151

بين القصرين

تصانيف

في الطريق استرد أنفاسه، فداخله ارتياح لابتعاده عن الناس الذين شاركوا في «الحادث» ولو بمجرد الرؤية. كره وقتذاك كل شيء وراءه وقذفه باللعنات، لم يكد يرى من الطريق الذي يسير فيه شيئا، فتبادل التحية مرتين مع اثنين من معارفه على نحو مقتضب متكلف لم يعهد فيه من قبل، تركز شعوره في ذاته - ذاته الجريحة - وسرعان ما فار بالغضب ... كان أحب إلي أن تنتهي الحياة من أن أقف ذلك الموقف المزري، كالأسير بين طغمة من اللئام، وهذا المجاور المقمل مدعي الوطنية الجوعان تهجم علي بكل وقاحة. لم يرع لي حرمة سن أو مهابة، لم أخلق لهذا، ليس «أنا» الذي يهان بتلك الكيفية، وبين أبنائي ... لا تعجب ... أبناؤك هم أصل البلوى ... هذا الثور ابن المرة لن يعفيك من متاعبه أبدا. فقس الفضائح في بيتي، وأوقع بيني وبين أعز الأصدقاء، ثم توج عامنا بالطلاق ... لم يكفه هذا كله، كلا. ابن هنية لا بد أن يسامر الإنجليز جهارا كي أدفع أنا الثمن للسفلة المتهجمين، اذهب بهم إليها كي يكمل متحف عشاقها بالإنجليز والأستراليين. - يبدو لي أنني لن أخلص العمر من متاعبك؟

ندت عنه هذه الجملة بحدة، بيد أنه قاوم رغبته في تأديبه؛ لأنه رغم غضبه قدر حاله الذي يرثى لها، رآه ذاهلا شاحبا متوعكا، فلم تطاوعه نفسه في الهجوم عليه، حسبه الآن ما حاق به، ليس وحده الذي يتحفه بالمتاعب، هنالك البطل، ولكن فلنؤجل همه حتى نفيق من متاعب الثور، ثور في البيت، في الحانة ... ثور أمام أم حنفي ونور، أما في المعركة فهو رطل خرع لا فائدة منه ولا عائدة، يا أولاد الكلب! الله يقطع الأولاد والخلف والبيوت، آه ... لماذا تسوقني قدماي إلى البيت؟! ... لم لا أتناول لقمتي بعيدا عن الجو المسموم؟! ستولول هي الأخرى إذا علمت بالخبر، لست في حاجة إلى مزيد من القرف، إلى الدهان ... سأجد حتما صديقا أقص عليه رزيتي، وأشكو إليه همي ... كلا ... لدي متاعب أخرى لا تقبل التأجيل أكثر من هذا. البطل، مصيبة جديدة يجب أن نجد لها علاجا، إلى الغداء المسموم، ولولي ... ولولي ... ولولي ... ملعون أبوك أنت الأخرى.

لم يكد فهمي يغير ملابسه حتى دعي إلى مقابلة والده، فلم يملك ياسين على خموده وكربه إلا أن يغمغم قائلا: جاء دورك ...

فتساءل فهمي متجاهلا المعنى الكامن وراء ملاحظة أخيه: ماذا تعني؟

فضحك ياسين - أجل وسعه أخيرا أن يضحك - وقال: انتهى دور الخونة، وجاء دور المجاهدين!

لشد ما تمنى أن تغيب النعوت التي نعته بها صديقه في الجامع وراء ضجة الثورة وذهول الانفعال، ولكنها لم تغب، ها هو ياسين يرددها، ولا شك أن أباه يدعوه من أجل مناقشتها. تنهد فهمي من الأعماق ثم ذهب. وجد السيد متربعا على الكنبة يعبث بحبات سبحته، وفي عينيه نظرة تنم عن تفكير كئيب، فحياه بأدب جم ووقف على بعد مترين من الكنبة في خضوع وامتثال، ورد الرجل تحيته بحركة خفيفة من رأسه تدل على الضيق أكثر مما تدل على التحية، وكأنما تقول له: «إني أرد تحيتك مرغما كما تقضي اللياقة، ولكن أدبك الزائف هذا لم يعد ينطلي علي.» ثم حدجه بنظرة متجهمة ينبعث منها شعاع الارتباك كأنه مصباح كشاف يفتش عن مختبئ بالظلام، وقال بحزم: دعوتك لأعرف كل شيء، أريد أن أعرف كل شيء، ماذا قصد في لجنة واحدة؟ صارحني بكل شيء دون تردد.

ومع أن فهمي اعتاد في الأسابيع الأخيرة أن يواجه أخطارا شتى، حتى الطلقات النارية ألف أزيزها، إلا أنه لاقى تحقيق أبيه بقلب ما قبل الثورة، ركبته الرهبة وشعر بأنه لا شيء، وتركز تفكيره في تحاشي غضبه ونشدان النجاة، فقال برقة وأدب: الأمر بسيط جدا يا بابا، لعل صديقي بالغ في قوله كي ينتشلنا من ورطتنا.

فقال السيد وقد نفد صبره: الأمر بسيط جدا ... عال ... ولكن أي أمر هو؟ ... لا تخف عني أي شيء.

وكان فهمي يقلب الأمر على مختلف وجوهه في سرعة خاطفة ليختار ما يصح قوله، وتؤمن مغبته ... قال: سماها لجنة وهي لا تعدو أن تكون جماعة من الأصدقاء يتحدثون كلما اجتمعوا في الشئون الوطنية.

فهتف السيد مغيظا محنقا: ألهذا استحققت لقب المجاهد؟!

صفحة غير معروفة