وعادت خديجة إلى الصمت قليلا، ثم حولت عينيها عن فريستها ورفعت حاجبيها كأنما تفكر في مشكل عسير، ثم تظاهرت بالسرور كأنما اهتدت للحل الموفق، وقالت مخاطبة نفسها هذه المرة دون أن تنظر إلى الأخرى: إذن لهذا فهي تغني كثيرا «يا بو الشريط الأحمر ياللي أسرتني ترحم ذلي!» .. وكم حسبته بسلامة نيتي غناء بريئا لمجرد التسلية!
وخفق قلب الفتاة خفقة قاسية، وقع المحذور ولم يعد ينفع التعلق بأوهام الأماني الكاذبة، وركبها اضطراب زلزل أركان نفسها ، فكادت تشرق بالبكاء، إلا أن اليأس نفسه دفعها إلى الاستماتة في الذود عن نفسها، فهتفت بصوت طمس اضطراب نبراته معانيه: ما هذا الكلام غير المفهوم؟!
ولكن لم يبد على خديجة أنها سمعت كلامها، فواصلت مخاطبة نفسها قائلة: ولهذا أيضا تتزين في الصباح الباكر! طالما ساءلت نفسي أيعقل أن تتبرج بنت قبل الكنس والتنفيض؟! ولكن أي كنس وأي تنفيض يا خديجة يا مسكينة، يا من ستعيشين بلهاء، وتموتين بلهاء، اكنسي أنت ونفضي أنت، ولا تتزيني لا قبل العمل ولا حتى بعده، ولماذا تتزينين يا تعيسة؟! انظري من زيق الشباك من اليوم إلى الغد، فإن اعتنى بك عسكري دورية أقطع ذراعي!
فهتفت عائشة في اضطراب وعصبية: حرام عليك ... حرام. - لها حق يا خديجة، هذه فنون لا تستطيعين فهمها بعقلك المظلم، عيون زرق، وشعر من سبائك الذهب، شريط أحمر ونجمة لامعة، شيء مفهوم ومعقول. - خديجة، أنت مخطئة، كنت أنظر إلى الطريق فحسب، لا لأرى أحدا ولا ليراني أحد. فالتفتت خديجة إليها كأنما تنتبه إلى اعتراضها لأول مرة، وتساءلت كالمعتذرة: هل تخاطبينني يا شوشو؟! لا مؤاخذة إني أفكر في بعض الأمور الهامة، فأجلي حديثك إلى حين ... وعادت تهز رأسها في تفكير وتخاطب نفسها قائلة: شيء مفهوم ومعقول، ولكن ما ذنبك أنت يا سيد أحمد عبد الجواد؟ أسفي عليك يا سيد يا شريف يا كريم، تعال شوف حريمك يا سيدي وتاج راسي!
وقف شعر الفتاة عند سماع اسم أبيها، فدار رأسها، ورد على ذهنها قول السيد لأمها وهو يحمل على رغبة فهمي في خطبة مريم: «أخبريني هل رآها؟!» ... «ما كنت أحسب أن لي أبناء يسترقون النظر إلى حرمات الجيران.» هذا رأيه في الابن فكيف يكون في البنت! وهتفت بصوت مخنوق النبرات: خديجة ... لا يليق هذا ... أنت مخطئة ... أنت مخطئة.
ولكن خديجة تابعت حديثها دون التفات إليها: ترى أهذا هو الحب؟! يمكن! ألم يقولوا عنه: «الحب كبش في قلبي ... قربت أروح منه طوكر.»
ترى أين طوكر هذه؟! لعلها في النحاسين، بل لعلها في بيت السيد أحمد عبد الجواد. - لم أعد أحتمل كلامك، ارحميني من لسانك، رباه ... لماذا لا تصدقينني؟! - تدبري أمرك يا خديجة ليس ما نحن فيه لعبا، وأنت الأخت الكبرى، والواجب هو الواجب مهما بدا مرا، يجب أن يعلم أولو الشأن، هل تفضين بالسر إلى والدك؟! الحق أني لا أدري كيف أخاطبه في مثل هذا السر الخطير، ياسين؟! ولكنه كعدمه وغاية ما يرجى منه أن يترنم بكلام غير مفهوم، فهمي؟ ولكنه يعطف بدوره على الشعر الذهبي أصل البلوى كلها، أظن من الأفضل أن أخبر نينة، وأترك لها التصرف بما ترى.
وندت عنها حركة كأنها تهم بالقيام، فهرعت عائشة إليها كدجاجة مذبوحة، وأمسكت بكتفيها صائحة بصدر يعلو وينخفض: ماذا تريدين؟
فتساءلت خديجة: أتهددينني؟!
همت عائشة بالكلام فخنقتها العبرات بغتة، وهينمت بكلام مزقه البكاء شر ممزق، وجعلت خديجة تحدق إليها صامتة متفكرة، ثم زايل أساريرها عبث السخرية حتى تجهم وجهها وهي تصغي في غير ارتياح إلى نشيج الفتاة، ثم قالت بلهجة جدية لأول مرة: لقد أخطأت يا عائشة.
صفحة غير معروفة