فأشرق وجهها بابتسامة ماكرة وهي تقول: هذا يخالف ما سمعناه عن جودة بضاعتك!
فقهقه السيد قائلا: ما حاجتك إلى السكر وفي لسانك هذه الحلاوة كلها؟!
وأعقب هذه المعركة الكلامية فترة سكون بدا فيها كلاهما راضيا عن نفسه، ثم فتحت العالمة حقيبتها وأخرجت مرآة صغيرة ذات مقبض فضي، وراحت تنظر في صورتها فمضى السيد إلى مكتبه، ووقف مستندا إلى حافته وهو يتفرس في وجهها باهتمام. والحق لقد حدثه قلبه حين وقعت عليها عيناه بأنها جادت بالزيارة لأمور غير الشراء والبيع، ثم جاء حديثها باستجاباته الحارة مؤكدا لظنه، فلم يعد أمامه إلا أن يقرر من الآن هل يوصلها بتاريخه أو يودعها الوداع الأخير. ولم يكن يراها لأول مرة؛ فقد رآها مرات في أفراح بعض الأصدقاء، وعرف عن الرواة أن السيد خليل البنان اتخذها خليلة دهرا حتى انفصلا منذ عهد غير بعيد، ولعل هذا ما جعلها تستبضع من دكان جديد! ... وهي موفورة الحسن وإن لم تعد منزلتها كعالمة المرتبة الثانية بين العوالم، بيد أن المرأة تهمه أكثر من العالمة، وإنها لشهية لطيفة وبها من طيات اللحم والدهن ما يدفئ المقرور في زمهرير الشتاء الذي غدا على الأبواب، واعترض أفكاره مجيء الحمزاوي حاملا ثلاث لفات، فتناولتها الجارية، ودست الست يدها في الحقيبة لتخرج النقود فيما بدا، ولكن السيد أشار إليها محذرا وهو يقول: يا له من عيب!
وتظاهرت المرأة بالدهشة وقالت: أي عيب يا سي السيد! ... ليس في الحق عيب. - هذه زيارة ميمونة يحق علينا أن نحييها بما هي أهله من الإكرام، وهيهات أن نوفيها حقها.
وكانت قد نهضت وهو يتكلم فلم تبد مقاومة جدية لكرمه، ولكنها قالت: ولكن كرمك هذا سيجعلني أتردد مرة ومرتين قبل أن أقصدك مرة أخرى.
فقهقه السيد قائلا: لا تخافي، إني أكرم الزبون في المرة الأولى، ثم أعوض خسارتي في المرات اللاحقة ولو بالسرقة! هذا شعارنا نحن التجار!
فابتسمت الست، ومدت له يدها قائلة: الكريم مثلك يسرق ولا يسرق ... أشكرك يا سيد أحمد.
فقال من كل قلبه: العفو يا سلطانة.
ووقف ينظر إليها وهي تتبختر صوب الباب، حتى صعدت إلى العربة واتخذت مجلسها، وجلست جلجل على المقعد الصغير قبالتها، وتحركت العربة بحملها النفيس، ثم غابت عن ناظريه. هنالك قال الحمزاوي وهو يقلب صفحة من دفتر الحساب: كيف يمكن أن يسدد هذا الحساب؟!
فألقى السيد على وكيله نظرة باسمة، وقال: اكتب مكان الأرقام «بضائع أتلفها الهوى».
صفحة غير معروفة