فهتفت سنية وقد أشرق صدرها بنور ربها: خيرا ما تفعل يا رشاد، مساحة الحجرة من حجراته أوسع من مساحة فيلا حديثة، ولا تنس الحديقة المهجورة التي يمكن أن تتحول إلى جنة!
وساءل محمد نفسه هل يجدد رشاد البيت لوجه الله أو يسجل التكاليف كيلا يهضم حق أمه عندما يئول البيت - بعد عمر طويل - إلى الورثة؟ لم يتحمس للفكرة ولم يعلق، وتبادل مع منيرة نظرة ذات معنى دلت على تناغم وساوسهما. أما رشاد ففاجأ الضيوف بقوله: سأفكر يوما في الزواج!
اتجهت صوبه الأعين. وسعدوا في الحقيقة بالخبر الذي كانوا منه في شك، ولم تتمالك كوثر أن هتفت: دعنا نبحث لك عن عروس لائقة!
فقال بجدية: صبرك، كل شيء رهن بوقته.
ورسخ الغلاء منذرا بالتعملق، وانتشر العرب في الأحياء كالماء والهواء. جاء الغلاء بالوحشية، أما العرب فجاءوا بالكرم تياهين بموقفهم القومي في البترول ولكنهم نفخوا في الغلاء من حيث لا يقصدون. حتى أم جابر الطاهية طالبت بمضاعفة راتبها لمواجهة الغلاء فتحققت مشيئتها في الحال، غير أنها ذهبت ذات يوم ولم تعد، وعلم أنها سافرت بصحبة ابنها النجار إلى السعودية لتعمل طاهية بأجر خيالي. عند ذاك أنذرتهم الحياة بعناء جديد. أجل طالما أثبتت سنية مهارتها الفائقة في الطهي ولكنها بلغت من الكبر ما لا يجوز معه الاضطلاع بمهمة الطهي الشاقة رغم تمتعها بصحة جيدة يغبطها عليها من يماثلونها في السن. ورغم أن رعايتها لصحتها لم تهن وإن كفت عن صبغ رأسها بالحناء منذ رجع رشاد إلى بيته محمولا على أيدي الرجال. تركت الشيب يرعى رأسها بلا حسيب قانعة بإخفائه تحت منديل محكم وتلفيعة بيضاء. ولم تر كوثر مفرا من القيام بالمهمة رغم اعتلال كبدها وهزالها وتوسطها الحلقة المفضية للستين، مستعينة في التجهيز بأمها وأم سيد. وجدوا في البحث عن طاهية حتى وافقت - أم عبده - على منحهم نصف يوم بثلاثين جنيها شهريا. والتهمت ميزانية الطعام قدرا لا يستهان له، يزداد مع الأيام دون توقف، حتى توارت سنية بمعاشها خجلا وأدركت أنها تعيش عالة على كوثر وابنها. لذلك لم تتردد كوثر أن تقول لرشاد وهي منفردة به: ها أنت تفكر في تجديد البيت والحديقة، كن حكيما، الأسعار ترتفع كما ترى، والبيت - بعد عمر طويل - لن يئول لنا إلا ربعه، الحذر واجب؛ فإيرادك ثابت وقيمته تقل يوما بعد يوم.
فقال متمهلا: لا تنسي أننا نقيم فيه، وأنني حبيسه، ويلزمني مناخ طيب.
فقالت متنهدة: كما تشاء ولكن عليك بالحكمة والحذر!
فاجأهم سليمان بهجت بطلاق منيرة مدعيا في الوقت نفسه أنه يحررها من قيد يعيق حرية إرادتها ويهدر سعادتها دون مقابل حقيقي. ولم يخدع محمد بالطلاء، وكان بحكم مهنته ونشاطه السياسي ذا قدرة على النفاذ إلى الأسرار، فقال لمنيرة: المسألة أنه وزوجه يعملان في الاستيراد، وهي كما نعلم مركز القوة والعقل المدبر؛ فحملته على الطلاق لتستأثر بثمرة عملها!
فقالت منيرة بعتاب: هذا ما أردته من أول يوم.
فهز رأسه آسفا وقال: فيلا المعادي تعتبر اليوم قصر استقبال لأغنياء العرب، يختلط فيه اللهو بالعمل، إني أرثي لأمين وعلي لانتسابهما إليه!
صفحة غير معروفة