نفعل ذلك وكأننا نعلو على أنفسنا ونخدم رؤوسنا، وهي أسمى ما في أجسامنا، بدلا من أبداننا، وعندئذ تستهلك شهوات الذهن كل طاقتنا وتقمع شهوات الجسم.
إن المسيحي حين يغلو في دينه يذهب ويدخل الدير، وقد أمضى الغزالي سنوات وهو ناسك، وكذلك فعل المعري الذي لم يتزوج ولم يأكل في حياته غير العدس، وشهور الصوم في جميع الأديان هي شهور الغلو في الدين، وقد رفض غاندي الشهوة الجنسية، والطعام والشراب واللباس، إلا القليل من اللبن وشملة من الخيش.
وهؤلاء جميعا: برنارد شو، والغزالي، والمعري، وغاندي، لم ينسكوا حبا للنسك، وإنما حملتهم نزعة الجد في الحياة وإحساس القصد والرسالة على أن يعلوا على أنفسهم للتوفر على ما رسموه من واجبات.
ولست تجد رجلا عظيما إلا وله نوع من النسك يمارسه كما لو كان رياضة نفسية يستعين بها على التوفر لعمله أو قصده العظيم.
وليس في التزام الطعام النباتي صحة كما يتصور البعض؛ فإن برنارد شو قبل وفاته بأكثر من عشر سنوات أصيب بمرض «الأنيميا الخبيثة» وأوشك على الموت منه، فشحب لونه، وكان يتعب لأقل مجهود وينام وهو قاعد، فاضطر هذا النباتي الإنساني إلى أن يتداوى من مرضه بتناول خلاصة كبد الخنزير حتى شفى ولكنه لم يعد إلى طعام اللحم.
ومع أن ثروته تجاوزت ثلاثمائة ألف جنيه عند وفاته؛ فإنه لم يهدف قط إلى جمع المال، وكثيرا ما عمل وجهد بلا أجر، لا يهدف إلا إلى الخدمة الإنسانية، ولما نال جائزة نوبيل وقدرها الآن نحو 14 ألف جنيه رفض تسلمها، وأنشأ بها جمعية لزيادة الاتصال بين أدباء الأقطار الإسكندناوية وبريطانيا.
وكان يسعف جميع الأدباء المحتاجين بمبالغ كبيرة كان بعضها يبلغ خمسمائة جنيه كل عام، وبقي على هذا في بعض الحالات أكثر من عشرين أو ثلاثين سنة، وفي وصيته ترك مبالغ كبيرة لمن خدموه الخدمة المنزلية، بل إنه أقام نصبا تذكاريا لخادمته التي ماتت قبيل وفاته في الحديقة، وحين دعا النحات كي يقوم بصنع النصب خشي أن يموت هو قبل أن يتم النصب فعرض عليه دفع الثمن قبل إتمامه.
وكان يعمل في غرفة نائية من مسكنه في الحديقة؛ وذلك كي يتوفر على عمله دون أن يزعجه صوت أو ضوضاء، حتى إن الخادم عندما كان يأتي إليه كي يطلب شيئا ما أو ينبهه إلى ضيف، لم يكن يشافهه بكلمة، وإنما كان يكتب ما يريد على ورقة يرد عليها برنارد شو كتابة دون أن ينطق بكلمة.
وكانت طريقته في التأليف أن يترك الموضوع يختمر في ذهنه مدة سنة أو سنتين، يقرأ فيها عشرات الكتب التي تتصل بهذا الموضوع، فإذا شرع في التأليف كتب العناصر ووضع التخطيط. وقد يؤلف الدرامة في شهر أو أسبوع وقد يؤلفها في سنتين أو ثلاث سنوات.
وكان يتعب كثيرا في التأليف حتى لقد ذكر عنه أنه كان يترك مقعده أمام مكتبه وينبطح على أرض الغرفة إعياء وتعبا، ويبقى على ذلك حتى يستريح وينهض لاستئناف الكتابة.
صفحة غير معروفة