إخواني
إنني ما سبقت إلى اتخاذ فن المحاماة شعارا إلا لأنها الحرفة التي تستلزم بسط آراء المشتغل بها على حضرات القضاة الفضلاء والأقران وجماهير العامة، فهي من ثم الحرفة الوحيدة التي تظهر فيها قيمة المرء في وسطه.
والحق أقول ما كنت بمستطيع أن أخالط من كانوا مشتغلين بهذا الفن يوم لبست شعاره، كما قال أحد إخواني أثناء كلامه وإني محدثكم الحديث.
أول ما هممت بالاشتغال بفن المحاماة وحدثتني نفسي بشأنها، نظرت فإذا من رزئت به من الذين كانوا عنوان سمعتها وذكرها، كأنهم الشوك يؤذي الناس ويعذبهم وذلك أنهم كانوا يسيئون إلى عباد الله بخيانتهم وزيغهم عن طريق الحق والهدى، ولذلك ترددت بادئ بدء ثم قلت في نفسي ما ضرك لو كنت وردة بين هاتيك الأشواك، ولو كنت الآن ما حدثتها هذا الحديث «فمن حسن حظي أني أجيل البصر في هذا المحفل الحافل فلا أجد أثرا لذلك الشوك» فلما استقر بخاطري أن القيام بالواجب خير للمرء حتى وإن كان بحرفة هي بأهلها من سقط المتاع أقدمت مستحصد العزم على الاشتغال بهذه الحرفة بين أولئك الذين عددتهم شوكا، والحمد لله إذ قد لفظهم الزمان لفظ النواة، وطهر الله مواضع نظرنا أن تقتحمهم في هذه الليلة.
إخواني
لا أحب أن أخوض في حديث أولئك القوم، ولكني أقول كما قال أحد إخواني أنه كان أقصى واجبات تلك الشرذمة إرضاء خواطر أولئك القضاة الذين محقهم الحق، وذهب بهم العدل.
ذلك ما أقول بصفتي محاميا بالأمس واليوم قاضيا لا يليق بي في الحالتين أن أكذب على نفسي وعلى غيري.
والذي حبب إلي الاشتغال بهذه الصناعة أني كنت مشتغلا من قبلها بوظيفة من شأنها الإطلاع على أحكام المحاكم الملغاة التي كانت تنشر في الجريدة الرسمية يوم كنت عضوا في هيئة تحريرها، وكان من حظي أن عهد إلي أمر نقد تلك الأحكام، وتلخيص معانيها، ثم انتقلت من هذه الوظيفة إلى وظيفة ناظر قلم قضايا مديرية الجيزة، وهي كما تعلمون أشبه بوظيفة القاضي؛ إذ كان من خصائصه، أن تصدر الأحكام في كثير من المواد الجزئية، فلما انفصلت من هذه الخدمة كما تعلمون وصفا الجو من الأحداث لم يرق عيني أن أطرق باب أحد التماسا للرجوع في وظيفتي أو وظيفة غيرها وإن كنت ممن يحب التواضع استغفر الله، بل إني رجوت من توسمت فيه الخير أن يساعدني لنيل وظيفة، فأعرض جهلا منه عني ونأى بجانبه، فكبر عندي الأمر وازددت ميلا إلى الاشتغال بحرفة المحاماة وقلت لنفسي: علام تحتمل يا سعد منة جهول، وما ضرك أن تكون مستقيما بين مفسدين، بل ما ضرك أن تكون وردة بين الأشواك، فهان علي إذ ذاك أن احترف حرفة لم يكن فيها مناضل عن حق لوجه الحق.
هذا ما كان يحيط به حديث نفسي يوم أردت الاشتغال بحرفة المحاماة، وأن في العالم الكوني وجودا يجب صاحبه أن يشعر به، وذلك هو الوجود الإنساني فكان يخيل لي أن استقامتي في حرفة منيت بالفساد والضلال لا بد من أن يعرف قدرها الوجود فأجتني ثمارها، وكنت لذلك أتوسم أن تأتي ظروف أحبها وتحبني.
إخواني
صفحة غير معروفة