وعدت إلى المكتب، وحتى قبل أن يكمل إدخال قميصه في بنطلونه عاد إلى وقفته المستهترة المتحدية أمامي.
قلت: هات الأورنيك.
فقال: ح تعمل به إيه؟
قلت له ببساطة وحسم: ح أقول فيه إنك ترجع شغلك.
قال وكأنه يقهقه: أرجع شغلي ازاي؟
قلت له: لأنك ما عندكش حاجة.
فقال: أنت كذاب.
وعم سكون هائل، وأحسست بدم يتفجر في صدري ويصعد إلى رأسي ويعمي عيني، وحين عدت للرؤية كانت الحجرة قد تسرب إليها أضعاف أضعاف الموجودين فيها، والكلمة لا تزال ترن في أذني وآذانهم جميعا، والتحدي سافر على وجه سكرتير النقابة، وجسدي وأجساد الحاضرين ترتعد ارتعاد التربص للحركة التالية لتندفع تقتل أو تخمد، واللمحة الخاطفة التي قرأت فيها وجوه العمال كانت قد أنبأتني أنهم استكثروا الكلمة، ولكن أي رد مني سيقلبهم إلى وحوش، والكلمة أيضا كانت قد أزهقت روح الطبيب في، ولم أعد سوى رجل يواجه جمهورا على استعداد للانقضاض عليه لدى أية بادرة، وهانت علي حياتي وعمري وآمالي. وفي اللحظة التي قررت أن ألكمه فيها وجدت صفعتين متتاليتين سريعتين توجهان إليه، والتفت، كان الغضب قد أحال وجه عم مرسي العجوز الأحمر إلى كتلة لحم بيضاء غير محددة الملامح، لا يميزها غير بريق أهوج صادر من العينين، واستغربت كيف تحول صوته الهامس الناعم المؤدب إلى ذلك الرعد المتحشرج الذي قال به: اخرس قليل الأدب، إزاي تشتم الدكتور؟
وثانية سكون واحدة أعقبت هذا، ثانية خيل إلي فيها أن كل من بالحجرة كف عن التنفس وقد أخذته مفاجأة ويترقب مفاجأة تالية. والسكرتير المصفوع يقف مذهولا يحدق في عم مرسي، والعمال المتزاحمون من حوله واقفون مذهولون هم الآخرون وكأن كلا منهم نالته صفعة، وحتى أنا نفسي كنت في حاجة لبرهة أتبين فيها حقيقة ما حدث وأعد نفسي لما سيحدث، ثانية سكون واحدة تفتحت بعدها أبواب الأقفاص غير المرئية، وخرجت من الصدور نمور غاضبة تترقب اللحظة المناسبة لتنقض.
وفي جزء من الثانية التالية كانت الحجرة قد امتلأت بأعنف حركة شهدتها، حتى لقد بدأت أرضيتها المصنوعة من كمرات حديد تتذبذب وتتلوى، ولو كنت أنا الذي صفعته لاختلف الوضع، ولكن عمهم مرسي العجوز المهيب هو الذي صفعه. ألف واحد منهم لا يرضى أن ترد له الصفعة، وعشرة أحاطوا السكرتير وكتفوه وحالوا بينه وبين عم مرسي، والحاضرون جميعا في ارتعاش واهتزاز، يدفع الغضب صفوفهم البعيدة فتتدافع وتدفع من أمامها، وتتكون للجمع الحاشد موجات غضب تظل في مد وجزر حتى تصل إلى البقعة التي أقف فيها أنا وعم مرسي، ولا يوقفها عن اكتساحنا وتمزيقنا إربا إلا ذلك الحاجز الرقيق من الهيبة الذي كان لا يزال يحيط بي وبه، هو بحكم السن، وأنا بحكم المهنة والتعود، حاجز قد تكفي يد طويلة تمتد أو كلمة نابية توجه وتسمع، لكي يتهلهل وينمحي ونبقى عرايا من الحصانة تحت رحمة أكف غليظة وسواعد لا ترحم.
صفحة غير معروفة