مضى على هذه الحال سنة كاملة والأيام غافلة عني، والليالي تعذبني، وكلما درج يوم مر جاء يوم أمر منه، وقد عمدت للانتحار مرارا، ثم عدلت عنه خوفا على لويزا أن تفعل كذلك.
على أن الأحزان مما أردمت علي أزوت زهرة شبابي، ونشفت ماء أهابي، وغادرتني ضعيفا نحيلا، لا أجد إلى السلوى سبيلا، وكانت كتب لويزا تأتيني كل يوم مملوءة بالأخبار المحزنة والأنباء المقلقة، فيزداد شجني، ويشتد حزني، وكنت كلما نظرت إلى كتبها أرى أثر الدموع عليها، فيخفق قلبي، وتنسكب دموعي، وبلغ بي الضعف حتى غدوت لا أستطيع الوقوف والمشي، وأخذ مني التحول حتى غدوت حيا بصورة ميت أو ميتا بصورة حي، فاعتزلت عن الأشغال، واستسلمت للأكدار والخيال. •••
وفي ذات يوم، بينما كنت جالسا في زاوية البيت أتنهد تنهد المطعون، والعبرات ملء الجفون، دخل درتيل علي مسرعا، ولما رآني تسابقت من عينيه العبرات، وغلبت عليه التنهدات والتأوهات، فقلت: ماذا يا درتيل أتبكي علي قبل أن أموت؟ أم إنك رأيت علي دلائل الموت، وحكمت أنني لا أكمل هذا النهار؟!
فقال: قد مات هنري يا مكسيم، قد مات هنري، وذهب تعبي سدى، ولم يفده العلاج، وقد انقضت عليه المنية مثل الصاعقة، وقبضت على روحه الطاهرة البريئة.
فلما سمعت هذا الخبر صحت صيحة هزت البيت، وأزعجت الحي، وشبت النيران بين جوانحي شبوبا هائلا، وانسكبت الدموع من مقلي انسكابا غريبا، وكدت أن أقع على وجهي لولا خوفي من درتيل.
فقال: إن ريتا لما رأت ابنها ميتا سكنت سكونا تاما، وإني أخاف عليها أن تنتحر، فهلم بنا نذهب إليها، لعل وجودك عندها يعزيها.
وكانت السماء غائبة بغيوم كثيفة، تسير في أطراف الجواء ذهابا وإيابا، وكلما مرت دقيقة تتلبد هذه الغيوم وتسود، وكان الهواء باردا قارصا يلتطم بالبيوت والأشجار بشدة مخيفة، فسرت مع درتيل تحت هذه السماء المهيبة. العين حائرة، والقوى خائرة، والمهجة طائرة حتى وصلنا بيت فركنباك فولجناه بسرعة، وكان الطفل موسدا على سريره محاطا بالزهور والرياحين، وكان فركنباك في غرفته يبكي، وكانت ريتا راكعة على سرير الميت تقبله وتودعه، أما أنا فجلست بجانبها، وجعلت أبكي وأتنهد، وأقبله مرة بعد مرة، وأقول كلمات محزنة تفتت الأكباد، وليتأمل القارئ هنا كيف كان موقفنا ساعتئذ؟ وكيف كانت أحزاننا وحسراتنا؛ لأن القلم يعجز عن وصف ذلك.
ولما كان العصر أتى إلي الخادم وقال: إن مدام جونريت قد أتت من انجة الآن، وهي تحب أن تراك، فبادرت إليها، وقبلت يديها، ووقعت على قدميها، وقلت بصوت حزين: أين لويزا؟ وكيف هي؟
فقالت: هي مريضة ولم يأذن لها الطبيب بالمجيء، وقد غدت ضعيفة لا تعرفها إذا شاهدتها، وغاب جمالها، وضيع الهزال بهاءها، وحسن تكوينها، وبعد تلك الزهوة أضحت لا تتكلم ولا تضحك، ثم أطرقت هنيهة وقالت: أخذتها بالأمس من يدها، وقلت لها: إني مسافرة إلى باريس لأرى ماذا حل بحبيبك مكسيم؟ وما صارت إليه أحواله، وقصدي أن أصلح بينه وبين ريتا، فيجب عليك أن تسري الأفكار عنك كي يعود إليك جمالك القديم ليراك به الحبيب، ثم ودعتها وسافرت. - كنت أعلم يا سيدتي أن لي أما واحدة تحبني، ولكني أرى اليوم أن لي اثنتين. - يجب أن نتدبر الأمر بسرعة، وأظن ريتا لا تعارض أيضا في زواجك.
فذكرت عندئذ كلام ريتا يوم قالت: إنك لا تتزوج بها ما دمت حية، وإنني أقتلك وأقتلها قبل أن تصل إليها. •••
صفحة غير معروفة