انضممت إلى الجمعية الفابية في 1908 وبقيت معتنيا بمؤلفاتها وتوجيهاتها أكثر من عشرين سنة، ولما ألفنا الحزب الاشتراكي في مصر في 1921 كانت تعاليم هذه الجمعية في ذهني أكثر من تعاليم ماركس؛ أي أننا كنا نبغي التنوير الاشتراكي عن طريق الإصلاحات المتدرجة.
وليس معنى قولي هذا أننا أهملنا ماركس تماما؛ فإن التفسير الاقتصادي للتاريخ - كما رسم منهجه ماركس - كان بارزا في أذهان الفابيين، ولكن فكرة الطبقات، والضدية الاجتماعية، والثورة، كانت غائبة عن أذهاننا إلى حوالي 1925، وبعد ذلك شرع الاشتراكيون بجميع ألوانهم يدرسون ماركس، وزاد هذا الدرس قوة واندفاعا عقب أزمة 1930 التي أوضحها ركاكة النظام الاقتصادي الانفرادي وضرورة استبدال النظام الاشتراكي به.
ومع ذلك وجدت لي مقالا في التفسير الاقتصادي للتاريخ في مجلة الهلال في 1927 أي قبل هذه الأزمة بثلاث سنوات.
وكانت الجمعية الفابية بطبيعة انتمائها إلى الطبقة المتوسطة تمارس ألوانا من النشاط في العلوم والفنون، فكانت منها لجان تدرس كل ما يتصل بالمجتمع من ثقافة جديدة تتفق والاتجاه الاشتراكي، وكان برنارد شو روح هذا النشاط، ولم يكن يضن بوقته الغالي في خدمة الأعضاء، وما زلت أذكر أنه رأس لنا اجتماعا أمضى فيه نحو ساعتين في المناقشة بشأن التعليم، ولم نكن نحن المستمعين نزيد على 8 أو 10 أعضاء.
وأذكر من المحاضرات التي سمعتها في الجمعية (وأعني لجانا منها) واحدة أو أكثر عن الأدب الروسي، وأخرى عن تحديد النسل، وثالثة عن الدرامة الواقعية، ورابعة عن الاستعمار ... إلخ، وهذا بالطبع غير المحاضرات الاشتراكية التي كانت تهدف إلى الحد من النشاط الانفرادي في التجارة والصناعة، والأخذ بالإصلاحات الاشتراكية والدعوة إلى أن تتولى المجالس البلدية مشروعات تأميمية محلية مثل إيجاد المكتبات العامة والأحواض السباحية وإنشاء المدارس وتغذية التلاميذ وإنشاء المدارس الليلية للعمال، بل إنشاء الأندية الترفيهية كذلك حيث يجد العامل طعاما رخيصا ونشاطا يشغله عن الخمر والقمار.
ونجحت الجمعية في كل ذلك، ووجدت دعوتها القبول بين عدد كبير من الجمهور المتعلم، كما أن دعوتها إلى تأميم الثروات الكبرى التي كانت تحتكرها الشركات، مثل المناجم والسكك الحديدية ونحوها، وقد وجدت - بعد خمسين سنة من الدعاية - الاستجابة من حزب العمال، وكان نقدها لتعطل العمال ماركسيا، كما أن عبارة «حق العمل» كانت بلا شك ثورية.
وحزب العمال الإنجليزي هو، بتأليفه ومذهبه الاشتراكي، فابي النزعة من نشأته إلى حاضره، وليس شك أنه من حيث التفكير الاشتراكي الصميم، ونعني هذا التفكير كما تفهمه أوربا في أيامنا، بعيد عن الماركسية وفلسفتها؛ إذ يقول بالتدرج ويعزف عن الثورة، وهو - لهذا السبب - يعد عائقا للثورة الشيوعية التي تهدف إليها الأحزاب الماركسية في أوربا.
لقد اختلطت وأنا بإنجلترا ببعض أعضاء حزب العمال، فوجدت فيهم الإمبراطوريين الذين يتحدثون عن المستعمرات كما لو كانوا محافظين، ووجدت فيهم الأحرار الذين يخشون الاشتراكية الكاملة، ولكني وجدت فيهم أيضا الاشتراكيين المخلصين مثل كير هاردي، وخلاصة القول أن أعضاء الحزب لم يكونوا قبل الحرب الكبرى الأولى، وبعدها إلى حوالي 1930، من الاشتراكيين إلا في الأقل.
ولكن مع ذلك كان هذا الحزب صاحب الفضل في جلاء الإنجليز عن الهند في 1949، وكذلك وقف في صفنا عندما أغار الوغد إيدن وحزبه على بورسعيد.
وكان برنارد شو أبعد المفكرين عن الدعوة إلى الثورة، وكان عزوفه عنها يحمله أحيانا على احتقار الحركات الشعبية، حتى إنه أيد موسوليني في فاشيته، ولكنه بعد أن زار روسيا عاد وكله إطراء للنظام الجديد ومدح للثورة وإعجاب بمآثرها.
صفحة غير معروفة