ثم انتشروا في الغرب، وجازوا البحر إلى إسبانيا حيث لا يزال شاهدا على عبقريتهم كاتدرائية قرطبة والحمراء، وقد كان سكان مدينة قرطبة يزيدون عن المليون في القرن الثالث عشر، وكانت شوارعها مبلطة ومضاءة، وكان فيها ما لا يحصى من الحمامات، وكان فيها نحو مائة مستشفى عمومي، ولعل القارئ يدرك قيمة ذلك إذا عرف أن شوارع باريس لم يوضع عليها البلاط إلا في ختام القرن الخامس عشر، ولم يكن في لندن في نصف القرن السادس عشر مصباح واحد في شوارعها، أما الحمامات والمستشفيات فلم تعرفهما هاتان المدينتان إلا بعد قرون.
فنحن مدينون للعرب باستكشافاتهم العلمية أكثر مما نحن مدينون لهم بثقافتهم أو فنونهم؛ فهم رواد الزراعة العلمية والتربية العلمية للدواجن، وقد زادوا معلوماتنا عن الكيمياء ونواميس البصر، وعرفوا حمض الكبريت وحمض النيترات، وهم الذين علمونا الحساب والجبر وأضافوا الصفر إلى الأعداد الهندية التسعة، وكان الناس قبلا يعتمدون على الهندسة في تقديراتهم؛ فاخترعوا الحساب الأعشاري. وكان علماء العرب يعتمدون على المشاهدة في أبحاثهم بخلاف الإغريق، فإنهم كانوا يعتمدون على الفلسفة، ولكن العلم لا يرقى إلا بالمشاهدة والتجارب. وقد استعمل العرب المغناطيس كما أنهم استخدموا البوصلة في الملاحة ا.ه.
كذلك أدى العرب إلى الإنسانية ما على الأمم الكبيرة من واجب النفع والإفادة. انتشرت لغتهم وحضارتهم أيما انتشار؛ فكانوا صلة أمينة، صلة خير وضياء بين العصور الخالية والقرون الحديثة، ولما هبط الصليبيون الشرق عادوا إلى بلادهم يحملون بعض أنظمة العرب التي اطلعوا عليها في رحلتهم؛ فاقتبسها الأوروبيون وقدروها قدرها، وعلى ذلك الأساس العربي المتين أقامت أوروبا صرح مدنيتها الحديثة. (5) لماذا تبقى العربية حية؟
من هو المنبه إلى تكوين هذه المدنية القومية؟
هو فتى كان بالأمس يقصد الشام في عير قريش للتجارة، وهو اليوم محمد النبي العربي ورسول المسلمين.
أما مصدر تلك الحضارة فهو القرآن.
لقد ذاع القرآن بسرعة لم يظفر بها كتاب قبله ولا بعده، ولم يقصر انتشاره على الشعوب التي نزل بينها وتوافقت تعاليمه ومدركاتها وطبيعتها، بل خضعت له بعدئذ أمم لها من حضارتها السحيقة ما قد كان يعد كافيا للتفلت من سطوته ورفض الإذعان لأحكامه.
ولقد أوجد القرآن دينا عربيا، ودولة عربية، وأحكاما عربية، وآدابا عربية، صارت كلها أجزاء قومية واحدة ربطت شعوبا لم تكن العربية لغتها؛ لذلك قال جماعة من المؤرخين: إن التمدن العربي كان تمدنا إسلاميا صرفا.
والقرآن مصدر جميع العلوم التي عني بها المسلمون في أوج حضارتهم؛ فلتفسير آياته وسوره وجدت علوم الكلام وعلوم المنطق، ولتفهم ما فيه من نظام وتشريع وجدت علوم الشرع والفقه، ولم تكن غاية المؤرخين الأولين من العرب إلا تحديد وقت نزوله وتدوين الأحاديث النبوية.
ثم أليس الجغرافيون الأول أو علماء المسالك والأمصار، هم الذين مضوا من أقاصي أفريقيا وآسيا لتأدية فريضة الحج، ثم عادوا يصفون رحتلهم وما رأوه في البلاد البعيدة من الجديد غير المألوف؟ ألم يكن غرض علماء اللغة إيضاح ما غمض من آي القرآن وتطبيق قواعد الصرف والنحو على نصوصه؟ ألم تطلب أرصاد الفلكيين وعمليات الرياضيين لتحديد ساعات الصلاة وتوقيت مواعد الحج والصوم؟ ألم تستدع مسائل الوقاية الصحية والنظافة اهتمام الأطباء كما ظلت بعد تحثهم على البحث والتنقيب؟
صفحة غير معروفة