والمشكلة الكبرى أنني كنت أنا الذي صنعت بنفسي كل هذا، وصنعته بإرادتي. قيدت نفسي إليها بإرادتي، وبإرادتي أريد أن أكسر قيودي؛ فمن أين آتي بإرادة لي تلغي إرادتي؟ وكيف أحطم بنفسي بنيانا لا تملك نفسي إلا أن تبنيه وتستمر تبنيه؟
فلأثر إذن ما شاءت لي الثورة، ولأحس بنفسي قويا، وبإرادة جديدة تنبعث في نفسي؛ فأنا خير من يعرف أن هذه كلها إن هي إلا انفعالات وقتية لا يمكن أبدا أن تصمد لتجربة.
بنفس هذه الروح وصلت البيت، وبنفسها أيضا بدأت نقاشا جادا مع البارودي، واختلفنا اختلافا جذريا هذه المرة، اختلافا أدركت معه أننا لو مددنا خطوط تفكيرنا إلى آخرها لوجدناه يؤمن بطبقية التفكير مع أنه يطالب بإلغاء الطبقية في المجتمعات. كان الخلاف حول سياسة المجلة.
وكان من رأيه أننا يجب ألا نخضع للنزوات الوقتية للجماهير، ولكن علينا أن «نقود» الجماهير إلى الأهداف التي نؤمن بها. والحقيقة أني كنت قد بدأت في الفترة الأخيرة، وخاصة بعد عملي في الورش واحتكاكي المباشر بالعمال، بدأت لا أومن كثيرا بخدعة «قيادة» الجماهير هذه لتحقيق الأهداف التي نؤمن نحن بها. كل من هب ودب يدعي أنه يقود الجماهير لمصلحتها التي أدرك بفطنته وبعد نظره كنهها، والمنادون بهذا في كل الدول والبلاد يتنافسون في الأهداف المثالية التي يريدون أن يقودوا الجماهير إليها، عوالم أفضل، مجتمعات بلا مشاكل، ديموقراطية كاملة، دنيا بأزرار، كلها أهداف جميلة ورائعة جدا، والكل يعمل لمصلحة الجماهير وباسم الجماهير، ولا أحد يتفضل ويسأل هذه الجماهير عن كنه ما تريده هي، كلهم يعتبرون الشعب مجرد طفل قاصر لا يعرف مصلحته، ويعينون أنفسهم أوصياء عليه بالزلفى وبالقوة، حتى ليصبح الخارج على إرادتهم خارجا على إرادة الشعب، والمعارض خائنا لمصالح الشعب.
ذلك رأي، ولكن هناك رأيا آخر لا يقر مبدأ الوصاية على الناس باعتبارهم قاصرين؛ إذ حتى الجاهل منهم أكثر فهما لظروفه ومصالحه ممن يزعم لنفسه أنه أفهم منهم وأوعى، رأي يرى أن «التقدم» ليس هو في جر الناس جرا لتحقيق أهداف نضعها نحن لهم، ولكن التقدم الحقيقي هو أن نهيئ للناس فرصا أكبر وأوسع لكي يحددوا أهم أهدافهم ويسيروا نحوها بالسرعة التي يرونها تتناسب ومقدرتهم، بأن نرفع العقبات من طريقهم، بأن تصبح لديهم مجالات أوسع للاختيار والتفضيل.
التقدم ليس هو أن نفرض على حقل من الزهور أن ينتج لنا كمية معينة من الرحيق في كمية محددة من الوقت، التقدم هو أن نهيئ الفرصة لكل زهرة في الحقل كي تتفتح، كي تصبح أولا زهرة، فإذا ما تفتحت كل الزهور ربما حصلنا على رحيق أكبر وأكثر تنوعا، ربما حصلنا على أنواع منه لم تخطر لنا ولا كان باستطاعتنا أن نحددها قبل أن توجد.
شيء جميل أن تعي الأزهار أنها منتجة للرحيق، ولكنه خطير في نفس الوقت؛ فإنتاج الرحيق وظيفة واحدة من وظائف الأزهار، فإذا كرست الأزهار نفسها من خلال هذا الوعي الواحد الضيق لكي تصبح مجرد آلات صماء لا عمل لها إلا إنتاج الرحيق، فأقل ما يحدث هو أن تتوقف بقية وظائفها الأخرى، يتوقف تطورها، يتوقف تكوين الثمار والبذور، وبهذا تتحول من مجرد أزهار، مجرد حلقة في سلسلة متصلة الحلقات من عمليات النشوء والتحول والارتقاء، إلى عامل معطل، يصبح الوعي المحدد الناقص في النهاية سلاحا يصيب الأزهار نفسها أول ما يصيب.
باحتداد النقاش بدأت أتبين أن خلافي مع البارودي خلاف أساسي، هو يرى أن وعي الإنسان بنفسه يجب أن يكون هو القيمة العليا، وأنا أرى أن الإنسان نفسه بوعيه وبلا وعيه وبصوابه وخطئه هو القيمة العليا، المشكلة في نظره هي الغاية والمبادئ بصرف النظر عن الوسيلة لتحقيقها، والمشكلة في نظري هي الناس الذين سيحققون هذه المبادئ أو يحققون غيرها، هو يرى أن نسخر الناس لتحقيق الأهداف التي رسمناها لهم، وأنا أرى أن نسخر أنفسنا لتحقيق أهداف ناس مهما بدت ساذجة في نظرنا وقصيرة المدى. هو يرى أن الناس أقل وعيا منا، وأنا أرى أن وعينا مهما بلغ ليس أكثر من قطرة في محيط وعي الناس باعتبارهم جسد الحياة وعصبها الأكبر.
هو يقول: قيادتنا للمجلة لا تعجبكم، وتريدون أنتم أن تتولوا أمرها، أنتم بهذا تتجاهلون أننا أكثر منكم خبرة وثقافة ووعيا.
وأنا أقول: معنى هذا أنكم ممكن أن تظلوا ترأسون التحرير إلى الأبد؛ لأنه لا يمكن أبدا أن ينشأ جيل يصبح أكثر منكم خبرة وثقافة ووعيا؛ لأنكم دائما ستظلون السابقين.
صفحة غير معروفة