153

بين القصرين

تصانيف

آمن السيد بقوله في قلبه، ولكن هذا الإيمان نفسه وما خلفه من شعور بالضعف أمام محدثه، هو ما جعله يرتد إلى غضبه دون إبطاء ... بيد أنه لم يكن غضبا لكبريائه فحسب، ولكن أيضا لإشفاقه من أن يتمادى الشاب في غيه حتى يودي بنفسه، فكف عن الجدل وتساءل مستنكرا: أحسبتني قد دعوتك لتناقشني!

انتبه فهمي إلى ما تنطوي عليه كلمات أبيه من نذير، فضاعت أحلامه وانعقد لسانه ... أما السيد أحمد فعاد يقول بحدة: لا جهاد في سبيل الله إلا ما أريد به وجه الله وحده - أي الجهاد الديني - لا جدال في هذا! ... والآن أريد أن أعرف ألا يزال أمري مطاعا؟

فبادره الشاب قائلا: بكل تأكيد يا بابا ... - إذن اقطع كل صلة بينك وبين الثورة ... ولو اقتصر دورك على توزيع المنشورات على خاصة أصدقائك!

إن قوة في الوجود لا يمكن أن تحول بينه وبين واجبه الوطني! لن يتراجع مطلقا ولو خطوة واحدة، انتهى زمان ذلك إلى غير رجعة، إن هذه الحياة الحارة الباهرة التي تنبعث من أعماق قلبه وتضيء جوانب نفسه لا يمكن أن تغيض، وهيهات أن يغيضها هو بيده، كل هذا حق لا شك فيه، ولكن لماذا لا يلتمس وسيلة إلى إرضاء أبيه وتحامي غضبه؟! ... إنه لا يستطيع أن يتحداه ولا أن يجهر بمخالفة أمره ... أجل استطاع أن يثور على الإنجليز، وأن يتحدى رصاصهم كل يوم تقريبا، ولكن الإنجليز عدو مخيف وبغيض معا، أما أبوه فرجل مخيف ومحبوب، وهو يعبده بقدر ما يخافه فلن يهون عليه أن يصدمه بعصيان، وثمة إحساس آخر لا سبيل إلى تجاهله هو أن وراء الثورة على الإنجليز مثالية نبيلة، أما وراء التمرد على أبيه فليس إلا الخزي والتعاسة، وماذا يدعو إلى هذا كله؟! ... لماذا لا يعده بالطاعة ثم يفعل ما يشاء؟! ... لم يكن الكذب في هذا البيت بالرذيلة المخزية، ولم يكن في وسع أحد منهم أن يتمتع بالسلامة في ظل الأب دون حماية من الكذب، وهم يجاهرون به فيما بينهم وبين أنفسهم، بل ويتفقون عليه في الموقف الحرج، وهل كان في نية الأم يوم تسللت في غيبة السيد إلى زيارة الحسين أن تعترف بفعلتها؟ وهل كان في وسع ياسين أن يسكر، وهو أن يحب مريم، وكمال أن يتعفرت بين خان جعفر والخرنفش بلا حماية من الكذب؟! ... ليس الكذب مما يتورع عنه أحد منهم، ولو أنهم التزموا الصدق مع أبيهم ما ذاقوا للحياة طعما؛ لهذا كله قال بهدوء: أمرك مطاع يا بابا.

وأعقب هذا التصريح صمت تنفس فيه كلاهما من الراحة، فظن فهمي أن استجوابه قد انتهى بسلام، وظن السيد أحمد أنه انتشل ابنه من الهاوية، وبينما كان فهمي ينتظر أن يؤذن له بالانصراف، قام الأب فجأة واتجه إلى صوان الملابس، ففتحه ودس يده فيه والشاب يراقبه بعينين لا تدركان شيئا، ثم عاد إلى مجلسه حاملا القرآن، ونظر إلى فهمي مليا، ثم مد يده بالكتاب إليه وهو يقول: أقسم لي على هذا الكتاب ...

وتراجع فهمي بحركة عكسية ندت عنه قبل أن يتدبر أمره، كأنما يفر من لسان لهب امتد إليه فجأة، وتسمر في موقفه وهو يحملق في وجه أبيه مرتبكا مذعورا يائسا، فلبث السيد مادا يده بالكتاب، وهو ينظر إليه في غرابة وإنكار، ثم احمر وجهه كأنه يلتهب وانبعث من عينيه بريق مخيف، وتساءل في ذهول وكأنه لا يصدق عينيه: ألا تريد أن تقسم؟!

ولكن لسان فهمي انعقد، فلم ينبس بكلمة ولم يبد حراكا، فتساءل الرجل بصوت هادئ تخللته رعشة متهدجة أنذرت بما يفور تحته من غضب مستعر كما ينذر البرق بقعقعة الرعد: أكنت تكذب علي؟

لم يطرأ على فهمي تغير إلا أنه غض بصره فرارا من عيني أبيه، ووضع السيد الكتاب على الكنبة، ثم انفجر صائحا بصوت مدو خاله فهمي كفوفا تهوي على خديه: أنت تكذب علي يا بن الكلب! ... أنا لا أسمح لمخلوق بأن يضحك على ذقني، ماذا تظن بي وماذا تظن بنفسك! ... أنت حشرة خبيثة مجرمة، بنت كلب خدعت بظاهرها طويلا، لن أنقلب امرأة على آخر الزمن ، سامع؟! لن أنقلب امرأة على آخر الزمن، حيرتموني يا أولاد الكلب وجعلتموني أضحوكة الناس، أنا أسلمك بنفسي إلى البوليس، فاهم؟! بنفسي يا بن الكلب، الكلمة هنا كلمتي أنا، أنا أنا أنا ... (ثم متناولا الكتاب مرة أخرى) أقسم ... آمرك بأن تقسم.

بدا فهمي وكأنه في غيبوبة، كانت عيناه مثبتتين على بعض الصور الغريبة المنقوشة على السجادة الفارسية دون أن تريا شيئا، وكأن تلك النقوش قد انطبعت بإدامة النظر على صفحة عقله، فاستحال شتيتا من الفوضى والخواء، وكلما مرت ثانية أمعن في الصمت واليأس، لم يبق له إلا أن يلوذ بهذه المقاومة السلبية اليائسة، ونهض السيد والكتاب في يده فاقترب خطوة منه، ثم زعق: أتوهمت أنك رجل؟ ... أتوهمت أنك تستطيع أن تفعل ما تشاء؟! ... لو أشاء أضربك حتى أكسر رأسك.

لم يملك فهمي عند ذاك إلا أن يبكي، لا خوفا من التهديد، فما كان يبالي في موقفه وتأثره بأي أذى يصيبه، ولكن تنفيسا عن قهره، وترويحا عن الصراع الناشب في صدره، ثم جعل يعض على شفتيه ليكتم البكاء، ثم اعتراه الخجل لما ركبه من ضعف، بيد أنه وسعه أخيرا أن يتكلم لشدة تأثره من ناحية، ومداراة لخجله من ناحية أخرى، فاسترسل قائلا في ضراعة ورجاء: سامحني يا بابا، أمرك مطاع فوق العين والرأس ولكني لا أستطيع، لا أستطيع، إننا نعمل يدا واحدة فلا أرضى ولا ترضى لي أن أنكص وأتخلف على إخواني، هيهات أن تطيب لي الحياة إن فعلت، ليس ثمة خطر وراء ما نعمل، غيرنا يقوم بأعمال أجل كالاشتراك في المظاهرات، وقد استشهد منهم كثيرون، لست خيرا منهم، إن الجنازات تشيع بالعشرات معا، ولا هتاف فيها إلا للوطن، حتى أهل الضحايا يهتفون ولا يبكون، فما حياتي؟ ... وما حياة أي إنسان؟ ... لا تغضب يا بابا وفكر فيما أقول ... وأكرر على مسمعك بأنه ليس ثمة خطر وراء عملنا السلمي الصغير!

صفحة غير معروفة