بسم الله الرحمن الرحيم
[قال الشيخ الإمام العالم العلامة الحافظ أبو عبد الله محمد بن المرحوم تقي الدين أبي بكر عبد الله بن محمد بن أحمد، الشهير بابن ناصر الدين -تغمده الله برحمته ورضوانه، وأسكنه فسيح جناته-]:
الحمد لله [الحاكم] العادل فيما قدره وقضاه، القادر القاهر بما أبرمه من أمره وأمضاه، فمن رضي بذلك أنعم عليه وأرضاه، ومن سخطه فله السخط ولقد أبعده وأقصاه، فبؤسا للذين لقضائه يتسخطون، وتعسا لمن بأحكامه يتبرمون، وهنيئا لمن لأفعاله مسلمون ولأقداره مستسلمون، فهم بكل رضوان؛ وعلى كل حال قائلون: {إنا لله وإنا إليه راجعون. أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون}.
صفحة ٢٧
فنحمد الله على حلو القضاء ومره، ونشكره دائما على ما أنفذ من أمره، ونشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له؛ شهادة صابر على بسم الله الرحمن الرحيم
[قال الشيخ الإمام العالم العلامة الحافظ أبو عبد الله محمد بن المرحوم تقي الدين أبي بكر عبد الله بن محمد بن أحمد، الشهير بابن ناصر الدين -تغمده الله برحمته ورضوانه، وأسكنه فسيح جناته-]:
الحمد لله [الحاكم] العادل فيما قدره وقضاه، القادر القاهر بما أبرمه من أمره وأمضاه، فمن رضي بذلك أنعم عليه وأرضاه، ومن سخطه فله السخط ولقد أبعده وأقصاه، فبؤسا للذين لقضائه يتسخطون، وتعسا لمن بأحكامه يتبرمون، وهنيئا لمن لأفعاله مسلمون ولأقداره مستسلمون، فهم بكل رضوان؛ وعلى كل حال قائلون: {إنا لله وإنا إليه راجعون. أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون}.
صفحة ٢٨
فنحمد الله على حلو القضاء ومره، ونشكره دائما على ما أنفذ من أمره، ونشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له؛ شهادة صابر على فاصبر لبلوى وكن راضيا ... فإن هذا هو الدواء
سلم إلى [الله] ما قضاه ... ويفعل الله ما يشاء
والتعزية سنة سنية، وخصلة مستحبة مرضية، ولم أجد تعزية للمصاب أعظم من آيات في الكتاب، تليها أخبار وآثار، ممزوجة بحكايات وأشعار.
فلخصت من ذلك ما حضرني معزوا مخرجا، ليكون للمشار إليه، ولكل مصاب فرجا ومخرجا، ولأشارك المصاب في ثوابه وبره، لما روينا عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من عزى مصابا فله مثل أجره)) خرجه الترمذي وابن ماجة وغيرهما.
صفحة ٢٩
وعن عمرو بن حزم رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ما من مؤمن يعزي أخاه بمصيبة إلا كساه الله من حلل الكرامة يوم القيامة)) انفرد ابن ماجة بإخراجه.
وفي الباب عن أبي هريرة [وأبي برزة الأسلمي]، وجابر وغيرهم رضي الله عنهم.
صفحة ٣٠
وهذا حين الشروع في المراد وبالله التوفيق والسداد، وبه الهداية والرشاد، ولا حول ولا قوة إلا بالله، قال الله عز وجل: {ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين. الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون. أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون}.
وقال تعالى: {واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين}.
وقال تعالى: {والله يحب الصابرين}.
وقال تعالى: {إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب}.
قيل: يعطون عطاء كثيرا أوسع من أن يحسب أو يحاط به.
والآيات الشريفات في ذكر الصبر [وثوابه] كثيرات.
وأما الأحاديث النبوية في فضل الصبر وثوابه والأمر به لمن آلمه نزول مصابه، فكثيرة جدا.
صفحة ٣١
منها: حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن -أو تملأ- ما بين السماء والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء. والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها)) خرجه مسلم في ((صحيحه)) والإمام أحمد في ((مسنده)) وابن ماجة في ((سننه)) والنسائي مختصرا في كتابه ((عمل اليوم والليلة)). وهو حديث عظيم الفوائد، جليل الأحكام. وهو أصل من أصول الإسلام وفيه الإشارة إلى أن الصابر لا يزال مستضيئا بنور الهداية، مستمرا على الصواب، مع ما في ذلك من حصول الأجر والثواب.
وخرج مسلم أيضا من حديث صهيب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن إصابته سراء شكر، كان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر، كان خيرا له)).
صفحة ٣٢
وعن سعيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ألا أعجبكم إن المؤمن إذا أصاب خيرا حمد الله وشكر، وإذا أصابته مصيبة حمد الله وصبر، فالمؤمن يؤجر على كل شيء حتى اللقمة يرفعها إلى فيه)) خرجه النسائي.
وأقول:
يجري القضاء وفيه الخير نافلة ... لمؤمن واثق بالله لا لاهي
إن جاءه فرج أو نابه ترح ... في الحالتين يقول الحمد لله
قال المبارك بن فضالة العدوي البصري سمعت الحسن [رحمه الله] يقول: كان أيوب عليه السلام كلما أصابته مصيبة قال: ((اللهم أنت أخذت، وأنت أعطيت مهما تبقي نفسي، أحمدك على حسن بلائك)).
وفي ((الصحيحين)) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر)).. .. .. ..
صفحة ٣٣
[وخرجه أبو داود والترمذي والنسائي].
وخرج الحاكم أبو عبد الله في ((مستدركه)) وصححه عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا: ((ما رزق الله عبدا خيرا له ولا أوسع من الصبر)).
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الله تعالى قال: يا عيسى، إني باعث من بعدك أمة، إن أصابهم ما يحبون حمدوا الله، وإن أصابهم ما يكرهون احتسبوا وصبروا، ولا حلم ولا علم. فقال: يا رب كيف يكون هذا؟ قال: أعطيهم من حلمي وعلمي، خرجه الإمام أحمد وأبو بكر البزار في ((مسنديهما)) والطبراني في ((معجمه الأوسط)) والحاكم في ((مستدركه)) وصححه.
صفحة ٣٤
وعن أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله تعالى إذا أحب قوما ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط)) خرجه الترمذي وابن ماجه.
وعن محمود بن لبيد رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا أحب الله قوما ابتلاهم، فمن صبر فله الصبر، ومن جزع فله الجزع)) خرجه الإمام أحمد في ((مسنده)).
صفحة ٣٥
وقد صح عن أنس رضي الله عنه ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى على امرأة تبكي على صبي لها، فقال لها: اتقي الله واصبري. فقالت: وما تبالي بمصيبتي؟ فلما ذهب قيل لها: إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذها مثل الموت، فأتت بابه فلم تجد على بابه بوابين، فقالت: يا رسول الله، لم أعرفك؟ فقال: إنما الصبر عند أول صدمة)) خرجاه في ((الصحيحين)) ومعنى ((إنما الصبر [عند أول صدمة)) وفي رواية: ((]عند الصدمة الأولى)) أن كل ذي مصيبة آخر أمره الصبر. ولكنه إنما يحمد عند حدتها، وفورة شدتها، لأن مصير ذي الجزع إلى السلوان. ولو أقام على قبر ميته [مدة] زمان.
روينا أن الحسن بن الحسن بن علي رضي الله عنهم لما مات ضربت [امرأته] القبة على قبره سنة، ثم رفعت فسمعوا صائحا يقول: ألا [هل] وجدوا ما فقدوا؟ فأجابه آخر: بل يئسوا فانقلبوا علقه البخاري في ((صحيحه)).
صفحة ٣٧
وفي رواية ((لما تسلت وقلعت الخيمة، سمعوا هاتفا يقول ولا يرون أحدا: أدركوا ما طلبوا. فأجابه: بل يئسوا فانصرفوا)).
والأحاديث في ذكر الصبر وفضله كثيرة، اقتصرنا منها على هذه النبذة اليسيرة.
ومعنى الصبر لغة: الحبس. ومداره على أركان ثلاثة: إمساك النفس عن التسخط بالقضاء، وحبس اللسان عن القول السيئ والبذيء. وتقييد الجوارح عن المعصية. كاللطم وشق الثياب، وتسويد الفناء. فإذا قام الإنسان بهذه الأركان حاز فضيلة الصبر، الذي هو نصف الإيمان، وانقلبت محنته محنة عظيمة، واستحالت بليته عطية جسيمة، وصار ما كرهه محبوبا، وللأجور العظيمة حائزا مصيبا.
خرج الترمذي عن أبي ذر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الزهادة في الدنيا: أن لا تكون بما في يديك أوثق مما في يد الله. وأن تكون في ثواب المصيبة إذا أنت أصبت بها أرغب فيها لو أنها أبقيت لك)).
صفحة ٣٨
وجاء عن علقمة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في قوله تبارك وتعالى: {ومن يؤمن بالله يهد قلبه} قال: هي المصيبة تصيب الرجل فيعلم أنها من عند الله فيسلم لها ويرضى)) وعلقه البخاري في ((صحيحه)) عن علقمة بنحوه.
وعن أم الدرداء رضي الله عنها أنها كانت تقول: ((إن الراضين بقضاء الله الذين ما قضى لهم راضون به، لهم في الجنة منازل يغبطهم بها الشهداء، يوم القيامة)).
صفحة ٣٩
وقال أحمد بن أبي الحواري حدثني [محمد بن] جعفر بن محمد [ابن الإمام] قال: ((ذكروا عند رابعة [رحمها الله تعالى] عابدا كان في بني إسرائيل، لا يطعم إلا في كل سنة مرة، ينزل من متعبده، فيأتي مزبلة على باب الملك، فيتقمقم من فضول مائدته. فقال رجل عندها: وما على هذا إذ كان في هذه المنزلة، أن يسأل الله تعالى أن يجعل رزقه من غير هذا؟ فقالت رابعة: يا هذا إن أولياء الله إذا قضي لهم [قضاء لم] يتسخطوه)).
وما ورد من المأثور فيما للمصاب من الأجور أحاديث جمة مصرحة، بحصول الثواب والرحمة.
منها: ما خرجه البخاري وغيره، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من يرد الله به خيرا يصب منه)).
صفحة ٤٠
وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما ابتلى الله عبدا ببلاء وهو على طريقة يكرهها، إلا جعل الله ذلك البلاء كفارة وطهورا، ما لم ينزل ما أصابه [من البلاء] لغير الله، أو يدع غير الله في كشفه)) خرجه أبو بكر بن أبي الدنيا [رحمه الله] في كتاب ((المرض والكفارات)).
وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: ((قلت: يا رسول الله. أي الناس أشد بلاء؟ قال: الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد، حق يمشي على الأرض وما عليه خطيئة)) خرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه وابن أبي الدنيا. وصححه الترمذي وهو في ((صحيح أبي حاتم ابن حبان)) ولفظه: عن سعد قال ((سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي الناس أشد بلاء؟ قال: الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الناس على قدر دينهم، فمن ثخن دينه اشتد بلاؤه. ومن ضعف دينه ضعف بلاؤه، وإن الرجل ليصيبه البلاء حتى يمشي في الناس وما عليه خطيئة)).
صفحة ٤١
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله، حتى يلقى الله [تعالى] وما عليه خطيئة)) خرجه الترمذي والحاكم، وصححاه.
صفحة ٤٢
وفي ((الصحيحين)) عن أبي سعيد الخدري، وأبي هريرة رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما يصيب المؤمن من نصب ولا وصب، ولا هم ولا حزن، ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه)).
صفحة ٤٤
وعن أنس رضي الله عنه قال: ((أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم شجرة فهزها حتى تساقط ورقها، ما شاء الله أن يتساقط، ثم قال: المصائب والأوجاع أسرع في ذنوب ابن آدم مني في هذه الشجرة)) خرجه أبو يعلى الموصلي في ((مسنده)) وابن أبي الدنيا.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((إن الرجل ليكون له عند الله المنزلة فما يبلغها بعمل. فما يزال يبتليه مما يكره حتى يبلغه إياها)) خرجه أبو يعلى أيضا، ومن طريقه خرجه ابن حبان في ((صحيحه)).
وعن بريدة الأسلمي رضي الله عنه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما أصاب رجلا من المسلمين بلية فما فوقها، حتى ذكر الشوكة إلا لإحدى خصلتين، إما ليغفر الله له من الذنوب ذنبا لم يكن ليغفر له بمثل ذلك، أو يبلغ به من الكرامة كرامة لم يكن ليبلغها إلا بمثل ذلك)) خرجه أبو بكر ابن أبي الدنيا.
صفحة ٤٥
وقال أبو المليح: حدثنا محمد بن خالد السلمي عن أبيه عن جده -وكان لجده صحبة- رضي الله عنه ((أنه خرج زائرا لرجل من إخوانه فبلغه أنه شاك قبل أن يدخل عليه. فقال: أتيتك زائرا وأتيتك عائدا ومبشرا، قال: كيف جمعت هذا؟ قال: خرجت وأنا أريد زيارتك فبلغني شكاتك. فكانت عيادة، وأبشرك بشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا سبقت للعبد من الله [عز وجل] منزلة لم يبلغها -أو قال: لم ينلها بعمله ابتلاه الله [عز وجل] في جسده، أو في ولده، أو في ماله، ثم صبره حتى يبلغه المنزلة التي سبقت له من الله عز وجل)) خرجه أبو موسى المديني في ((التتمة)) وهو في مسند الإمام أحمد وأبي يعلى الموصلي، وخرجه الطبراني في ((معجمه الكبير)) والأوسط بنحوه.
صفحة ٤٦
والإبتلاء في الأولاد، من أعظم الابتلاء، وأثقل الأنكاد، وهو نار تستعر في الفؤاد، وحرقة تضرم في الأكباد، ولهذا كان ثواب الصابر على ذلك جزيلا، ويكون أجره في ميزانه يوم القيامة ثقيلا.
صفحة ٤٧
خرج النسائي عن أبي سلمى رضي الله عنه راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((بخ بخ بخمس ما أثقلهن في الميزان: لا إله إلا الله، وسبحان الله، والحمد لله، والله أكبر. والولد الصالح يتوفى للمرء المسلم فيحتسبه)) وخرجه ابن حبان في ((صحيحه)) والحاكم في ((مستدركه)) وصححه الطبراني في ((معجمه الكبير)).
صفحة ٤٨