ولما كانت الديانة الإسلامية لا تحظر جلب المنفعة ولا درء المفسدة، وجب على رؤساء المملكة وعلمائها تنوير بصائر الناس بإيجاد السبل المؤدية للتمدن والترقي، وإعادة رونق مجد هذه الأمة لما كانت عليه أولا من التقدم والسطوة اللذين سهلا لها في أقل من جيل تعميم شريعتها في غالب الأقطار، وجعلاها أول أمة تفننت باستخراج كنوز المخبآت العلمية، مما شهد لها بذلك غالب الأمم المتمدنة الأوروباوية. لكن ما طرأ عليها في السنين المتوسطة الهجرية من الحوادث العظيمة، وتفريق الكلمة - كما سنبينه في الخاتمة - ذهب ببعض رونقها. على أنه إذا اتحدت رؤساء المملكة على استرجاع ما سلب من مجدها، تيسر لهم بأقل من قليل إعادتها إلى مركزها الأصلي التي كانت تدور عليه معارفهم الناشئة عن حسن السياسة والحكمة والتدبير وتقدمهم بين الأمم باتباعهم خطط التمدن والتقدم الحقيقيين، لا كما يتصوره بعض العامة ممن انطبعت أفكارهم على السذاجة من أنه لمجرد التبهرج والزينة بالملابس الإفرنجية، يحوز الإنسان درجات التقدم والخصال المدنية. على أن ذلك، بعكس ما تقتضيه الحال في هذين الأمرين، بل ومن الأمور التي تلقي الأوطان في وهاد التأخر والاضمحلال، فأما الأول فهو لاكتفائهم بما ذكر عن البحث في الأصول المدنية والاطلاع على ما كانت عليه هذه الأمة من الحضارة والتقدم وما آلت إليه حالها، وكيف انتفعت بها الأمم الأوروباوية بما نقلته عنها من العلوم التي نحن أحق بالتبصر فيها واستردادها.
وأما الثاني فهو عين التأخر كما ذكرنا؛ إذ إنهم يسببون بذلك رواج الأقمشة والبضاعة الأجنبية كما ينشأ عنه كساد بضاعتهم، ويضيق نطاق تجارتهم التي تتوقف على رواجها معيشة ألوف من الوطنيين، وذلك كالديباج مثلا، فإنه لا ينسج ويصير ثوبا ما لم تتداوله بالشغل عدة أيد، كمربي دود القز ومستخرج الحرير وصانع أدواته ومصلحه وصباغه وناسجه وصاقله وتاجره، إلى ما ينفع بعمله جملة أناس ربما تكون أسباب معايشهم مقصورة على هذه الصنعة؛ لأن أغلب الفقراء لا يستطيعون شغل زمن كثير بتعليم عدة كارات أو حرف؛ إذ إن أيامهم محسوبة على أهليهم فيقتصرون على تعليم صنعة واحدة كهذه مثلا، وبتعطيلها يتعطل حالهم. وفضلا عن ذلك، فإنه ينشأ عن وقوف حال التجارة الوطنية، عدم إقدام أرباب الحرف والصناعات على اختراع شكل جديد وعمل مفيد؛ نظرا لرواج البضاعة الأجنبية التي تصدهم عن اقتحام الأتعاب وتكبد المصاريف الآيلة إلى الخسارة. وبالجملة، فإن ما يترتب على ذلك من المضار قل أن يحصى، وهذا للكسل المستحوذ على بعض الأهالي، واكتفائهم من التمدن على الزينة والتبهرج كما ذكرنا، وإنكارهم كل عمل جديد مفيد للوطن بقولهم: إنه مناف للشرع، وينسبون تلك إلى المضار التي يجلبونها للبلاد بقبيح أفعالهم وسفسطة أقوالهم. ومع ذلك يجهلون أن كل أمة متمدنة تجاور أخرى غير متمدنة، توشك أن تكون فريسة لها «يعني للمتمدنة». ومن تأمل أصول الشريعة الإسلامية يجدها تحث الأمة على كل ما يدفع عنها غائلة غيرها، فكيف ونحن الآن في زمن جديد قد اتسعت فيه دائرة المعارف وقرب تواصل الأبدان والبلدان بما اخترعوه من السكك الحديدية والآلات الكهربائية والسفن البخارية، إلى غير ذلك مما سهل الأشغال وسبب رواج التجارات والتسابق إليها في الأقطار؟! فلا بأس من أخذ بعض المعارف التي ندفع بها كيد العدو، وذلك بواسطة العلماء الإسلاميين وبيانهم للناس الطرق السهلة التي لا تنافي الأصول والقواعد الشرعية كما تقدم؛ إذ إن اكتفاء غالب العامة بأمور يزعمونها عين التمدن قد أضر بمصلحة الأمة ضررا بليغا، فهم لا يتركونها ويعودون لمركزهم الأصلي ولا يتممون واجباتها ليتحصلوا على ثمرتها. قلت شعرا:
لقد كنت من هند بسوداء قلبها
تواليك بالإحسان والوصل والود
فملت إلى ليلى تحاول وصلها
فلا سمحت ليلى وأحرمت من هند
لهذا، ولما كان الغرض المقصود من هذا الكتاب هو بيان أصول التمدن الناشئ عنه عمران البلاد، وأن أول درجة من درجات التمدن اتباع ما جاء به الشرع وسنة الرسول، وأن تكون الأمة متحدة على نشر العلوم والمعارف، حائزة كمال الحرية المؤسسة على العدل، محبة للمغيرات، مستحوذة على خصال التأنيس، مجتنبة كل ما تمجه الطباع المدنية من العوائد البربرية، منضمة على كلمة الوطن وجلب ما يعود نفعه على البلاد التي يكون أساس ثروتها وسبب تقدمها العدل الذي هو حياة الممالك، اقتضى أن أبين ذلك كل باب على حدته إن شاء الله - تعالى، فأقول:
الباب الأول
في ميل الإنسان للحضارة والتقدم بالطبع وحقيقة التمدن الذي هو اتباع ما جاء به
الشرع
صفحة غير معروفة