ثم نقول ما نسبة ما عرفناه الآن منهم ببحثنا إلى ما بقي مجهولا لنا من ذلك؟ وبالجملة، فالعرب هم منبع فهومنا ومعارفنا ولم نزل إلى الآن نطلع على أشياء من مخترعاتهم التي كانت منسوبة لغيرهم كلما قرأنا كتبهم. ثم قال في شأن التمدن العربي: «إنهم كانوا في القرون المتوسطة مختصين بالعلوم من بين سائر الأمم، وانقشعت بسببهم مصائب البربرية التي امتدت على أوروبا حين اختل نظامها بفتوحات المتوحشين، ورجعوا إلى الفحص عن ينابيع العلوم القديمة ولم يكفهم الاحتفاظ على كنوزها التي عثروا عليها، بل اجتهدوا في توسيع دوائرها وفتحوا طرقا جديدة لتأمل العقول في عجائبها.»
ثم استشهد بقول إسكندر هميلط: «إن العرب خلقهم الله ليكونوا واسطة بين الأمم المنتشرة من شواطئ نهر الفرات إلى الوادي الكبير في إسبانيا وبين العلوم وأسباب التمدن، فتناولتها تلك الأمم على أيديهم؛ لأن لهم بمقتضى طبيعتهم حركة تخصهم أثرت في الدنيا تأثيرا لا يشبه بغيره، فكانوا في طبيعتهم مخالفين لبني إسرائيل الذين لا يطيقون خلطة أحد من الناس فيخالطون غيرهم من غير أن يختلطوا به ولا يتبدل طبعهم بكثرة المخالطة، ولا ينسون أصلهم الذي خرجوا منه. وما أخذت أمم ألمانيا في التمدن إلا بعد مدة طويلة من فتوحاتهم بخلاف العرب، فإنهم كانوا يحملون التمدن معهم فحينما حلوا حل معهم، فيبثون في الناس دينهم وعلومهم ولغتهم الشريفة وتهذيباتهم وأشعارهم الشهيرة التي هي أساس بني عليه «المنسنقر والتربدور».
ثم قال بعد ذلك: «ونعود الآن فنقول إنه ثبت عندنا بما صنفه العرب واخترعوه برجحان عقولهم الغريب في ذلك الوقت الذي وصل صيته إلى أوروبا النصرانية، وهذا حجة على أنهم - كما قال غيرنا ونحن نعترف به - أساتيذنا ومعلمونا.» انتهى ما نقله الوزير الأعظم خير الدين باشا عن هذين المؤرخين الشهيرين وفيه لأولي الألباب كفاية.
وما كان لهذه الأمة من سعة المعارف والتقدم في ميادين الفضل إنما كان ناشئا عن اتحاد ممالكها، وسياسة ملوكها، ووضعهم الأمور في مواضعها، واحترامهم للأصول الشرعية، وتفويضهم أزمة الأحكام لذوي الدراية والكفاية، ونظرهم في أهميات السياسة نظر العاقل الحكيم، وعدم استبدادهم في أمور الأمة، ومشاركتهم لأرباب الحل والعقد من الرؤساء والعلماء فيما ينبغي إجراؤه في أحوال المملكة وسياستها من جلب نفع أو دفع مكروه.
لا كما يتوهمه البعض من أن الملوك في صدر الدولة الإسلامية كانوا مستبدين بالأمر دون أرباب الحل والعقد، بل الأمر بخلاف ذلك، فإن مهمات السياسة والإدارة في المملكة لا يتم نظامها ما لم تطرح في ميدان التأمل والتدبر وتبدي أرباب الحل والعقد آراءهم في ذلك على مقتضى الظروف ومناسبات الحال، فإنهم على كل حال أدرى بأحوال الرعية لتردد نظرهم للناس والوقوف على ما يناسب حالهم وأطوارهم. فإن الملك ما دام ملتزما قصره دون مائة حجاب لا يتمكن من رؤية أحد إلا الوزراء والكبراء، قل أن يقف على حقيقة أطوار عامة الناس وأحوالهم، ولو مهما عرفوه بذلك وليس الخبر كالعيان. لذلك كانت سياسة الخلفاء غير خارجة عن اتحاد الآراء وإقرار العلماء والوزراء، سواء على جلب نفع أو دفع مكروه. ومما يحقق ما قلناه مسير السياسة العربية على منهج واحد وثبات ملكها وتوالي نمو نجاحها حينما كانت أمور الأمة لا تصدر عن الملك ما لم يقر عليها أرباب الحل والعقد بعد التروي والاختبار، إلى قيام المتوكل الخليفة العاشر من العباسيين (وذلك في سنة 332 هجرية)، لما أراد الاستبداد بالأمر وكسر شوكة أمراء المملكة وانفراده بمهام السياسة سبب انقسام هذه الدولة وتفرق كلمتها، إلى أن نشأ عن ذلك ضياع الملك من أيدي العباسيين وخراب البلاد وتشتت الكلمة، وذلك بأن استدعى من أمراء الأتراك ورعاعهم من سلمهم قيادة الجيوش وولاهم الحرس وسلم بعضهم أزمة الأحكام وقربهم منه وأدناهم وأبعد أمراء العرب وصادرهم، ومنهم من قتله كالوزير محمد بن عبد الملك الزيات فإنه أخذ جميع ماله وعذبه في السجن ثم قتله شر قتلة، وقوى شوكة هؤلاء الأغراب إلى أن صارت بيدهم مفاتيح الأمور، وعظم محلهم في قلوب الناس لما رأوا من مكانتهم من الخليفة، حتى خالفوا الأحكام ومدوا يد التعدي على الناس، وأول ما فتكوا بعد تمردهم كان بنفس الخليفة المتوكل وهجموا عليه في مجلسه ليلا يتقدمهم أحد أمرائهم المدعو ببغى الصغير وهبروه بالسيوف ثم أقيمت بعده البيعة لابنه المنتصر.
ثم أخذت أمور الخلافة السياسية بالانحطاط وتراجعت تلك الأمة عن مركزها الأصلي إلى الوراء عندما عظمت شوكة الأغراب، وتلاعبت بالملك يد الأغراض والأهواء واستبد الأمراء بالأطراف، وأوجب الأمر واختلاف الآراء إلى انقسام هذه الدولة إلى عدة دول لا محل لذكرها هنا ما بين أمير مستقل وعاص مستبد وملك متغلب، إلى غير ذلك من الانقلابات التي كان سبب منشئها التفريط وحب الاستبداد بالأمر وتداخل يد الأغراب بالملك. على أن أول انقسام حصل في دول الإسلام انقسامها إلى ثلاث: العباسيين في بغداد، والعلويين في مصر، والأمويين في الأندلس - أي: الغرب - لكن كانت كل دولة قادرة حينئذاك على الاستحصال على أسباب التقدم والفتوحات والمدافعة عن الملك، إنما الخلل الذي طرأ عليها وسبب تلاشيها هو انقسام الانقسام أيضا في المشرق، وأما الغرب فإنها صارت أشبه بملوك الطوائف بعد ما نالت في زمن الأمويين من العز والمنعة والتقدم في المعارف ما طبق بصيته الآفاق، ثم ترتب على انقسامها سقوط الأندلس من يد المسلمين.
وفضلا عن تلك الانقسامات، وبينما جروح هذه الأمة تقطر بالدم وما اندملت بعد من جرا هذه الانقلابات؛ إذ دهمها هلاكو بجيوش التتار سنة 655 هجرية فخرب ممالك الإسلام وانقرضت عن يده الخلافة العباسية في بغداد، وكان آخرها المستعصم، ثم تلا ذلك نكبة تيمور التي فعلت بالممالك الإسلامية ما سود صحف التاريخ بذكره الشنيع، وأفقد الإسلام بقية ما كان لهم إثر تلك الأهوال من الصنائع والمعارف ودرس أعلام الفضل وذهب بأرباب الفنون إلى بلاده فيما وراء النهر.
ثم في أثناء ذلك صدم المسلمين تيار أعظم من ذلك وأشد، وهي الحروب الصليبية التي دامت حروبها في الشرق متواترة، وجيوش الإفرنج إليها متقاطرة مدة جيلين، حتى هلكت العباد وضاق بالناس الزرع وتعطلت أسباب العمران، إلى أن سخر الله رجال الدولة الأيوبية التي أطفأت تلك الفتنة العظيمة، وانتهى من ثم الخصام بعد مواقع وحروب بين المسلمين والإفرنج، دارت بها الدائرة أخيرا على الإفرنج، وطردهم المسلمون من الشرق وارتاحت بعدها نوعا الخلق.
فهذه كانت عاقبة الانقسام وتعدي السلاجقة على النصارى والأجانب الزوار جلب هذه الحرب العظيمة التي كانت سببا لفقدان أعظم المعارف الإسلامية، ووسيلة توصل بها الإفرنج إلى أسباب التمدن والوقوف على المعارف الإسلامية بكثرة المخالطة التي أدتهم إليها هذي الحرب العظيمة.
ثم بعد تلاشي واضمحلال دول الخلفاء وغيرهم من ملوك العرب، ما زالت الدول التي تشعبت بعدها في صعود وهبوط إلى أن تأسست سنة 699 الدولة العثمانية وضمت إليها جميع الممالك الإسلامية المتفرقة وأحسنت السياسة مع الناس وسارت أمور ملكها على قدم النجاح باحترام ملوكها للأصول الشرعية، وردت للعالم الإسلامي روح القوة والمجد. ولم تزل إلى الآن صاحبة السيادة في كل مكان ومن مشاهير ملوكهم السلطان سليمان. ثم لما أفضت الخلافة في وقتنا هذا إلى السلطان ابن السلطان السلطان الغازي عبد الحميد خان أشرقت شمس الخلافة في برج جديد، وقوم هذا الملك العادل أود ممالكه بما سنه من القوانين العدلية وبث أسباب التمدن وروح العلوم والمعارف بين الناس، ولم يزل أدام الله سلطانه باذلا جهده في تقدم ممالكه المحروسة بما يجريه فيها من الإصلاحات والتنظيمات وإنشاء المدارس وتعميم المعارف رغما عن مقاومة المكابرين، وما يحول دون ذلك من الصعوبات مما هو مشاهد بالعيان وما يؤمل به تقدم ممالكه إلى درجة الكمال من التمدن والعمران أيد الله سرير سلطنته وشيد بالعز أركانها ونصر مدى الزمان أعوانها. ا.ه.
صفحة غير معروفة