ووجد في خديجة مهاجما يقدر عليه، وكعادته كلما ارتطم بسخريتها راح يعرض بأنفها قائلا: أقول له إن الحق على منخور أختي!
فقالت الفتاة وهي تضحك: من بعض ما عندكم، ألسنا في البلوى سواء!
وهنا قال ياسين مرة أخرى: صدقت يا أختاه.
وتحولت إليه متحفزة للانقضاض فبادرها قائلا: هل أغضبتك! ... لماذا! ... ليس إلا أنني جاهرت بالموافقة على رأيك ...
فقالت له حانقة: اذكر عيوبك قبل أن تعرض بعيوب الناس.
فرفع حاجبيه متظاهرا بالحيرة ثم تمتم: والله إن أكبر عيب ليهون إلى جانب هذا الأنف.
وتظاهر فهمي بالاستنكار ثم تساءل في نبرات وشت بانضمامه إلى المهاجمين: ماذا قلت يا أخي، أهو أنف أم جريمة؟
ولما كان فهمي لا يشترك في مثل هذا النضال إلا نادرا، فقد رحب ياسين بقوله في حماس وقال: هي الاثنان معا، فكر في المسئولية الجنائية التي سيتحملها من يقدم هذه العروس إلى عريسها المنكود!
وقهقه كمال ضاحكا بصوت كالصفير المتقطع ولم ترتح الأم إلى وقوع ابنتها بين كثرة من المهاجمين، فأرادت أن ترجع الحديث إلى أصله وقالت بهدوء: خرج بكم الكلام الفارغ عن موضوع الحديث، كان حديثا عن السيد كمال أصدق في أخباره أم لم يصدق، ولكن أظن أنه لا داعي إلى الشك في صدقه بعد أن حلف ... أجل كمال لا يحلف كذبا أبدا.
وباخ سرور الغلام الانتقامي لتوه، ومع أن إخوته واصلوا المزاح حينا آخر إلا أنه انقطع عنهم بروحه، متبادلا مع أمه نظرة ذات معنى، ثم خاليا بنفسه متفكرا في قلق وكدر. كان يدرك خطورة الحلف الكاذب فيما يثير من سخط الله وأوليائه، ويعز عليه جدا أن يحلف كذبا بالحسين خاصة لولهه به، ولكنه كثيرا ما وجد نفسه في مأزق حرج - كما وجد اليوم - لا مخرج منه في نظره إلا بالحلف الكاذب، فينساق وهو لا يدري إلى التورط فيه. بيد أنه لم يكن ينجو، خاصة إذا ذكر بجريرته، من الهم والقلق، ويود لو يقتلع الماضي السيئ من جذوره، وأن يبدأ صفحة جديدة نظيفة، وذكر الحسين، وموقفه عند أصل مئذنته حيث تتراءى وكأن هامتها تتصل بالسماء، وسأله في ضراعة أن يعفو عن زلته وهو يشعر بغضاضة من اجترأ على حبيب بإساءة لا تغتفر. وغرق في توسلاته مليا ثم أخذ يفيق إلى ما حوله ويفتح أذنيه إلى ما يدور من حديث فيه المعاد وفيه الجديد، وقليل منه ما يسترعي انتباهه، ولكنه لا يكاد يخلو من ترديد ذكريات منتزعة من ماضي الأسرة البعيد أو القريب، وأنباء مما يجري عن مسرات الجيران وأحزانهم، ومواقف حرجة للأخوين أمام أبيهما الجبار، تنبري خديجة إلى استعادة وصفها وتحليلها على سبيل الفكاهة أو الشماتة، ومن هذه وتلك نمت للغلام معرفة تبلورت في مخيلته على صورة غريبة تأثر تكوينها غاية التأثر بما تجاذب طرفيه من روح خديجة التهجمية العيابة، وروح أمه السمحة العفوة. وانتبه أخيرا إلى فهمي وهو يقول مخاطبا ياسين: إن هجوم هندنبرج الأخير شديد الخطورة، ولا يبعد أن يكون الهجوم الفاصل في هذه الحرب.
صفحة غير معروفة