188

بين القصرين

تصانيف

وقال الذي إلى يمينه: انتقل إلى جوار الأبرار وطنيا نبيلا، وشهيدا كريما ...

تلقى كلماتهم بأذن أصمها الشقاء على حين ختم الصمت شفتيه، واسترسلت عيناه في نظرة شاردة غائبة. مضت هنيهة خيم الصمت فيها عليهم أجمعين، حتى جميل الحمزاوي تسمر تحت الرفوف ذاهلا يمد إلى الرجل بصرا ملؤه الجزع، أخيرا عاد الشاب يغمغم: لشد ما أحزننا فقده، ولكن ليس لنا إلا أن نتلقى قضاء الله بصبر المؤمنين، وإنك لمن المؤمنين يا سيدي.

إنهم يعزونك، لا يعلم هذا الشاب أنك أول من يحسن إلقاء التعازي في مثل هذا الموقف! ... ماذا تعني هي للقلب المصاب؟ لا شيء! من أين للكلام أن يطفئ النار؟ ... مهلا ... ألم تخطر الرزية بقلبك قبل أن يتكلم قائلهم؟ بلى ... تخايل لعيني شبح الموت، الآن والموت حقيقة تلقى إلى سمعك تأبى أن تصدق، أو تخونك شجاعتك فلا تريد أن تصدق، كيف أصدق أن فهمي مات حقا، كيف تصدق أن فهمي الذي كان يطلب رضاك من ساعات فتثاقلت عنه، فهمي الذي تركنا هذا الصباح ممتلئا صحة وعافية وأملا وسرورا، مات ... مات! لن أراه بعد اليوم لا في البيت ولا في أي مكان من ظهر الأرض؟ كيف يكون البيت من غيره؟ كيف أكون أبا بعده؟ أين تذهب الآمال المعقودة عليه؟ لم يعد ثمة أمل إلا في الصبر ... الصبر؟ آه ... هل تشعر بوخز الألم الحاد؟ هذا هو الألم حقا ... كنت تخدع أحيانا فتزعم أنك متألم، كلا، لم تتألم قبل اليوم، هذا هو الألم حقا. - سيدي، شد حيلك وسلم أمرك إلى الله.

رفع السيد رأسه إلى الشاب، ثم قال بصوت مريض: ظننت عهد القتل قد انتهى.

فقال الشاب بنبرات غاضبة: كانت مظاهرة اليوم سلمية، وقد أذنت بها السلطات، فاشترك فيها صفوة الرجال من شتى الهيئات، وسارت أول الأمر في أمان، حتى بلغ منتصفها حديقة الأزبكية، وما ندري إلا والرصاص ينهال علينا من وراء السور بلا سبب، لم يتعرض أحد للجنود لا بخير ولا بشر، حتى الهتاف بالإنجليزية امتنعنا عنه تفاديا من الاستفزاز، ولكن مسهم جنون القتل فجأة، فعمدوا إلى بنادقهم وأطلقوا النار، وقد انعقد الإجماع على توجيه احتجاج شديد إلى دار الحماية، بل قيل: إن أللنبي سوف يعلن أسفه عما بدر من الجنود.

قال السيد بنفس اللهجة المريضة: ولكنه لن يرد حياة إلى ميت ... - وا أسفاه!

قال السيد بتفجع: لم يشترك في المظاهرات الخطرة، هذه أول مظاهرة ينضم إليها!

تبادل الشبان نظرة ذات معنى، فلم ينبس أحدهم بكلمة ... وكأنما ضاق السيد بالحصار المضروب حوله، فقال وهو يزفر: الأمر لصاحب الأمر، أين أجده الآن؟

قال الشاب: في قصر العيني (ثم وهو يشير إلى السيد متمهلا لما رآه يتعجل الذهاب) ستشيع جنازته مع ثلاثة عشر شهيدا من إخواننا في تمام الساعة الثالثة من مساء الغد.

هتف السيد في جزع: ألا يترك لي تشييع جنازته من بيته!

صفحة غير معروفة