فليحيا الوطن!
انتبهنا يوما على وقع هذه الأهازيج غير المألوفة، التي سرعان ما اهتدت إلى مصبها في القلوب، كالماء يفيض فيتدفق على منحدر هيئ له منذ أجل مديد.
الأفواج، أفواج المتظاهرين، تتقاطر من كل صوب، والأعلام التي طال عليها العهد في الحقائب تخفق فوق الرءوس خفوق الألوية المنتصرة، وهتاف المئات والألوف ينتظم متجمعا في نبرة واحدة وقياس واحد، كأنه من صوت واحد ينطلق. والأصداء الشائعة يصدمها هنا وهناك ترجيع المواكب الجائبة أنحاء المدينة في هرج وتهليل، والجو يدوي بارتطام الأصوات، وقرع الطبول، وعزف الآلات، وزغردة النساء بين الهتاف والتصفيق.
وتمشت روح النشوة إلى الضيف والنزيل، فأذابت ما بين الأجناس والشعوب والمذاهب من جليد، وألغت حاسة التفرق وسوء التفاهم ضامة النفوس كما في اعتناق من التعاطف وحسن الوئام.
لمن يهتف الأجانب؟ وأي الألوية ينشرون؟ وعلام تنثر أياديهم الرياحين وفرائد العطور؟!
أتراهم يحتفون بعيد الوطنية الشاملة لظهور طلائع الوطنية عند شعب يستفيق؛ فتحييه حتى جنود الإنجليز وضباطهم بالإشارة والتلويح، ويحييه الجميع بالأصوات والألوان والأزهار؟
نعم، في ذلك اليوم من أواسط شهر مارس سنة 1919 وقد عبق الهواء ببشائر الربيع، ونورت البراعم الزهية على الغصون، وسرت في الأجساد نفحة التجديد كرسول من حياة الأرواح؛ في ذلك اليوم الغني بتنبه الأرض بعد هجود الشتاء، استيقظت أمة الوادي الجاثم بين البحر والصحراء.
استيقظت الأمة وهتفت؛ فإذا في صوتها غضبة الأسود، ومفاداة الأبطال، وعزم الرجال، ومرح الأطفال، وحنو النساء، وصدق الشهام. •••
وتصرمت أيام الفرح والهناء بعد أيام الاحتجاج والمطالبة؛ فسارت الجماهير وراء نعوش الموتى، سارت كاسفة لدى زوال صور الحياة، متهيبة حيال جلال الموت، لا أن العاطفة المستجدة ظلت تجيش وتطمى حينا بعد حين. وبصوت المفجوع الذي تزكي منه التضحية الحمية، تهتف الجماهير وراء الأعلام المنكسة:
فليحيا الوطن!
صفحة غير معروفة