فحدجه السيد أحمد بنظرة ذات معنى، ثم قال متهكما: دعهم يشربون وحدهم، وهلم بنا إلى الخارج يا بن ... الكلب.
ندت عنهم ضحكات لأول مرة، ثم جاءوا بالقوارير، وكأنما أراد السيد أن يعتذر عن السلوك فقال: إن اللهو لا يغير ما بقلوب الرجال!
فأمنوا على قوله، كانت أول ليلة يترددون طويلا قبل الاستجابة إلى نداء الصبوات، وما لبث السيد أن قال متأثرا بمنظر القوارير: إنما ثار سعد لإسعاد المصريين لا لتعذيبهم، فلا تخجلوا عند الحزن عليه من معاقرة الشراب.
لم يكن الحزن يمنعه من المزاح، بيد أن الليلة لم تهنأ بصفاء خال من الكدر، حتى وصفها السيد فيما بعد بأنها «ليلة مريضة تداووا فيها بجرعات من الخمر!»
استقبلت الأسرة مجلسها التقليدي في جو من الوجوم لم تعهده من قبل، انطلق فهمي في حديث ثوري طويل والدموع في عينيه، واستمع ياسين آسفا حزينا، وودت الأم أن تبدد الكآبة أو تخفف البلوى، ولكنها أشفقت من انقلاب غرضها عليها، ثم ما لبثت عدوى الحزن أن انتقلت إليها فرق قلبها للشيخ العجوز الذي انتزعوه من بيته وزوجته إلى منفى بعيد، قال ياسين: أمر محزن، رجالنا جميعا، عباس ومحمد فريد وسعد زغلول ... مشردون بعيدا عن الوطن.
فقال فهمي بانفعال شديد: يا لهم من أوغاد هؤلاء الإنجليز! ... نخاطبهم باللغة التي كانوا يستعطفون بها الناس في محنتهم، فيجيبون بالإنذارات العسكرية والنفي والتشريد.
لم تطق الأم أن ترى ابنها منفعلا على تلك الحال، فنسيت مأساة الزعيم، وقالت برقة واستعطاف: ارحم نفسك يا بني، ربنا يلطف بنا!
ولكن هذه اللهجة الرقيقة زادته هياجا، فصاح دون أن يلتفت إليها: إذا لم نقابل الإرهاب بالغضب الذي يستحقه، فلا عاش الوطن بعد اليوم، لا يجوز أن تنعم البلاد بالسلام وزعيمها الذي قدم نفسه فدية لها يعاني عذاب الأسر!
فقال ياسين متفكرا: من حسن الحظ أن الباسل باشا بين المنفيين، إنه شيخ قبيلة مرهوبة الجانب، ولا أظن رجاله يسكتون على نفيه.
فقال فهمي بحدة: والآخرون؟ أليس وراءهم رجال أيضا؟ ... إنها ليست قضية قبيلة ولكنها قضية الأمة كلها.
صفحة غير معروفة