وأعود إلى أفكار قلقة لا تستقر، وأسئلة كثيرة تريد إجابات أكثر، وكل إجابة تثير أكثر من سؤال، وحقائق تختلط بأوهام، وأوهام تتجسد على هيئة حقائق، وأنا مضطرب سعيد، كل مرادي أن يتوقف العالم عن المسير، وأن أقضي ساعات وساعات أحيا في تلك الدوامة الهادئة التي تدغدغ وعيي وأعصابي.
وكنت أعرف أنها لا بد قادمة في اليوم التالي، وكنت قد اتخذت قرارا أن أمضي خطوة أخرى؛ فقد لاحظتها جيدا وأنا أقرأ القصيدة، ولاحظتها أيضا بعد قراءتها، وممكن أن أقول إني شاهدت ما عدا الاستنكار فلم ألمحه أبدا، وما دام تصرفي ذلك لم يلق استنكارا أو إعراضا فماذا يمنعني أن أخطو خطوة أخرى وأقول لها كل شيء بصراحة؟
وكانت الساعة العاشرة، وجلست إلى المكتب وبدأت أكتب. ولا أذكر على وجه التحديد ماذا قلت في ذلك الخطاب، ولكني أذكر أني كنت محموما منفعلا، وكأني أقوم بأهم وأخطر عمل في حياتي. كانت الفكرة التي أريد قولها مبهمة غير واضحة المعالم في خيالي. والكلمات أمامي كثيرة لا رابط بينها ولا ضابط، وتركز همي أول الأمر في الدقة التي يجب علي أن أختار بها الكلمات، وفي جوب اختيار الأساليب الموحية ذات المعنى الظاهر المباشر والمعنى الذي قد يخفى، وكنت أفعل هذا بتعقل وبلا أية عاطفة، غير أن عملية الكتابة نفسها جعلتني أفكر فيها، وبدأ سيال خفي دافئ ينبع من مكان ما من نفسي ويأخذ طريقه إلى قلمي، سيال بدأ هو الذي يختار الكلمات وينظمها، كلمات لدهشتي كانت تخرج دافئة حنونة فيها كل ما أصبح لنفسي من دفء ورقة وحنان، وما لبث السيال الدافئ أن تحول إلى فيضان عارم. ووجدتني أنفجر وأقول كل ما أحسه دون مواربة أو تدخل أو خجل.
سردت عليها تاريخ علاقتنا القصيرة، وقلت لها إني أعرف العقبات كلها والمحرجات، ولكني أصبحت في حيرة بين ما أحسه ناحيتها وما أخفيه عنها. وهي وحدها القادرة على إنقاذي من حيرتي.
وكنت أكتب بالإنجليزية، وحتى في حديثي العادي لم أكن ذا باع طويل فيها، ولكني أعجبت فعلا بالخطاب بعد قراءته، وتخيلتها وهي تسمعه، ورحت أحلم، فمن يدري ربما دوخها الخطاب وأثر فيها إلى درجة تنسى معها كل شيء فتبكي وتصارحني بحبها؟ من يدري ربما سلبها الخطاب إرادتها تماما ونومها ذلك التنويم المغناطيسي الذي أريد، لتصبح طوع يدي أصنع بها ما أشاء؟ أصبح الخطاب هو المعجزة التي ظللت أحلم بمفعولها السحري طوال نوم قصير مضطرب، وفي الصباح وأنا خارج - وقد تجاوزت الساعة التاسعة والنصف - إلى عملي مسرعا خائفا قلقا، ألقي نظرات ضيقة موتورة على أصحاب الدكاكين المتراصة في مدخل المنزل. كنت أؤكد لنفسي مرة أخرى أن حياتي تلك لم تعد تصلح لأحلامي، حياتي بادئة بهذا البيت الذي أسكنه والذي لم أرتح إليه مطلقا من يوم أن انتقلت إليه، كان صاحبه تاجر أخشاب أو سمك لا أعرف، وكان قصيرا له كرش واضحة المعالم كمن ابتلع بطيخة واستقرت إلى الأبد في جوفه، وله عين حولاء صغيرة وعين أخرى أصغر منها بطريقة تدرك معها أن إحداهما لا بد صناعية، ولكنك لا تستطيع أن تحدد أيهما، والظاهر أن تلك كانت أول مرة يبني فيها بيتا ويدخل طبقة أصحاب العمارات؛ إذ كان قد طبع عقود إيجار خاصة به، وكتب فوق العقد بخط عريض: «عمارات وعقارات فلان»، وكلها عمارة واحدة هي تلك التي ساقني الحظ لسكناها. وفي عقد الإيجار أكثر من مائة شرط لم يرد ذكرها في أي عقد من قبل أو من بعد، وكلها حقوق للطرف الأول صاحب البيت لدى الطرف الثاني أنا، وملحق بها قائمة بالممنوعات، منها مثلا: ممنوع نشر الغسيل إلا بين الساعة الخامسة والسابعة مساء، وخلال المرات القليلة التي قابلتها فيها كان يبدو مسرورا من سكني عنده أنا الطبيب، وكان يحدثني باستمرار عن ابن ضابط له، ويقول عنه الكابتن سعيد، وكيف قد حدد له هو ماهيته الشهرية فوق ماهية الحكومة، وحين تمت العمارة وانتهت وبدت جديدة أنيقة بالقياس إلى عمارات الشارع القديمة المتآكلة كان لا يحضر إليها إلا وقد ارتدى بدلته الكاملة وطربوشه، يحيي أصحاب الدكاكين بترفع، ويحييني باحترام زائد، ويقف معظم الوقت يتفرج على العمارة، وأحيانا ينتقل إلى الرصيف المقابل أو النواحي المجاورة ليتأملها من مختلف الزوايا والأبعاد.
وكان واضحا أن بدلته جديدة أيضا، بل أكثر من هذا أنها أول بدلة يرتديها في حياته؛ فقد كان يحاسب عليها أكثر من اللازم، ويعني بارتدائها وبأكمامها وبخطواته فيها أكثر من اللازم أيضا! وفي تلك الأيام كان يبدو سعيدا جدا كمن حل جميع مشاكله، أغلق «الدكان» الذي كان يخجل منه ابنه الضابط ويمنع العرسان عن بناته، وبنى العمارة، وارتدى البدلة، وأصبح كأي مالك محترم بلا عمل إلا أن يأتي كل شهر ويحصل الإيجار من السكان.
ولكنه لم يستطع أن يمثل دوره الجديد طويلا؛ فبعد فترة بدأ يغير البدلة ويرتدي الملابس التي قضى عمره يرتاح فيها، الجلباب الأبيض والبالطو الأسود، ويجلس على كرسي عند واحد من أصحاب دكاكينه يعنف البواب، ويشكو للجالسين معه من ضيقه بهذا التعطيل الإجباري الذي فرضه عليه أولاده، وحنينه إلى وقفته في الدكان ولذة كسب القرش، تلك اللذة التي لا تعادلها أي ألقاب أو بدل أو عقود إيجار مطبوعة.
وفي تلك الفترة تصادقنا، وقد لا يصدق أحد هذا، ولكن خجلي منه هو السبب الوحيد الذي كان يدفعني للإقامة في تلك الشقة التي لا تحتمل؛ فالشارع أمامها حافل بالضجة التي تحرق الأعصاب، ضجة عشرات من خطوط الترام والأتوبيس وآلاف عربات الكارو وزعيق الباعة والمارة والكلاكسيات وميكروفونات المآتم وأفراح التي تحدث بالتبادل وعلى الأقل مرة كل يوم، ضجة تبدأ في الرابعة صباحا ولا تنتهي قبل الثالثة من صباح اليوم التالي. ثم إن المالك - سامحه الله - لكي يستفيد أكبر فائدة من المساحة، لم يجعل مدخل البيت على الشارع، ولكنه صنع له ممرا بنى على جانبه دكاكين وقهاوي يحملق فيك أصحابها وروادها ويتفحصونك، ولا عمل لهم إلا النظر إلى سكان البيت «إذ الممر لا يعبره إلا السكان» وإحصاء حركاتهم وسكناتهم، وسلم البيت أدهى من مدخله، حافل بزبائن المستوصف وأقاربهم ومرافقيهم، وحتى الشقة نفسها مع أنها جديدة ولكنها لا تعطي أي إحساس بالسكن أو الاستقرار، شقة لا تصلح إلا لمكتب سمسار أو لمقر نقابة. وإذا كنت فيها وجرؤت على فتح نافذة دخلت لك منها زوبعة ضجة تكاد تقتلعك من مكانك، ودخلت أيضا رائحة الكبدة؛ فالشقة تقع مباشرة فوق محل متخصص في قلي الكبدة والمخ وله مخزن بجوار السلم تماما، مخزن مظلم تلمح من خلال ظلامه كتلا هائلة من الكبدة لا تعرف لضخامتها إلى أي الحيوانات تمت، كتل تلمع في الظلام وتملأ رائحة «زفارتها» البيت كله من الداخل، وتهب رائحة قليها على النوافذ من الخارج، وأفظع ما في الأمر أن المطعم نفسه كانت له يافطة من النيون الأحمر والأخضر والأصفر، وكان صاحب المطعم السني السمين يصر على تركها مضيئة طول الليل، وليتها تضيء فقط، إنها تنطفئ وتضيء أوتوماتيكيا، والنيون له أزيز مزعج، فضلا عن أنواره البشعة الفجة التي تظل تتوالى وتنير الحجرة وتظلمها حتى الفجر.
ومن يوم أن سكنت وأنا أحيا في تلك الدوامة من العيون المستطلعة، والزفارة النيئة والمقلية التي تتتابع رائحتها تتابع أضواء النيون المضيئة، ويلفها جميعا ذلك البركان من الضجة الذي يهدر في الشارع طوال ثلاث وعشرين ساعة، يتلوها ويسبقها أذان الفجر الذي يذاع بالميكروفون من مسجد سيدي أبي العلا ويحتل الساعة الرابعة والعشرين.
ورغم كل ذلك فقد كنت أحتمل حياتي في ذلك المنزل ولا أفكر تفكيرا جديا في تغييره. شيء ما كان يجذبني إلى هذا كله ويجعل ضيقي به لا يعادله إلا حبي له. لأمر ما كنت أحس أني في هذا البيت أحيا وسط شعبنا بكل عيوبه ومزاياه إلى درجة أني كنت أخجل أحيانا من نفسي لهذا الكره الذي أكنه لأصحاب الدكاكين والقهوة والمطعم وهم يحبونني بحب ويتمنون محادثتي ويبدون استعدادهم لأي خدمة، ولم لا أعترف أني كنت أحيانا أسعد بإقامتي هناك وأستمتع؟ كان منظر الناس المزدحمين طوال النهار في الشارع، المتراكمين أمام الدكاكين وعلى كراسي القهوة والخارجين من جامع أبي العلا والداخلين إليه والمقيمين حلقات الذكر حوله، والسكرانين آخر الليل في الخمارات الكثيرة القريبة وفي «بوظة» بولاق الواقعة غير بعيد من الجامع، كان منظرهم يأسرني ويملؤني بإحساس غامر عجيب. وجوه مصرية رغم شحوبها وفقرها وقبحها لا بد تجدها حافلة بكثير من خفة الدم وسماحة الطبع، وكلامهم مهما بدا مليئا بالمبالغة والمغالطة والجليطة إلا أنك تحس به صادرا عن روح حلوة كالعجمية، لا تشبع منها أبدا مهما خيل إليك أنك شبعت منها.
صفحة غير معروفة