوبة إلى جسدي، فقمت واقفا، ومضيت إلى الباب. ووضعت أذني على ثقب المفتاح وأصغيت السمع.
التقطت أذني أصوات اصطفاق أبواب، ووقع أقدام وصيحات مبهمة. واقترب وقع الأقدام وسمعت أحدا يقول محتدا: «العكروت كان عم بيقوص علينا.» ورد عليه آخر قائلا: «ولاك، شو بدك منها؟ ألف بنت بتتمنى ظفر إجرك.» وجاءني صوت ثالث في لهجة آمرة: «عندك أمر حزبي؟» واشتبكت الأصوات ببعضها فلم أميز منها حرفا. وما لبثت أن خفتت تدريجيا وابتعدت.
اعتدلت واقفا، فلمحت مفتاحا للنور بجوار الباب. وكان ثمة مصباح كهربائي يتدلى من السقف. ضغطت المفتاح عدة مرات دون جدوى. واشتد إحساسي بالبرد، فقفزت عدة مرات، ثم قمت ببعض التمرينات الرياضية إلى أن شعرت بالتعب.
كان هناك ركن وحيد في الغرفة بمنأى عن تيار الهواء المنبعث من الكوة، هو ذلك الذي شغلته صناديق الكرتون. مضيت إليه، وأقبلت أحرك الصناديق أنقلها إلى ركن آخر، ثم ضغطت أحدها بين يدي ووضعته على الأرض وجلست فوقه. وفعلت المثل بصندوق آخر وضعته خلف ظهري.
استمتعت بشيء من الدفء إلى أن هبط الظلام، وتشبع الصندوقان برطوبة الجدران والأرض. ولم تلبث البرودة أن تسللت إلى عظامي، ولم يفدني انكماشي على نفسي. وبعد قليل استولت علي رغبة شديدة في التبول.
كنت أعرف بالتجربة، أنه طالما أني بمفردي، ولا أملك وسيلة من وسائل المقاومة أو الضغط، فإني مهما صرخت أو قرعت الباب، فلن أغير شيئا مما هو مقرر لي. والأغلب أني سأعرض نفسي للأذى؛ لهذا قررت أنتظر حتى يكشف الخاطفون عن نواياهم.
لكن ضغط البول على مثانتي، جعلني أتخلى عن حكمتي أو خوفي، فمضيت إلى الباب وجعلت أطرقه بكل قواي وأنا أصرخ مناديا.
آلمتني يداي بعد حين، فكففت عن الطرق وأنصت. سمعت وقع أقدام تقترب. ودار مفتاح في قفل الباب، ثم انفرج مصراعه عن ضوء كهربائي خافت، وشاب يحمل رشاشا على كتفه، وتتدلى من فمه سيجارة تفوح منها رائحة الحشيش.
خاطبني في حدة: ليش عم بتدق؟
قلت: أريد أبول.
أغلق الباب دون أن يعلق بشيء. ووقفت حائرا أتدبر إعادة الطرق. وما لبث الباب أن فتح من جديد. وظهر المسلح الشاب حاملا جردلا من البلاستيك ألقى به عند قدمي، ثم جذب الباب ليغلقه فاعترضته قائلا: أريد مقابلة الشخص المسئول هنا.
قال: ما خصني.
ودفعني بيده ثم جذب مصراع الباب، وأدار المفتاح في قفله.
حملت الجردل الركن الذي كانت تشغله صناديق الكرتون، وتبولت. شعرت بالراحة. وعدت أذرع الغرفة جيئا وذهابا، تلمسا لشيء من الدفء، ثم اقتعدت الأرض في الركن الذي أعددته لنفسي. وثنيت ركبتي إلى أعلى، واعتمدت بساعدي ورأسي فوقهما. وثبت عيني على خط خفيف من الضوء أسفل الباب.
ويبدو أني غفوت بعض الوقت؛ فقد تنبهت فجأة على صوت عند الباب، وألفيته مفتوحا، وقد انتصب في فرجته رجل عريض الجسد، يحمل رشاشا في يده اليسرى. كان الضوء الكابي يسقط من خلفه على جزء من أرض الغرفة، فأخفى ملامحه عني. لكني تبينت حركة الرشاش في يده، تشير لي أن أخرج.
خطوت إلى الخارج، فأمسكني من ذراعي بقوة. رأيته رجلا متقدما في السن بصورة ملحوظة، يغطي الشعر الأبيض رأسه، ويتمتع مع ذلك بقوة بدنية واضحة. مضينا في طرقة طويلة يضيئها مصباح كهربائي واحد، يطل عليها بابان آخران. وأشعرتني رائحة الهواء وشدة الرطوبة المنبعثة من الجدران، وبلاط الأرضية، أننا تحت مستوى الأرض.
ارتقينا درجا عاليا إلى طرقة أخرى دافئة، تسبح في ضوء قوي من مصابيح الفلورسنت، ويغطي المشمع الملون أرضها. كانت الطرقة طويلة، وفي نهايتها علق علم ما بجوار صورة فوتوغرافية لم أميزها بوضوح.
توقف مرافقي أمام أحد الأبواب فطرقه، ثم أدار مقبضه ودفعني أمامه ثم دخل خلفي، وأغلق الباب.
لفحتني الحرارة الصادرة عن «شوفاج» في جانب الغرفة. ورأيتني أواجه مكتبا، جلس خلفه شاب ممتلئ حليق الوجه، يتحدث في التليفون بشفتين غليظتين، وعينه على شاشة تليفزيون ملون، استقر فوق طاولة خشبية بجوار المكتب.
كان يرتدي قميصا مفتوح الصدر، بكمين قصيرين، كشف عن شعر كثيف فوق صدره وساعديه. وكان شعر رأسه أسود ناعما، قص في عناية، وفرق من جهة اليسار.
لم أتبين شيئا مما كان يقوله في التليفون؛ لأنه كان يتكلم بالفرنسية في صوت خافت. وجهت اهتمامي إلى قطعة من القماش علقت على الجدار فوق رأسه، وطرزت بها شجرة أرز ملونة. وعلى جدار آخر استقرت لوحة من الورق سطر عليها بالعربية، وبمادة كماء الذهب: «خزائن العلم في العالم كنوزها من لبنان. لغات الأمم أجمل حروفها من لبنان. غرائب الدنيا السبع أسطورتها الكبرى لبنان. شجرة الخلود انتقت لسكناها السرمدي قمة من لبنان. طفل الألوهة تعمد في ماء من لبنان. أترى آدم، هل هجر الجنة إلا كرمى لك يا لبنان؟»
انتهى الشاب من حديثه التليفوني، فأعاد السماعة إلى مكانها، وظل برهة يتطلع إلى شاشة التليفزيون، ثم مد يده وأغلق الجهاز. وجه اهتمامه إلى عدة أوراق أمامه تعرفت بينها على محتويات جيوبي، فقلب بينها بأصابع قصيرة سمينة ذات أظفار طويلة مصقولة.
خاطبني دون أن يحول عينيه عما في يده: لا أجد إشارة هنا إلى مذهبك.
قلت: لا أفهم ما تعني؟
قال: ديانتك، ما هي؟
رفع عينيه إلي لأول مرة، فطالعتني دائرتان صفراوان باردتان في وجه منتفخ ذي بشرة مدهنة.
قلت: ألا تعرفني أولا بنفسك، وتقول لي لماذا أنا هنا؟
ظهر شبح ابتسامة ساخرة على شفتيه وقال: ألم تعرف بعد؟
قلت: يمكنني أن أخمن أين أنا، لكني لا أعرف السبب في اختطافي.
أشعل سيجارة فرنسية ببطء وقال: ستعرف هذا بعد أن تذكر لي أولا ماذا تفعل في بيروت، وأين تسكن. أنت تقيم في الغربية. أليس كذلك؟
أومأت برأسي.
قال: ألن تذكر لي ديانتك؟
قلت: وما علاقة ديانتي بالأمر؟
تطلع إلي لحظة ثم قال بلهجة من يتذرع بالصبر: الدين هو عنوان الشخص، هويته؛ فهو الذي ينظم علاقته بخالقه.
قلت: إذن لا أهمية لتحديده. كل واحد ينظم علاقته بخالقه وفقا لدينه. وفيما يتعلق بي فإن الأديان كلها عندي سواء.
قال: لكن الأمر بالنسبة لنا ليس كذلك؛ فلبنان طول عمره مهدد بالإبادة على يد الإسلام.
قلت: عندي تصور آخر للخطر الذي كان يهدد لبنان، والذي يهدده الآن.
قال بنفس اللهجة الهادئة الصبورة: من حسن حظك أني أريد أن أحكي معك حكي منطق، فأعطني فرصة لأشرح وجهة نظري.
لم أعبأ به وقلت: إنها تقوم على أساس أنكم أغلبية في لبنان. وهذه مسألة موضع نقاش؛ فهناك من يقول إن المسلمين هم الأغلبية الآن. على أي حال، سواء كنتم أغلبية أو أقلية، فإن هذا لا يغير من طبيعة الخطر الذي يتهدد لبنان، وهو نفس الخطر الذي يتهدد البلاد العربية والإسلامية وكل دول العالم الثالث.
نفض رماد سيجارته في طبق من الفضة تتعانق فوقه الأنصال البيضاء لثلاث بنادق وقال: أنت تتحدث عن خطر وهمي، وأنا أشير إلى التوسع العربي، وهو خطر واقعي.
ضحكت: أين هو هذا التوسع العربي؟ هناك فقط نهضة قومية تستوعب كل الأديان، بل إن بعض رواد هذه النهضة مسيحيون كما تعرف. - هؤلاء عرب، أما نحن ففينيقيون.
نظرت إليه غير مصدق: هل تتكلم جادا؟ مرة أخرى أقول لك: سواء كنتم فينيقيين أم عربا، فهذا لن يغير من واقع الخطر المشترك الذي يتعرض له كل اللبنانيين والسوريين والعراقيين والمصريين والإيرانيين ... إلخ.
أطفأ سيجارته في المنفضة المسلحة، وأشعل واحدة جديدة.
قال: ما رأيك إذن في الاضطهاد الذي يتعرض له المسيحيون في مصر؟
تباطأت في الرد وأنا أفكر في الإجابة المناسبة. ابتسم ابتسامة المنتصر وقال: أرأيت؟
أسرعت أقول: لن أدعي أنه ليس هناك تمييز، لكنه لا يرقى إلى مرتبة الاضطهاد. كما أن جانبا منه مصطنع. والجانب الآخر من مخلفات الماضي. ومتى أخذنا بعلمانية الدولة قضينا على كل أثر له. - الذي أراه في مصر هو عكس ذلك تماما. إنه اضطهاد عميق وتاريخي. وهو أيضا في ازدياد. - هذا هو ما قصدت إليه عندما قلت إن جانبا من التمييز القائم مصطنع. وهو الذي تمارسه وتدعو له الجماعات الإسلامية. لقد سمعت بأذني أحد هؤلاء المتعصبين يقول إن البابا شنودة أخطر على مصر من بيجين. وهو في ذلك يتفق معكم تماما؛ فأنتم تتحالفون مع إسرائيل ضد أبناء وطنكم.
هز كتفه وقال: لا يلام الغريق إذا استنجد بالشيطان؟ - وما أدارك أنه سينجدك حقا؟ وأنه لن ينتهز الفرصة ليلتهمك؟
ضحك هازئا: يلتهم جثة استنزفها الغرباء ؟ - تقصد الفلسطينيين؟ وجودهم في لبنان هو الذي يحميكم من الإسرائيليين. - لا أحد يحمي لبنان من شيء. ضعفنا وحيادنا هو سلاحنا؛ فطالما أننا لا نعادي غيرنا أو نتهدده، لن يتعرض لنا أحد بالأذى. - أتظن ذلك حقا؟
ظهرت بقعتان حمراوان على وجنتيه، لكنه ظل متمسكا بهدوئه الظاهري.
قال: ما يهمني هو اعترافك بالاضطهاد الواقع على المسيحيين في مصر. ويسرني أننا متفقون في هذه النقطة.
قلت: بالعكس. نحن غير متفقين على الإطلاق. هناك تمييز فعلا، لكنك تواجهه بتمييز معارض. وأنا أواجهه بإلغاء التفرقة تماما. خلال الحرب الأهلية عندكم ظهرت حركة لشطب الديانة على الهويات. هذا هو ما نحتاجه. دول علمانية لا دينية يتحدد مكان الفرد فيها على أساس كفاءته، لا على أسس دينية أو أسرية أو عشائرية.
قال مستنكرا: يعني إلغاء الطائفية؟ هذا مستحيل؛ فزوال الطائفية معناه زوال الدين.
قلت في إعياء: لا أظن أني قادر على إقناعك بوجهة نظري. ما أطلبه منك الآن هو أن تعطيني أوراقي وجواز سفري وتدعني أذهب.
رفع حاجبيه: هكذا؟
قلت: نعم هكذا.
ضحك ضحكة قصيرة وقال: لم أكن أتوقع أن تمل ضيافتنا بهذه السرعة.
جاوبته قائلا: أي ضيافة؟ لم آكل شيئا طول اليوم. والغرفة باردة بلا فراش أو أغطية أو ضوء. ليس بها حتى مياه للشرب.
اصطنع الاهتمام وتحول إلى مرافقي العجوز قائلا: معقول؟ إلا المي.
غمغم العجوز شيئا حول أنه سيهتم بتزويدي بالمياه. وخاطبني الشاب وهو يبتسم في خبث: للأسف اليوم عطلة. والحوانيت مسكرة. وبالمثل مخازننا. لكننا سنوفر لك كل شيء غدا.
قلت: غدا الأحد، وهو عطلة أيضا.
قال في برود: هذا من سوء حظك.
وأومأ برأسه إلى المرافق، فتقدم مني، وأمسكني من ذراعي، واقتادني إلى الخارج.
22
تأكد سوء حظي عندما جاء اليوم التالي بلا شمس. وظلت عيناي على الكوة في انتظار الضوء وما يجلبه من دفء. لكن السماء ظلت معتمة. ولم يلبث المطر أن هطل. وتناثر رذاذ منه عبر الكوة، ثم تجمع أسفلها على الأرض، في بركة صغيرة.
قاومت البرد بالحركة المستمرة. وتجنبت التفكير فيما يمكن أن يحدث لي على يد الفينيقي ورجاله. وبين الحين والآخر كنت ألصق أذني بثقب الباب. لكني لم ألتقط صوتا واحدا يوحي بوجود أحد غيري في المبنى.
وبعد فترة من الوقت، طرق سمعي وقع خطوات تقترب وتتوقف عند الباب. وانفرج مصراعه عن الشاب الذي أحضر لي جردل البول بالأمس، فوضع على الأرض صينية تحمل رغيفا من الخبز الأبيض المستدير، وعلبة ورقية من اللبنة، وكوبا من الشاي يتصاعد منه البخار. ولم يكد ينصرف حتى أسرعت إلى الصينية، وتناولت كوب الشاي بين يدي، واستمتعت بسخونة محتوياته وهي تتسلل إلى جوفي، ثم أتيت على الرغيف واللبنة.
ضاعفت الوجبة الصغيرة من رغبتي في القهوة والسجائر. لكني تشاغلت عنهما بالمشي والقفز، وبسلسلة من أحلام اليقظة. وعبرت بسرعة إلى مرحلة المشروعات الكبرى التي يعرفها كل سجين بعد فترة من الحبس، فتدبرت الإقلاع عن التدخين والخمر، والانتظام في ممارسة الرياضة، والسكنى قرب البحر ومضاعفة ساعات الكتابة.
ولم يكد الظلام ينتشر، حتى عكفت على تدعيم ركني بالمزيد من صناديق الكرتون، ثم انكمشت به، وأسلمت عيني للنوم.
رحت في نوم عميق متصل، لم أفق منه إلا مع بزوغ الفجر. وراقبت انتشار الضوء دون أن أبارح مكاني. لكني سرعان ما غادرته عندما سقطت أشعة الشمس على الجدار المجاور للكوة، وانتشرت فوقه على شكل مستطيل مائل تتجه إحدى زواياه إلى أسفل. وقفت تحت المستطيل الشمسي ملتمسا شيئا من الدفء. واتسعت مساحته بالتدريج، فأصبحت قادرا على أن أضع فيها شعر رأسي ثم جبهتي وأذني وعيني.
استمتعت بانتشار الدفء على وجهي ثم صدري. وقضيت الساعات التالية بين بقعة الشمس والباب. وكانت تأتيني عبره أصوات مبهمة صادرة من جهات مختلفة. ومرت أقدام عديدة من أمامه دون أن تتوقف. لكني لم أفقد الأمل في أن يأتي حامل الصينية في أي لحظة.
بلغت حرارة الشمس أوجها ثم أخذت تتراجع. وتسليت حينا بمطاردة ذبابة حطت على صينية الأمس. وأخيرا سمعت صوت المفتاح يدور في القفل. وانفرج الباب عن الحارس العجوز.
أشار لي بالخروج فأذعنت. ولم أكد أخطو خارج الغرفة حتى شعرت بوجود آخر. وقبل أن أتبين وجهه، امتدت عصابة من القماش على عيني، وأحاطت برأسي ثم دفعتني يد في ظهري فتقدمت متعثرا إلى الأمام. وأمسك أحدهم بذراعي وجرني جرا في الطرقة الطويلة، ثم صعدنا درجا وعاودنا السير، ثم هبطنا درجا طويلا. وبدا لي أننا نمضي نفس الطريق الذي جئت منه أول مرة. وتأكد ظني عندما شعرت أننا خرجنا إلى الطريق.
كان ثمة محرك سيارة يطن على مقربة. ودفعتني يد إلى الأمام صوب مصدر الصوت، ثم ضغطت على كتفي وأجبرتني على الانحناء. واصطدمت ساقي بحافة معدنية. وفي اللحظة التالية كنت أستقر في مقعد السيارة بين حارسي.
انطلقت السيارة بسرعة عادية. وبعد قليل تضاعفت سرعتها، ثم شممت رائحة البحر. وسمعت أحد الجالسين يقول: هون.
توقفت السيارة، ولم يتحرك أحد. وأشعل الجالس إلى يميني سيجارة. وتردد صوت مشعل السجاير أكثر من مرة، ثم امتلأت السيارة بدخان السجاير. ولم ينبس أحد بكلمة.
كان الهدوء شاملا، بدا أننا في مكان غير مطروق. وخيل إلي أني التقطت صوت سيارة على مبعدة، فأصغيت السمع. ومر بعض الوقت قبل أن أميز الصوت. وأخذ يعلو تدريجيا إلى أن توقف بالقرب منا. وتحرك الجالس إلى يساري ففتح الباب المجاور له وغادر السيارة. ابتعد وقع خطواته ثم تلاشى. وعاد بعد قليل فأمرني بالخروج.
أمسكني من ذراعي وأنا أخطو إلى الخارج. ومضى بي بضع خطوات ثم وقف. وما لبث أن أطلق سبيلي. وسمعت وقع أقدامه يبتعد في الاتجاه الذي جئنا منه.
دق قلبي بعنف. وفكرت أن أمد يدي وأخلع العصابة، لكني لم أجرؤ، ثم سمعت محرك السيارة التي جئت فيها يدور. وفكرت أن أجري أو أرتمي على الأرض، ثم سمعت السيارة تنطلق مبتعدة.
اقتربت مني عدة أقدام ثقيلة متمهلة. وامتدت يد إلى عصابة عيني فرفعتها.
أغمضت عيني وفتحتها عدة مرات، قبل أن أتبين الرجل الذي وقف أمامي. كان ممتلئ الجسم، أنيق الملبس ، يضع على عينيه نظارات سوداء.
لمس ذراعي بيده، وأشار إلى سيارة أمريكية سوداء تقف على مبعدة، وقال : شرف؟
مشيت إلى جواره كالمأخوذ. وبلغنا السيارة ففتح بابها الخلفي، وأفسح لي كي أتقدمه، ثم أغلق الباب، ودار حول السيارة وولجها من الباب الآخر.
كان ثمة شاب، يرتدي نظارة مماثلة، يجلس إلى جوار السائق. أما الأخير فلم أر منه غير جانب من رأس أصلع يغطيه كاب من القماش.
قلت دون أن أوجه كلامي إلى أحد منهم بالتحديد: وين رايحين؟
لم يعن أحد بالرد علي؛ فأدركت المطلوب، ولزمت الصمت.
مضت السيارة في شوارع شبه مهجورة، تحف بها منازل مدمرة، ثم تغير المنظر وانتقلنا إلى حي راق لم يتعرض لتدمير كثير. وعاد مشهد الأطلال بعد ربع ساعة.
وكانت الشمس قد غربت عندما اتجهنا إلى طريق مائل يؤدي إلى مبنى ضخم فوق ربوة، يشع الضوء الكهربائي من نوافذه. مضينا بحذاء سياج مرتفع من القضبان الحديدية. وتمهلنا أمام بوابة يحرسها الجنود، تعلوها لافتة نحاسية تعلن عن وزارة الدفاع للجمهورية اللبنانية.
أفسح الجنود الطريق لسيارتنا، فعبرت البوابة، ودارت نحو اليمين، ثم توقفت أمام درج رخامي مرتفع.
غادر رفيقي السيارة ثم أشار لي أن أتبعه. ارتقينا الدرج الرخامي، وفي أعقابنا الرجل الآخر الذي كان يجلس إلى جوار السائق. مرقنا من باب عريض إلى ردهة غصت بالعسكريين والمدنيين. وصعدنا درجا آخر، ومضينا في طرقة طويلة بين صفين من الأبواب المغلقة. وأخيرا تمهلنا أمام إحدى الغرف، فطرق رفيقي بابها ودخل، وبقيت في الخارج بصحبة زميله.
خرج الرجل بعد لحظات، فأشار لي بالدخول، ثم أغلق الباب من خلفي.
كانت الغرفة تمتد يسار المدخل إلى حيث استقر مكتب ضخم من الخشب، جلس خلفه رجل قصير القامة أنيق الثياب. ونهض الرجل واقفا وهو يمد إلي يده قائلا: أهلين أستاذ. شرف.
وأشار إلى أحد مقعدين متقابلين وضعا لصق مكتبه.
عاد إلى مقعده، وجلست وأنا أتأمله. وقرأت اسمه على هرم خشبي صغير فوق المكتب: «العميد محسن العطار».
كان يتأملني بدوره، وعندما رأى أني قرأت اسمه قال : ها قد نحن قد تعارفنا.
أومأت برأسي فقال: ألست معي في أنك محظوظ حقا؟
رفعت حاجبي ولم أتكلم.
قال وهو ينقل عدة ملفات من مكان إلى آخر فوق مكتبه: الظاهر أن لك أصدقاء كثيرين في لبنان.
التقط دفترا صغيرا من أحد الملفات، عرفت فيه جواز سفري، وقلب صفحاته. وعندما رآني عازفا عن الكلام قال: ستنتهي فيزتك بعد ثلاثة أيام.
قلت: أجل.
قال: هل تنوي السفر قبل ذلك؟
تطلعت إليه حائرا ثم قلت: هل يمكن أن أعرف أين أنا؟
ابتسم وقال: ألم تتبين ذلك بعد؟ أنت هنا في مخابرات الجيش، المكتب الثاني كما يسموننا. - ولماذا؟
رفع حاجبيه مستنكرا: لماذا؟ لأننا أنقذناك من الموت. بحثنا عن خاطفيك وأقنعناهم بالإفراج عنك.
تطلعت إلى لحم وجنتيه الناعم الذي تهدل خارج ياقة قميصه الضيقة.
قلت: شكرا.
قال: أظن أننا نستحق أكثر من كلمة الشكر.
تساءلت: كيف؟ - بأن تلتزم الصراحة والصدق معي. - لكنني لم أكذب عليك؛ فلم أقل لك أي شيء.
ابتسم ابتسامة ذات مغزى وقال: بالضبط. - هل معنى كلامك أني حر؟ - طبعا. - هل يمكنني أن أذهب؟
ألقى بالجواز جانبا وتناول مفكرتي: طبعا. لكن ألا تريد أن تأخذ أوراقك وجوازك؟ ثم هناك بضعة أسئلة صغيرة، أنت حر في أن تجيب عليها أو ترفض ذلك. لكنك إذا أردت حقا أن تعبر عن تقديرك لنا ... - ماذا تريد أن تعرف؟ - نشرب أولا قهوة. كيف تحبها؟ - مضبوطة؟ - مثلي تماما.
تحدث في ديكتافون صغير على مكتبه طالبا قهوة على الطريقة المصرية، وقدم إلي علبة سجائر مارلبورو. لم أكن أطيق مذاقها لكني أخذت واحدة، وتركته يشعلها لي، ثم جذبت نفسا عميقا أشعرني بالدوار.
قال: بيروت مدينة هامة بالنسبة للكتاب؛ لأن بها كثيرا من الناشرين. وللأسف أن بعض الكتاب والناشرين لا يلتزمون بحدود عملهم، ويقحمون أنفسهم في أمور قد تضر بها ضررا بليغا.
أحضر شاب فنجانين من القهوة. وتناولت فنجاني بينما تشاغل باستبدال فيلتر مبسمه، ثم ثبت سيجارته به وأشعلها بتأن وهو يلقي نظرة على ورقة أمامه. وعلى حين غرة مال على المكتب وهو يحدجني بنظراته وقال: أين يقيم كارلوس؟
تطلعت إليه مبهوتا: كارلوس من؟
وفجأة تذكرت، فابتسمت بالرغم مني .
أشار إلي بإصبعه منفعلا: ها أنت قد عرفت.
قلت: تقصد الإرهابي الدولي.
قال وانفعاله يتضاعف: هو بعينه.
قلت: وما شأني به؟
ضرب الملفات بقبضته وقال محتدا: أستاذ، بدك تحكي معي بصراحة مثل ما باحكي معك، عندنا معلومات بأنك تعرف شخصيته جيدا. - غير صحيح. - معلوماتنا مؤكدة. - معلوماتك خاطئة؛ فلا شأن لي بالإرهاب أو السياسة. لقد جئت بيروت لأنشر كتابا وحسب.
ابتسم في خبث وقال: والفيلم؟
أجبت في حدة: ماذا عن الفيلم؟ لقد عرضوا علي أن أكتب تعليقا له، فلماذا لا أفعل؟ إنها صنعتي. - إذن ما هي قصة كارلوس؟ - ليست هناك أي قصة. ما قلته لك هو كل شيء.
جعل يتأملني بإمعان، وبدا لي أنه حائر بين مسلكين، ثم استقر رأيه أخيرا، فتراخى في مقعده، وخلع السيجارة من المبسم وأطفأها في المنفضة وهو يقول: أستاذ، اسمع مني هالكلمة. ليس في وسعنا أن ننقذ شخصا في ظروفك كل يوم. وإذا كنا نجحنا اليوم، فربما لن نستطيع في المرة القادمة. نصيحتي لك أن تبتعد عن المتاعب. وإذا وجدت نفسك في مأزق يمكنك أن تلتجئ إلينا. نحن نمسك ببعض الخيوط، ونستطيع أن نحرك البعض الآخر.
التقط بطاقة من علاقة نحاسية وقدمها إلي قائلا: ها هو اسمي ورقم تلفوني. لا داعي لأن تأتي أو لأن نتقابل. يكفي أن ترفع السماعة وتتكلم. ستجدنا بعد ذلك من الشاكرين. بالمناسبة. هذا الكتاب الذي تحدثت عنه، هل وجدت له ناشرا؟
قلت: ليس بعد.
قال: أعطني نسخة من المخطوطة فربما وجدنا لك واحدا.
قلت: للأسف لم تعد عندي نسخ.
نهض واقفا ومد يده إلي بجواز سفري ومفكرتي وبقية الأوراق التي كانت في جيوبي. نهضت بدوري وتناولتها منه ثم قلت: لقد كان معي حوالي مائتي ليرة.
قال وهو يدق جرسا مثبتا إلى مكتبه. - هذا هو كل ما حصلنا عليه من خاطفيك. إذا كنت في حاجة إلى نقود يمكنني أن أقرضك.
مد يده إلى جيبه، فاستوقفته قائلا: ليست هناك ضرورة. لن أحتاج إلى شيء. وسأعرف كيف أتصرف.
أصررت على الرفض، فأبعد يده عن جيبه. وولج الحجرة رفيق السيارة، فخاطبه العميد قائلا: رافق الأستاذ إلى البوابة، واستدع له سيارة أجرة.
صافحته مودعا، وغادرت الغرفة. وتقدمت مرافقي إلى الطابق الأسفل، فالدرج الرخامي ثم البوابة الخارجية.
23
شق التاكسي طريقه في ظلام الليل عبر شوارع مهجورة، وسواتر ترابية، ومجموعات من المسلحين المختلفي الاتجاهات. واستوقفنا بعضهم ثم تركونا نمر. ووصلنا الحمرا، ثم أشرفنا على المنزل.
بحثت عن أبو شاكر فلم أجده. ارتقيت الدرج جريا آملا أن أعثر على وديع. وطرقت الباب، ففتح لي. وما إن تبينني حتى فغر فمه دهشة، واحتضنني في حرارة.
طلبت منه أن يدفع أجرة التاكسي وأسرعت إلى المطبخ، فأخرجت علبة بيرة من الثلاجة. جرعتها مرة واحدة. وحملت واحدة أخرى إلى الصالة.
أشعلت سيجارة من سجاير وديع الإنجليزية، ومضيت إلى التليفون.
أدرت رقم لميا، فرد علي صوت طفل، ثم جاءني صوتها: أنت؟
سألتها: هل عندك أحد؟
قالت هامسة: أجل. أين كنت؟
قلت: سأحكي لك كل شيء عندما نلتقي بعد نصف ساعة. ممكن؟
قالت: هذا مستحيل. لا يمكنني أن أخرج.
قلت: إذن آتي إليك. - هذا أكثر استحالة. - والعمل؟
قالت بصوت عادي النبرة: سأنتظرك في المكتب صباحا. - سآتي بشرط. - ما هو؟ - أن تجعلي شعرك ذيل حصان.
ضحكت وقالت: بسيطة. - وشيء آخر. ألا ترتدي مشدا لصدرك. - ماذا؟ - صدرك لا يحتاج إلى مشد. - كنت أفعل ذلك فيما مضى. الآن كبرت. - أبدا. تعدينني؟
ضحكت مرة أخرى وقالت: سأرى. باي باي.
سمعت صوت وديع خلفي وأنا أضع السماعة، فاستدرت إليه. كان يتأملني منفعلا وهو يشعل سيجارة: معجزة حقيقية. أن يعود مخطوف وبهذه السرعة. سيتلهف الجميع على شراء المقابلة التي سأجريها معك.
تأملت ملامحه بإمعان كأني أراه لأول مرة. وقلت وأنا أفتح علبة البيرة الثانية: كيف عرفت أني خطفت؟ - عندما تبينت أنك لم تنم في البيت، اتصلت بأنطوانيت ولميا وصفوان وكل من يعرفك. لكن أحدا لم يرك منهم، فلم يعد هناك سوى تفسير واحد. ووعدتني أنطوانيت أن تحرك أجهزة المقاومة. اسمع. لا بد أنك جائع.
قلت: مثل كلب. أريد لحما وويسكي، وقبل كل شيء الحمام.
قال: ادخل الحمام. وسأعد لك كل شيء.
سألت وأنا أتجه إلى غرفتي: ألم يذكر صفوان شيئا عن الكتاب؟
أجاب: قال إنه لا يستطيع نشره في الظروف الحالية.
أحضرت ملابس نظيفة من غرفتي، وحملت علبة بيرة إلى الحمام. خلعت ملابسي وكومتها في ركن قصي. وغسلت أسناني، ثم أطلقت المياه الساخنة في حوض الاستحمام. وحلقت ذقني وأنا أرتشف من البيرة. وأخيرا رقدت في الحوض، وأسندت رأسي إلى جداره. ورفعت علبة البيرة إلى شفتي.
لكن سعادتي لم تلبث أن تلاشت. وتحركت أمعائي لأول مرة منذ يومين. لم يكن السبب هو قرب عودتها إلى ممارسة نشاطها الطبيعي، وإنما الفكرة التي أخذت تلح علي.
انتهيت من حمامي، فارتديت الملابس النظيفة، وخرجت إلى الصالة. وجدت وديع قد أحضر من الخارج دجاجتين مشويتين على الفحم، مع أطباق السلاطة المعهودة. ورويت له ونحن نأكل كيف تم اختطافي، والحديث الذي دار بيني وبين الفينيقي المتعصب ثم بيني وبين رجل المكتب الثاني.
عرته الدهشة عندما سمع بالسؤال الذي وجهه إلى الأخير عن كارلوس، وتمتم: غريبة. وماذا قلت لهم؟ - الحقيقة.
بدت عليه الحيرة، فأضفت: أقصد أني لا أعرف عنه أي شيء.
شحب وجهه وسأل: وهذا صحيح؟ - طبعا. - لكنك قلت لي ...
ضحكت: أنت الذي أخطأت الفهم. - كرر متعجبا: غريبة.
غمست لقمة في طبق من الثوم المطحون باللبن وقلت: فعلا غريبة؛ فلم يرد ذكر كارلوس على لساني غير مرة واحدة، في هذه الصالة، وأثناء حديث معك. وليس لذلك غير معنى واحد.
توقف عن الأكل وتطلع إلي مترقبا: ما هو؟ - إما أنك ثرثرت مع أحد بالحديث الذي دار بيننا ...
اندفع قائلا: أبدا.
سكت ثم أضاف: لا أظن. ربما.
استطردت: أو أن بمنزلك جهاز تسجيل للمكتب الثاني.
دار ببصره في أرجاء الصالة ثم أطرق برأسه قائلا: ممكن.
جرعت كوبا من البيرة ثم قلت: لا أظن.
اتسعت حدقتاه: إذن ما ...
رفعت يدي أستوقفه وقلت: دعنا من هذه النقطة الآن. ما أريد أن أفهمه هو لماذا اختطفوني، ولماذا أطلقوا سراحي.
اقتطع شريحة من الدجاج وقال: اختطافك يمكن أن يكون قد تم مصادفة. وجه غريب ظهر في منطقتهم. وخصوصا إذا كان بادي الفضول.
وضع لقمة في فمه واستطرد: ليست هناك قاعدة بالنسبة لعمليات الاختطاف؛ فأحيانا يتم إعدام المخطوفين في الحال. وغالبا يكون هذا انتقاما لعملية مماثلة قام بها الطرف الآخر. وأحيانا يكون بلا سبب ظاهر، كما حدث أخيرا عندما أعدم الكتائبيون حوالي أربعين من العمال المصريين. وفي أحيان كثيرة يحتفظ الخاطفون بضحاياهم ليتم مبادلتهم بغيرهم، أو بمكاسب معينة؛ ولهذا كان الفينيقي صبورا معك من أجل تقييم حالتك، وهل من الممكن استغلالك في نوع من المبادلة، ولو تبين له مثلا أنك مسيحي، كان سيحاول إقناعك برأيهم، وكسب تأييدك. وأظنك سمعت أن هناك جسورا بينهم وبين بعض الأقباط المصريين. - والمكتب الثاني؟
استغرق في مسح ما تبقى في طبق الحمص بلقمة ثم قال: المكتب الثاني هيئة غريبة. إنه يخضع لنفوذ العائلات الحاكمة، مارونية ومسلمة. لكن القائمين عليه يخضعون أيضا لولاءات أخرى خارجية ومتعارضة. وبالإضافة إلى ذلك كله، فإنهم يتحركون أحيانا بشكل مستقل في لعبة الصراع على القوة بين الكتل المختلفة، داخلية وخارجية.
أشعل سيجارة ومضى يقول: نأتي للمقاومة. الظروف فرضت عليها أن تحتفظ بقنوات اتصال مع الكتل المختلفة. وهي قنوات لا تتأثر بالأحداث. يكون القتال دمويا بين فتح والكتائب مثلا، بينما تعمل قناة الاتصال بينهما بصورة عادية.
تطلع إلى ساعته، ثم قام إلى جهاز التليفزيون فأداره، وألغى صوته، في انتظار نشرة الأخبار. وواصل حديثه وهو يعود إلى مقعده: تم إذن اختطافك صدفة. ونجحت أنطوانيت في أن تحرك المسئولين في منظمة التحرير الفلسطينية. ومن الطبيعي أن يهتم هؤلاء بالأمر لسببين؛ الأول هو أنهم حريصون على دعم علاقاتهم بكافة المجموعات اللبنانية التقدمية مثل مجموعة أنطوانيت، حماية لوجودهم. والسبب الثاني متصل بالأول؛ فاستخدام أنطوانيت لإمكانيات مؤسسة السينما التابعة لهم، يجعلها محسوبة عليهم بصورة ما. وبذلك فإن اختطافك يمس مكانتهم ولو من بعيد. وقد بدءوا أولا بالمنظمات المختلفة في الغربية حتى تأكدوا أنك غير موجود بها؛ عندئذ تم تحريك قناة الاتصال بالمكتب الثاني، ثم بالكتائب والنمور وحراس الأرز وبقية الفرق المارونية. وهؤلاء جميعا أنكروا علاقتهم بالأمر. لكن المكتب الثاني - سواء كي يسدد دينا للمنظمة، أو يسجل لنفسه نقطة عندها، أو ليكسب نقطة في صراع القوة مع الفرق المارونية، أو ليتقصى موضوعا جانبيا تماما مثل موضوع كارلوس - المهم أنه لا يقف عند هذا الحد، ويهتم بالقصة. وخلال ساعات قليلة يكون قد عرف من عملائه المنبثين في الفرق المختلفة مكانك، ويحسم الأمر بمكالمة تليفونية، فيجد الخاطفون أنهم يكسبون من إطلاق سراحك نقطة لدى المكتب الثاني، أو يسددون دينا له. ويتم تبادل الاعتذارات وتسجيل النقاط، وتسترد حريتك. وتصبح مدينا للمكتب الثاني بصورة ما.
أطرقت برأسي وقلت: معقول جدا. ولو أنها صورة مخيفة. ومضحكة أيضا. وهي تفسر الباقي.
رمقني متسائلا فقلت: دورك أنت.
ظهرت عليه الدهشة واغتصب ضحكة: دوري هو أني حركت هذه السلسلة من الأفعال عندما بحثت عنك واتصلت بأنطوانيت. - طبعا. طبعا. لا جدال في هذا. لكني أقصد شيئا آخر. - ما هو؟ - كارلوس.
شحب وجهه وقال: ما شأنه؟ - ربما يوجد جهاز تسجيل هنا. لكني واثق أن المكتب الثاني سمع بموضوع كارلوس عن طريقك شخصيا. - يعني أنا عميل للمكتب الثاني؟ - ليس بالضرورة. لا أظن. هناك شكل معاصر متحضر لهذه الأمور. أنت ترفع سماعة التليفون وتتصل بصديق لك، تعرف أن له صلة ما بالمكتب الثاني. واحد مثل صاحب المقهى الذي رأينا عنده لميا، فتثرثر معه، وخلال الحديث تلقي ببعض المعلومات التي تعرف جيدا أنها تهم المكتب الثاني. عمليا أنت لم تقم بشيء مما يقوم به العملاء المحترفون. كل ما فعلته هو أنك ثرثرت فقط في معرض الإجابة على السؤال التقليدي: إيه الأخبار؟ - وماذا أستفيد من هذه الثرثرة؟
قلت: شيء من الأمان ربما. دعم ما في لحظة أزمة. الحياة هنا صعبة. بيروت جحيم من الولاءات المتشابكة والمتعارضة، ثم ألا يحتمل أن تكون مدينا لهم على طريقة ما حدث معي اليوم؟ - لم أتصور أبدا أنك سيئ الظن إلى هذه الدرجة. - ليت الأمر كان كذلك. مجرد سوء ظن.
كانت أصابعه ترتعش. ودون أن أنظر إلى أصابعي كنت أعرف أنها أيضا ترتعش.
قلت: هل تحب أن أعطيك مثالا آخر في سوء الظن؟ هناك موضوع المفكرة. أنا واثق أني تركتها على الكومودينو بجوار الفراش، فما الذي وضعها في حقيبتي؟ - لو كنت أخذتها، فمن المنطقي أن أعيدها إلى مكانها. - بالعكس، أنت تعرف أني بحثت جيدا على الكومودينو وحوله وتحته، فلو ظهرت في نفس المكان، لبدا الأمر واضحا. الأذكى أن تظهر في مكان آخر؛ لإقناعي بأني كنت عرضة للنسيان. - إذن أنا أخذت مفكرتك وأعطيتها للمكتب الثاني؟ - ربما تكون تصفحتها وحسب. خفت أن تكون لي اتصالات يمكن أن تعرضك للخطر. - وماذا أيضا؟
ضحكت: ألا يكفي هذا؟ - أريد أن أسمع. - كما تشاء، يمكن أن نبدأ من السجن الذي غادرته بعد أسبوع واحد. أو سنة 68 عندما عينوك في بيروت بينما كل أصدقائك كانوا إما في السجن أو خارجين منه لتوهم. - وكيف تفسر أنت ذلك؟ - ألم تكن من المسئولين في تنظيم الاتحاد الاشتراكي؟ وكنت تكتب التقارير عن اتجاهات الرأي العام؛ أي آراء زملائك في الجريدة؟
قال: أنت تسليني جدا باكتشافاتك البوليسية. لقد كنت دائما أعتبرك أقرب شخص إلي، وها أنت قد خيبت ظني فيك.
قلت: الحياة سلسلة من خيبات الظن. الغريب في الأمر أني - بيني وبين نفسي - لا ألومك على شيء.
حانت مني نظرة إلى شاشة التليفزيون، فوجدت نشرة الأخبار قد بدأت. مددت يدي ورفعت درجة الصوت، واستمعت إلى المذيع يتحدث عن ثلاثة مليارات من الدولارات أخذها العراق من السعودية لتعويض خسائره في الحرب مع إيران، ثم ظهرت صورة السادات على الشاشة بمناسبة حديث أدلى به إلى مجلة «دير شبيجل» الألمانية، وأعلن فيه أن العلاقات المصرية الأمريكية هي علاقات استراتيجية، وأن «بلاده» مستعدة لتقديم التسهيلات للولايات المتحدة والدول الغربية من أجل الدفاع عن مصالح هذه الدول في الخليج.
بدا أن السادات قد احتكر الأمسية؛ فما لبث أن ظهر في اجتماع لحزبه في القاهرة. وفي هذه المرة جاءنا صوته المميز يقول: «في يوم 27 مايو 79 .. يعني بعدما رفعت العلم على العريش ... يوم 27 كنت في العريش وجه ليه بيجين .. ورحنا زرنا بير سبع .. يعني الموضوع انتهى بتاع سينا خلاص .. برفع العلم على العريش .. قلت له تعالى نقعد .. اللي تم امبارح لما أنا رفعت العلم على العريش .. دي معناها كبير جدا .. ليه؟ معناها إنه إنتم فعلا بتحترموا اتفاقاتكم .. وأنا عارف هذا .. إنتم فعلا بتنفذوا التزاماتكم .. طب ما تيجي وفاضل لنا سنة عشان الحكم الذاتي الفلسطيني .. ما تيجي من دلوقت نخلص الاتفاق .. ما تيجي يا بيجين .. وبيجين قال مفيش مانع ... إيه رأيك؟ مكنش فيه حاجة .. ما طلبش مني شيء أكثر من إجراءات أمن .. كل إجراءات الأمن اللي طلبوها قلت لهم أديهالكو وزيادة. قال لي شيء عظيم جدا .. قلت له إيه رأيك في مليون متر مكعب يوميا من مياه النيل .. قاللي شيء عظيم جدا ...»
شعرت فجأة بالإرهاق والرغبة في النوم، فقمت واقفا وأنا أقول: سأدخل لأنام.
لم ينبس بحرف وظل يتطلع إلى شاشة التليفزيون في وجوم. ملت عليه ووضعت يدي على رأسه قائلا: صدقني يا وديع، أنا لا ألومك أبدا.
24
بدا المرافق الفحل ساهما، وقد احتل مقعدا إلى جوار مكتب السكرتيرة، ومد ساقيه الطويلتين أمامه، فأوشك أن يسد الطريق. وكان مسدسه، كالعهد به، يتدلى من خاصرته.
قالت السكرتيرة وهي تومئ إلى الغرفة الداخلية: المدام تنتظرك.
خطوت في الممر المؤدي إلى غرفتها، ورأيتها تقف عند الباب مادة يديها نحوي. احتوت يدي بين راحتيها وجذبتني إلى الداخل، ثم تخلت عني واتجهت إلى مقعدها خلف المكتب قائلة: اجلس واحك لي ما حصل.
جلست في المقعد الملاصق لحافة مكتبها الأمامية، ورأيت أنها مشطت شعرها إلى الخلف، وجمعته داخل أنشوطة. وكانت ترتدي بلوزة حريرية، وردية اللون، بلا أكمام، وجوبا واسعة من نفس اللون، وتبينت على الفور أنها لا ترتدي مشدا.
لحظت اتجاه نظراتي فتضرج وجهها وقالت: الشمس اليوم قوية، مبسوط يا بيه؟
رويت لها ما وقع لي من أحداث، وضحكنا سويا على قصة كارلوس.
سألتها: ما هي أخبار الكتاب؟
أجابت على الفور: أعجبني جدا، وسنأخذه. متى تسافر؟ - حجزت في طائرة الجمعة. - سأجهز عقدك اليوم. - والمصاري؟ - بمجرد أن توقع تقبض.
جذبت بعض الأوراق وقالت: هل يمكن أن تنتظرني قليلا؟ اشرب القهوة واقرأ الصحف حتى أنتهي.
جاءت السكرتيرة بالقهوة. وتناولت إحدى الصحف. كان صدرها موزعا بين أخبار مؤتمر القمة العربي في عمان، وحملة اعتقالات جديدة ضد الفلسطينيين هناك، وحديثي السادات اللذين استمعت إليهما بالأمس. وكانت هناك إشارة لحديث ثالث إلى التليفزيون الدنماركي يقول فيه بالنص: «ثبت أن الله يعدني لمهمة معينة».
قلبت الصحيفة فطالعتني على الصفحة الأخيرة صورة لصبي في حوالي السابعة من عمره، ذي وجه وسيم وعينين واسعتين، يتوسط زميلين له خلف مكتب بحجرة دراسة، التقطت الصورة من الأمام وعلى مستوى منخفض، فظهرت سيقان التلاميذ الثلاثة، وحقيبة كتب أحدهم فوق الأرض. وكان كل منهم يضع ساقا فوق الأخرى، كاشفا عن جوربه وحذائه، ما عدا الصبي الوسيم الذي وضع طرف قلمه في فمه متأملا في وجوم؛ فقد كانت ساقه اليسرى، الملقاة فوق اليمنى، تتألف من رجل بنطلون فارغة.
كان المقال المرفق يتحدث عن الأطراف الصناعية بمناسبة العام الدولي للمعاقين. وقرأت أن سوق الأطراف الصناعية في لبنان ازدهر أخيرا رغم الصعوبات التي تواجهها؛ فالتقدم الذي تحقق في صناعتها، جعل الأغنياء وحدهم هم القادرون على الاستفادة منها. بينما الغالبية الساحقة من المصابين في لبنان، من الفقراء المعدمين.
وأسفل صورة الصبي، قرأت هذا التذييل: «الطرف الصناعي ليس كما يعتقد الناس مثل الطرف الطبيعي، لكنه وسيلة مساعدة على القيام ببعض الحركات المهمة.»
كانت هناك صورة أخرى لنفس الصبي في الطريق، وقد اعتمد بمرفقيه على عكازين، وعلق حقيبة كتبه فوق ظهره، ولوى عنقه متابعا مباراة في كرة القدم بين أولاد في مثل سنه.
وفي صورة ثالثة ظهر طفل آخر في حوالي الرابعة من عمره يرتدي صديريا فوق قميصه، ووقف بين حاجزين حديديين، كاشفا عن نصفه الأسفل، بينما انحنى الطبيب فوق فخذه المبتورة، يجرب له ساقا صناعية، وأسفل الصورة قرأت : «المشي هو مجموعة حركات تقوم بها عدة مفاصل في الرجل والورك والركبة والكاحل وأصابع القدم. وتجرى عمليات البتر عادة فوق الركبة أو تحتها.»
غادرت لميا مقعدها، ومضت إلى خزانة الكتب، فاستخرجت ملفا، وعادت به. توقفت جواري، وبسطت الملف على سطح المكتب وانحنت فوقه.
كان باب الغرفة مفتوحا. وكان بوسعي أن أرى جانبا من الممر المؤدي إلى الردهة الخارجية. ودون أن أرفع عيني عن الباب، انحنيت قليلا، ووضعت راحة يدي فوق بطن ساقها، حركت يدي في بطء إلى أعلى حتى إبط ركبتها، ثم أدرتها بحيث أحاطت بركبتها من الأمام، وواصلت تحريكها فوق فخذها.
كان لحمها مشدودا، ناعما وساخنا. واصطدمت يدي بعد لحظة بقطعة من القماش، فتوقفت وتطلعت إليها. كانت ما تزال منحنية على الملف، لكن عينيها كانتا مغمضتين.
فتحت عينيها ببطء فالتقتا بعيني.
قالت: أنا لا أستحي منك.
كان دوي الانفجار قويا، هز المبنى من أساسه. وسحبت يدي بسرعة، بينما اعتدلت واقفة وهي تسوي جوبها، وهرعت إلى النافذة قائلة: إنه حاجز الصوت.
تكرر الدوي مرة أخرى، ثم ترددت عدة انفجارات ضعيفة متفرقة، أشبه بطلقات المدافع المضادة للطائرات. وأقبلت السكرتيرة علينا في انفعال وهي تقول: طائرات إسرائيلية.
انضمت إلينا عند النافذة. ووقفنا نتطلع إلى السماء دون أن نرى شيئا. ولم يتكرر الدوي، فانصرفت السكرتيرة، وأغلقت الباب خلفها.
قربت فمي من ساعد لميا العاري، وطبعت قبلة عند مدخل إبطها. ولحظت أن وجهها شاحب.
سألتني: خفت؟
أجبت: طبعا.
احتضنتها والتقطت أذنها بشفتي. أراحت نهديها على صدري ثم ابتعدت عني مرة واحدة وهي تهمس: حد يدخل.
تناولت الملف وأعادته إلى الخزانة، ثم استقرت خلف مكتبها وانهمكت في العمل. وعدت إلى مقعدي فأشعلت سيجارة وجعلت أرقبها.
ألقت القلم فجأة من يدها وهي تتراجع بمقعدها إلى الوراء: أوف. لست قادرة على التركيز.
قلت: قومي بنا نخرج.
فكرت قليلا ثم قالت: يجب أن أذهب إلى البيت.
مددت يدي فوق المكتب، وأمسكت بيدها، وتحسست أناملها بأطراف أصابعي.
كان الدوي هذه المرة قريبا منا للغاية. وميزت صوت طلقتين متتابعتين. وفتح الباب بعنف وظهرت السكرتيرة شاحبة الوجه، وهي تحاول الكلام. وجاء في أعقابها شابان ممن يعملون في الدار ، وخلفهما أحد المسلحين اللذين يحرسان مدخل المبنى.
أمكننا أن نفهم من سيل العبارات المبتسرة والمتعارضة، أن «أبو خليل» خرج ليشتري سجاير، وحين عودته في المصعد، لمح مسلحا غريبا على الدرج. ورفع المسلح مدفعه الرشاش ليطلق النار على «أبو خليل». لكن هذا كان أسرع منه، فأطلق عليه رصاصتين أخطأتاه. وتمكن المسلح من الهرب في اتجاه السطح.
تدافعنا جميعا إلى الخارج، ووقفنا أمام المصعد الذي بدا زجاج مصراعه الخشبي مهشما.
سمعنا صوت أقدام ثقيلة وأنفاس لاهثة. وظهر «أبو خليل» أعلى الدرج، ومسدسه يتدلى من يده. - طاردته حتى السطح لكنه تمكن من الفرار.
هز حارس الباب الخارجي رأسه وقال: لم يدخل غريب البناية أبدا.
صاح به أبو خليل: إذن من أين جاء الزلمة؟ م الهوا؟ لا بد أنه صعد من المدخل وكنت أنت نائما.
احتد الحارس: أنت الذي تنام طول الوقت.
تدخلت لميا لتفض الشجار، وطلبت من الاثنين أن يقوما بتفتيش المبنى تفتيشا جيدا.
عدنا أدراجنا إلى الغرفة، فأغلقت الباب واستندت إليها بظهرها. قالت وهي تجذب شفتها السفلى بطرف إصبعها: من حسن الحظ أن «أبو خليل» رآه.
مشت إلى مكتبها وهي تفكر ثم سألتني: كم الساعة الآن؟
قلت: الثانية والنصف.
خطت نحوي ووقفت أمامي، ثم مدت يدها إلى صدري فاعتصرته. أحنيت رأسي على صدر بلوزتها، وتناولت طرف ثديها بين شفتي، وقربت فخذيها وألصقتهما بي.
قالت بالإنجليزية: أنا هائجة جدا.
ثم أضافت بالعربية همسا: أنا بأعوق كثير. فهمت؟
أطرقت برأسي وقلت: نذهب إلى منزلي.
تساءلت: ووديع؟ - يمكنني أن أكلمه الآن في مكتبه وأتفق معه. - لا أريد. لن أشعر بالاطمئنان أبدا.
تطلعت إلى الكنبتين المتعامدتين في ركن الغرفة، فقالت: ولا هنا أيضا. وبعد ما حدث اليوم.
حسمت رأيها فجأة، فتناولت حقيبة يدها، وقالت: هيا بنا. - إلى أين؟ - إلى منزلي.
كان «أبو خليل» ينتظرنا في الردهة الخارجية، فتقدمنا إلى الدرج.، وهبطنا خلفه حتى الباب الخارجي، حيث استقبلنا الحارسان شاهري السلاح.
طلب منا «أبو خليل» أن ننتظر في الداخل، وأشار إلى أحد الحارسين، فغادر المبنى. وظهر بعد لحظات في مقدمة الشيفروليه إلى جوار سائقها ذي الملابس الرسمية.
وبإشارة من «أبو خليل» رفع المسلح الآخر مدفعه إلى صدره، وهو يكتسح ببصره أسطح المباني القريبة ونوافذها ومداخلها. وتقدم إبراهيم من السيارة في اعتداد فجذب الباب الخلفي، وأومأ برأسه للميا. وظل واقفا حتى ركبت فأغلقه وراءها، ثم دار حول السيارة وفتح الباب الآخر، وتنحى جانبا وهو يخاطبني: شرف أستاذ.
أغلق إبراهيم الباب، ثم دار حول السيارة وفتح الباب المجاور للميا. تحركت هي نحوي حتى التصقت بي، مفسحة له مكانا. وجلس شاهرا مسدسه.
قالت لي لميا بالإنجليزية عندما تحركت السيارة: كنت أنوي التخلص من عظمته في نهاية الشهر. لكن يبدو أنه ما زالت هناك حاجة إليه.
انطلق السائق عبر شبكة من الشوارع المتقاطعة، تنفيذا لتعليمات إبراهيم الذي لم يغفل عن مراقبة السيارات القادمة من خلفنا، حتى بلغنا المنزل.
وقبل أن تتوقف السيارة تماما كان أبو خليل قد فتح بابها وقفز إلى الرصيف ومسدسه في يده. وفعل المسلح مثله، ووقف إلى جوار السيارة رافعا مدفعه إلى صدره، وإصبعه على الزناد.
غادرنا السيارة وتقدمنا من المبنى في حماية المسدس والكلاشينكوف. وانضم إلينا اثنان من المسلحين الواقفين في مدخله. صعدنا الدرج الرخامي العريض، ثم اجتزنا الردهة الداخلية. وأخذ إبراهيم مفتاح المصعد من لميا، واستقله بمفرده حتى الطابق الأخير ليتأكد من خلوه من المتفجرات.
هبط المصعد بعد دقائق، فأخذناه أنا ولميا إلى مسكنها. وقادتني إلى الغرفة التي جلست فيها المرة السابقة وتركتني.
اتجهت إلى المكتبة ووقفت أتأمل محتوياتها، ورأيت الرف الذي كان يحمل صورة عدنان خاليا. واكتشفت أن الصورة موضوعة على الأرض، إلى جانب المكتبة، ووجهها إلى الحائط.
جذبت مجلدا سميكا غريب الشكل، فوجدته قاموسا للغتين العربية والعبرية. قلبت في صفحاته إلى أن أقبلت لميا. ولاحظت أنها أضافت طبقة جديدة من الكحل إلى عينيها، فبدتا أكثر اتساعا.
قالت: الأكل جاهز يا بيه.
أعدت القاموس إلى مكانه وتبعتها إلى صالة رحبة، علقت فوق جدرانها قطع السجاد، وصوان ضخمة من الفضة المنقوشة بالزخارف الإسلامية. واستقرت وسطها مائدة خشبية كبيرة، صف حولها عدد كبير من المقاعد.
كانت أدوات المائدة معدة لاثنين فقط، فسألتها: ألن تأكل ابنتك معنا؟
قالت وهي تجلس: سلمى أكلت مع دادتها وخرجتا للنزهة.
جلست أمامها وتطلعت حولي ثم سألتها: أليس هناك ما يشرب؟
أشارت إلى قنينة من عصر البرتقال وابتسمت: نحن لا نحتفظ بأية خمور في المنزل. أنت نسيت أننا مسلمون.
تولى نادلان في سترات بيضاء وبنطلونات سوداء خدمتنا. وانتقلنا من السلاطات المتنوعة إلى كشك بصدور الدجاج، وورق عنب محشو، ثم قطع اللحم المحمر مع كوسة وجزر مسلوقين.
كانت الحلوى مصنوعة من الشكولاتة. واكتفيت بتفاحة تناولتها من إناء واسع امتلأ بالتفاح والخوخ والعنب.
أشعلت سيجارة، وانتقلنا إلى غرفة المكتبة، حيث جاءتنا القهوة. تركت لميا الغرفة بعض الوقت، وعندما عادت جلست إلى جواري وأمسكت يدي. كانت يداي باردتين، فتركتهما وقال: تعال أريك غرفتي.
سرنا في ممر طويل فوق أرضية من الرخام. وتوقفت أمام غرفة.
سألتها: هل الحمام قريب من هنا؟
أشارت إلى الباب المواجه ففتحته ودخلت. وجدت نفسي في كهف واسع من الرخام الأسود الذي تتخلله عروق وردية. وكانت المرايا تغطي جانبا كبيرا من جدرانه.
تبولت وغسلت يدي وفمي في حوض واسع ذي صنابير صفراء لامعة، بدت كأنها من الذهب، ثم جففت يدي وأنا أتأمل وجهي الذي عكسته المرايا عدة مرات. وأخيرا غادرت الحمام، وأغلقت الباب خلفي في هدوء.
كانت الغرفة التي تنتظرني فيها متوسطة المساحة، يحتل مركزها فراش مستدير واطئ، دون مساند، يعلوه غطاء سميك وردي اللون.
جذبتني من يدي وقادتني إلى كنبة وثيرة، ثم جلست أمامي على حافة الفراش، وهي تتأملني في اهتمام، مترقبة انطباعي.
نقلت البصر بين السجاد السميك الذي تعلوه خصلات متموجة من الصوف، والستائر الضخمة التي كشفت عن حائط من الزجاج يطل على شرفة عريضة. واسترخيت في مكاني، دافنا جسدي بين الحشيات اللينة.
شعرت بالسكينة وأنا أمر بعيني فوق الأثاث النظيف المرتب في عناية والسماء القاتمة من خلال الزجاج. كان الهدوء شاملا. وشعرت بالرغبة في أن أستسلم للكنبة وحشياتها. وفي ألا أتحرك أو أتكلم، كي تمتد هذه اللحظة قليلا.
مالت نحوي وألقت بيدها على ركبتي، أمسكت بساعدها وجذبتها نحوي في رفق، فانتقلت إلى جواري، ودفنت رأسها في عنقي.
كان جسدها ساخنا، وشعرت بها ترتعش. لكن أعصابي كانت مرتخية، وشيء كالخدر يلفني.
وضعت راحتي على ساقها، وتحسست بشرتها الناعمة، ثم تلمست استدارات فخذيها. وتطلعت إليها فوجدتها تتنفس في قوة، مغمضة العينين. وما لبثت أن جعلت تنتفض مع كل لمسة من أصابعي.
كلت أصابعي بعد قليل وآلمني رسغي، لكني واصلت تلمسها دون أن أرفع عيني عن وجهها، إلى أن هدأت حركاتها، ونحت يدي بعيدا.
استكانت على صدري وهي لا تزال مغمضة العينين. وفتحت عينيها بعد فترة، ثم اعتدلت جالسة وسوت ملابسها قائلة: الأفضل أن نعود.
تبعتها إلى غرفة المكتبة وجلست في مواجهتها. أشعلت سيجارة وأنا أتأملها. كانت عيناها ساهمتين، غارقتين في تيار من التأملات الداخلية.
ألقيت نظرة على ساعتي وقلت: لا بد أن أنصرف الآن. - هه؟
كررت القول فقالت دون حماس: ابق قليلا. عندي فيلم مصري لنادية الجندي.
قلت: وأنا عندي فيلم يحتاج إلى تعليق.
قالت: كما تشاء.
رافقتني إلى باب المصعد. قلت وأنا ألجه: هل ستكونين هنا بالليل؟
أومأت برأسها.
سألت: أكلمك أم تكلمينني؟
قالت: لا. أكلمك أنا.
قلت: سأنتظر.
25
بدا لي أن التعليق يجب أن يكون تقريريا، مقتضبا، لا أثر فيه لنبرة إثارة أو أسى؛ فما قيمة أي كلمة حماسية بلاغية أمام الصور الدامغة لمشاهد القتل والحرق والتدمير؟ وخالجني الشك لحظة في جدوى التعليق على الإطلاق، ثم تذكرت أن للفيلم متطلبات كثيرة حتى تدب فيه الحياة، يمكن أن يكون الصوت البشري أحدها.
كان علي أن أتخلص من أغلب العناوين الأصلية، أو بمعنى أصح أدمجها في تعليقي. كما أن حجم هذا التعليق كان يجب أن يسير متوازيا مع حجم المادة. وفي أحيان كثيرة يجب أن يتزامن الصوت مع مشاهد بعينها.
استعنت بقائمة أنطوانيت المبتسرة التي سجلت زمن كل لقطة. وكنت أعرف أن العشرين ثانية على الشاشة تستوعب، في المتوسط، ثلاثين كلمة، فسجلت عدد الكلمات المطلوبة لكل مشهد يتألف من لقطات متعددة. وأمكنني ذلك أن أحدد حجم المادة المطلوبة كتابتها.
وقررت أن أتعامل مع التعليق كنص متكامل، ذي بداية ونهاية، لا كمجموعة من التذييلات الملائمة للمشاهد. ومع ذلك كان علي أن أراعي بعض المشاهد التي تحتاج إلى إيضاح، والأخرى التي لا تحتاج إلى كلمة واحدة.
انقطعت تماما للعمل، ولم يحل ظهر الخمس إلا وكنت قد انتهيت من مسودة التعليق. وراجعتها بدقة من مختلف الزوايا، سواء من ناحية منطقية التسلسل، أو سلامة اللغة وسلاستها، أو النظرة السياسية، أو الدقة في المعلومات، وأولا وأخيرا التزامن مع مشاهد الفيلم ولقطاته.
أمدني ضيق الوقت بالحماس، فعكفت على كتابة نسخة أخيرة سليمة، إلى أن انتزعني رنين التليفون من استغراقي.
رفعت السماعة، فجاءني صوت أنثوي غريب لم أتعرف عليه: أستاذ ...؟
قلت: أهلين.
قالت: أنا جميلة.
كررت الترحيب بها، فقالت: عفوا إذا أزعجتك، لكن بدي أحكي معك ضروري. - أنا تحت أمرك. - نلتقي بعد نصف ساعة ممكن؟ - أين؟ - مثل ما بتريد. - هل يضايقك أن تأتي لعندي؟ - أفضل مقهى في الحمرا. المودكا مثلا.
قلت: موافق. المودكا إذن.
نحيت أوراقي جانبا. وارتديت سترتي وغادرت المنزل. مشيت على مهل في اتجاه الحمرا، ثم دلفت إلى المودكا، واخترت مائدة في مكان ظاهر. ولم ألبث أن رأيتها تبحث عني، فنهضت واقفا. أقبلت علي في خطوات سريعة، وشدت على يدي بقوة ثم جلست.
كانت ترتدي سترة وجوبا من التويد. وبدت أنحف قليلا مما عهدتها. وخلا وجهها من الزينة، فظهرت تجاعيد خفيفة حول عينيها.
طلبت من النادل فنجانين من القهوة وكأسين من الكونياك. وأشعلت لها سيجارة، فجذبت منها نفسا ثم قالت: عفوا إذا كنت متطفلة. هل تسافر غدا؟ - أجل، في المساء.
قالت: أريد منك أن تقطع علاقتك بلميا فور سفرك.
كنت قد رفعت كأس الكونياك إلى شفتي، فأعدته مكانه وتأملتها مبهوتا.
أومأت برأسها وكررت عبارتها.
قلت: غريبة. أنت تفترضين أولا أن هناك علاقة بيني وبين لميا ثم تطلبين ...
قاطعتني: أنا أعرف كل شيء، فلا داعي للإنكار.
قلت: حتى لو فرضنا أن هذا صحيح. ألا ترين أن ما تطلبينه غير عادي؟
قالت: لدي مبرراتي، وستقتنع بها عندما أشرحها لك.
قلت: ليس بيني وبين لميا شيء. العلاقة بيننا علاقة عمل فقط.
أطفأت سيجارتها في المنفضة، واحتوت كأس الكونياك بين راحتيها: اسمع. أنا أعرف لميا من سنوات طويلة. وهي تفضي إلي بكل شيء. - إذا كانت هي التي حدثتك عن علاقة مزعومة بيننا، فهي كاذبة. - لي أيضا عينان.
تأملت يديها القويتين الرجوليتين، بأظافر مقصوصة ومصبوغة بعناية في لون صدفي. وتمثلت الراحة والطمأنينة التي يمكن أن يجدهما الإنسان بالقرب منهما.
قالت: أنا واثقة أنك ستفهم.
تمعنت في كأسها مترددة ثم رفعت عينيها إلي قائلة: هناك علاقة خاصة، خاصة جدا بيني وبين لميا.
قلت: وما شأني أنا؟ - أستاذ. أنت لك حياتك في القاهرة. وأنا ليس عندي غير لميا. إنها كائن رقيق يحتاج إلى رعاية كاملة وحنان فائق، وليس هناك من يفهمها ويقدرها ويحبها مثلي. لكن أحيانا يحدث شيء لا أفهمه. لنقل محاولة لإثبات الأنوثة أو القدرة على اجتذاب الرجال، أو ربما، الملل.
وضحكت بمرارة وأضافت: أو تمرد الأجيال.
قلت: ربما كانت تنتمي للعالمين. - محتمل. لكني لم أفقد الأمل في أن أكسبها تماما لعالمي. - إذا كانت تتمرد على علاقتكما من خلالي، فما أدراك أنها لن تواصل ذلك مع شخص آخر؟
قالت: اترك لي هذا لأهتم به. ما أريده منك هو أن تنهي علاقتك بها بمجرد سفرك. لا خطابات. ولا وعود من أي نوع. - أنا لم أقر بأن هناك شيئا بيننا. على أية حال أنا لست من المغرمين بكتابة الخطابات. - كنت واثقة أني أستطيع الاعتماد عليك.
نهضت واقفة وهي تحدجني بنظرة موحية، كأنما تؤكد حتمية انصياعي لطلبها. وصافحتني مودعة ثم انصرفت.
تابعت ببصري قامتها المنتصبة في اعتداد وهي تخطو بين الموائد، ثم دفعت حسابي وغادرت المقهى.
وجدت وديع منهمكا في إعداد صينية من البطاطس في الفرن، فعكفت على النسخة المنقحة من التعليق حتى انتهيت منها، ثم تلفنت لأنطوانيت وعرضت عليها أن أحضره لها بعد أن أنتهي من تناول طعام الغداء.
قالت: عندي بطاقتان لحفل الموسيقى العربية. ما رأيك في أن تأتي أنت ووديع ومعك التعليق، وأنا أحضر معي الشيك الخاص بالمكافأة؟
ناديت على وديع وأبلغته باقتراح أنطوانيت، فوافق على الذهاب.
قلت لها: موافقون. فقط هل يمكن استبدال الشيك بالنقد؟ لن يكون عندي وقت في الغد لصرفه.
قالت: سأحاول.
كان الحفل يبدأ في السابعة. وأتاح لي ذلك فسحة من الوقت لتناول الطعام، ومراجعة التعليق مرة أخيرة. وقبل السابعة بربع ساعة، أخذنا أنا ووديع سيارة أجرة إلى الجامعة الأمريكية.
واجهنا زحاما كبيرا أمام باب القاعة المخصصة للحفل. وعثرنا على أنطوانيت بمشقة. وكانت ترتدي معطفا من الفراء الصناعي الخفيف، فوق بنطلون الجينز المألوف، وحذاء بكعب رفيع مرتفع.
شدت على يدي في حرارة، وقبلتها في خدها. تقدمتنا إلى الداخل فاعترضنا أحد رجال الدرك مشيرا إلى حقيبة يدها. فتحتها وأخرجت منها مسدسا قدمته إليه. ووضعه الدركي في خزانة جانبية بعد أن أعطاها إيصالا به. وأخرج شاب إلى جواري مسدسه استعدادا لتسليمه. ومررنا أنا ووديع بعد نفينا أننا نحمل سلاحا.
وجدنا مكانا بمشقة. ولاحظت جو الانفعال الذي ساد القاعة، والفرحة التي علت وجوه الحاضرين.
علق وديع قائلا: إنها أول ليلة تسهر فيها بيروت منذ مقتل بشير عبيد.
قدمت التعليق لأنطوانيت فألقت عليه نظرة سريعة وأودعته حقيبتها. وناولتني مظروفا يحوي مكافأتي.
قلت: إذا أردت إحداث أي تعديل في النص أو ظهرت أي مشكلة بالنسبة له فاكتبي لي.
أومأت برأسها موافقة. ووجهت اهتمامي إلى البرنامج المطبوع الذي ناوله لي وديع. كان يتألف من أغنيات لسيد درويش، وبعض أغنيات لليلى مراد من تلحين داود حسني، وأخرى لأم كلثوم من تلحين زكريا أحمد، بالإضافة إلى قصيدة «علموه كيف يجفو» لعبد الوهاب.
ملت على أنطوانيت وهمست لوديع: ألا تلاحظ أن فقرات البرنامج مصرية كلها؟
رفع الستار أخيرا عن الفرقة اللبنانية التي اصطف عازفوها في المقدمة وخلفهم المنشدون والمنشدات. وبدأ الحفل بأغنية سيد درويش المعروفة، التي اشتهرت بها فيروز «زوروني كل سنة مرة»، تلتها اثنتان من أغانيه عن الحرف، هما لحن العربجية ولحن الشيالين.
كان الأداء جيدا والتصفيق جارفا. اجتاحني شعور من النشوة. وعندما غنت الفرقة «أهو دا اللي صار» تفجر البركان الحبيس.
كانت الأغنية التي كتب كلماتها بديع خيري، منذ أكثر من ستين عاما، تقول: «أهو دا اللي صار وآدي اللي كان،
مالكشي حق تلوم علي،
تلوم علي ازاي يا سيدنا،
وخير بلادنا ماهوش بإيدنا،
قوللي عن حاجات تفيدنا،
وبعدها ابقى لوم علي،
بدل ما يشمت فينا حاسد،
إيدك في إيدي نقوم نجاهد،
واحنا نبقى شعب واحد،
والأيادي تكون قوية.»
سالت الدموع من عيني كالسيل. وفشلت في إيقافها، فتركت لها العنان.
شعرت بوديع وأنطوانيت يتبادلان النظرات. وهمست أنطوانيت في أذني: شو القصة؟
لم أرد عليها واسترسلت في البكاء.
حلت فترة راحة بعد قليل، فجففت دموعي، وغادرنا القاعة إلى حديقة الجامعة لندخن. وذكرني وديع بأيام الجامعة، فعادت الدموع تسيل من عيني رغما عني.
أحاطني بذراعه، وجعل يربت على كتفي. ولم تلبث السكينة أن دبت إلي، وجفت دموعي. وتمكنت من السيطرة على نفسي بقية الحفل.
صفق الجمهور طويلا عندما انتهى البرنامج. وأعادت الفرقة بعض أغانيها، ثم غادرنا مقاعدنا أخيرا، وتحركنا في بطء نحو الباب. كان الجميع ينقلون أقدامهم في عناء، كأنما يكرهون العودة إلى منازلهم.
استعادت أنطوانيت مسدسها وغادرنا القاعة. ولم نكد نخطو في الطريق حتى سمعنا صوت أعيرة نارية بالقرب منا.
تصاعدت صيحات من أماكن مختلفة، وجرى البعض، وأشهر آخرون مسدساتهم.
هتف وديع: نجري.
خلعت أنطوانيت حذاءها، وأمسكته هو والحقيبة بيد، وحملت المسدس في يدها الأخرى. وانطلقنا نجري في الظلام وهي ترشدنا إلى الطرقات التي تبعدنا عن المنطقة.
لم يتكرر صوت الرصاص؛ فأبطأنا من سرعتنا، وتوقفنا أخيرا ونحن نلهث. وأتانا صوت سيارة مسرعة مقبلة خلفنا، فاحتمينا بالحائط. ومرقت من أمامنا سيارة جيب عسكرية مغلقة من كافة الجوانب. وتابعنا كشافيها المبهرين وهما يتراقصان على جدران المنازل، ويسقطان فوق ملصق قديم يحمل صورة جمال عبد الناصر الشهيرة، التي يبدو فيها حزينا، كسيف البال، عقب الهزيمة مباشرة.
عرض وديع على أنطوانيت أن تبيت عندنا، فرفضت، وأصرت على أن تعود إلى منزلها في الشرقية، فأركبناها سيارة أجرة، وأخذنا أخرى إلى المنزل.
26
بدأ آخر يوم لي في بيروت بسماء ملبدة بالغيوم. وكان وديع لا يزال نائما، فتناولت إفطاري وأنا أقرأ الصحف التي حملت أنباء عدوان إسرائيلي جديد على الجنوب اللبناني. وكانت هناك صور عديدة للمنازل التي تهدمت نتيجة لهذا العدوان، وللضحايا الراقدين في المستشفيات.
أعددت حقيبتي ونظفت الغرفة ورتبت فراشها. وفعلت نفس الشيء بالمطبخ والصالة. وأخيرا استحممت وارتديت ملابسي. وكان وديع قد استيقظ خلال ذلك، وتناول إفطاره. وعندما عدت إلى الصالة وجدته يستعد للخروج.
قال: سأعود قبل المساء لأرافقك إلى المطار.
قلت: لا داعي. يمكنني أن أطلب تاكسي.
قال: سأطلبه لك. السادسة معقول؟
قلت: معقول.
اتجه إلى الباب فاستوقفته قائلا: إذا عدت مبكرا فتلفن لي أولا؛ فربما جاءتني زائرة.
وعدني أن يفعل، وغادر المسكن.
كانت هناك زجاجة ويسكي فوق المكتب، فأفرغت كأسا وجلست أحتسيها. وقبل الظهر بقليل دق جرس التليفون.
رفعت السماعة وأنا أقول بلهجة آلية: آلو.
جاءني صوت لميا معاتبا: دمك تقيل.
قلت بنفس النبرة: أهلا.
قالت: لماذا لم تتصل بي؟ - ألم تطلبي مني ألا أفعل؟ ووعدت أن تتلفني؟ - لم أستطع. - هل أعددت العقد والمقدم؟
لم ترد وإنما سألتني بدورها: في أي ساعة تسافر؟ - سأخرج من هنا في السادسة. - وديع عندك؟ - لا. - متى يعود؟ - بالليل، لماذا؟ - سآتي عندك بعد ساعة.
سألتها: ومعك العقد؟
قالت: سنحكي عندما آتي.
ارتشفت ما تبقى في كأسي، وملأتها من جديد. وعندما جاءت كنت قد شربت ثلاث كئوس أخرى.
خلعت معطفها عن جوب قرمزية اللون، وبلوفر بلون الملابس العسكرية، ذي فتحة واسعة كشفت عن بلوزة من نفس اللون. وألقت بحقيبة يدها، والمظروف الأصفر الذي يضم مخطوطتي فوق مقعد. وتهالكت فوق الأريكة.
كان شعرها معكوصا على هيئة ذيل حصان. وكنت لا أزال واقفا فسألتها: قهوة؟
قالت: ما بدي.
جلست أمامها وأشعلت سيجارة .
قالت: هل تعرف ماذا تبينا بشأن المسلح الذي هاجم أبو خليل؟ ولا أثر؛ فلم يره أحد غيره . الظاهر أن القصة كلها من تأليفه وإخراجه. - ولماذا؟ - لكي يقنعنا بضرورته، بعد أن شعر أني سأتخلص منه. تعرف أني أخاف منه أحيانا؟ أشك أنه كان قناصا خلال الحرب. - ما هي مهنته الأصلية؟ - أظنه كان بائعا في متجر أو حارس بناية. - أيكون هو الذي دبر حادث الانفجار؟ - لا. هذه قصة أخرى. نحن نعرف من فعلها. وقد تفاهمنا معهم. - من؟ - لا أستطيع أن أقول لك.
قالت بعد لحظة: عدنان كلمني أمس. وقرأت له عدة فقرات من مخطوطتك. الفقرات التي يمكن أن تثير مشاكل، وتمنع التوزيع في البلدان العربية. فقال لي إنه لا يستطيع أن يتحمل مسئولية نشرها في الظروف الحالية.
أشعلت سيجارة جديدة وقلت: كان يمكن أن تبلغيني بذلك على التليفون.
قالت: دمك تقيل.
قلت: صديقتك قابلتني أمس. - جميلة؟ كيف؟ - اتصلت بي وطلبت أن نتقابل.
تساءلت في دهشة: وماذا كانت تريد؟ - طلبت مني أن أقطع علاقتي بك.
احتدت: متطفلة، ما بقى فيني أحملها. إنها دائما هكذا مع أصدقائي. - لماذا؟
تطلعت إلي بعينين واسعتين بريئتين: لا أعرف. - لقد ذكرت لي كل شيء، أقصد عن علاقتكما.
شحب وجهها وقالت: لم أفهم. - لا داعي للتغابي؛ فأنا لا أحاسبك.
صاحت منفعلة: ولماذا تحاسبني؟ أنا أفعل ما أشاء. - بالضبط.
استطردت بنفس الانفعال: هل ذنبي أني لا أطيق فظاظتكم وأنانيتكم وغروركم؟ أنت لا تعرف الرجل اللبناني. حياته كلها تدور حول تسديد الأقساط، واللحاق بالسباق، وإنجاب ولد يحمل اسمه الكريم. - إنه يفعل ذلك من أجلكن. - أعرف؛ ولهذا أعود إليه دائما. على العموم أنا أفضل الرجال.
ضحكت، فانفثأ غضبها، وابتسمت.
قلت: أنت حرة، طالما أنت سعيدة.
قالت: لم أعرف السعادة إلا عندما كانت أمي إلى جانبي. كانت قوية. وكنت أريد أن أكون مثلها، فاشتركت في المظاهرات. - أيام الجامعة؟
أطرقت برأسها: هل تصدق أني كنت أهتف لفلسطين وجمال عبد الناصر وضد الإمبريالية؟ ومرات هتفت لماو تسي تونج. - وبعدها؟ - ماتت أمي، ثم تزوجت. ولم أجد القضية التي تستهويني. - لأنك لا تحبين إلا نفسك.
قالت هازئة: كيف عرفت؟ أنا فعلا أحب جسمي. - أنا أتكلم جادا. أنت تأخذين فقط، أتحداك أن تذكري مرة واحدة أعطيت فيها.
ابتسمت وأومأت بذقنها إلى الأريكة وهي تقول: كثير. معك مثلا.
قلت: معي، كنت تأخذين دون أن تعطي.
قامت واقفة، واقتربت مني، ثم جلست فوق ساقي.
قالت: ألا تريد أن تعطيني شيئا قبل أن تسافر؟
بدت شهية وقد تضرج وجهها من الانفعال. أحطت خصرها بذراعي فمالت على صدري، وقالت: لم أكمل لك ما قاله عدنان. إنه مستعد للمغامرة من أجلك، بسبب الوعد الذي أعطاه لك، ولكن في هذه الحالة يجب أن تتنازل له عن كافة حقوقك. - هذا كل شيء؟ - لا. هناك فكرة أخرى. توجد شركة سويسرية مهتمة بنشر الكتاب. - باللغة العربية؟ - طبعا. - لم أكن أعرف أن السويسريين يقرءون العربية. - سنوزعه على القراء العرب. - في سويسرا؟ - لا يا عبيط. استخدم مخك. الكتاب لم يترك نظاما عربيا واحدا دون تعريض، ثم هناك ما به من جنس. ما هو المكان الوحيد الذي يمكن أن يوزع فيه دون قيود؟
قلت: لبنان.
قالت: لبنان ليس مركزا للتوزيع. إنه مركز للإنتاج وحسب. ولا يوجد ناشر في قواه العقلية يفكر في الاعتماد على القارئ اللبناني وحده. مكان واحد فقط هو الذي يمكن فيه طبع الكتاب وتوزيعه بسهولة.
تساءلت في حيرة: أين؟ - لم أكن أظن أنك بهذا الغباء. إسرائيل طبعا. هناك أكثر من مليون وربع مليون فلسطيني يتعطشون لقراءة كلمة باللغة العربية.
أشعلت سيجارة جديدة، ولاحظت أن يدي ثابتة.
استطردت: اكتب لنا تفويضا، ونحن نتولى الأمر كله. ستحصل على عائد مجز. وفي الإمكان أن تأخذ جانبا منه قبل سفرك.
رفعت حاجبا، وسألت: نقدا أم عينا؟
دفعتني بيدها في صدري وقالت: أنت سيئ. لا تستحق المعروف.
مالت علي وألصقت خدها بخدي وهمست بالإنجليزية: تعرف أنك لم تنم معي حتى الآن؟
وضعت راحة يدي فوق فتحة البلوفر المثلثة، وصعدت بها فوق جيدها، حتى عظمتي الترقوة، ولمست أناملي قاعدة عنقها، فتحسست بشرتها.
همست : تعجبك رقبتي؟
دفعت رأسها إلى الوراء لتعطيني فرصة الإعجاب برقبتها، فأحطتها بأصابعي.
أغمضت عينيها، وسرى لون أرجواني في بشرة عنقها، امتد إلى ذقنها ووجنتيها. كان ملمس رقبتها ناعما وطريا، فضغطت عليها برفق.
قالت بصوت خافت: آي. أنت تؤلمني.
شعرت فجأة أني منتصب إلى أقصى درجة، ودون أن أتخلى عن رقبتها، حررت جسدي بيدي اليسرى، وأزحت ملابسها جانبا، ثم انحنيت فوقها، ورفعت يدي اليسرى إلى عنقها، فأصبحت أقبض عليه بأصابع اليدين بينما كنت أدفن نفسي في جسدها.
اتقد وهج غامض في فضاء الغرفة، وسرى في جسدي وكل كياني، واستمرت أصابعي تضغط على عضلات عنقها وعروقه النافرة، بينما جسدي يتحرك فوقها.
بدأ وجهها يتقلص من الألم، وافترت شفتاها عن آهة. واحتقن عنقها ووجهها. لكني لم أراع؛ فقد كانت النار مشتعلة أمامي. وكان مائي يغلي غليانا ويوشك أن يفور ويتدفق، وأصبحت كل ضغطة من أصابعي على رقبتها خطوة نحو حافة الهاوية الحالكة؛ حيث البركان المتفجر والنشوة المطلقة.
27
لم أخنقها، ولم يتحقق أورجازمي؛ فقد استجمعت قواها، ودفعتني عنها بعنف. واستطاعت أن تخلص رقبتها من بين أصابعي. وهبت واقفة وهي ترمقني في هلع بينما تهالكت في مقعدي، لاهثا، مرتعش الأطراف.
رفعت يديها إلى عنقها، وحركت شفتيها، لكن صوتها احتبس في حلقها. ودون أن تعبأ بهيئتها، اختطفت معطفها وحقيبة يدها، وهرعت إلى باب المسكن ففتحته، واندفعت إلى الخارج.
أنصت إلى وقع أقدامها فوق الدرج، ثم نهضت في بطء، فسويت ملابسي، ومضيت إلى الباب فأغلقته.
كانت الشمس قد غربت، وانتشر الظلام بسرعة أكبر من المعتاد، فأضأت مصباح الصالة. ومضيت إلى المكتب، فتناولت زجاجة الويسكي، ونزعت غطاءها، وجرعت من فوهتها مباشرة.
بحثت عن علبة السجائر، فوجدتها على الأرض إلى جوار المقعد. أشعلت سيجارة بأصابع مرتعشة وعدت إلى مقعدي.
دخنت السيجارة حتى نهايتها، وأطفأتها في المنفضة، ثم مضيت إلى غرفتي، فحملت حقيبة يدي وحقيبة السفر إلى الصالة. وتناولت المظروف الذي يضم مخطوطتي، فأعدته إلى الجيب السري بحقيبة السفر.
شعرت ببرودة مفاجئة، فارتديت سترتي، وأخذت ملء فمي من زجاجة الويسكي . وألقيت نظرة على ساعتي، ثم أشعلت سيجارة وعدت إلى مقعدي.
سمعت زمارة سيارة بعد مدة، فمضيت إلى الشرفة، ووجدت سيارة أجرة أمام المنزل، أغلقت باب الشرفة، واطمأننت على وجود جواز السفر وبطاقة الطائرة في جيبي، ثم علقت الحقيبة الصغيرة في كتفي، وحملت الأخرى في يدي. وألقيت نظرة أخيرة حولي، ثم أطفأت النور، وغادرت المسكن.
خاتمة
خلف كل كتاب، هناك دائما كتب أخرى، وأشخاص غير المؤلف.
وسواء بالمعاونة الفعلية أو التعضيد النفسي، فإن هذا الكتاب مدين بوجوده لزوجتي، ورءوف مسعد، ومحيي اللباد، ومحمد برادة.
أما الكتب فهي: «حرب لبنان»، تحرير جلال محمود، وعدسة عبد الرازق السيد الذي فقد حياته أثناء قيامه بعمله عقب الاجتياح الإسرائيلي لبيروت الغربية 1982م، دار المسرة، 1977م؛ «يوميات الحرب اللبنانية»، مركز التخطيط التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية، 1977م؛ «الأزمة اللبنانية»، مجموعة باحثين، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، 1978م؛ «مذبحة لبنان الكبرى»، سامي منصور، المركز العربي، القاهرة، 1981م؛ «تل الزعتر»، الاتحاد العام للمرأة الفلسطينية، 1977م؛ «عملية الليطاني»، إشراف إلياس شوفاني، مجلة فلسطين المحتلة، 1978م؛
THE TRAGEDY OF LEBANON, BY JOHANTHAN RANDAL, 1983 ؛ «خريف الغضب»، محمد حسنين هيكل، 1983م؛ «الحرب وتجربة الحركة الوطنية اللبنانية»، محسن إبراهيم، بيروت المساء، 1983م؛ مقالات بكر الشرقاوي بمجلة روز اليوسف، 1976م، وعصام شريح بمجلة الدوحة، 1982م؛ «كبوشي»، حيدر حيدر، ابن رشد، 1978م؛ «صباح الخير يا وطن»، رءوف مسعد، مطبوعات القاهرة، 1983م؛ «الناس والحصار»، محجوب عمر، العربي، 1983م؛ «أوراق من دفتر الولد العاملي»، هاني فحص، دار الكلمة، 1979م؛ «كوابيس بيروت»، غادة السمان؛ «حكاية زهرة»، حنان الشيخ؛ «الجبل الصغير»، إلياس خوري؛
BEIRUT - UP
FROM THE RUBBL. W. ELLIS & S.MCCURRY, NATIONAL GEOGRAPHIC. FEB. 1983 .
والشكر للأصدقاء الذين تكرموا بقراءة المخطوطة وإبداء ملاحظاتهم عليها، وهم: سعد الدين حسن، غانم بيبي، نادية محمد الجندي، يسري نصر الله، وآخرون لا تسمح الظروف بذكر أسمائهم.
أبريل (نيسان) 1982م-ديسمبر (كانون الأول) 1983م
مصر الجديدة
صفحة غير معروفة