بيان العلم الأصيل والمزاحم الدخيل

عبد الكريم الحميد ت. غير معلوم

بيان العلم الأصيل والمزاحم الدخيل

الناشر

بدون ناشر فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية

رقم الإصدار

الأولى

سنة النشر

١٤٢٤ هـ

مكان النشر

الرياض

تصانيف

بيان العلم الأصيل والمزاحم الدخيل تأليف الشيخ عبد الكريم بن صالح الحميد حفظه الله

صفحة غير معروفة

المقدمة الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين .. ... أما بعد .. فهذا كتاب في بيان علم أتْباع الرسول ﷺ والمراد منه وبيان ما يفسده من العلوم المزاحمة المضادة والمُضْعفة، مَن تدبّره والحكمة ضالّته عرف داء الأمة الأعظم، وأنه الممزوج بدوائها وأنها لبست لباس الذلّة والهوان لما تلاشت ميزتها الحقيقية التي تنفرد بها ظاهرًا وباطنًا وأن الأصل في ذلك التفرّد والتميّز هو العلم ذاته والمراد منه وكيفية طلبه، وأن مخالفة الطريقة السلفية في ذلك هي التي آلت بنا إلى ماصِرْنا إليه. ولقد أوْهن علم الأمة مزاحم مضعف ومُفْسد مُتْلف وإرادة دنيا ورئاسة فانقلبت الموازين بتعظيم الباطل وإهانة الحق، وانجرّ على الأمة بسبب ذلك بلاء عظيم من فساد اعتقاد وانحلال أخلاق واستهانة بالدين أعظم أسبابه التفريط في توحيد المتابعة لرسول الله ﷺ وعدم الإكتفاء بما أتى به وعدم الإخلاص في ذلك، وفي هذا الكتاب بيان للعلم ماهو والعلماء من هم ليظهر الفرق فيما التبس على الأمة اليوم بشأن العلم والعلماء وشأن المراد من العلم، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.

1 / 3

النية في العلم التي يصدّقها العمل قال تعالى: ﴿من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وماله في الآخرة من نصيب﴾. وقال تعالى: ﴿من كان يريد العاجلة عجلنا له فيه ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذمومًا مدحورًا. ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورًا﴾. في هذه الآيات البيان الواضح للأساس والأصل الذي به تزكوا الأعمال وتثمر وهو الإخلاص للمعبود سبحانه بالعلم والعمل ولا يكون ذلك إلا بمتابعة الرسول ﷺ فلابُد من شَرْطَيْ الإخلاص والمتابعة. كذلك فإن فيها البيان الواضح لِبَوَار الأعمال وفسادها بفساد هذا الأصل، وطريقة التعليم في وقتنا لا يستقيم معها إخلاص ولا متابعة كما سيتبين. وفي صحيح مسلم وغيره عن أبي هريرة ﵁ قال في حديث طويل يرفعه إلى النبي ﷺ: (ورجل تعلم العلم وعلّمه وقرأ القرآن فأُتِي به فعرّفه نعمه فعرفها فقال: ما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلّمته وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت ولكنك تعلمت ليقال: عالم

1 / 4

وقرأت القرآن ليقال: هو قارئ فقد قيل ثم أُمر به فسُحب على وجهه حتى أُلقي في النار) الحديث. أنظر كيف أفسدت النية والإرادة العمل. عن ابن عمر قال: قال رسول الله ﷺ: (من تعلم علمًا لغير الله أو أراد به غير الله فليتبوأ مقعده من النار). (١) العلم والتعليم في وقتنا لايخرج عن معنى هذا الحديث فلينظر الموفق مَوَاضِع أقدامه، فمن لم يحاسب نفسه في حياته فالحساب بعد موته أمامه. وعن جابر قال: قال رسول الله ﷺ: (لا تتعلموا العلم لتباهوا به العلماء ولا لتماروا به السفهاء ولا تجتروا به المجالس فمن فعل ذلك فالنار النار). (٢) تأمل هذه الأحاديث يتبين لك أن شرط العلم والتعلّم ثقيل. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: (من تعلم علمًا مما يُبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضًا من الدنيا لم يجد عِرْفان الجنة يوم القيامة). (٣) العلم الذي يبتغى به وجه الله هو علم الكتاب والسنة فإذا وُجِّهَ لِتُصاب به أعراض الدنيا جاءت العقوبة وحرمان المثوبة.

(١) أخرجه الترمذي وابن ماجه. (٢) أخرجه ابن ماجه وابن حبان في صحيحه. (٣) أخرجه أبو داود وابن ماجه وابن حبان في صحيحه والحاكم.

1 / 5

قال النبي ﷺ في حديث أبي موسى الأشعري: (ما ذئبان جائعان أرسلا في حظيرة غنم بأفسد لها من حب المال والشرف لدين المرء). (١) أعلم أن علوم الوقت منظّمة ومرتبة لتُفْضي إلى هذه المطالب السفلية المال والشرف وقد بيّن هذا الحديث عقوبة ذلك. وعن أبي بن كعب قال: قال رسول الله ﷺ: (بشّر هذه الأمة بالسّنا والتمكين في البلاد والنصر والرفعة في الدين ومن عمل منهم بعمل الآخرة للدنيا فليس له في الآخرة نصيب) صححه ابن حبان. وعن كعب بن مالك ﵁ قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: (من طلب العلم ليُجاري به العلماء أو ليماري به السفهاء ويصرف به وجوه الناس إليه أدخله الله النار). (٢) تأمل كيف صار صرف وجوه الناس إلى الشخص لشهادته مطلبًا أسمى وغاية عظمى واحذر ماوقعتَ فيه بلا شعور، وفيما تقدم من نصوص الكتاب والسنة بيان صدق مقالة: (من ضَيّع الأصول حُرِم الوصول). قال النبي ﷺ: (يتقارب الزمان وينقص العلم وتظهر الفتن ويكثر الهرج قيل يارسول الله: أيْمَ هو؟ قال: القتل القتل. قال: أبو حاتم في

(١) قال الترمذي: حسن صحيح. (٢) أخرجه الترمذي وابن أبي الدنيا والبيهقي وغيره.

1 / 6

هذا الخبر كالدليل على أن مالم ينقص من العلم ليس بعلم الدين في الحقيقة إذ أخبر المصطفى ﷺ أن العلم ينقص عند تقارب الزمان وفيه دليل على أن ضد العلم يزيد وكل شيء زاد مما لم يكن مرجعه إلى الكتاب والسنة فهو ضد العلم. إنتهى. مقدمة المجروحين لابن حبان ص١٢. وانظر الآن مازاد في العلم مما لم يكن مرجعه إلى الكتاب والسنة. ورحم الله من قال: وما أحسن العلم الذي يُورث التّقى ومَن لم يزدْهُ العلم تقوى لِرَبهِ وما العلم عند العالمين بَحَدِّه ومن أعظم التقوى النصيحة إنها فلِله فانصحْ بالدعاء لِدينه فكُن تاليًا آيَ الكتاب مُدَاويًا ... بِهْ يُرْتَقى في المجد اعلى سمائهِ فلم يُؤتَهُ إلا لإجل شقائه سِوى خشية الباري وحُسْن لقائه من الدين أضحتْ مثل أُسِّ بنائه وطاعته مَعْ خوفه ورجائه بها كل داءِ فهي أرْجى دَوائه

1 / 7

بيان السلف للعلم والإخلاص فيه عن سفيان بن عيينه قال: قالت أم طلْق لابنها طلْق: ما أحسن صوتَك بالقرآن فَلَيْتَه لا يكون عليك وبالًا يوم القيامة، فبكى حتى غُشِيَ عليه. إنتهى. هكذا تكون مراقبة الإله بإخلاص القول والعمل، والخوف من الوقوع في الخطأ والزلل، إنه لا يكفي صوت جميل، لتلاوة التنزيل، فالشأن بالإخلاص للجليل، وفي زماننا يُظن أن تحصيل الشارات والمناصب كاف للزكاء شاهد بالتقى. قالت ابنة أم حسّان الأسدية لسفيان الثوري: ياسفيان كفى بالمرء جهلًا أن يُعجب بعلمه، إنتهى. يقولون: الإعجاب حجاب، وينشأ من اسْتكثار العمل واسْتحسانه جهلًا بمعرفة رب الأرباب، قال يحيى بن معاذ الرازي: عملٌ كالسّراب، وقلب من التقوى خراب، وذنوب بعدد الرمل والتراب. ثم تطمع في الكواعب الأتراب، هيْهات أنت سكران بغير شراب، ما أكملك لو بادرت أمَلَك، ما أجَلَّك لو بادرت أجلك، ما أقواك لوْ خالفت هواك.

1 / 8

قال الشافعي: إذا خِفْت على عملك العُجْب فاذكر رضى من تطلب، وفي أي نعيم ترغب، ومن أيّ عقاب ترهب فمن فكّر في ذلك صَغُرَ عنده عمله. انتهى. أقبل عيسى بن مريم ﵇ على أصحابه ليلة رُفع فقال لهم: لا تأكلوا بكتاب الله فإنكم إن لم تفعلوا أقعدكم الله على منابر الحجر منها خير من الدنيا وما فيها، قال عبد الجبار: وهي المقاعد التي ذكر الله في القرآن: ﴿في مقعد صدق عند مليك مقتدر﴾ (١) انتهى. لقد أصبح الأكل بكتاب الله في زماننا هذا حِرْفة وصنعة وتجارة وبضاعة، ولم تكن على هذا القرون المفضلة ولذلك فارقنا عِزَّنا بمفارقة طريقهم، ومن ابتغى العز بغير القرآن أذله الله، وما نزل القرآن لِيُتأكّل به ويكون مفتاحًا من مفاتيح الدنيا. قيل للإمام أحمد: إن ابن المبارك قيل له: كيف يُعرف العالِم الصادق؟ فقال: الذي يزهد في الدنيا ويُقبل على أمر الآخرة، فقال أحمد: نعم، هكذا ينبغي أن يكون، وكان أحمد ينكر على أهل العلم حب الدنيا والحرص عليها. (٢) انتهى. لقد صار العلم في زماننا من موجبات حب الدنيا والحرص عليها.

(١) الزهد لابن المبارك، ص٥٠٧. (٢) شرح حديث أبي الدرداء في طلب العلم لابن رجب، ص٥٤.

1 / 9

قال الفضيل بن عياض: سُئل ابن المبارك: مَن الناس؟ قال: العلماء، قيل: فمن الملوك؟ قال: الزّهّاد. قيل: فمن السّفلة؟ قال: الذي يأكل بدينه. انتهى. ولقد أصبح الأكل بالدين في وقتنا فضيلة فيها يتنافس المتنافسون، والويل للمتخلف عن هذا الركب فهو عندهم خاسر مغبون. قال أبو حازم: أدركنا العلماءَ والأمراءُ والسلاطينُ يأتون فيقفون على أبوابهم كالعبيد حتى إذا كان اليوم رأينا العلماء والفقهاء والعبّاد هم الذين يأتون للأمراء والأغنياء، فلما رأوا ذلك منهم ازْدَرَوْهُمْ واحتقروهم وقالوا: لوْلا أن الذي بأيدينا خير مما بأيديهم مافعلوا ذلك معنا. انتهى. أنظر مايفعل أهل الوقت بالعلم. وقال: إن بني إسرائيل لما كانوا على الصواب كانت الأمراء تحتاج إلى العلماء، وكانت العلماء تفرّ بدينها من الأمراء، فلما رأى ذلك قوم من رَذَلَة الناس تعلموا ذلك العلم وأتوْا به إلى الأمراء فاسْتغنت به عن العلماء، واجتمع القوم على المعصية فسقطوا وانتكسوا، ولوْ كان علماؤنا يصونون علمهم لم تزل الأمراء تهابهم. انتهى. أنظر مانحن فيه وكيف انفتحت علوم على الأمة ما كانوا يعرفونها فشغلتهم عما خُلقوا له وأفسدت علمهم الحقيقي. وقال: إذا كنت في زمان يُرضى فيه بالقول عن العمل فأنت في شَرّ

1 / 10

ناس وشَرّ زمان. انتهى. تأمّل الامتحانات وأنه يُكتفى فيها بالقول عن العمل فليس العمل بشرط وإنما تحصل التزكية بتعبئة الأوراق. قال مالك بن دينار: إذا تعلم العبد العلم ليعمل به كثر علمه وإذا تعلم لغير العمل زاده فجورًا وتكبّرًا واحتقارًا للعامّة. انتهى. أنظر كيف أصبح العلم اليوم حِرْفة وصَنْعة وتجارة. وقال وهب بن منبه: إن للعلم طغيانًا كطغيان المال. وقال: قد أصبح علماؤنا يبذلون علمهم لأهل الدنيا لينالوها منهم فهانوا في أعينهم وزهدوا في علمهم فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. انتهى. انظر نتائج الدنيا بالعلم. وأقبل على عطاء الخراساني فقال: ويحك تحمل علمك إلى أبواب الملوك وأبناء الدنيا، تأتي من يغلق عنك بابه ويُظهر لك فقره ويُوَاري عنك غناه، وتَدَع من يفتح لك بابه ويُظهر لك غناه ويقول: ﴿ادعوني استجب لكم﴾ إرْض بالدون من الدنيا مع الحكمة ولا ترضى بالدون من الحكمة مع الدنيا، إذا كان يغنيك ما يكفيك فأدنى ما في الدنيا يكفيك وإن كان لا يغنيك ما يكفيك فليس في الدنيا شيء يكفيك، إنما بطنك بحر من البحور وَوَاد من الأودية وليس يملأه إلا التراب. انتهى.

1 / 11

إنه متقرر عند السلف أن فساد العلم أن تُطلب به الدنيا لأن ذلك خلاف المراد منه. وقال كعب الأحبار: يوشك أن تَرَوْا جُهال الناس يتباهوْن بالعلم ويتغايرون على التقدم به عند الأمراء كما يتغاير النساء على الرجال فذلك حظهم من علمهم. إنتهى. سَمّاهم جهالًا مع مامعهم من العلم لِوَضْعهم العلم في غير موضعه. قال سفيان الثوري: إذا فسد العلماء فمن يصلحهم؟ وفسادهم ميْلهم إلى الدنيا، وإذا جَرَّ الطبيب الداء إلى نفسه فكيف يداوي غيره؟ إنتهى. الميْل إلى الدنيا داء العلماء فتأمل زماننا وكيف أن الأطباء يجرّون الداء إلى نفوسهم. وكان يقول: لوْ علمتُ من الناس أنهم يريدون بالعلم وجه الله لأتيت إلى بيوتهم فعلمتهم ولكن يريدون به مجاراة الناس وأنْ يقولوا حدثنا سفيان. إنتهى. وهذا فيه أن طلب الشهرة بالعلم يفسده، ولابد من الإخلاص في طلب العلم الشرعي. وكان يقول: إنما يُطلب العلم ليتقي به وجه الله ﷿ فمن ثم فُضِّل على غيره ولوْلا ذلك لكان كسائر الأشياء. انتهى.

1 / 12

إذا طُلبت الدنيا بالعلم صار كأي فن من الفنون أوصَنْعة من الصنائع فلا يكون له فضل على غيره كما هو حاصل. ونصح سفيان يومًا إنسانًا رآه في خدمة الولاة، فقال: ما أصنع بعيالي؟ فقال سفيان: ألا تسمعون إلى هذا يقول: إنه إذا عصى الله رزق عياله وإذا أطاع الله ضيّعهم، ثم قال: لا تقتدوا قط بصاحب عيال لا يسلم من التخليط وعذره دائمًا في أكل الشبهات والحرام قوله عيالي. إنتهى. يُقاس على هذا سائر المعاذير الزائفة مثل: كيف نترزق ومثل: لوْ تخلينا حصل كذا وكذا. وقال: إذا رأيتم العالِم يلوذ بباب السلاطين فاعلموا أنه لِص، وإذا رأيتموه يلوذ بباب الأغنياء فاعلموا أنه مُرَاءٍ. انتهى. لابد للعلم من الصيانة وإلا وقع الخلل بالديانة. واليوم لا يحتاج العلماء للياذ بالأبواب فالأموال تأتيهم بدون ذلك وسُئل عن الغوْغاء فقال: هم الذين يطلبون بعلمهم الدنيا. انتهى. ليُعلم أن أمور زماننا مخيفة ونحن مصابون مع عدم شعور بالمصيبة. وقال: ولوْ أن أهل العلم أخلصوا فيه ما كان من عمل أفضل منه. انتهى. كيف يتفق إخلاص في العلم مع طلب الدنيا والرئاسة؟

1 / 13

وقيل له: ألا تدخل على الولاة فتتحفّظ وتعظهم وتنهاهم؟ فقال: تأمروني أن أسبح في البحر ولا تبتلّ قدماي، إني أخاف أن يُرحّبوا بي فأميلُ إليهم فيحبط عملي. انتهى. أنظر كيف خاف الميل إليهم مع التحفّظ والوعظ فما حال من ليس كذلك.؟ قال الفضيل بن عياض لسفيان بن عيينه لما أخذ من البرامكة: كنتم معاشر العلماء سُرُجًا للبلاد يُسْتضاء بكم فصرتم ظُلْمة، وكنتم نجومًا يُهْتدى بكم فصرتم حَيْرة. أما يستحيي أحدكم من الله إذا أتى هؤلاء الأمراء وأخذ من مالهم وهو يعلم من أين أخذوه ثم يُسْند ظهره إلى محرابه ويقول: حدثني فلان عن فلان، فطأطأ سفيان رأسه وقال: نستغفر الله ونتوب إليه. وكان الفضيل يقول: عالِم الآخرة علمه مستور وعالم الدنيا علمه منشور فاتبعوا عالم الآخرة واحذروا عالم الدنيا أن تجالسوه فإن يفتنكم بغروره وزخرفته ودَعْواه العلم من غير عمل، والعالِم مَن صَدَق. انتهى أنظر في وقتنا الشارات التي يسعون لها والرموز وأن ذلك هو معنى قوله: (علمه منشور) وتأمل قوله عن عالم الدنيا: يفتنكم بغروره وزخرفته، وأن هذا مطابق في زماننا لمن ملئوا الأرض الذين جعلوا العلم وسيلة للدنيا وكم يزخرفون أقوالهم يغرون بها من ينتقدهم فيقولون:

1 / 14

نصلح، ولا ندع المجال للمفسدين، ونحو ذلك من الغرور والشبه التي هي ثمرة شهوة المال والرئاسة، فاتفقت شهوة بشبهة. وكان يقول: لو أن أهل العلم زهدوا في الدنيا لخضعت لهم رقاب الجبابرة وانقادت الناس لهم، ولكن بذلوا علمهم لأبناء الدنيا ليصيبوا بذلك مما في أيديهم فذلّوا وهانوا على الناس. انتهى أنظر كيف يأتي الذل والهوان إذا بُذِل العلم لأجل الدنيا فقط، كيف مع التخليط والتخبيط. وقال: ومن علامة الزهاد أن يفرحوا إذا وُصِفوا بالجهل عند الأمراء ومَنْ دَاناهم. أنظر انعكاس الأحوال وكيف يعرضون شاراتهم ورموزهم بالعلم عرضًا على من يطمعون بحصول الدنيا والمناصب عندهم. وقال: لأَنْ أطلب الدنيا بطبل ومزمار أحبُّ إليّ من أطلبها بالعبادة. إنتهى من المعلوم أن العلم عبادة وانظر كيف تُطلب به الدنيا. قال عبد الله بن المبارك: مِنْ شرط العالم أن لا تخطر محبة الدنيا على بالِه. وقيل له: مَن سفلة الناس؟ قال: الذين يتعيّشون بدينهم.

1 / 15

وكان يقول: كيف يدّعي رجل أنه أكثر علمًا وهو أقَلّ خوفًا وزهدًا. تأمل رحيل الخوف ممن يدّعون العلم إلا ماشاء الله، أما الزهد فلا تسأل عنه في زماننا. فقد أصبح رواية بل صار عند كثيرين منقصة ومهزلة. وكان يتمثل بهذه الأبيات: وهل أفسد الدين إلا الملوك لقد رَتع القوم في جيفة ... وأحبار سوء ورهبانها يبين لِذى اللبّ أنتانها وكان يقول: عجبت لطالب العلم كيف تدعوه نفسه إلى حب الدنيا مع إيمانه بما حمله من العلم. وكان يقول: أطلبو العلم للعمل فإن أكثر الناس قد خلّطوا حتى صار علمهم كالجبال وأعمالهم كالذّر. قال بشر بن الحارث: طلب العلم يدل على الهرب من الدنيا لا على حبها. تأمل علم الوقت كيف يدل على التنافس على الدنيا وتحصيلها لا على الهرب منها.

1 / 16

وقال بشر بن الحارث: كان العلماء مَوْصوفون بثلاثة أشياء، صدق اللسان وطيب المطعم وكثرة الزهد في الدنيا، وأنا لا أعرف اليوم واحدًا من هؤلاء فيه واحدة من هذه الخصال فكيف أعْبَأُ بهم أوْ أبُشُّ في وجوههم، وكيف يَدّعي هؤلاء العلم وهم يتغايرون على الدنيا ويتحاسدون عليها ويجرحون أقرانهم عند الأمراء ويغتابونهم. كل ذلك خوفًا أن يميلوا إلى غيرهم بِسُحْتِهِمْ وحطامهم، وَيْحكم ياعلماء أنتم ورثة الأنبياء وإنما ورّثوكم العلم فحملتموه ورغبتم عن العمل به وجعلتم علمكم حِرْفه تكسبون بها معاشكم أفلا تخافون أن تكونوا أول من تسعّر به النار؟ أنظر قوله: وجعلتم علمكم حرفة تكسبون بها معاشكم، أفلا تخافون أن تكونوا أول من تُسعّر به النار وتأمل وقتنا وكيف صار العلم فيه حِرْفة يُكسب بها المعاش. قال ذو النون المصري: ولولا نقص دخل على أهل الحديث والفقه لكانوا أفضل الناس في زمانهم. ألا تراهم بذلوا علمهم لأهل الدنيا يستجلبون به دنياهم فحجبوهم وأنكروا عليهم وافتتنوا بالدنيا لِما رَأوْا من حِرص أهل الحديث والمتفقهن عليها فخانوا الله ورسوله، وصار إثم كل من اتبعهم في عنقهم، جعلوا العلم فخًّا للدنيا وسلاحًا يكسبون به بعد أن كان سراجًا للدين يُسْتضاء

1 / 17

به. انتهى. أنظر وتأمل أن العلم هو السراج للدين فإذا صار سلاحًا لكسب الدنيا وفخًا تُصاد به صار ذلك خيانة لله ولرسوله، وتأمل ضرر الاقتداء بهم واتباعهم في ذلك، ولأن الإستدلال بالفعل أقوى من الإستدلال بالقول فإن الطبيب إذا أمَرَ بالحمْية ثم خلّط لم يُلتفت إلى قوله، هكذا قال العلماء. وقال: العجب كل العجب من هؤلاء العلماء كيف خضعوا للمخلوقين دون الخالق وهم يدّعون أنهم أعلى درجة من جميع الخلائق. انتهى قال يحيى بن معاذ الرازي: من لم ينتفع بأفعال شيخه لم ينتفع بأقواله. وقال محمد بن خفيف: عليك بمن يعظك بلسان فعله ولا يعظك بلسان قوله. ولذلك يقال: إذا زل العالِم زَلّ بزلته عالَم. قال ابن رجب: واعلم أنه إنما أهلك أهل العلم وأوْجب إساءة ظن الجهال بهم وتقديم جهال المتعبدين عليهم مادخل عليهم من الطمع في الدنيا، وقد رأى علي ﵁ رجلًا يقصّ، فقال له: لأسألنك مسألة فإن خرجت منها وإلا علوّتك بالدرّة، فقال له: سَلْ يا أمير

1 / 18

المؤمنين، فقال: ما ثبات الدين وزواله؟ فقال له: ثبات الدين الورَع وزوَاله الطمع، فقال له: قُص فمثلك يقص. (١) قال سري السقطي: كيف يستنير قلب الفقير وهو يأكل من مال مَن يَغُشّ في معاملته. انتهى المراد بالفقير هنا السالك إلى الله إذْ أن أهمّ شيء ينبغي أن يهتم به هو النظر في مَأْكَله فمدار استنارة القلب وطمأنينته عليه، ولقد كان اهتمام السلف بذلك كبير، ورعايتهم له عظيمة. قال ذو النون المصري للعلماء: أدْركنا الناس وأحدهم كلما ازداد علمًا ازداد في الدنيا زهدًا وبغضًا وأنتم اليوم كلما ازداد أحدكم علمًا ازداد للدنيا حبا وطلبًا ومزاحمة. انتهى وإن أمر زماننا مكشوف لا يحتاج إلى بيان حيث انعكس الأمر عما كان عليه السلف، ولذلك قَلَّ تأثير العلم في القلوب. وقال ذو النون المصري للعلماء: أدركناهم وهم ينفقون الأموال في تحصيل العلم وأنتم اليوم تنفقون العلم في تحصيل المال. انتهى إن مثل هؤلاء كمن يسْتبدل بَعْرة بِدُرَّة، بل أعظم من ذلك، فالعلم إذا أُنفق لتحصيل المال والرياسة صار كَوَادٍ أُجْرِيَ في غير مجراه الذي يُنتفع به فأهلك الحرث وهدم البناء.

(١) شرح حديث أبي الدرداء، ص٥٤.

1 / 19

وقال: والله لقد أدركت أقوامًا فساقًا كانوا أشدّ إبقاءًا على مروءاتهم من قراء أهل هذا الزمان على أدْيانهم. وقال: ليس بعاقل من تعلم العلم فعُرِفَ به ثم آثر بعد ذلك هواه على علمه. انتهى إيثار الهوى طلب الدنيا بالعلم والدين لأن العلم والدين تُطلب بهما الآخرة. وقال عن العلماء: واتخذوا العلم شبكة يصطادون بها الدنيا. انتهى إنه مُتقرّر عند السلف قبح هذا الفعل. وقال بعضهم: علماء السوء أضر على الناس من إبليس لأن إبليس إذا وسْوس للمؤمن عرف المؤمن أنه عدو مضل مبين فأخذ في التوبة من ذنبه واستغفر. وعلماء السوء يفتون الناس بالباطل ويزيدون الأحكام على وِفْق الأغراض والأهواء بزيغهم وجدالهم. فمن أطاع كان من ﴿الأخسرين أعمالًا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا﴾. فاستعذ بالله منهم واجتنبهم وكن مع العلماء الصادقين. إنتهى. وأين السلف مما نحن فيه اليوم من جَرّاء علماء السوء وما أحدثوا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، ولقد صار تقليدهم والإغترار بهم فتنة

1 / 20

لكل مفتون. قال جعفر الصادق: الفقهاء أُمَناء الرسل مالم يأتوا أبواب السلاطين. انتهى. قال أبو رزين: مثل قراء هذا الزمان مثل درهم زيْف حتى يمرّ بالجهبذ فيبدو زَيْفَه. انتهى قال الحسن البصري: الطمع يشين العالِم، وكان يحلف بالله: ما أعَزّ أحد الدرهم إلا أذَلّة الله. انتهى العجب أننا نسير دون أن ننظر مَوَاقِع اقدامنا. قال بعض السلف: علماء السوء جلسوا على باب الجنة يدعون إليها الناس بأقوالهم ويدعونهم إلى النار بأفعالهم فكلما قالت أقوالهم للناس هلموا قالت أفعالهم لا تسمعوا منهم فلو كان مادعوا إليه حقًا كانوا أول المستجيبين له، فهم في الصورة أدلاّء وفي الحقيقة قطاع طريق. انتهى. السّرّ في ذلك أن المطلوب من العالِم أن يكون عاملًا بالعلم ليصلح به الاقتداء ويحصل به الاهتداء. قال ميمون بن مهران: يا أصحاب القرآن لا تتخذوا القرآن بضاعة تلتمسون به الربح في الدنيا أطلبو الدنيا بالدنيا والآخرة بالآخرة. انتهى قال أبو بكر الآجري في صفة العالِم أنه لا يطلب بعلمه شرف منزلة

1 / 21