وما كدت أنتهي من أسئلتي حتى سمعت وقع أقدام في الصالة، وغادرني عبده ليرى من القادم. أما أنا فلم أكن في حاجة أبدا لمغادرة مكاني لأعرف من عساه يكون؛ فبمجرد سماعي لتلك الخطوات السريعة المتتالية عرفتها، وتصنعت الانهماك في الكتابة.
ولم أرفع رأسي حتى بعد أن دخلت الحجرة التي كنت فيها، لم أرفعها إلا حين دق قلبي ، وأنا أسمع هتافا حلوا يتصاعد من الباب: هاللو!
كانت سانتي، وغادرت مكاني وسلمت عليها وأجلستها أمام المكتب، وفعلت كل هذا وأنا مرتبك مشتت بين رغبتي في القيام بدوري كمحرر في المجلة يقابل زميلة أجنبية، وبين الجهود الضخمة التي بذلتها لأكبت انفعالاتي الخاصة.
السؤال الذي كان يحيرني في أثناء هذا كله، لماذا جاءت؟ ولماذا في هذا الوقت بالذات؟
وكان من الممكن أن أوجه إليها السؤال ببساطة، ولكني لم أشأ هذا، أو في الحقيقة لم أستطعه؛ فمن لحظة أن سمعت وقع أقدامها في الصالة لم أعد نفسي، انتابتني تلك الحمى التي تنتابني كلما وجدت معها أو سمعت مسيرتها أو خطرت لي على بال. حمى سببها عشرات الانفعالات والمتناقضات التي كانت تغمر كياني كله وتبقيني تائها محموما لا أعرف كيف أتصرف، أو ماذا أقول؟ أقهر انفعالات وتقهرني انفعالات، أحاول أن أضبط شعوري فتتبعثر مني أحاسيس وتنفرط وازداد خجلا وارتباكا، ويدفعني الخجل إلى مزيد من الخجل التائه المحموم.
ولم أفق قليلا إلا حين جاء شوقي تسبقه حقيبته التي لا يمشي إلا وهو يطوحها. وسلم علينا، وتكفلت يده الضخمة ذات الأصابع السمينة الطيبة بمحو كل ما خالجني تجاهه. ونظر إلي وإلى سانتي وقال: عارفين بعضكم طبعا؟
وضحكنا كلنا، وأخذنا الكلمة ببساطة. ولكن خاطرا صفر في عقلي فجأة: ترى ماذا يحدث لو عرف شوقي فعلا ما يدور في رأسي، وما حدث بيني وبين سانتي؟
ولم أحتمل مجرد التفكير في الخاطر، طردته من وعيي في الحال، ومضيت أرقب بعين مدققة الطريقة التي تتحدث بها سانتي إليه، لم أجد فيها ما يستوقف البصر، وحتى سانتي لم تتحدث طويلا، ما لبثت أن أخرجت من حقيبتها مجلة وبعض الأوراق ناولتها لشوقي ثم ودعتنا ومضت.
وأحسست بارتياح، وغادرت حجرتي وجلست مع شوقي في حجرته نتحدث في مشاكل المجلة. كانت هناك عقبات تحول دون صدور العدد الثاني أهمها النقود، وكان لا بد من حملة جمع تبرعات واسعة، وكان لا بد أن تبدأ الحملة حالا. وفي حماس أخذت على عاتقي عبء جمع التبرعات عن عشرين شخصا، بعضهم كان يدفع لإيمانه بالمجلة، وبعضهم لخوفه منها، وبعض آخر لمجرد إقناع نفسه أنه يؤدي واجبا ما.
ولم أعد إلى البيت إلا في الرابعة صباحا.
صفحة غير معروفة