ولما وصل الاتفاق إلى إستامبول حاول سفير إنكلترا إحباطه، وانقاد إليه الباب العالي، ولكن سفراء النمسا وروسيا وبروسيا ألحوا بوجوب تنفيذه. وفي 10 يناير 1841 قدموا للباب العالي النصيحة بأن يمنح محمد علي حكم مصر بالتوارث في ذريته، فماطل الباب العالي وسوف، واضطرهم إلى أن يقدموا له مذكرة رسمية في 30 يناير قالوا فيها:
إن الدولة تطلب من عظمة السلطان أن يظهر بمظهر السماحة نحو محمد علي، لا لإبطال قرار خلعه من الحكم فقط، بل بالوعد فوق ذلك بأن يكون خلفاؤه في الحكم من سلالته من الذكور على التوالي كلما خلا منصب الحكم بوفاة الحاكم.
والدول الأربع التي تبذل نصيحتها للباب العالي بأن يمنح محمد علي هذه المنحة لا تبدي رأيا جديدا، بل هي تذكر فقط عظمة السلطان بالنيات التي أعرب عنها من تلقاء نفسه عند بدء الأزمة الشرقية، وهي النيات التي كانت أساسا لاتفاق 15 يونيو سنة 1840.
وفوق ما تقدم، أن الدول الأربع ببذلها النصيحة للباب العالي وبتكرارها النصيحة بهذه المذكرة، تعتقد بأنها لا تنصحه بأن يعمل ما يخالف حقوق السيادة أو سلطة السلطان الشرعية، ولا اتخاذ وسائل مخالفة لواجبات باشا مصر كتابع لعظمة السلطان يدعوه عظمته لأن يحكم باسمه إحدى ولايات السلطنة. وهذه الحقيقة ليست مثبتة فقط بالمواد 3 و5 و6 من الفصل المفرد الملحق باتفاق 15 يوليو، بل هي مثبتة أيضا بتعليمات الدول إلى سفرائهم في إستامبول عقيب مباحثات 15 أكتوبر. وفي الواقع أنه منصوص في الميثاق المشار إليه أن جميع المعاهدات وجميع قوانين السلطنة العثمانية الحاضرة والمستقبلة تنفذ في باشاوية مصر كما تنفذ في الولايات العثمانية الأخرى.
وهذا الشرط الذي تعتبره الدول الأربع لازما لا مندوحة عنه، هو في نظرهم الصلة الوثيقة التي تربط مصر بتركيا وتبقيها شطرا منها غير منفصل عنها. وفي الفقرة السادسة من الميثاق ذاته أن القوات البرية والبحرية التي تؤلفها مصر والتى تكون شطرا من قوات السلطنة، يجب أن تحسب معدة للخدمة العامة. ا.ه.
فهذه المذكرة التي جعلت مسألة مصر دولية، اضطرت الباب العالي أن يصدر في 13 فبراير فرمانا يبسط المبادئ الواردة في هذه المذكرة ويؤيدها.
أما إبراهيم باشا، فإنه رأى بعد سفر الأمير بشير من لبنان وحلول أمير آخر محله، وقد جمع أربعة آلاف رجل لمقاتلة جيشه وقطع مواصلاته، أمر قواده بالانسحاب من أنحاء لبنان إلى زحلة والرياق، فاجتمع من ذلك الجيش نحو 15 ألفا، وأرسل المرضى والعاجزين عن القتال إلى دمشق، ووقف الأمير بشير قاسم ورجاله في حمانا إلى أن يرسل الحلفاء إليه النجدات والسلاح، مخافة أن ينقلب جيش إبراهيم باشا لسحقه وتبديد شمل رجاله. ولكن جيش إبراهيم لم يكن يرغب ذلك بعدما انتهى من قتال الثوار في كسروان والمتن والقاطع، وأحرق في مروره بكسروان بقعاتا وميروبا ووطا الجوز وحراجل وفاريا وفيترون، وأحرق في المتن عين علق وبيت شباب. ولم يتعرض لقرية بكفيا؛ لأن الشيخ حردان الجميل وفياض علوان من مشائخ بكفيا قصدا إليه وهو في المروج، فعرضا عليه خضوع أهل بلدتهم، فأمر بالعفو عن بكفيا.
وتدل جميع الظواهر على أن انكفاف إبراهيم باشا عن لبنان وعدم تعرضه للحلفاء في السواحل وتركهم وشأنهم، كان يقصد منه تدبير الجلاء عن سوريا؛ لأنه قبل وصول والده إلى الاتفاق مع الأميرال نابيير وقبل وصول أمر والده إليه بالجلاء جمع جيشه في دمشق، وأخذ يعد الأهبة لذلك دون أن يتعرض لفشل الانكسار أو لقطع مواصلاته. ونقص جيش إبراهيم في لبنان وسواحله عشرة آلاف مقاتل، وظل الجيش وهو ينسحب من شمالي سوريا إلى دمشق حافظا على نظامه كل المحافظة، ونظم إبراهيم في كل بلدة أخلاها وجهة أجلى عنها جيشه وعماله، وجعل الحكم بيد أحد أبنائها، ولم يتعرض الجيش إلا للمعرة؛ لأن أهلها أبوا أن يعطوه حاجته. وكذلك حمص؛ لأن أسواقها أقفلت في وجه الجيش، وأبى أهل المدينة أن يقدموا للجيش حاجته. ولما شكا الأهالي إلى قائد الجيش أنزل العقاب الشديد بالجنود الذين ارتكبوا النهب.
ولما احتشد الجيش كله في دمشق، هطل مطر شديد مدرار دام بضعة أيام، فاضطر الجيش أن يدخل المدينة، وأن يحتل الخانات والقهوات والدكاكين والجوامع ما عدا الجامع الأموي وجامع السنانية، ووضع يده على المطاحن والأفران ليعد الزاد اللازم له في الرحيل. وأمر إبراهيم باشا بجمع الأموال المتأخرة من دمشق وقراها، حتى يتمكن من الإنفاق على جيشه إبان رحيله. وانفصل عن الجيش أكثر اللبنانيين والسوريين الذين كانوا يحاربون في صفوفه وعادوا إلى أهلهم وقرباهم. وشعر إبراهيم باشا ببعض الحركات العدائية في دمشق بتحريض الترك، فنكل بالمحرضين. واعترض بعض العربان والدروز في سعسع قوافل المؤن والذخائر، فأدبهم تأديبا شديدا. •••
في 27 نوفمبر 1841 وضع الاتفاق بين الأميرال نابيير ومحمد علي، على أن يعيد محمد علي الأسطول التركي، وعلى أن يدع سوريا ويكتفي بحكم الوراثة بأولاده الذكور. ولكن هذا الاتفاق لم ينفذ إلا في شهر يناير، وبعد محاولات ومماطلة من الباب العالي ووزارة خارجية إنكلترا وسفيرها في الآستانة؛ لأن الوزير بالمرستون والسفير بونسوبي كانا يطلبان هدم حكم محمد علي، فلم يصدر محمد علي الأمر إلى إبراهيم بغير حشد جيشه في دمشق، فجمعه هناك، وأوحى عمال الإنكليز والترك إلى الأمير بشير قاسم اللبناني خليفة الأمير بشير عمر حليف محمد علي، بأن يهاجم جيش إبراهيم باشا، فطلب منهم المدد، فلم يمدوه، فتقدم مع الثوار إلى جهة دمشق. وذهب الزعيم الثائر أبو سمرا غانم إلى جهة المجدل للغرض ذاته، وأرسل الأمير أسعد شهاب إلى قرية خربة ريحا لقطع طريق إبراهيم باشا في وادي التيم في حالة جلائه الذي كان منتظرا. وسافر الأمير بشير برجاله إلى بلاد صفد ثم إلى يافا للغرض ذاته؛ لأن الأميرال سترانفورد تلقى الأوامر بأن يظل على مواصلة أعماله العسكرية ضد إبراهيم وجيشه، فأمر جاكوموس الذي كان يقود جنود الحلفاء بأن يجعل نصب عينه تجريد جيش إبراهيم من سلاحه؛ لذلك وضع قوة من اللبنانيين في وادي التيم وصفد ويافا على طريق إبراهيم إذا سار هو بجيشه من دمشق على طريق القنيطرة، ووضع قوة أخرى في القدس وثالثة على طريق بئر سبع بقيادة القائد التركي حسن باشا؛ لأن قيادة الحلفاء كانت تعتقد أنه ليس أمام جيش إبراهيم باشا طريق آخر غير فلسطين.
صفحة غير معروفة