إلا انثنيت ولي فؤاد شيق
جربت من نار الهوى ما تنطفي
نار الغضى وتكل عما تحرق
وعذلت أهل العشق حتى ذقته
فعجبت كيف يموت من لا يعشق
ولما كان اليوم التالي جئت المكتب عند فيقة الضحى، فوجدت البارون جالسا على الطاولة ويده على جبينه كأنه يفكر في أمر صعب المراس، فحييته، فرد التحية بوجه عبوس، ثم نظر إلي نظرة ملؤها شفقة وحنان وقال: حدث بالأمس حادث فجائي، يسوءني أن أعلمك به عند الصباح، ويشق علي أن أقوله لك لعلمي أنه يرد الضحى في عينيك دجا، ويترك قلبك مشبوبا ولسانك متلجلجا، على أنني أردت أن أقول لك مخافة أن يقوله لك غيري دون أن يشرح لك ظروفه، فينالك سوء نخاف منه عليك، فقد جاءني كتاب من عمك يطلب إلي أن أخطب لك لويزا، فدفعت كتابه بالأمس إلى البارونة، فأخذته واختلت بأختها برهة، ثم عادتا إلي وقد رفضتا طلب عمك، وعارضتا فيه أشد المعارضة، وقد اتهمتك جونريت بأنك أغويت لويزا، وضربت لها موعدا، فاجتمعت بها في بيتك، فأنكرت عليك هذا الأمر، وغضبت ما غضبت ورأت أن تسافر عن باريس في هذا الصباح دفعا لمثل هذه المنكرات، وقد ودعناها اليوم بحزن شديد. •••
لو فاجأتني الصواعق المهلكات، بل لو هبطت علي السموات أو هوت بي البسيطة إلى أسفل الدركات، لما كنت أشعر بما شعرت به عندما فاجأني هذا الخبر المشئوم، فلا أقول إنني جننت، ولا أقول إنني اضطربت، ولا أقول إني يئست؛ لأنني لا أدري كيف أصف ما ألم بي، ولا أعلم ما هي العبارة التي تفي بهذا المعنى، بلى قد جننت وفر قلبي مني، وجمدت دمائي، وخمدت أعضائي، وهمدت أعصابي، وضل صوابي، إلا سمعي وبصري فإنهما نشطا لكن لتعذيبي، وزيادة أشجاني، فكانت العين مما ترى من المناظر تذكرني الحبيب الوسيم، وكانت الأذن مما تسمع من حفيف الأشجار، وهزر الأطيار تذكرني صوته الرخيم. لويزا ... يا رب كأني أسمع الأصداء والطيور وكل شيء تتجاوب بهذا الاسم، وكلها تقول «لويزا لويزا» ... ماذا يا رب هل كان مقدرا لنا أن نفترق اليوم؟ وهل كان مقدرا أن يضحى اليوم عاشقان على مذبح الغرام؟ •••
فلما رأى البارون حالي رثى لي، ثم أخذني من يدي، وذهب بي إلى البيت، وأنا لا أعي شيئا، وكلما رأيت شبحا حسبته الحبيب، وكلما سمعت صوتا ظننته صوته العذب الشجي، حتى دخلنا البيت، فاستلقيت على المقعد، وغرقت في نوم عميق.
وفي نحو الساعة الخامسة أفقت من النوم، فوجدت على الطاولة كتابا من ريتا تقول فيه: «حبيبي، سأكون عندك الساعة السادسة فانتظرني.» فاضطرمت بي جذوة الضرام، وثار بي ثائر الانتقام، فتأهبت للأخذ بالثأر، وقلت: لقد اقتص مني العاذل، وأنا أنتقم منه في ذات النهار، وسوف أؤلمها مثل ما آلمتني، وأعذبها مثل ما عذبتني، وأريها عذاب الجحيم، وأسلبها لذة العيش والنعيم، وسوف أطعنها بالخنجر الذي به طعنتني، وأسقيها من الكأس التي منها سقتني، وأرد كيدها في نحرها، وأحبس غلها في صدرها، وسأنتقم منها مثل ما انتقمت مني.
وبينما كانت أفكاري في حل ومرتحل، والأوهام تزحم في ضميري الأوهام مزاحمة الدول، دخلت من الباب، واستلقت على المقعد دون أن تلقي سلاما وهي تتنفس بسرعة، كأنها قطعت في المشي ألف غلوة، وجعلت تنظر إلي، وأنظر إليها وكل يقرأ ما في عين الآخر حتى افتتحت الكلام، فقالت: كأني بك تتأمل الفرق بين زيارتي وزيارة لويزا. - نعم، أتأمل ذلك، ثم ماذا؟ - ولا جرم أنك آسف على ذهابها بعد أن أحبتك وأحببتها، وشربتما معا كئوس الهوى العذري في هذه الغرفة الطاهرة التي أسميها مهبط الأسرار أو مسجد الأبرار، وقد كنتما كعروسين جميلين، تستقبلان الحياة بمسرة وبهجة، والهوى بينكما أليف مجار، كأنه طائر مختلف الألوان جميلها، يمسك بفمه سلسلة ذهبية تصل بين قلبيكما، ولكن هلا علمت أن ذاك الطير هو البجع؟! وأن النشيد الذي أنشده في هذه الغرفة هو نشيد الوداع، أم فاتك أن البجع يحبس صوته إلى أن يأتي على آخر عمره، فينشد نشيد الوداع ويموت؟! - ما لنا ولهذا الشأن، قلت في كتابك إن عندك أسئلة تلقينها علي، فما هي؟ هاتيها بإيجاز. - أتذكر يوم كانت قبلاتنا تدوي في هذه الغرفة كأنها موسيقى؟ أتذكر يوم ركعت على قدمي، وأقسمت أنك تكون أمينا مخلصا؟ أتذكر يوم طلبت قلبي فقدمته لك على كفي؟ فكيف ترمي اليوم بذلك القلب إلى الوحل؟! ولماذا تحنث بيمينك المغلظة؟ - كفى، كفى تحببا وذكرى، إنني أذكر كل ذلك، ولكني أذكر أيضا أن البارون أحسن إلي فأسأت إليه، وأكرمني فدست شرفه، وهتكت عرضه. - إذن إعراضك اليوم عني يكون حبا وإكراما للبارون ... - نعم، الأمر كذلك. - كذبت أيها الجبان، فإن هذا الفكر لم يطرأ عليك البتة، ولم يخطر لك ببال، وإن ادعاءك مين وتضليل، وإنك لنذل لئيم لا ترعى الذمة والود، ولا تعرف الأمانة والعهد، وإنك تكذب بعهدك وولائك، وتكذب بقسمك وبكائك، تالله لم تر عين ابن أنثى مثلك أيها الخائن الخداع، إذا كنت تحسب أن قلبي الذي قيدته بحبك ألعوبة في يديك، فوالله لألعبن بك كما يلعب الطفل بالطير، وأقسم بالله إنني أكون بينك وبين لويزا كسور منيع، تنبو عنه كلاكل الأيام والليالي، وأسفك كل دمي إلى آخر قطرة قبل أن تصل إليها، وهيهات أن يكون منكما ما كان بالأمس في هذه الغرفة. - صه، ولا تعيدي ما قلته، فإنك تنزلين البكر منزلة الثيب ، وتعرضين شرف العذراء الطاهرة للخطر، وتضعين البكارة موطئ الأرجل. - إن جونريت اغتدت، وهي أكبر حائل دون مرامك. - أظنك أخبرتها بما كان منا، وأن هنري هو ابن سفاح. - تقريبا. - إن قلبك أقسى من حديد هذا السكين.
صفحة غير معروفة