فدافع الشاب عن وجهة نظره دفاعا بريئا ولكن أباه قال: أنت وفدي، وأي تجمع آخر ما هو إلا منافس للوفد!
فقال محمد بإصرار: إنها مفتوحة للجميع!
ولم يطرأ عليه في تلك الفترة من تغيير إلا أن أضاف إلى مجال اطلاعه بعض الكتب الدينية، على أن كوثر استغرقتها العبادة أكثر منه وإن عكست عيناها الوديعتان نظرة أسى دائم. وضاعف من حرج الأسرة أن منيرة - وهي تشرئب للجامعة - تقدم لطلب يدها مدير عام بالسكة الحديد في الخامسة والأربعين من عمره. لا شك أن «درجته» فتنت حامد برهان، ولكنه - مثل سنية - توجع لحال كوثر. غير أنه لم يكن بد من عرض الموضوع على منيرة التي أدهشتهم بقولها الحاسم: لا أوافق!
فقال لها محمد: يستحسن أن يسبق أي قرار بالتفكير المناسب.
فقالت بصراحة: لا داعي لذلك على الإطلاق.
وارتاح الوالدان في أعماقهما وإن تظاهرا بغير ذلك. ولم يكن القهر يلعب دورا في الأسرة، وكان الأبناء يحظون بنعمة غير معهودة من الحرية والصراحة. على أن منيرة لم ترفض الرجل لفارق السن فقط، فالحقيقة أنها كانت واقعة في حب. لم يفطن أحد إلى حبها، ولا أمها التي ترى بروحها أحيانا بالإضافة إلى عينيها، وكان حبها مشكلة. أحبت شابا من حلوان تبين لها أنها تكبره بسبعة أعوام! كان طالبا بالمرحلة الثانوية، كثير السقوط ولكنه ذو مظهر خادع. رأته أول ما رأته في الحديقة اليابانية فاتسعت عيناه مرسلة دهشة ذاهلة باسمة تحية للحسن الرائق، وجلس قبالتها في القطار أو لعله تعمد الجلوس قبالتها، وراح يسترق النظر طيلة الطريق إلى القاهرة. كان ذا مظهر يكبر سنه بكثير، مترامي الأبعاد مبادرا للرجولة قبل أوانها؛ فظنته موظفا أو طالبا في القمة، وكان إلى ذلك فحل الملامح والصوت. وراح يتابعها بإصرار وشغف حتى غزاها بلطف وثبات. وجد قلبا يخفق بنظرة متوثبة، متعطشة لأول قطرة ماء كي تتفتح أكمامها وتنبثق ألوانها الضاحكة. هكذا تسلط على فؤادها فاستسلمت للنداء المطرب حالمة بسعادة مشرقة. وعند لحظة فريدة يتصارع فيها الحياء والمغامرة ردت آخر تحياته أمام تمثال بوذا الغافي في سلام بالحديقة اليابانية، فقال متنهدا: أخيرا! .. سامحك الله!
وفي ارتباكها سألته متلعثمة: ماذا تريد؟
فقال بهدوء مغتصب: ليس عندي أكثر مما يدل عليه حالي.
فعضت على شفتيها لتئد ابتسامة خائنة، فقال برقة: ليس وراء الحب شيء.
قالت لنفسها ما أصدقه! وتلاقيا مرات في الجنفواز على مبعدة يسيرة من الجامعة ليزدادا ببعضهما تعارفا. كان ثمة تشابه بين أسرتيهما؛ فأبوه ناظر مدرسة ابتدائي، له أخت متزوجة وأخ ضابط بالجيش، اسمه سليمان بهجت. ولما عالنها بسنه وصفه المدرسي تلقت لطمة مباغتة لم تتوقعها. كانت تشارف مرحلتها الجامعية بقسم اللغة الإنجليزية، وربما توظفت وهو يلتحق بالجامعة؛ فأي مهزلة وأي خدعة! اضطرب ميزان عقلها ولكن قلبها صمد صمود العاشقين، طرحا العواقب جانبا. ولاحظ سليمان وجومها ولم تغب عنه أسبابه، فقال: في الحب لا أهمية للمشكلات السطحية.
صفحة غير معروفة