الفصل الأول
استيقظ الصباح في قرية الحمايدة ليجد بيت الحاج حامد بركات قد صحا من نومه، وراح الحاج يتوضأ ليصلي الفجر، وراحت الحاجة توحيدة تعد الإفطار لزوجها بعد أن أدت الفريضة.
وجلس الحاج حامد بركات بعد أن تناول إفطاره يشرب القهوة السادة، وجلست إلى جانبه الحاجة توحيدة، وسألها: هل صحا هارون؟ - طبعا لا. هو كما تعلم يصحو في السابعة كأنه يصحو على منبه. - ربنا يكون في عونه. - حملته العبء من أول شبابه. - أنا تعبت! والديون تكاثرت علي، ولا أستطيع أن أكافح كما كنت أفعل في شبابي، وهو رفض أن يذهب إلى الجامعة، وأصر على أن يعمل في الأرض بعد أن نال البكالوريا. - هو يحب الأرض من طفولته. - كان يصحو معي في الفجر ليذهب إلى الغيط. - وهل أنسى؟ - وكان يصلي الفجر معي، وكأنه يؤدي حركات مفروضة عليه. - وهو الآن لا يصلي. - لم أستطع أن أرغمه على الصلاة. - الصلاة لا تكون بالإرغام يا حاج. قلب الإنسان هو الذي يحتم عليه الصلاة. - أنا اعتقادي أن الصلة بين العبد وربه لا يجوز أن يتدخل فيها أحد، حتى ولا الآباء والأمهات. - صدقت. - كل ما علينا نحن الآباء أن نعلم أطفالنا الصلاة، ونحثهم على قراءة القرآن دون أن نرغمهم على ذلك؛ لأن الإرغام سيجعلهم يبتعدون عن الصلاة والقرآن جميعا. - لك حق، ولكن وهم أطفال لا بد أن نرشدهم. - طبعا ، ونكافئهم أيضا، حتى إذا بلغوا مبلغ الشباب تركناهم يواجهون الله وحدهم. وإنك لن تهدي من أحببت، ولكن الله يهدي من يشاء. - مع ذلك كنت أتمنى أن يصلي هارون، كما أتمنى أن يتزوج. - وأنا أيضا أتمنى هذا، ولكن هارون مشغول بالدنيا شغلا يجعله لا يفكر في الآخرة أبدا، ولا في الزواج. - نعم يا حبة عيني مشغول بالدنيا أكثر من اللازم. - ولهذا تركت له كل شيء. وأنا يكفيني أن يوفر لي أنا وأنت اللقمة وفنجان القهوة. - وأنا وأنت لا يلزمنا شيء أكثر من هذا، ولكن يتهيأ لي أن فكرة الزواج تراوده الآن. •••
صحا هارون من نومه في الساعة السابعة، وتناول إفطاره ومر على أبيه. - صباح الخير يا أبويا. - صباح الخير يا بني. - أستأذنك. - إلى أين يا ابني؟ الساعة لم تصل إلى الثامنة. - ذاهب إلى بنك التسليف. - خير؟ - حضرتك تعلم أن الشغل فيه لا ينتهي. ندير ديونا ونؤجل ديونا ونأخذ السلف. - طبعا. - اليوم أريد أن أحصل على تقاوي القمح. - أليس الوقت مبكرا؟ - لقد جاءت إلى البنك، وأفضل أن أحصل عليها مبكرا حتى تكون جاهزة. - مع السلامة، الله يوفقك.
وحين ذهب هارون إلى البنك أحس من الإقبال الشديد على التقاوي أنها ستكون قليلة هذا العام، وأن الفلاحين سيضطرون أن يشتروها من السوق السوداء عند زراعة القمح وترقيع الأرض؛ أي إعادة زراعة أجزاء الأرض التي لم تنبت ما بذر فيها في أول مرة.
وبمكر اقتصادي لا مثيل له يتمتع به هارون، كتب إقرارا أنه سيزرع أربعين فدانا من القمح، مع أنه لم يكن أعد من الأرض إلا عشرين فدانا فقط لزراعة القمح. وبقدرة فائقة على الصداقات والاتصالات استطاع أن يحصل على التقاوي التي يريدها، وهو ينوي أن يبذر نصفها فقط ويبقي النصف الآخر ليبيعه بأغلى الأثمان؛ فهو يعلم أن الفلاح عند الحاجة إلى زراعة الأرض يدفع عمره ليحصل على التقاوي التي يحتاج إليها.
وهارون لا يعنيه في شيء أن يرفق بالناس، وإنما يعنيه أولا وأخيرا أن يحصل على المكاسب من أي سبيل، مهما يكن في هذا السبيل عنت بالآخرين وإثقال على مقدراتهم.
كان جالسا إلى مدير البنك ليكمل إجراءات صرف الكيماوي، حين دخل الحجرة سعدون عمارة، وهو رجل طويل القامة ضخم الجسم يعرفه هارون ويعرف هارون، ولكنها معرفة لا ترقى إلى مستوى الصداقة؛ ففارق السن بينهما ليس هينا. ولكن هارون - شأن أعيان الريف جميعا - يعرف كل شيء عن كل إنسان في المنطقة وما حولها، وقد كان يتوق إلى لقاء سعدون، وكان يريد أن يأتي هذا اللقاء صدفة دون إعداد سابق.
وقد كان سعدون أغلب وقته مقيما بالقاهرة بعيدا عن أرضه؛ ولهذا لم يكن إنتاج أرضه إنتاجا يرضى عنه الفلاح الخبير.
استقبل هارون القادم عليه في غرفة مدير البنك بترحاب شديد: مرحبا سعدون بك، عاش من شافك. - أهلا هارون بك، ماذا أعمل؟ أنا قليل المجيء إلى العزبة كما تعرف. - أعرف. هل جئت اليوم وحدك أم جاءت معك العائلة؟ - لا والله جئت وحدي؛ فلن أبقى هنا أكثر من ليلة واحدة. - إذن فالغداء عندي اليوم. - يا سيدي حفظك الله. - لا والله لن أقبل عذرا، والبك مدير البنك سيشفع لي عندك.
صفحة غير معروفة