ويطير خيال شفيق مستحضرا وجوه النساء بعمارة باب اللوق ويظل فريسة للسياط والجمرات. وقد لمح مرة أمين ابن عمته في ميدان التحرير وهو ماض مع بنت تقاربه في السن نحو محل دندورمة فأتبعه ناظريه في حسد. وكان أمين سعيدا جدا بصاحبته التي بدت إلى جانب طوله قصيرة. وكانت سمراء مسمسمة رشيقة. انتبه إليها كجارة، وحام حولها في محطة الترام يوما بعد يوم حتى شجعته بابتسامة فتعارفا، وتقابلا، وتبادلا القبل كلما تيسر ذلك، فصارا حبيبين. وعرف أنها هند رشوان، ابنة ميكانيكي في ورشة لإصلاح السيارات، في المرحلة الثانوية مثله، وكبرى بنات أربع ثلاثتهن في المرحلة الابتدائية. ولم يغتبط بالمعلومات ولكنه تجاوزها فلم تفتر همته، وكان يتنفس في جو يستبق فيه «الخاصة» في اكتشاف جذور شعبية لهم وقاية من العواصف. أما علي فنعم وحده - وفي سرية تامة - بحب ميرفت هانم، وعلم بأنها كانت زوجة أيضا لجده حامد برهان فلم يثنه ذلك عن حبه، فاختزنه ضمن هواياته كالتلفزيون والولع بالخلوات. وشجعتهما علاقتهما الحميمة بمنيرة على مواجهة الحياة فهي تشاركهما في روح العصر بخلاف خالتهما كوثر وخالهما محمد اللذين أطلا عليهما من نافذة زمن ماض مجهول. إنهم أبناء اليوم والغد ولا ماضي لهم، وهم رعايا دولة عظمى مهيمنة على العرب وأفريقيا، حليفة لدولة عظمى، ومتحدية لدولة عظمى أخرى! انحصرت مشكلتهم الملحة في الجنس وهي ستحل بطريقة ما في حينها. وارتفع صوت في الراديو ينعى أثرا من آثار الماضي، جهله الجيل الجديد، وعرفته قلة كرمز للخيانة؛ نعى الراديو مصطفى النحاس. لم يترك الخبر أي أثر في الأحفاد، اتسعت عينا كوثر ومنيرة لحظات ثم شغلت كل بما بين يديها، وكانت سنية تتمشى ما بين حجرة المعيشة والفراندا في جو أغسطس الحار، فسرعان ما أسلمت نفسها إلى أقرب مقعد، وشخصت بعينيها إلى الحديقة المهملة في تأثر شديد، ثم غمغمت: آه .. لكل أجل كتاب .. إلى رحمة الله ورضوانه.
وتلقت من ذكرياتها الحميمة حزنا هادئا عميقا. أما محمد فقد نبض عرق قديم في هيكله المتجدد فرأى الماضي والحاضر والمستقبل في لوحة رمادية تقطر أسى ورحمة. وكان ساعتها يجالس الأستاذ عبد القادر قدري في حجرته، فرآه يطرح جسمه على مسند كرسيه، ويطوق رأسه براحتيه ويصمت طويلا، ثم يردد بخشوع:
ألا يا نفس أجملي جزعا
إن الذي تحذرين قد وقعا.
ثم نظر إلى محمد بعينين مربدتين وقال: مات آخر الزعماء.
فلاذ بالصمت مشاركا في تأثره فقال عبد القادر: سيشيع غدا في جنازة لا تليق بمقام راقصة درجة رابعة!
ولكن الجنازة كانت انفجارا بركانيا غير مسبوق بإنذار. شاهدها محمد من شرفة المكتب بشارع صبري أبو علم فذهل ولم يصدق عينيه. وتساءل: كيف حصلت هذه الأسطورة؟!
أي طوفان من جموع بلا نهاية! أي هتافات تتطاير بشواظ القلوب! أي دموع تترقرق في الأعين! أي حزن يغشى الشيوخ والشباب، أجل والشباب أيضا! وتساءل محمد: من أين جاء هؤلاء الشبان؟
كيف فرضت هذه الزعامة نفسها على القلوب ساعة الوداع بعد أن توارت عن السمع والبصر وغطتها أيدي الرقباء برداء النسيان؟ أما زال للوفد مريدون بهذا العدد؟ هل انضم إليهم كل محب للحرية ومحروم منها؟! اضطربت الجموع في أسى حميم عميق شامل وكأنما تنعى الدنيا والأمل الوحيد. ولمح محمد الأستاذ عبد القادر قدري تلاطمه الأمواج وراء النعش وهو يلوح بيديه بحماس يفوق سنه، ولم يكن يتصور أنه يراه لآخر مرة، فقد اعتقل مساء اليوم نفسه فيمن اعتقل من المشيعين المتحمسين، وقضى في الاعتقال عامين ثم توفي عقب الإفراج عنه بيومين. واختصت الجنازة بحديث طويل في الجمعة التالية في اجتماع الأسرة، غير أن محمد كان يدخر خبرا لا يقل عنها إثارة فقال مخاطبا منيرة: زوجك يبني فيلا في المعادي!
فتجلت في عيني منيرة نظرة إنكار، على حين تساءلت سنية: من أين له المال؟
صفحة غير معروفة