3
في عام 558ه توفي عبد المؤمن، فولي الأمر من بعده ابنه أبو يعقوب يوسف الملقب بالمنصور، وهو الذي شجع ابن رشد على التفلسف وشرح أرسطو، وبعد وفاته ولي الأمر ابنه يوسف يعقوب الذي حكم من سنة 580-595ه، وفي عهد هذا الأمير كانت نكبة ابن رشد والمشتغلين بالفلسفة، بعد محاكمة لا ظل للعدل فيها.
هذه لمحة خاطفة عن الأندلس حتى نهاية عصر فيلسوف قرطبة من الناحية السياسية، وأما من الناحية العلمية فسنرى أن هذه البلاد وقد تعاقبت عليها دول مختلفة كانت مصداقا لبعض قوانين ابن خلدون الاجتماعية، ذلك أن هذا الفيلسوف الاجتماعي جعل الطور الثاني من الأطوار التي تمر بها الدولة من أول قيامها إلى انقراضها، «طور الاستبداد - أي: استبداد الأمير على قومه، والانفراد دونهم بالملك، وكبحهم عن التطاول للمساهمة والمشاركة - ويكون صاحب الدولة في هذا الطور معنيا باصطناع الرجال واتخاذ الموالي والأنصار ...»
4
كما يقرر في موضع آخر: أن «العلوم إنما تكثر حيث يكثر العمران وتعظم الحضارة، وأن السبب في ذلك أنه متى فضلت أعمال أهل العمران عن معاشهم انصرفت إلى ما وراء المعاش من التصرف في خاصية الإنسان، وهي العلوم والصنائع.»
5
كل هذا الذي يقرره ابن خلدون حق لا شبهة فيه، فإن البحث التاريخي يؤكد لنا أنه تمر بالأمم فترات يطول عهدها أو يقصر تبعا لما يحيط بها من ظروف، يكون همها الأول وغرضها الأساسي المحافظة على كيانها وتوطيد سلطانها، ثم محاولة توسيع هذا السلطان ؛ فإذا استتب لها الأمر ورسخت أقدامها وأمنت على نفوذها وسلطانها، شرعت تستكمل وسائل الأبهة والعظمة، ومن ذلك الضرب بنصيب وافر في المعارف والعلوم القديم منها والحديث.
لهذا ليس بدعا أن ترى الدولة الأموية التي أسسها صقر قريش بالأندلس تعنى قبل كل شيء بتوطيد سلطانها في البلاد التي اقتطعتها من المملكة الإسلامية، وتحاول التوسع في هذا السلطان بافتتاح ما يمكن فتحه مما جاورها من النواحي، ولا عجب إذن حين نرى أمراء هذه الدولة وخلفاءها - إلا في فترات قصيرة - ويتبعهم الأهلون، منصرفين عن الفلسفة والعلوم إلا ما تعلق منها بكتاب الله وسنة رسوله، والفقه واللغة، وما إلى ذلك من العلوم الإسلامية.
ولذلك يقول القاضي صاعد الأندلسي المتوفى سنة 462ه: «إن هذه البلاد استمرت بعد الفتح لا يعنى أهلها بشيء من العلوم إلا بعلوم الشريعة وعلم اللغة، إلى أن توطد الملك لبني أمية بعد عهد أهلها بالفتنة، فتحرك ذوو الهمم لطلب العلوم.»
6
صفحة غير معروفة