وكنت من هنيهة إلى أخرى أتسرق إلى غرفتها؛ عساي أسمع غير البكاء والعويل، فتارة أنظر من الشباك، وطورا من ثقوب الباب، وآنات ألقي إلى زجاج النوافذ جبينا يتألق بالعرق، ولو كنت بليلي إذن لرأيت بأي شكل مرت علي ساعات الليل، وفي الصباح جاءت جونريت تتكلم ملامحها عن صعوبة الولادة بأفصح من لسانها، فقالت: «لم تلد بعد، ويقول الطبيب: إن موضع الولد في الرحم غير حسن، وإن حالتها تنذر بالخطر، ولكثرة ما تؤلمها الولادة اضطر أن يعطيها جرعتين من المورفين لتخفيف آلامها.» فاحكم يا مكسيم على حالتي إذ ذاك، فقد يئست من نجاتها، وقطعت الأمل منها ومن طفلها، وإني لأعجب من بقاء عقلي سالما بعد ما تولاه من الاضطراب، ونحو الساعة التاسعة اتكأت على المقعد تعبا، واجف القلب، قليل الرجاء بحال من سار إلى المشنقة، وقد رأى الحبل مدلى، وما كدت أغمض غمض طرفي حتى دخلت جونريت علي بسرعة وقبلتني بفرح وقالت: «صبي! صبي! قد ولدت ريتا صبيا بعد أن كانت في أشد الخطر.» وقالت: «انظر ابنك.» وكانت عيناها تنهمر منهما الدموع، كما يجري من ينبوع صاف، فبكيت لبكائها وجرى الدمع رغم قيادي ... إن الدموع تسكن الأحزان وتطفئ النيران.
وبينا فركنباك يقص علي القصة، غلب الحنان علي فاغرورقت عيناي فمسحت الدموع عنها، وقلت: أهنئك يا مولاي بوريثك، وأسأل الله أن يجعله من أولاد العمر والسلامة ... قد فضضت البريد في غيبتك مع لامبون. - نعم ما فعلت، وأرى الآن أن تعهد إلى لامبون إتمام الشغل، وتذهب معي إلى حيث نقضي بعض المهام الصغيرة، وسأفكر غدا بأن أحيل عنك جزءا من الأشغال وأصرفه إلى غيرك.
فتركنا المكتب وذهبنا إلى الحانة، فجلسنا على المائدة، فقال البارون: إذا كنا لا نأكل هنا، فإنا لا نأكل اليوم؛ لأن جميع أهل البيت منشغلون بريتا وطفلها، ولم يهتم أحد منهم بالطعام.
ثم أخذ قطعة كبيرة من الخبز ووضعها في فيه مرة واحدة، قائلا: سأسميه هنري، وأجعل عرابته جونريت، وسأرى فيمن يكون عرابا له، أشكرك اللهم فبعد أن كانت سلالتي على وشك الانمحاء، وبعد أن كان اسم فركنباك على قيد شبر من الفناء، عادت السلالة فنمت، واغتدى لي ولد يرث ما عندي من الأموال الطائلة والخيرات الجزيلة.
فلم أجبه وتركته يعوم ما شاء في بحور الخيال والمسرات، وإذ رأيته يلتهم الطعام التهاما قلت: إن المسرة بنت عم الشراهة، فحيث توجد تلك تأتي هذه. - ذاك أمر واضح، ومتى ترعرع هنري أتبنى طفلة من بنات الفقراء وأجعلها معه مدة حداثته ليستأنس بها.
وبعد الغداء قصدت بيت فركنباك لأستطمن عن صحة البارونة، فدخلت وجلا، مضطرب الأفكار؛ خائفا من أن تكون جونريت وقفت على سري، وعلمت بما ندفن في طوايا الكتمان، وكان خوفي منها لما رأيتها عليه من الذكاء والدهاء، فإذا بها جالسة على كرسي مستطيل والتعب بالغ منها، والنعاس حائم على جفنيها، فألقيت عليها السلام، فمدت لي يدها فأمسكتها، فإذا هي رخوة باردة، فقالت: قد رفضت اليوم زيارة كل الأصحاب إلاك، فلا تؤاخذني إذا لم أقف؛ لأني كليلة لم أنم غرارا. - أشكرك يا سيدتي على هذا الالتفات، وأشكرك أيضا لاعتنائك الزائد بالبارونة ريتا. - إني أعلم بكل ما تضمره لأختي من الحب والانعطاف، وكأنك بهذا الكلام تسألني عنها. - نعم، لقد قلت الحق، ولم يخب ظنك، فأنا أحب البارون أكثر منها؛ لأنه كان سبب سعادتي، وإيذانا بمننه قد أتيت الآن لأهنئه، وأبث له عواطف قلبي وشعائر إخلاصي، فأرجوك يا سيدتي أن تنوبي عني لدى البارونة بإهداء التهاني. - لا بد أن فركنباك شرح لك كيف كانت ولادتها، وبشرك بالنتيجة، وقد كدت بالأمس لا أصدق أنها تعيش على تلك الآلام، وتسلم من تلك الأخطار ... أما درتيل فقد سحر الألباب النافرة، وأشخص العيون الزاجرة بما أبداه من الدربة والمهارة، فكنت تراه يسخر العلوم لإبادة الأخطار، فكأني به العلم تجسد في إنسان، وقام بشكل جثمان، ومجمل القول أنه تعب عليها تعب إنسان يهواها ويظن بقاءه ببقائها.
وسكتت هنيهة ثم قالت: ولم أزل أذكره كيف جاءني بغتة، وقال لنا النصر ...؟ لنا النصر، صبي؟ واحتمل في يديه الطفل الرخو مستهلا وقال: آه ما أجمله يا سيدتي، وما أبرع البارونة في إتقان مصنوعاتها! أتحب أن تراه يا مكسيم؟
وقبل أن أجيب ضغطت على زر الكهربائية فدخل الخادم. - يا جان قل لنعمة تأتي بالولد.
وكانت نعمة مهابة، قليلة ماء المحيا، كريهة المنظر، قبيحة الشكل، إذا رآها المصلي كفر، وإذا آنسها الشيخ نفر، وهي إنما دعيت بأمر الطبيب؛ لما اشتهرت به من ملاطفة الأطفال، وحسن إرضاعهم، فدخلت نعمة وفي يدها لفائف من حرير ناعم، مغشاة بالنقوش المذهبة، يتحرك من خلالها رؤيس كرأس النعامة، فأخذته جونريت من نعمة بكل تحفظ وقالت: انظر يا مكسيم، انظر الطفل الحلو ... أيكون شيء في الدنيا أجمل من هذا الشاروبيم ...؟ خذ قبله.
أما حضور هذا الطفل فلم يحدث بي الانفعال الذي كنت أخشاه، بل نظرت إليه نظرة شماتة واستخفاف، كأنه مهان مكروه، على أني بقوة الطبيعة انعطفت إليه وقبلته، وبعد ذلك أعطيتها إياه فأعطته لنعمة.
صفحة غير معروفة