فقال: أعتذر إليك يا عزيزي جوشران، فإن كثرة أعمالي منعتني عن مقابلتك عاجلا فلنتحدث الآن في الشأن الذي جئت له، وليكن كلامنا بصريح ما في الضمير.
فشكرته وجلست على كرسي عينه لي بالقرب من الكانون، فقال لي: قد عرفت سبب زيارتك لي مما قرأته في كتاب صديقي فرنسوا.
وساعتئذ فتح باب معارض للباب الذي دخلت منه، وخرج منه شاب أشقر اللون مرتد حلة سوداء وفي يده ورقة زرقاء، فقال له فركنباك: ماذا تريد يا وليم؟ ألم أنه عن مكالمتي في هذه الساعة؟ فخفض الشاب رأسه وحنى ظهره أمام البارون وقال محتشما: عفوا يا سيدي، فهذا تلغراف ورد لنا الآن من لندره، ويطلب مرسله الجواب حالا.
فقرأ فركنباك التلغراف مرارا وقدر كل كلمة قدرها، واستنتج من قليل الكلام معنى كبيرا، ثم نهض لكتابة الجواب مستأذنا مني.
وبينما كان يكتب جعلت أترقبه بمؤخر طرفي، فرأيت أن وجهه الضحوك البشوش قطب لصعوبة حل المسألة التي كانت بين يديه، وكان الرجل ربعة ذا سمن، أحمر الخدين، قوي البنية، صحيح الجسم، يناهز الستين، وفي جملته ما يدل على جودة قلبه، ودماثة الأخلاق، وحرية الضمير، وصدق الود، وما يدل أيضا على أنه أسرف في التمتع بملاذ الدنيا، وإنما بقي كذلك معافى لقوة بنيته، وتوهمت أننا إذا توثقت الرابطة بيننا، فلا يطول علينا الزمن حتى تستحكم منا المودة، ولما فرغ من كتابة جوابه قال: خذ يا وليم جواب التلغراف، ولا يقابلني أحد بعد الآن.
ثم قام من محله وجلس على كرسي إلى جانبي، وقال لي وهو يفرك يديه: هل أطلعك عمك على الكتاب الذي أرسلته له من بضعة أيام أخاطبه فيه بشأنك؟ فقلت: لا يا سيدي، وإنما أمرني أن أتقدم إليك بالنيابة عنه، وأكلمك بصراحة كما يكلم الصديق الصديق. - وأنت عالم أنك آت لتكون في خدمتي. - نعم يا سيدي، وإني أرغب في ذلك وأعده شرفا لي. - ليس في الأمر مانع ولا صعوبة، ولكن اعذرني إذا قلت لك لست محتاجا إليك، بل إن حبي لعمك ولك يحملني على إجابة طلبكما، فأنعم الفكر وانظر بعين الروية فيما إذا كان عندك ميل إلى الشغل؛ لأن ذلك أمر مهم، وإلا فلا يجمل بمثلك أن يضيع زمن الشباب عبثا؛ حتى إذا ضعف يوما وشاخ قتلته الندامة على ما فقد من الوقت الثمين. - لقد فكرت في ذلك زمنا ولست أعلم إذا كنت أفلح في شئون التجارة، ولكن عندي رغبة في تعلمها وجلدا عظيما على تحمل المتاعب التي تتأتى لي منها. - نعم الجواب! فقد حسن ظني بك، وأنا عازم على أن أتولى تدريبك بيدي، فاعلم أن أشغال البنك سهلة جدا وعلى المستخدم أن يألفها ويتقن دراستها.
ثم سألني متحببا أليس كذا؟
فانقشعت ظلم الفكر والأوهام من مخيلتي ، وارتحت للطف ذاك الرجل، وتوهمت أن عمي يخاطبني، ثم سألني هل تعرف لغة غير لغتك؟ - نعم، أعرف اللغتين الإنكليزية والألمانية. - حسن، سأعهد إليك المكاتبات الخارجية، فإنها أسهل عليك من الحسابات، وسأجعل راتبك مائة وخمسين فرنكا، وهو ما أعطيه لكل من يدخل حديثا في خدمتي.
وإذ كنت لا أؤمل أن أعطى راتبا مدة تعلمي عددت ذلك كرما منه فشكرته كثيرا، فتظاهر بالغضب، وقال: لا ينبغي أن تشكر لي فعلي إذ إني أدفع الدرهم، ولكني أطلب أن أخدم به، والدرهم يحمل على العمل والمثابرة، ولا منة في الشغل، فإما أن أنتفع من عملك فآجرك عليه، وإما أن لا أنتفع منه فأفتح لك باب بيتي وأقفل عليك باب مكتبي. فشكرته ثانية ولم أطل مخافة أن يستأنف الكرة علي، وبعد هنيهة قال لي: شغلتنا مسألتك عن السؤال عن صديقي العزيز عمك فكيف هو؟ - إنه مريض وكان في وده أن يرافقني ليزورك. - يسوءني ذلك، وحبذا لو استطاع أن يأتي فنسر بتذكر الماضي، وإن في هذه الذكرى ما يلذ الشيوخ.
فأعدت عليه كل ما قاله لي عمي بالأمس عما لقيه عنده من حسن الوفادة فقال: لقد غادر باريس رغما عني، ولولا ذلك لاستبقيته شهرا أو أكثر، وقد أحبته قرينتي لحسن خلقه ولطف حديثه، وإني أدعوك لتناول العشاء معنا في هذا المساء؛ لأن البارونة تود أن ترى ابن أخي صديقها ... وموعدنا الساعة السابعة، وبعد هذا الكلام وقفنا واستأذنته في الذهاب، فشيعني إلى باب غرفته وقال: إياك أن تنسى موعدنا في الساعة السابعة.
صفحة غير معروفة