149

بين القصرين

تصانيف

نفذت الكلمة إلى صدر الأسرة كالرصاص، فدار رأسها وحملقت أعينها، وجمدت في أماكنها، على حين جرت التهمة على الألسن ، فرددتها في فزع وحنق، وأخذ الناس يتجمعون حولهم وأذرعهم تشتبك في حذر لتحصرهم في دائرة ما لها من منفذ، وكان السيد أول من ثاب إلى وعيه، ومع أنه لم يفهم شيئا مما يدور حوله ... إلا أنه أدرك خطورة الصمت والانكماش، فهتف بالشاب غاضبا: ماذا تقول يا سيدنا الشيخ؟ ... أي جاسوس تعني؟!

ولكن الشاب لم يأبه للسيد، فأشار مرة أخرى إلى ياسين وصاح: حذار أيها الناس، هذا الشاب الخائن جاسوس من جواسيس الإنجليز، اندس بينكم ليتسقط الأنباء ثم ينقلها إلى سادته المجرمين.

ركب الغضب السيد، فتقدم من الشاب خطوة، وصاح به غير متمالك نفسه: أنت تهرف بما لا تعرف، فإما أن تكون مجرما أو مجنونا. هذا الشاب ابني لا خائن ولا جاسوس، كلنا وطنيون وهذا الحي يعرفنا كما نعرف أنفسنا.

فهز الشيخ منكبيه استهانة، وصاح بصوته الخطابي: جاسوس إنجليزي حقير، رأيته بعيني رأسي مرارا وهو يناجي الإنجليز عند بين القصرين، عندي شهود على ذلك، ولن يجرؤ على تكذيبي ... إني أتحداه ... ليسقط الخائن.

وتجاوبت في أركان الجامع دمدمة غاضبة، تعالى الهتاف هنا وهناك «ليسقط الجاسوس»، وصاح غيرهم «فليؤدب الخائن». ولاحت في أعين القريبين نذر الوعيد تترصد بادرة أو إشارة كي تنقض على الفريسة، لعله لم يؤخر إقدامها إلا منظر السيد المؤثر الذي وقف لصق ابنه كأنما يتلقى عنه ما يتهدده من أذى، ودموع كمال الذي أغرق في الانتحاب، أما ياسين فقد وقف بين السيد وفهمي فاقد الوعي من الاضطراب والوجل، وجعل يقول بصوت متهدج لم يسمعه أحد: لست جاسوسا ... لست جاسوسا ... الله على صدق قولي شهيد.

ولكن الغضب بلغ بالناس مداه، فتجمهروا حول الدائرة المحصورة، وهم يتدافعون بالمناكب، ويتوعدون «الجاسوس» شرا، على أن صوتا من وسط الزحام ارتفع هاتفا: تمهلوا يا سادة ... هذا ياسين أفندي كاتب مدرسة النحاسين ... فانطلقت أصوات كالهدير: مدرسة النحاسين أو الحدادين فليؤدب الخائن.

وكان رجل يشق طريقه بين الأجسام بصعوبة، ولكن بعزم لا يقهر. فما بلغ الصف الأمامي حتى رفع يديه وهو يزعق: «اسمعوا ... اسمعوا.» ولما هدأت الأصوات قليلا قال وهو يومئ إلى السيد أحمد: هذا السيد أحمد عبد الجواد من أهل النحاسين المعروفين ... ولا يمكن أن يضم بيته جاسوسا، فتريثوا حتى تنجلي الحقيقة.

ولكن الأزهري صرخ حانقا: لا شأن لي بالسيد أحمد أو السيد محمد، هذا الشاب جاسوس مهما يكن من أمر أبيه، رأيته يضاحك الجلادين الذين زحموا القبور بأبنائكم.

وما عتم أن صاح أناس لا حصر لهم: ليضرب بالأحذية.

وسرت في المتجمهرين حركة عنيفة، فأقبل متحمسون من كل صوب ملوحين بالأحذية والمراكيب، حتى شعر ياسين بالانهيار واليأس. دارت عيناه فيما حوله فلم تقعا إلا على وجه متحرش يفور بالغضب والبغضاء، والتصق السيد وفهمي بجانب ياسين بحركة غريزية كأنما ليدفعا عنه الأذى أو ليقاسماه إياه، وهما على حال من اليأس والقهر لم تكن دون ما يأخذ بخناقه، على حين انقلب انتحاب كمال صراخا كاد يغطي على أصوات الثائرين. كان الأزهري أول المهاجمين، فرمى بنفسه على ياسين قابضا على بنيقة قميصه، ثم جذبه بعنف لينتزعه من المأوى الذي لاذ به بين أبيه وأخيه، حتى لا تخطئه الأحذية، ولكن ياسين قبض على معصميه مقاوما، ودخل السيد بينهما، ورأى فهمي أباه في الموقف المثير لأول مرة في حياته ... فاستفزه غضب شديد أذهله عما يحدق بهم من خطر، دفع الأزهري في صدره دفعة قوية ردته إلى الوراء، فصاح به متوعدا: حذار أن تتقدم خطوة واحدة!

صفحة غير معروفة