ثم باهتمام: ترى أيؤذن لهم في السفر؟ ... وماذا تراهم فاعلين إذا سافروا؟
طوى السيد محمد عفت التوكيل، ثم نهض وهو يقول: ما الغد ببعيد.
في طريقهما إلى باب الدكان غلبت روح الدعابة السيد، فهمس في أذن صاحبه: كأني لشدة سروري بهذا التوكيل الوطني ثمل يعل الكأس الثامنة بين فخذي زبيدة!
فحرك محمد عفت رأسه في تأثر كأن الصورة التي جسمها خياله عند ذكر الكأس وزبيدة قد أسكرته، وغمغم: ياما بكرة نسمع.
ثم غادر الدكان والسيد في أعقابه مبتسما: وبعده نشوف!
ثم عاد إلى مكتبه وأثر المزاح منبسط في أساريره، وانفعال الحماس في قلبه لا يخمد، شأنه في كل ما يعرض له من مهام الحياة بعيدا عن داره، فهو يجد الجد كله كلما دعا الداعي إلى الجد، ولكنه لا يتردد عن تلطيف جوه بالمزاح والدعابة كلما لاحت له صادرا في ذاك عن طبع لا يملك معه حيلة، وإن بدا ذا قدرة عجيبة على التوفيق بينهما، فلا جده بقاهر مزاحه، ولا مزاحه بمفسد جده، ولما كانت دعابته ليست ترفا مما يدور على هامش الحياة، ولكن ضرورة تتوزعها كالجد سواء بسواء، فلم يسعه يوما الاقتصار على الجد الخالص أو تركيز همته فيه، وبالتالي قنع دائما من «وطنيته» بالعاطفة والمشاركة الوجدانية دون الإقدام على عمل يغير وجه الحياة الذي آنس إليه، فلا يرضى عنه بديلا؛ لذلك لم يدر له بخلد أن ينضم إلى لجنة من لجان الحزب الوطني على شدة تعلقه بمبادئه، ولا حتى أن يجشم نفسه شهود اجتماع من اجتماعاته، أليس في ذلك إهدار لوقته «الثمين»؟ ليس الوطن في حاجة إليه على حين يتلهف هو على كل دقيقة منه لينفقها في أسرته أو تجارته، أو على الخصوص في لهوه بين الأحباب والخلان؟! ليكن إذن وقته خالصا لحياته، وللوطن ما يشاء من قلبه وعواطفه، بل ماله كلما تيسر، إذ لم يكن يضن به إذا وجب التبرع لغرض من الأغراض، وإلى ذلك فلم يشعر مطلقا بأنه مقصر في واجبه على نحو ما، وعلى العكس عرف بين صحبه بالوطنية، إما لأن قلوبهم لم تسخ بعواطفها كما سخا قلبه، وإما لأن الذين سخت قلوبهم لم يذهبوا إلى حد التبرع بالمال مثله، فتميز بوطنيته، وعرف هو ذلك فأضافه إلى بقية مزاياه التي يباهي بها سرا في أعماق قلبه، ولم يتصور أن الوطنية يمكن أن تطالبه بأكثر مما يجود به، ذاك القلب المولع بالغرام والطرب والمزاح لم يضق - على ازدحامه - بالعاطفة القومية، وهي وإن قنعت بالقلب مجالا لحيويتها، إلا أنها كانت قوية عميقة تشغل النفس وتهمها، لم تجئه عرضا ولكن نشأت مع صباه فيما تلقته أذناه من أحاديث البطولة التي رواها السلف عن عرابي، ثم اتقدت جذوتها بمقالات اللواء وخطبه، وكم كان منظرا فريدا - أهاج التأثر والضحك معا - يوم رئي وهو يبكي كالأطفال عند وفاة مصطفى كامل، تأثر صحبه لأن أحدا منهم لم يسلم من وعكة حزن، ثم أغرقوا في الضحك في مجلس الطرب الليلي حين تذكروا المنظر؛ إذ لم يكن من اليسير أن يرى «رب الضحك» وهو يجهش بالبكاء! اليوم، بعد سني الحرب الخامدة، بعد موت الزعيم الشاب ونفي خليفته، بعد انقطاع الأمل من عودة أفندينا، بعد هزيمة تركيا، وانتصار الإنجليز، بعد هذا كله، أو بالرغم من هذا كله، تسري أنباء عجيبة حاملة حقائق كالأساطير ... مواجهة الرجل الإنجليزي بمطالب الاستقلال، إمضاء التوكيلات الوطنية، التساؤل عن الخطوة التالية، قلوب تنفض عن جوهرها الغبار، أنفس تشرق بالآمال، ماذا وراء هذا كله؟! ... إن خياله السلمي الذي ألف الاستكانة يتساءل دون جدوى، وإنه يتعجل الليل ليهرع إلى مجلس الطرب، حيث باتت الأحاديث السياسية «مزة» الشراب والطرب، فائتلفت مع جملة المغريات التي تجذب حنانه إلى سهرته كزبيدة، وحب الإخوان والشراب والطرب، وإنه لتبدو في ذلك الجو الخلاب عذبة الروح، لطيفة التناول، تغني القلوب بشتى عواطف الحماس والحب من دون أن تستأديه ما لا طاقة له به! ... وإنه ليفكر في هذا كله إذ اقترب منه جميل الحمزاوي وهو يقول: أما سمعت عن الاسم الجديد الذي أطلق على بيت سعد باشا؟ ... إنهم يدعونه «بيت الأمة».
ومال الرجل نحوه ليفضي إليه كيف نما إليه الخبر.
50
في نفس الوقت الذي شغل فيه الوطن بالمطالبة بحريته كان ياسين دائبا بحزم وعزم على الاستئثار بحريته هو كذلك، فإن انطلاقه إلى سهراته الليلية - بعد امتناع موسوم بالاستقامة فيما أعقب الزواج من أسابيع - لم يفز به بلا نضال، ثمة حقيقة كثيرا ما رددها لنفسه كاعتذار عن سلوكه الجديد، هي أنه لم يكن يتصور - وهو في سكرة حلم الزواج - أنه سيرتد إلى حياة التسكع بين القهوة وحانة كستاكي، اعتقد مخلصا أنه ودع ذاك إلى الأبد مضمرا لحياته الزوجية أحسن النيات، حتى دهمته الخيبة المستعصية في الزواج كله، فجزعت أعصابه عن تحمل الملل أو الحياة الفارغة كما دعاها، وفزع بكل قوة نفسه المدللة الحساسة إلى الترفيه والتسلية والنسيان، إلى القهوة والحانة، لا كحياة لهو عابرة كما ظنها في الماضي والزواج أمل مدخر، ولكن كحياة هي كل ما تبقى له من متعة بعد أن غدا الزواج خيبة مريرة، كالذي تشرده الآمال عن وطنه فيرده الإخفاق إليه تائبا، بيد أن زينب التي عهدت عنده التودد الحار والتملق النهم، بل الإعزاز الذي بلغ به يوما أن ذهب بها إلى مسرح كشكش بك مستهينا بالسياج المسلح من التقاليد الصارمة الذي يضربه أبوه حول الأسرة ... زينب هذه كابدت من انصرافه عنها إلى منتصف الليل ليلة بعد أخرى، وعودته ثملا يترنح، صدمة عز عليها احتمالها، فما تمالكت أن كاشفته بأحزانها، وكان يعلم بداهة أن طفرة مفاجئة في حياته الزوجية لا يمكن أن تمر بسلام، فتوقع من بادئ الأمر المعارضة على أي لون جاءت، عتابا أو خصاما وأعد العدة المناسبة ليحسم موقفه بقول أبيه له ليلة ضبطه راجعا من كشكش بك «إنه لا يفسد النساء إلا الرجال، وليس كل الرجال جديرا بالقيام على النساء.» فما تشكت حتى قال لها: «لا داعي للحزن يا عزيزة، منذ القدم والبيوت للنساء والدنيا للرجال، هكذا الرجال جميعا، والزوج المخلص يحافظ على أمانته وهو بعيد عن زوجته كما يحافظ عليها وهو بين يديها، ثم إنني أتزود من السهرة ترويحا عن النفس وبهجة يجعلان من حياتنا متعة كاملة.» ولما عرضت بسكره محتجة بأنها «تخاف على صحته»، ضحك وقال بنفس اللهجة الجامعة بين الرقة والحزم: «كل الرجال يسكرون، إن صحتي تتحسن بالسكر (ثم ضاحكا مرة أخرى) سلي أبي أو أباك!» إلا أنها همت بالاسترسال في مناقشته جريا وراء أمل كاذب، فشد حبل الحزم متشجعا بملله الذي هون عليه ما لم يكن يهون من إغضابها، فراح ينوه بما للرجال من حق مطلق في أن يفعلوا ما يشاءون، وما على النساء من واجب الطاعة والتزام الحدود «انظري إلى امرأة أبي، هل رأيتها اعترضت يوما على تصرف لأبي؟ ... على ذاك فهما زوجان سعيدان وأسرة مطمئنة، ينبغي ألا نعود إلى هذا الموضوع.» لعله لو كان ترك إلى شعوره وحده ما اصطنع في خطابها ما اصطنع من سياسة، فإن خيبته في الزواج جعلته يجد نحوها أحيانا ما يشبه الرغبة في الانتقام، وأحيانا أخرى نوعا من الكراهية المتقطعة، وإن لم يكف عن الرغبة فيها بين هذا وذاك، ولكنه راعى عواطفها إكراما - أو خوفا - من أبيه الذي علم بعظيم تعلقه بأبيها السيد محمد عفت. والحق لم يكن يكربه شيء كإشفاقه من أن تشكوه إلى أبيها، فيشكوه هذا بدوره إلى أبيه، حتى لقد صمم جادا، إذا وقع شيء مما يحاذر، أن يستقل بمسكن مهما تكن العواقب، ولكن مخاوفه لم تتحقق، أثبتت الفتاة رغم حزنها أنها امرأة «عاقلة» كأنها من طراز امرأة أبيه نفسها، قدرت موضعها حق قدره ونزلت عند حكم الواقع، مطمئنة - لبعلها - بما يردده دائما من إخلاصه وبراءة سهراته، قانعة من الألم والحزن ببثها في دائرة الأسرة الضيقة - مجلس القهوة - من دون أن تظفر بتأييد جدي، وكيف لها بذاك في بيئة ترى الخضوع للرجال دينا وعقيدة، بل لعل الست أمينة استنكرت شكواها، وسخطت على ما تطمح إليه من استئثار غريب ببعلها؛ لأنها لم يكن يسعها أن تتصور النساء إلا على مثالها هي، ولا الرجال إلا على مثال زوجها، فلم تر في استمتاع ياسين بحريته عجبا، ولكن شكوى زوجه بدت هي العجب. فهمي وحده قدر أحزانها فتطوع لترديدها على مسمع من ياسين، ولو أنه أيقن من بادئ الأمر أنه يدافع عن قضية خاسرة، ولعل ما شجعه على ذاك كان كثرة تلاقيهما في قهوة أحمد عبده بخان الخليلي، تلك القهوة التي تقع تحت سطح الأرض، كأنها كهف منحوت في جوف جبل، مسقوفة بربوع الحي العتيق، منعزلة عن العالم بحجراتها الضيقة المتقابلة، وباحتها التي تتوسطها نافورة صامتة، ومصابيحها التي توقد ليل نهار، وجوها الهادئ الحالم الرطيب. كان ياسين قد مال إلى هذه القهوة لدنوها من حانة كستاكي من ناحية، ولاضطراره إلى هجر قهوة سي علي بالغورية بعد قطع زنوبة من ناحية أخرى، ثم لما خصت به القهوة الجديدة من طابع أثري صادف هوى من نفسه الميالة للشعر، أما فهمي فلم يعرف طريق المقاهي لخلل طرأ على سلوكه كطالب مجتهد، ولكن تلبية لنداء تلك الأيام الذي دعا الطلبة وغيرهم إلى التجمع والتشاور، فاختار ونفر من زملائه قهوة أحمد عبده - لنفس ميزاتها الأثرية التي جعلتها بمأمن من العيون - للاجتماع مساء بعد مساء للحديث والتشاور والتنبؤ وانتظار الحوادث، كثيرا ما التقى الأخوان في حجرة من الحجرات الصغيرة، ولو لحين قليل أي حتى يصل زملاء فهمي أو يأزف ميعاد ياسين للانتقال إلى حانة كستاكي، وفي مرة من هذه المرات أشار فهمي إلى كدر زينب مبديا دهشته لسلوك أخيه الذي لا يتفق مع حياة زوجية ناشئة. ضحك ياسين ضحكة رجل يرى لنفسه الحق، كل الحق، في أن يضحك من سذاجة الآخر الذي ارتضى أن يخاطبه بلسان الناصح فيما يجهله، بيد أنه لم يشأ أن يبرر سلوكه مباشرة مؤثرا أن ينفس عن صدره بما يعن له من قول، قال مخاطبا الشاب: رغبت يوما في الزواج من مريم، ولست أشك في أنك حزنت جد الحزن لموقف أبيك الذي منع تلك الرغبة من أن تتحقق ... أقول لك، وأنا أدرى بما أقول، إنك لو علمت وقتذاك بما يخفي الزواج وراء سطحه لحمدت الله على الفشل.
دهش فهمي لحد الانزعاج؛ لأنه لم يتوقع أن يباغت في أول جملة يخاطب بها بألفاظ تجمع بين «مريم» و«الزواج» و«الرغبة»، أفكار لعبت على مسرح صدره أدوارا لا تنسى ولا تمحى آثارها، فلعله بالغ في إظهار دهشته ليخفي ما أثارت الذكريات في نفسه من الشجن والتأثر، ولعله لذلك لم يستطع أن ينبس بكلمة، فتابع ياسين حديثه وهو يلوح بيده سأما ومللا قائلا: ما كنت أتصور أن ينجلي الزواج عن هذا الخواء، إنه في الحق لا يعدو أن يكون حلما كاذبا، وقاسيا ككل شيء خبيث الخداع!
صفحة غير معروفة