وإنما هو إشكال أَحيل به على إبهام، وقد تمثل بعضهم في هذا بأَبيات جرير التي نحلها ذا الرُّمة: ذكرت الرواة أن جريرًا مرّ بذي الرمة وقد عمل قصيدته التي أَولها:
نَبتْ عَيْنَاكَ عن طَلَلٍ بحُزْوى ... عَفَتْهُ الريحُ وامتنح القِطَارَا
فقال: أَلا أُنجدك بأَبيات تزيد فيها! فقال: نعم. فقال:
يعدُّ النَّاسِبُونَ بني تَميمٍ ... بيوت المجْد أربَعَةً كِبَارَا
يعدُّون الرَّباب وآل تَيم ... وسعدًا ثم حنْظَلةَ الخِيارا
ويذهب بينها الْمَرْئِي لغوًا ... كما أَلغيتَ فى الدِّية الحُوارا
فوضعها ذو الرمة في قصيدته ثم مرَّ به الفرزدق فسأَله عما أَحدث من الشعر، فأَنشده القصيدة، فلما بلغ هذه الأَبيات قال: ليس هذا من بحرك، مُضيفها أَشدُّ لَحيين منك! قال: فاستدركها بطبعه، وفطن لها بلطف ذهنه.
قلت: فأَما من لم يرض من المعرفة بظاهر السِّمة دون البحث عن باطن العلة، ولم يقنع في الأًمر بأًوائل البرهان حتى يستشهد لها دلائل الامتحان، فإنه يقول إن الذي يوجد لهذا الكلام من العذوبة في حس السامع، والهشاشة في نفسه، وما يتحلى به من الرونق والبهجة التي يباين بها سائر الكلام حتى يكون له هذا الصنيع في القلوب، والتأثير في النفوس، فتصطلح من أجله الأَلْسُن على أنه كلام لا يشبهه كلام، وتَحْصَرُ الأَقوال عن معارضته، وتنقطع به الأَطماع عنها، أَمر لا بد له من سبب، بوجوده يجب له هذا
1 / 25