أو بالأحرى بدأت مرة أخرى أروح في الغيبوبة التي اعترتني منذ عرفتها، غيبوبة علاقتي بها، تلك الغيبوبة التي قطعها لفترة وجيزة خروج البارودي، الغيبوبة التي أصبح فيها مجرد كائن لا يربطه بالحياة إلا تلك الساعات القليلة التي يقضيها يتحدث فيها معها أو يتخيلها حين تغيب ويحلم بها، وكان لا بد أن أفتح الباب.
واستأذنت منها أن تنتظر لحظة.
ولم أتردد، قلت للبارودي: إن قريبة لي قد جاءت تزورني، واستصحبته إلى الغرفة التالية وهو مستسلم لا يضايقني منه إلا ابتسامة عادية جدا لم تبرح فمه، وهو يستند إلى ذراعي في طريقه إلى حجرة النوم الداخلية.
وجلست مع سانتي ولم تكن الجلسة ممتعة لكلينا. كانت قلقة وكنت قلقا، ويبدو أنها أدركت أنني أعاني من حرج ما، فقالت على الفور: هل عندك أحد؟
وترددت هنيهة بين أن أكذب أو أقول الحقيقة، وأخيرا قلت: عندي البارودي، هل تعرفينه؟
ولمحت اصفرارا مفاجئا خفيفا يلون وجهها لومضة، وقالت بصوت شابه بعض التغيير وكأنما لونه الاصفرار: سمعت عنه كثيرا، ولكني لم أقابله.
وبأسرع مما خمنت وجدت اللهفة تعود تنتابها، والشغف يكاد يفقدها سيطرتها على نفسها وهي تقول: كيف هو؟ يقولون: إنه رفيع وذكي جدا، هل هو عبقري صحيح؟ هل ممكن أن أراه؟
قلت لها وأنا أريد أن أخيب أملها عن عمد: طبعا غير ممكن.
ويبدو أن كلماتي ولهجتي فعلت فعلها؛ فلم يلبث حماسها أن برد وذهبت اللهفة عنها، وقالت بعد فترة صمت وهي تفتعل عدم الاهتمام: سمعت أنه خرج أعمى من السجن، هل صحيح؟
كان السؤال بسيطا وطبيعيا، ولكني لم أكن أستطيع الإجابة عليه؛ فمنذ عرفت الخبر وهاتف قوي داخلي يلح علي ويؤكد لي أن البارودي لا يمكن أن يكون قد فقد بصره حقيقة داخل السجن، أما لماذا يفعل هذا ويدعي العمى فسؤال لم أكن أجرؤ على مواجهته ومحاولة الإجابة عليه؛ إذ معناه أن أكفر بالبارودي وبكل الطريق الذي سلكته ردحا طويلا من الزمن وعدت أسلكه بحماس أشد، ولم أكن أريد أن أكفر به وبالطريق، ولكني في نفس الوقت لم أكن أريد أن أخدع نفسي وأخالف ضميري.
صفحة غير معروفة